عباس محمود العقاد - من طرائف المفارقات في بلد المفارقات

من طرائف ما يقال في بلد المفارقات كلمة كتبتها آنسة أديبة في (المصور) الأغر تقول فيها: (. . . سألني الأستاذ الكبير عباس العقاد عن رأيي في سارة فأجبته في صراحة أنه قد آن الأوان لتتحدث الأنثى عن الأنثى وتصور شعورها وتترجم عواطفها. فإن الرجل لا يعرف المرأة ولا يفهمها، ولذلك يصورها في كتابته مخلوقة أخرى غير التي نعرفها في نفوسنا ونحسها فينا. . .)

وطريف كل ما في هذه الكلمة التي تتمثل فيها شتى المفارقات في بلاد النقائض والمفارقات!

فمن طرائفها قول الآنسة الأديبة أنني سألتها رأيها في سارة، وأنا لا أعرف أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها

ولو عرفت أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها لما فاتحتها بالسؤال عنها، لأن أصدقائي الكتاب والقراء كثيرون يعلمون ما لم تعلمه الآنسة الأديبة، وهو أنني لم أستبح لنفسي يوما أن أفاتح أحداً بالسؤال في موضوع كتاب ألفته أو قصيدة نظمتها، لأن المفاتحة بالسؤال في هذا الصدد إما استجداء ثناء، وهو لا يحسن بالكاتب، وإما إحراج للمسؤول إذا اضطره السؤال إلى إبداء رأي لا يروق ولا يطيب وقعه في أذن السامع، وهو كذلك لا يحسن بالكاتب ولا بكائن من كان

ومن شاء إبداء رأي فله من وسائل الإبداء ما يغنيه عن هذا الحرج، وما يغني الكاتب عن سوقه إلى الكلام فيما ليس من قصده أن يفتتح الكلام فيه

والآنسة الأديبة صحفية على اتصال بالصحف اليومية والأسبوعية، فما رأيها في سؤال قراء هذه الصحف عن قارئ فرد أو كاتب فرد شغلته في مجلس من المجالس باستفساره الرأي فيما أكتب أو ما أنظم!

فلماذا أسألها هي إذا كنت لا أسأل أحداً غيرها؟

أأسألها لأسمع منها الرد الذي لا يحمد من فتاة ولا فتى في خطاب رجل يكتب قبل أن تدرج من مهدها؟ أأسألها لأسمع منها أن هذا شأني وليس بشأنك، وأن الأمر يعنيني ولا يعنيك أنت ولا يعني أحداً من الرجال؟

وإذا نسيت الآنسة أن هذا جواب لا يحمد من فتاة ولا فتى، فما الذي ينسيني أنا أن أرد إليها ذاكرتها في أدب الخطاب؟

طريف هذا وأطرف منه رأيها الذي بنت عليه جوابها، وهو أن المرأة لا يكتب عنها غير المرأة، وأن الرجل لا يكتب عنه غير الرجل، وأن الطفل لا يكتب عنه غير الطفل على هذا القياس

فإذا كانت عندنا، كما يقول وضاع المسائل الحسابية، رواية مدارها على زوج وزوجة، وولد وبنت، وخادم وخادمة، وحصان في خدمة الأسرة، ودجاجة وديك في فناء الدار؛ فليس في وسع كاتب واحد إذن أن يؤلف هذه الرواية الشائعة بين الروايات، ولكننا بحاجة إلى رجل في سن الزوج، وامرأة في سن الزوجة، وولد في سن الإبن، وبنت في سن الابنة، وحصان ودجاجة وديك، للتعبير عن حقائق هذه الأحياء، ويبقى بعد ذلك أن يحتج الخادم والخادمة. . . لأن الزوج لا يغني عن الخادم وإن كان رجلاً، والزوجة لا تغني عن الخادمة وإن كانت امرأة، ولا يشعر السادة بشعور الخدم ولا الخدم بشعور السادة أليس كذلك؟

بلى كذلك وزيادة! وإن كنا لا ندري كيف يكون التأليف وأين يبدأ هذا وأين يتسلم من ذاك سلسلة السطور

الآنسة الأديبة لا تعلم الحقيقة فيجب أن تعلم الحقيقة كما خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة لنا فيه

والحقيقة التي خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة فيه أن المرأة لا تفهم من شئونها شيئاً إلا كان الرجل أفهم منها لهذا الشيء ولو كان من خاصة أعمالها وشواغلها

فالطهي من صناعات المرأة القديمة، ولكن أمهر الطهاة في الدنيا رجال وليسوا بنساء

والخياطة من صناعات المرأة القديمة ولكن المرأة لا تخيط ملابسها ولا تبتكر أزياءها كما يخيطها الرجل ويبتكرها، والتوليد من صناعات النساء ولكن المرأة نفسها تثق بالطبيب المولد ولا تثق بالطبيبة المولدة والمرأة تبكي منذ خلقت ولا تزال تبكي إلى يوم الدين، وترثي الموتى منذ هلك ميت إلى أن يموت آخر الهالكين، ولكنها كما قلنا مرة لم تخلد بكلمة واحدة إلى جانب الكلمات التي خلد بها الباكون والراثون من الرجال، ولا استثناء في ذلك للخنساء وهي التي كانت تفاخر النساء بالبكاء!

ونأتي إلى القصة نفسها وهي موضوع التعقيب أو موضوع الزجر والتأنيب للرجال الفضوليين الذين يدخلون فيما لا يعنيهم من شئون المرأة

فمن الحقائق التي يجب أن تعلمها الآنسة الأديبة أن الكاتبات الروائيات لم يشتهرن قط بخلق الشخوص النسائية الخالدة في عالم الكتابة، ويصدق هذا على السابقات من طراز ماري كوريلي وشارلوت برونتي كما يصدق على اللاحقات من طراز فيكي بوم وبيرل بك، بل يصدق في هذا المعنى أمر تستغربه الآنسة لو علمت به: وهو أن الرجال في روايات الكاتبات أصدق صورة من النساء، لأن المرأة على ما يظهر لا تحسن التعبير عن نفسها كما تحسن مراقبة الرجل والحكاية عنه، وإن لم تقصد التحليل والتصوير

ولست أنا القائل إن المرأة لم تفهم نفسها كما فهمتها من تصوير شكسبير لها، وإنه صور خمسا وعشرين صورة نسائية لا تختلط واحدة منها بالأخرى ولا توجد امرأة واحدة تحصيها في وجوهها وملامحها، ولكن الذي قال ذلك امرأة فاضلة هي أنا جمسن في كتابها بطلات شكسبير

ولم توجد بعد المرأة الفذة بين النساء، كما كان شكسبير الرجل الفذ بين الرجال

تلك طرائف آنسة في حديث الذكر والأنثى

ولهذا الحديث طرائف أخرى في (رجل) كشفه الأستاذ السيد قطب وقال هو عن نفسه إنه يفخر بمشابهة المرأة تكوينها

هذا الرجل يقول لنا: (وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد، أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان. . . وقديماً زعم اليونان أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة وليس هناك رجل كامل الرجولة. . .) إلى آخر ما قال هذا الرجل الذي كشفه السيد قطب جزاه الله

ومنتظرون نحن حتى يجشم هذا الرجل نفسه مشقة الرسالة التي بعث بها إلينا من طريق الأستاذ سيد قطب لينقلها إلينا. . .!

منتظرون تلك الرسالة منذ متى يا ترى؟

منتظروها منذ سبع عشرة سنة يوم كتبنا نقول: (لا بدع أن يكون الأمر كذلك وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة. فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس. وليس كل رجل رجلاً بحتاً ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات وتتفق المزايا ويكون في الرجل بعض الأنوثة كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء. فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب فقضي ليله يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخموراً دهشاً فألقي عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه ولا حيلة في تأجيله، فأقبل على العواطف والجوارح يقذف ما اتفق له منها في الأهاب الذي يعرض له، ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل، وهكذا حتى أتم عمله. . .)

إلى أن قلنا (وكأن (أوتو فيننجر) يقول ما تقوله هذه الخرافة حين شرح مذهبه في الحب، وقرر في كتابه الجنس والأخلاق أن لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتألف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء)

فالرسالة إذن قد وصلت إلينا راجعة إلى الوراء، وقد تعاد إلى مرسلها للاستغناء، ومعها ما يستحقه من الجزاء

والجزاء الذي يستحقه أنه الآن لم يحسن أدب اليونان ولا أدب الخطاب، وأنه لو تعلم هذه الخرافة كما تعلمها قراؤنا قبل سبع عشرة سنة لما لاكها في مقالة كما يلوكها الآن، ولأكل رزقه حلالاً بتعليم الأدب اليوناني الذي يعلمنا إياه في هذه الأيام، ويريد أن يعترف له بفضل فيه، وهو ينكر فضل السبق على ذويه بلد المفارقات، وهذا الرجل كتلك الآنسة من هذه المفارقات. . .!

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 529
بتاريخ: 23 - 08 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى