عبد الرحيم جيران - الحكي والسلطة في «ألف ليلة وليلة»

سيكُون مدخلا لهذا المقال معرفة كيفية إنتاج الحكاية المُؤطَّرة، ومحاولة تفسيرها من داخلها، وربط هذا لتفسير بالتأويل العام الذي أشرنا إليه في أكثر من مقال سابق حول «ألف ليلة وليلة». والذي يتّصل بالسوء التاريخيّ المُحدَّد في التجديل بين تباشير الانهيار وفقدان الثقة في التاريخ. وسنأخذ منطلقًا لهذا الأمر حكاية «الحمّالّ الواردة في «الليلة العاشرة»، والتي تُلزم البنات الثلاث فيها الصعاليكَ برواية حكاياتهم شرطًا للعفو عنهم، وعدم قتلهم؛ وقد كان هارون الرشيد وجعفر البرمكي المُتنكِّرين من ضمن الحاضرين في الدار، وكان مفروضًا أن يرويا بدورهما حكاية لكلِّ واحد منهما حتّى يتفاديا القتل. لكن لم يفعلا، وتمّ العفو عنهما؛ فالسؤال هو لماذا ألزمت البنات الصعاليك (أبناء الملوك) برواية حكاياتهم- تجاربهم حتّى يُحرّروا، ولا يُقتلوا، بينما حُرِّر الخليفة وجعفر البرمكي من دون أن يرويا حكاية؟ أ لأنّ هذين الأخيرين لا يمتلكان حكاية مُلائمة بحكم أنّهما عاشا حياة عاديّة، أم لأنّ السلطة لا ينبغي أن تكُون موضوعة موضع خضوع لسلطة أخرى، حتّى ولو كانت سلطةَ مُستمعٍ يرغب في الفهم، بحكم أنّ كلمتها تعلو فوق كلّ كلمة أخرى، أم لأنّ حكاية كلّ سلطة ينبغي أن تظلّ سرًّا مكتومًا لا يُروى، أم لأنّ السلطة لا تحكي إلا إلى نفسها، وفي مجالها الخاصّ؛ أي البلاط، وإذا ما حكت لا تحكي تجربتها الخاصّة، بل تجارب الآخرين، لأنّ تجربتها لا تُحكى في زمانها، بل في زمان غير زمانها؟ وإذا ما حدث هذا فينبغي أن يكُون الزمان خالدًا مثل خلودها، فتصير قابلة لأن تظهر في كلّ الأزمنة، وتتبادل رموزها الحضور في هذا الزمان الخالد؟ يُضاف إلى هذا فرضية ضرورة توفّر الشرط اللازم لسرد التجربة الخاصّة، والذي يُمثِّله الأثر في الجسد (سواء أكان علامة نقص، أو تحوّلا من كيان إنسانيّ إلى كيان حيوانيّ)، وهو شرط غير موجود في جسدي كلِّ من الخليفة هارون الرشيد وجعفر البرمكي.
تُعدّ الفرضية الثانية الأكثر صوابًا، وسنعمل على مُعالجتها في مقال لاحق. وما سنهتمّ به- هنا- هو تأويل حكايات الصعاليك (أبناء الملوك) في حكاية «الحمّال». وينبغي التشديد- في هذا النطاق- على كون النصّ الليليّ يتضمّن داخله شروط تأويل إنتاج الحكاية والقصود منها، وبخاصّة تلك التي يضطلع بروايتها سارد داخليّ. والسؤال الأساسي الذي يطرح في صدد هذه الحكايات، هو كالآتي: ألا يُعَدُّ أبناء الملوك- الصعاليك منتمين إلى السلطة؟ وإذا كانوا كذلك فكان من الأليق أن ينصفهم السارد؛ فيُمتّعهم بما متّع به هارون الرشيد وجعفر البرمكي من عفو غير مشروط برواية تجاربهم. فَلِمَ لَمْ يفعل إذن؟ ينبغي أن نتنبّه- لفهم هذا التصرّف السرديّ- إلى وصف «الصعاليك» الذي أُلحق بهم، فهو تعبير غير مجانيّ؛ إذ يُعبِّر عن تغيّر الأحوال، والانتقال من وضع إلى وضع آخر؛ أي كونهم لم يعودوا مُمثِّلين نموذجيّين للسلطة، أو فقدوها؛ ومن ثمّة لم يعودوا مُنتمين إلى المُقدَّس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كلمتهم. وهذا هو السبب في جعلهم يُرغمون على رواية حكاياتهم وتجاربهم. وربّما كان فقدانهم السلطةَ المُبرِّر الأساسي لرواية حكاياتهم. بيد أنّ حكاية فقدان السلطة هي مُجرَّد باطن لظاهر مُلتبس يُمثِّله الأثر. ويتمثَّل هذا الأخير في فقدانهم جميعًا عيونهم اليسرى وحلق ذقونهم؛ فهم يشتركون في هذا الأثر المُتماثل على الرغم من اختلافهم، وعدم وجود أيّ صلة بينهم. ولا يُمْكِن فهم سرد حكاياتهم المُتماثلة في الأثر إلا بتنسيق الرموز المُكوِّنة له حتّى يتحقّق التأويل المُلائم؛ فرقم «ثلاثة» دالٌّ على التكثير؛ فما يتعدّى رقم «اثنين» كان يُعبَّر عنه في الثقافات القديمة بالكثير. ويشتغل رقم «ثلاثة» في عديد من حكايات الليالي ليدلّ على هذا المعنى؛ والمقصود منه وظيفيًّا التأكيد على الصحّة والمصداقية. وتدلّ العينان على الإبصار، وفقدانهما يفضي إلى العمى، بينما يُعبِّر فقدان إِحْدَيْهما على نقص في الرؤية أو اضطرابها، والمقصود من العوَر في الحكاية عدمُ تملّك الرؤية الصحيحة إلى العالم، وفقدان الاتّجاه الصحيح. أمّا الذقن (اللحية) فهو دالٌّ- في الثقافات القديمة- على التقدير والوقار، وحلقه دالٌّ في الحكاية على الحزن. لكن ينبغي أن يُعاد تأويل هذه الدلالات جميعها في نطاق التدليل على فقدان السلطة والقوّة أمام هارون الرشيد، وكأنّ الحكايات تبعثه من جديد لتُذكِّره بأسباب انهيار الخلافة بعده.
إنّ فقدان العين يدلّ على مُستوى الحكاية على العقاب، لكن ما أن يُربط هذا الأخير بالخلفية العامّة لليالي المُتعلِّقة بالسوء التاريخيّ يصير دالا على شيء آخر مُختلف؛ أي السبب في انهيار الخلافة المُتمثِّل في تسلُّم التركة (الخلافة) السيِّء، وعدم مُواصلة المجد التاريخيّ من قِبَل من تعاقبوا على الخلافة. وما هذا السبب سوى فقدان الرؤية الصحيحة للمُمارسة السلطة (التراخي والانصراف نحو الملذّات واللهو). ويُفسَّر حلق الذقن في هذا النطاق؛ حيث يصير دالًّا على فقدان الخلافة هيبتها وقوّتها. أمّا رقم «ثلاثة» فيتحوّل- في إطار هذا التأويل- إلى دليل يُؤكِّد صحّة السبب؛ أي أنّ تكثير حالة العور وحلق الذقن يُعدُّ مُفحما لمن يسمع الحكاية (هارون الرشيد). وما ينبغي التركيز عليه- هنا- هو كون الخلف لم يكن في مستوى السلف، ولهذا يبعث الخليفة (هارون الرشيد) في غير عصره ليستمع إلى كلمة التاريخ بعده.
قد يعترض البعض على هذا التأويل بدعوى أنّ أبناء الملوك- الصعاليك هم روم (عجم)، ولا صلة لهم بالخلافة، وقد يبلغ به الشطط في التأويل، فيدّعي بأنّ الحكاية هي لمز الشعوب الأخرى. لكن كلّ هذا يصير عديمَ الصحّة ما أن نُفكِّر في مسألة البعث الحكائيّ لهارون الرشيد في غير عصره. ومن ثمّة فحكايات أبناء الملوك الروم هو نوع من العرْض لما عاشته أمم سابقة من تدهور أمامه، لا من أجل الاتّعاظ، وإنّما من أجل التدليل على فعل التاريخ في تنقيل القوّة من يد إلى يد أخرى أكثر قوّة.
ولا نعدم في الليالي ما يدلّ على الضعف الذي يصيب الممالك نتيجة تفريط الخلف في القوّة، ولعلّ في حكاية ابن الملك الذي تحوّل نصفه الأسفل إلى أعضــــاء من حجر المُتضمَّنة في حكاية «الصياد والعفريت» (الليلة السابعة) ما يُفسِّر العقم التاريخيّ الذي اتّسمت به السلطة. لقد مُسخت مملكته إلى بحيرة وشعبها إلى سمك. لكن الأهمّ هو رمزية تحوّل النصف الأسفل إلى حجر؛ فهو دالٌّ على الزوال وعدم البقاء اللذين يتمثَّلان في استحالة النسل بفعل تشوّه موضعه في الجسد.

٭ أكاديمي وأديب مغربي


* القدس العربي
Jun 02, 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى