إدريس كثير / عز الدين الخطابي - الأنطولوجيا والتخوم الشعرية..

أمن اللائق والمطابق القول، إن ما لم يقله المرحوم محمد عزيز الحبابي في كتاباته الفلسفية الأساسية : " من الكائن إلى الشخص " والشخصانية الإسلامية" … " قاله في كتاباته الشعرية وبالخصوص في المجموعة: " بؤس وضياء"، و"بريء حتى الثمالة"، و"يتيم تحت الصفر "؟

ما هي ملامح الفلسفة التي دافع عنها م.ع. الحبابي ؟ ما هي استراتيجيتها؟ هل تنحصر هذه الأخيرة في الكتابات الفلسفية ؟ أم أن جانبها الخفي يوجد قابعا وثاويا في التخوم الشعرية ؟ إلى أي حد يمكن تأسيس هذا الادعاء ؟ ما هي علاقة القول الفلسفي بالقول الشعري في تجربة م.ع. الحبابي؟



1 - الفراغ القصي :

يمكن اعتبار اقتراح السيد بيير مكسيم شول ( P.M. Schuhl) القاضي بالعودة إلى الدراسة بالإحساس "بالفراغ" في مؤلف "من الكائن إلى الشخص"(1)، مفتاح هذا الأخير. ذلك أن في هذا الإحساس بالفراغ والضياع، تتراكم وتتشابك كل الإشكالات الفلسفية وغير الفلسفية لدى المرحوم م.ع. الحبابي.

إن امتلاء الكائن وازدهاره يتم عن طريق التواصل. أما "فراغه" فيأخذ صبغة مرضية تكون السكيزوفرينيا مثلا نموذجا له.

بهذا يكون الشكل الأول لهذا الإحساس بالفراغ هو الفراغ السيكولوجي " فقدان الشعور بالمشاركة في حياة الآخرين، فقدان الشعور بالتواصل مع الواقع الحي وصخبه، اندثار الأفق وكذا الزخم المبدع الذي يحركه".(2)

"الفقر" الأخلاقي والثقافي أو الحاجة إلى … هو الشكل الثاني لهذا الإحساس" فالذات بدل أن تؤكد ذاتها توحي بأنها تتشتت أشلاء، لا هي خاضعة للواجب الأخلاقي ولا هي ممتلئة ومتشبعة بثقافتها ومبادئها .

الشكل الثالث هو الوحدة أو العزلة كما عاشها نيتشه وبرنانوس وحتى كيركجارد، عزلة "تجمد الآفاق وتغلفها على ذاتها إلى حدود مسخ شخصية الكائن".(3)

الشكل الرابع لهذا الإحساس بالفراغ يأخذ سمة " الأنا وحدية " تلك السمة التي تعني في عين الحبابي الشعور "بالاكتفاء" والكمال وتضخم الأنا : "إنه شعور بتدفق الشخصية وميوعها فوق كلية العالم".(4)

خامسا، إن البنيات العضوية للكائن تشير إلى هذا الإحساس الخطير بالفراغ كشعور المجرم بالذنب، وانفراده بذاته هروبا من المجتمع وآلياته القانونية والعقابية والانطواء على الذات وإقصائها من محيطها الاجتماعي.

الجمود أو الخمول هو الشكل السادس، ذلك أن المرء العملي الحركي يشعر بالامتلاء دون شروخ، في حين أن الجامد الخامل يعيش لذاته وللفراغ والفوضى الداخلية، فهو كالمجرم يعيش منعزلا.

أخيرا الشعور بالفارغ والضياع لدى النخبة. شعور يأخذ صبغة تمزق درامي بين طرفين، بين الأصالة والمعاصرة، بين ذاتها كنخبة تنتمي إلى جماعة من جهة وحضارة حداثة من جهة أخرى. هذه النخبة تعاني مما يمكن تسميته بالعيش على الأرض الخلاء فيها هاوية وحكمة لا حد لها ولا قرار.

كل هذه الأشكال من القلق والحرج تعود إلى ميدانين نوعيين هما الميدان السيكولوجي والميتافيزيقي "لا يمكنها أن تخضع لحساب الإحصائيين ولا لتكهنات الاقتصاديين والسوسيولوجيين ، لقد بقيت في منأى عن اهتمام الغرب.(5)

إذا كان م.ع. الحبابي قد ركز تحليله على البعد السيكولوجي " الفراغ" وعلى أبعاده ونتائجه، فإنه بالتالي لم يهتم بالبعد الميتافيزيقي إلا ملامسة . فما هو الفراغ الميتافيزيقي؟

إنه فراغ أنطولوجي، لا يدرك إلا كحرج لغوي وكتلكؤ لساني. فعلا إن الفراغات السابقة عما هو ميتافيزيقي هي الأخرى تبرز وتبدو كحرج درامي، إنها "خصاص" يهدم الوجود، وجود الكائن وطموحاته، إنها لا مبالاة تثير الغبن والقلق، تثير الإحساس بالإحباط لدى النخبة المثقفة. لكن، كل هذه الفراغات، في نظرنا تتأسس على الفراغ الأول، الفراغ الأنطولوجي كبياض كغياب.

العنوان البارز لهذا الفراغ هو "الغياب" الذي نفاجأ به من على سطح لغتنا : غياب الكلمة الصغيرة التي تفيد الرابطة الجمالية أو المنطقية، وغياب المفردة التي تعني أساسا الأشياء لا في وجودها ولا كونـها وإنما في بعدها الأونطي. يجب التمييز هنا بين الأنطولوجيا والأونطي. فالأنطولوجيا هي فلسفة الوجود، إنها بحث في جوهر هذا الوجود، ودراسة للأسس التي يقوم عليها نظام الأشياء ولهذا أصبحت الأنطولوجيا مرادفة للميتافيزيقا، ويلاحظ هيدجر بهذا الصدد، بأن الميتافيزيقا قد تناولت الوجود في بعده الأونطي أي من خلال البحث في أساس الموجودات باعتبارها موجودات عينية في حين أن الأنطولوجيا هي فهم لمعنى الوجود، هذا الوجود المنسي في الميتافيزيقا الكلاسيكية. من هنا وجب التمييز بين الأنطولوجيا والمسائل الأونطية التي موضوعها الأشياء العينية.

من هذا الغياب الأنطولوجي إذن انبثقت "المأساة" الأنطولوجية التي يبدو أن م.ع. الحبابي قد أدرك تجلياتها بل أدركها كميزة تميزها عن غيرنا ولا يمكن للآخر أن يدركها.


2 - مفهوم الوجود :

إذا كانت قمة الفراغ أو الفراغ القصي (( Archie -vide تنتصب في الأنطولوجيا من حيث هي دراسة الأونطي ، فكيف قارب م.ع. الحبابي مفهوم الوجود ؟(6)

ينفتح الفصل الأول من كتاب " من الكائن إلى الشخص " (بالفرنسية) على مفهوم الوجود ( La notion d'Etre). يترجم الحبابي هذا المفهوم "بالكائن" . والعلم الذي يتأسس كدراسة على هذا الأخير يسميه "الكانتولوجيا".(7) والكائن الذي يعنيه ويقصده أساسا هو الكائن البشري الذي يحيل إلى الشخص. إلا أنه ولكي يؤطر قصده يميز بين الوجود الخام أو الوجود الغافي هنا وبين الوجود الفعلي : بين Etre و par-aître (8). هذه الاستعارة من أرسطو والتي تحيل إلى الاختلاف الأنطولوجي لا تهم الحبابي كاختلاف بقدر ما تهمه كغياب للوجود أو انعدام له .

هذا الاختلاف، يحدده الحبابي من خلال هذا التشبيه البليغ حيث يقول : "لقد قلنا بأن الكائن (الوجود) ليس هو الشخص. وهذا السلب يمكن أن يفهم بسهولة. ونؤكد بأن الكائن قد خضع لتحويل، دون أن يعني ذلك نكرانا له، لكن شيئين غير متطابقين ليسا بالضرورة من طبيعة مختلفة. فالشخص يتأسس انطلاقا من الكائن المأخوذ كدلالات اجتماعية والذي يتشكل من خلاله فاعل مساهم في الحياة الاجتماعية وفي صيرورة التاريخ.

إن الكائن الذي لن يكون ممتلئا بالشخص أي الكائن المنحصر في "الظهور" بدون أي تعديل اجتماعي، بدون أي إغناء منبثق من الخارج، إن هذا الكائن لن يكون أبدا هو، الكائن الإنساني.

إن الاختلاف بين الكائن الخام والكائن المشخص ليس اختلافا في الدرجة أو الطبيعة (التشديد من عندنا) فهما ليسا نفس الشيء ولا يتعارضان. فالعلاقة بينهما مماثلة لتلك التي تربط الخاصية المبرهن عليها في الهندسة الأوقليدية، بالمسلمات والأكسيومات والتعاريف، والخاصية الرياضية تختلف عن المسلمات ولكنها تفترضها، إنها تتجاوزها ولكن ليس بإمكانها عدم أخذها في الحسبان، فإمكانية وجودها كخاصية رهينة بوجود الأكسيومات والتعاريف …"(9).

يتميز الاختلاف الأنطولوجي إذن "بصدمة انعدام الوجود"، ويتضح لنا ذلك جليا من خلال مثال " قطعة القماش"(10).

فهي " نوع" يمكن أن يصير "فردا .. وبالتالي نستطيع أن نتحدث عن تفوق النوع على الفرد. ونلاحظ "في مستوى الماهية فقط" أن "القطعة - النوع" قد أصيبت في كينونتها بصدمة انعدام الوجود الذي كانت ترمي إليه منذ حياكتها في المصنع، بينما للصدرية وجود في الواقع "(11).

يبدو أن أساس الاختلاف الأنطولوجي لدى الحبابي يكمن في صدمة انعدام الوجود، فما دلالة هذه الصدمة ؟ وما علاقتها بالعدم وبالفراغ بالتالي ؟

لا يشير الحبابي إلى الوجود (الكائن) إلا ليتخلى عنه لصالح الكائن البشري، فبعد سرد تاريخي للمسألة ( مسألة الوجود) من بارمنيدس إلى رونوفيي وبرجسون مرورا بهيجل وهايدجر، يخلص فيلسوفنا إلى الخلاصة التالية : - يمكننا قراءة هذه الخلاصة على شكلين أو بلسانين - في اللسان الفرنسي(12) يشكل الوجود (Etre) دلالة على الشيء الموجود (est)، كما يدل على الصفة الإسمية في نعت شيء ما.

إن الانتقال من الفعل إلى الاسم في الوجود يؤدي إلى الغموض والالتباس كما يؤدي إلى تحصيل، وهذا ما نلمسه في اللغات الهندأوروبية، كالاندليزية (to be being) كما نلحظه في اللغة العربية، وهي لغة سامية (كان، كائن).

ولتجاوز هذا الغموض وهذا اللبس يحصر الحبابي بحثه في الوجود عند حدود الموجود أو الكائن الإنساني.

أما في اللسان العربي(13) فالحديث يدور حول الكينونة (Etre) باعتبارها شيئا كائنا فعلا أي من ناحية فعاليته، أو اسما لكائن ما. من هنا يبرز الالتباس والتكرار الذي يمجه المنطق، ولتجاوز ذلك يقتصر البحث على "الوجود".

من خلال مقارنة النسختين الفرنسية والعربية، نخلص إلى ما يلي : رغم وقوف الحبابي عند اللغات الهندأوربية من جهة واللغة العربية من جهة أخرى، لم يتساءل ولو لحظة واحدة عن المصطلحات العربية الأخرى والتي تقابل أو تساوق كلمة ( Etre) كالموجود والوجود (الفارابي) والأيس (الكندي) والماهية أو الهوية ( ابن رشد..) بل لم ينشغل بغياب الكلمة المقابلة لـ: "est".

من الوجود (Etre) إلى الموجود ( Exister) يفضل الحبابي الكينونة (Sera) عن الوجود (Etre) أو (est)…

من هنا "فالكائن" كمفهوم وجودي يشير إلى الصيرورة أو الكينونة في بعدها التاريخي (Devenir) ويغفل "الوجود من حيث هو وجود".

هذا إضافة إلى أن "كان" فعل ماض ناقص - لغويا وبالتالي فالعلاقة بين كان (الماضي) والكائن (الحاضر) هي علاقة ناقصة علاقة تحصيل الماضي في الحاضر، ذلك التحصيل الذي يمجه العقل، ونحن في حاجة إلى التكرار والاختلاف الذي يؤسس الأنطولوجيا.

لماذا الاقتصار على الكائن البشري؟ ولماذا الاهتمام بالفعالية الوجودية للوجود؟ إلا أن طبيعة الوجود وما قبل الوجود، أو الوجود الغافي هو : انقذاف خارج الميدان الذي تدور فيه الحياة الاجتماعية"(14).

إن الجواب على هذه الإشكالية ينشطر إلى شطرين : شق يأخذ شكل مسار فلسفي، هو الذي سار عليه م.ع. الحبابي. إنه اختيار فلسفي، أراد لنفسه ومنذ البداية(15) الاهتمام بالكائن من حيث هو فرد أو بشر وبالتالي شخص " لقد قصرنا البحث، هنا تجنبا لكل غموض والتباس على "الوجود البشري" بحيث حصرنا الممكن في حدود الواقع، (متجنبين الكائن في معناه العام)، بذلك سيكون معنى" وجود" الوجود الفعلي للكائن البشري المحقق " فعلا في "الواقع الحالي" …(16 ).

إن هذا الاهتمام وهذا الاختيار هو الذي منحنا جملة المؤلفات التي تدور حول الشخصانية وهو الذي رسم حقبة طويلة من حياة فيلسوفنا إلى يوم طور هذه السمة في اتجاه آخر.

أما الشق الثاني من الجواب، فنلحظه ثم نلمسه في عدة مصطلحات ومفاهيم يعتمدها الحبابي في قوله بصدد الوجود هذه المصطلحات هي "الظهور" و"الاضمحلال" و"صدمة انعدام الوجود" و"الهنا و"الهنا/ك"… فهل جاءت هذه المفاهيم صدفة أم ضرورة؟ وإذا كانت ضرورة فما هي الوظيفة الإجرائية لـ"هكذا" مفاهيم؟.

لو لم يختر الحبابي الدرب الأول، لسار حتما على الدرب الثاني، هذا الأخير كانت ستحكمه المفاهيم المشار إليها أعلاه.

إنها مفاهيم أنطولوجية، تتعلق بوصف الحركة الأولى، حركة انبثاق الوجود من اللاوجود. فالوجود أو الكائن والشخص يفترض الوجود من حيث هو طي له، ومن حيث أن بينهما ثنيا وإضمارا . فالشخص بهذا المعنى هو ثني وطي للوجود الذي يحمله ويدعمه.

هذا الوجود المضمر هو الاختلاف لا بين الغياب والحضور ولا بين الموجود والوجود ولا بين الامحاء والامتلاء لا بين الآن والهنا/ك، إنه اختلاف الحضور الغائب والوجود المنطوي والامتلاء الفارغ والهناك الأثر وصدمة غياب الوجود…

وجودنا مغاير، يتأسس على الغياب والفراغ وعلى اللاوجود، لا كنفي له وإنما كأساس له وللنفي في آن واحد. وجودنا نصفه الآخر غائب عنه منطو في ثني أنطولوجي " في فسحة سميناها القاعدة.

والهناك تشير إلى شيء غائب وغير محدد، تقصده كإشارة وتثيره أي تخرجه من غفوته- هنا/ك، هذه الغفوة تسمى "العدم" مادام" العدم هو لا وجود ما شأنه أن يوجد " (الفارابي).

إن تبدل الربو والاضمحلال أو الإضمار والإظهار هو ما يجعل من العالم عالما شبحيا، يعرف حركة ربو واضمحلال تفصل الوجود (Etre) عن الظهور (Appar-aître) تمنح الشعور بـ "صدمة انعدام الوجود".

"صدمة انعدام الوجود" إذن هي ذلك الانقشاع الضروري واللازم للانتقال من الظلمة إلى النور من السواد إلى البياض. صدمة رجت الوجود في صميم حده وإمكاناته، وكانت اللغة واحدة من هذه الارتجاجات التي بعثرت الوجود ولم تجمعه بعد.

اللغة هي تلك القدرة على الإشارة إلى الشيء قصد إخفائه وإظهاره في آن واحد، شيء ينسحب على كل الموجودات وينسحب منها خلسة .. متحجبا .. من خلال جملة من التشبيهات تبدأ بالكاف، الوجود كشيء، الوجود كظاهرة .. حتى أننا " لا ننفك نعتقد بأن الكاف واحد في الكلمة وفي الكون"(17).

هذا الوجود المغاير سميناه " الإسرار "(18) وجود يظهر بقدر ما يختفي، ويختفي بقدر ما يظهر، فالاتجاه إلى الاضمحلال أو إلى الربو اتجاه مزدوج ومفارق ، يبرز تارة هنا، وتارة هناك دون أدنى خلل ولا شك.

هل تنتظم حقا، هذه المفاهيم، التي نعثر عليها في سياق كلام الحبابي، ضمن هذا النوع من الأنطولوجيا ؟ ما الذي يؤكد أن الأنطولوجيا المشار إليها في هذا العرض هي تلك التي كان سيثيرها م.ع. الحبابي لو أتيحت له فرصة كتابة فلسفة أنطولوجية غير تلك التي كتب ؟

واحدة من القضايا التي تناقض هذا الادعاء، قضية "العدم" كما هي واردة في بعض جوانب كتاب "من الكائن إلى الشخص"، يقول الحبابي " قد نوافق لويس لا فيل (L.Laverlle) في أنه لا يمكن أن يحدث انتقال من العدم إلى الوجود. وأن في وسعنا تسمية الكائن نقطة البداية، ذلك أن كل بداية أخرى تفترضه وتعبر عنه بتحديد أبعاده"(19).

وفي مكان آخر يؤكد نفس الموقف: "لا نستطيع اكتشاف شيء من لا شيء فمن العدم لا ينبثق الوجود"(20).

رغم أن هذه الإحالات تؤكد التقليد الفلسفي اليوناني، " "لاشي من لا شيء" فإن وضعها في سياق فلسفة الحبابي، إما مشروط ب " قد" مرتبط بمسألة الزمان " قد نوافق لويس لافيل على قوله…" إلا أنه مادام الكائن في نظر الحبابي هو الكائن البشري، لا المعطي الكائنولوجي للشيء، فلم يعد العقل كائنا (être ) وإنما وسيلة داخل الكائن، معاصرة لمفهوم الضرورة ، والعقل والضرورة في الكائن البشري سابقان عليه من حيث الوجود، هكذا فمعضلة ثنائية الحضور القائم (لظهور) والتوق إلى التقدم (الزمان) تنحل في عملية التشخصن"(21).

أما مسألة الزمان بالتالي فيبلورها الحبابي في مفهوم فلسفي خاص به هو" l’entrain أو le faisant " . الحينونة(22) ويقصد به .. عملية جمع للماقبل والآن والمابعد، دون خلط فيما بينها، ذلك لأن الحاضر مدعو ليمضي بفعل من دعاه إلى الوجود والماضي كان حضورا وأضحى وراءنا إلا أنه وفي نفس الوقت مازال متشبثا بما هو مجموع الماضي والحاضر الذي هو الزمن الحاصل "il ne sera plus" ففي الحينونة يتقاطع " ما لم يعد" (il n'est plus) مع ما لن يكن (il ne sera plus).

وفي الواقع ليس هناك إلا الماضي، وما هو في طور الماضي. وهذا الأخير ليس هو الحاضر لأنه بدأ مسبقا قبل اللحظة.. وليس هو المستقبل أو الآتي، لأن هذا الأخير لا يبدأ إلا حينما تبدأ الحينونة لتبلغه. ولهذه الأخيرة حسب الحبابي حد يعد تلاشيا لماهيتها، حد تلتقي فيه البداية والنهاية. من هنا الطابع المفارق للحينونة " ce qui est; est toujours en train de se passer ( il faut lire passé et passer)(23) في هذا السياق يلتفت الحبابي إلى اللغة العربية وإلى بلاغتها في التعبير عن الحينونة،يقول : "هناك حالة خاصة تقدمها لنا اللغة العربية، حيث تأخذ الحينونة (l’entrain de ) معناها الأكثر دقة - ذلك أن الماضي يعبر عنه، كما هو الشأن في الفرنسية بالصيغة الفعلية: "كنت مريضا" - نفس الشيء ينطبق على المضارع حيث يستعمل لفظ "كان" الذي يختفي تماما في الحاضر إذ نستعمل صيغة " أنا مريض". ضمن الفعل الناقص، إذن تشكل الحالة جزءا لا يتجزأ من الأنا المتحول، فالضمير أنا وحالة المرض يشكلان كلا. فهناك "الأنا " الذي بدأ يسلك سلوك المريض، وهناك المرض الذي بدأ يتحقق، وبين هذا وذاك تغيب الرابطة. فـ "الآن" المنجرف بفعل جدليته الخاصة ( لأن حقيقته ليست متضمنة فيه ولكن فيما ينفيه) لا يمكنه التعبير عن مظهره المزدوج أي عن مفارقة الحين/الآتي، إلا بالابتعاد عن التعابير ذات الصيغ الفعلية. إن الحينونة هي في جوهرها ذلك المكان الذي يكون فيه الآن مضادا لذاته أي لحالته "(24).

لو تأملنا مليا هذه الإشرافة وهذه الالتفاتة إلى اللغة العربية للاحظنا بكل جلاء، "جلاء" غياب الكلمة الصغيرة ، إنها تغيب "وتختفي كليا" عند الإشارة إلى الحاضر أما في الماضي والمضارع فيمكن استعمال : كان سيكون .. فما دلالة هذا الاختفاء وهذا الحذف؟ إنه الدليل الأدل على ذلك الحد/اللاحد، حد التلاشي والاندثار الذي يصب "الحينونة في ماهيتها، فتلتقي فيها البداية بالنهاية، وهو نفسه الدليل على تلك الحالة من الفراغ القصي الانطولوجي المشار إليه سابقا. "أنا مريض " أو " زيد عادل" في كلتا الحالتين هناك التقاء وتداخل بين الذات والصفة بالذات التي تصير مرضا أو عدلا والمرض أو العدل الذي ينطبق على الذات، في غنى عن كل وساطة وتوسط، من هنا ضرورة حذف الرابطة.

فالآن أو الحاضر لا يحمل حقيقته في ذاته بقدر ما يحملها فيما يلغيه "كان" إن مفارقة جمع المباشر/ الصيرورة أو الحينونة لا تمر ضرورة عبر الرابطة المنطقية التي تفيد الحاضر والحضور فالحينونة إذن ومن حيث الماهية هي ذلك الحين الذي يشكل فيه الآن نقيض ذاته وحالته. إن هذه الخلاصات الأولية لها ما يؤكدها في الفصل الثاني من الجزء الأول من كتاب "الشخصانية الاسلامية " (25) حيث نعثر على جملة معطيات تأليفية على المستوى الانطولوجي أي على مستوى الوجود (dans l'ordre de l'être). ضمنها يتحدد الشخص من حيث هو تركيب لجسم وروح . فإذا كانت ماهية الوجود لغزا فهناك على الأقل يقين هو "فعل الوجود " (le fait d'être) ذلك أن هذا الأخير لا يحتاج إلى برهان حسب الحبابي، إنه أمر بديهي، يتأسس على رغباتنا وأفراحنا وأتراحنا … إنه الشخص أو الوجود المشخصن.

فالوجود موجود : والله هو الذي أوجده من العدم، حيث قال له "كن فكان". من هذا المنطلق يبدو أن الحبابي يسلم بصيغة "الخلق" دون أن يتأملها،بل يسلم أيضا بأن الإنسان "يعيش وجوده وإن كان لا يعرف كيف يتكلم عن هذا الوجود.(26)

لأن الأهم والأنفع هو "الكائن" البشري في وجوده الفعلي لا الوجود من حيث هو وجود.

إن هذا "الخلق" يتأسس لدى المسلم على أساس أنطولوجي يدعى في الإسلام "الشهادة" (Dieu est) - " أشهد أن لا إله إلا الله". إن تأكيد وجود الله ووحدانيته هو تأكيد لأصل واحد يحرك الانتقال من هذه الجهة إلى تلك.

ترى كيف يمكن الانتقال من هذه المعطيات التيولوجية إلى التحليل الفلسفي الأنطولوجي ؟ ضمن أية أنطولوجيا تتأسس الشخصانية الإسلامية؟

إن هذا الأساس يمكن اكتشافه من وراء هذا القول : "بفضل الحضور الإلهي الكلي، يحاول الإنسان المسلم على الدوام تكييف سلوكه وفقا لاعتقاده : فما هو ميتافيزيقي واجتماعي وأخلاقي، ينتظم ضمن رؤية مركزية لاهوتية.

"لا مجال للغش إذن ، فما دام الله تعالى حاضرا باستمرار فإن الضمير الأخلاقي يظل مستيقظا ومنتبها. إن هناك واقعا لا يمكن للعقل الإحاطة به، واقعا غير مبني، يدرك مباشرة، واقع حضور يتم الإحساس به".

حينما نتحدث، ولو من أجل وصف الأشياء أو الأحداث الموضوعية فإننا نستخدم العقل، وكيفما كان الحال، فإن أي إدراك لا يصبح كذلك إلا إذا مزج بين ما هو حسي وما هي عقلي، فأن نصف معناه أن ننتج قضايا، والقضية ليست على الدوام سوى صورة غير ملائمة، قد تكون خاطئة أو صائبة، حول الموضوع، الظاهرة أو الحدث الذي تحكيه. ذلك لأن الكلمة توظف الصور التي تستوعب أحيانا بعض التعديلات، مثلها في ذلك الملابس الجاهزة التي لم تضع وفقا لمقاس شخص بعينه، لذا فهي في متناول الجميع. وعليه فإن قضية ما، إذا لم تكن ملائمة لموضوعها، فإنها على الأقل تكون قد حققت نوعا من المقاربة لفهم هذا الموضوع. إن الكلمة والبرهنة لا يمكنهما إذن ، سوى القيام باقتراحات وليس معرفة الحقائق الميتافيزيقية … مثل وجود الله وجوهر الإيمان…

فمقابل الوقائع الميتافيزيقية، يجب أن تنبثق أنساق ميتا-منطقية، ميتا-صورية (من الصورة) ميتا-لغوية، أي تحول عميق بمعنى من المعاني لعقليتنا ولفهمنا وللوسائل التعبيرية التي نمتلكها مادام الأمر يتعلق بمجال متعال عن عالمنا، أي مجال الفكر المتعالي"(27).

يمكن تلخيص هذا القول في نقط ثلاث :

الأولى هي الإقرار بحقيقة التمركز اللاهوتي وخضوع رؤية المسلم لهذا التمركز.

الثانية هي نسبية الأحكام العقلية وبالتالي انزياح العقل عن موضوعه ومحدودية القضايا التي ينتجها لفهم الأشياء والأحداث وعدم تلاؤمها.

الثالثة تنـزع نحو النزعة الترنسندنتالية الكانطية المعبرة عن عجز العقل على إدراك الحقائق الميتافيزيقية والتضحية بالعقل في سبيل عقل آخر، ليس بالضرورة الإيمان أو العقل العملي، عقل يوحي ويقترح أكثر مما يدعي أنه يعرف ويدرك، عقل يمكن أن نسميه "النويسيس"(28) (Noesis).

هناك إذن تصور عميق لعلاقة اللغة بالوجود لدى الحبابي في هذه الإشراقة. تصور لا نعثر على امتداد له، إلا ليؤكد تلك العلاقة العميقة.

فاللغة هي شاحنة الأفكار والعواطف، عليها نعتمد في كل تواصل بشري. إنها تكشف عن "الضيف المجهول الذي نحمله " إنها تفتح ما هو مغلق وتخلق عوامل الاتصال الاجتماعي. إنها عالم حي محكم البنية شبيه بالمجتمع البشري الخاضع لقوانين اتفاقية، فهي الأخرى تأخذ من النحو محورا لها يشكل نظامها الداخلي.

فالألفاظ بمفردها لا تشكل إلا أصواتا ولا ترقى إلى مستوى الكلام ( أي التعبير عن الأفكار) ذلك أن العين مثلا توحي بمعان عدة، العين الجارحة والعين الأبجدية…

أما إذا تم تركيب تلك الألفاظ حسب نظام دقيق ( كما هو الشأن في الوجود…) فإنها تتجنب الفوضى وتداعي المعاني وتحمل أفكار متناسقة وتؤدي وظيفتها التواصلية : "الجملة هي التي تعطي كل لفظ معناه ".

تكتسب اللغة إذن وظيفتها من الخارج أي من قواعد النحو والصرف. لكن هذه الأخيرة تكون السبب في ضياع الإمكانيات التي كانت تحملها اللغة ضمنيا قبل أن ينطق بها. (التي كان يحملها السماع).

يمكن قول نفس الشيء بالنسبة للكائن البشري، بل للوجود ككل. هناك لحظة عامة، هي لحظة الوجود من حيث هو وجود ( وجود اللغة بإمكاناتها الضمنية) ولحظة الوجود من حيث هو تمظهر وبروز هذه الإمكانية أو تلك ( اللغة مصاغة في جمل وتركيبات وقواعد…)

إذا كان الإنسان خاضعا لتمركز لاهوتي، وأحكامه الفعلية محدودة وبالتالي لا بد لها من تحقيق انزياح بين ما تقوله وبين الموضوعات الميتافيزيقية على الخصوص، فلا بد من تحول عميق لعقليتنا ولوسائلنا التعبيرية. هذا التحول يكمن في علاقتنا باللغة. فكلما قربنا التشابه بين الوجود اللسني والوجود الأونطي كلما نفذنا عميقا في فهم الوجود وبالنتيجة في بلورة تصور أنطولوجي مغاير. إنه نفس التصور الأنطولوجي الذي تأتينا إليه في تحليلنا لمؤلف "من الكائن إلى الشخص " في الجزء الأول من هذا العرض.

قد يعترض على كلية هذا القول بحجة أنه فرضية (فرضية السمك الثاني) لم يختبرها الحبابي. وهذا القول جزئيا، فالمفاهيم الواردة في سياق القول الشخصاني إذا ما تم بترها وقطعها من مناخها أمكن توظيفها في أي سياق أو سيناريو آخر، رغم محاولة ربطها بعضها ببعض، ورغم تلقينها على هذا المقطع أو ذاك .

إلا إن القول الشعري وإذا ما نظرنا إليه كتجاوز بله كتجاوز للقول الفلسفي(29) يمكن اعتماده كاختبار لادعائنا السابق، فإلى أي حد يمكن تأسيس هذا الادعاء.


3 - في تخوم القول الشعري :

ما هو تصور الحبابي للشعر ؟ واحدة من أهم المقاربات لهذا التصور، نعثر عليها، فيما يبدو أنه يشكل مقدمة لديوان " الوردة تحتضر " (La rose se meurt)(30) تحت عنوان: (Etre dans son être).

إذا كان الإنسان خالق اللغة فهو مخلوقها أيضا، فالمجد لهذا الإبداع المؤسس على المشاعر الإنسانية العميقة. إن حقيقة الإنسان إذن هي أن يكون هو ذاته. فالحياة تتغير وتتحول ومن متغيراتها المفضلة ما ينتج عن التحول المتبادل بين الإنسان واللغة. وما الشعر إلا تجل شامخ، سعيد ومفارق لهذه التحولات. عصرنا عصر اللامبالاة ومع ذلك هناك عدد هائل من الناس يحبون معاشرة ملائكة الشعر، والدليل على ذلك هذا النشر الهائل للدواوين الشعرية. اللامبالاة هي في الواقع نوع من الشعر البكائي والأناني (الشعراء النواحون). أما الشعر الأصيل فيضيق هامش المجانية والفردانية ويتحول إلى فعل ينصهر فيه الاجتماعي والأنطولوجي ( تداخل الموجود)، والإنساني والكوني لأن المتعالي يوجد فيما وراء الذات، فيما وراء الفرد، مجاله التواصل المتداخل".

الشعر الآن يتحدد داخل البؤس الإنساني عالميا ، فهو بالتالي التزام بما هو إنساني وتجاوز للأنانية والشوفينية.

على الشعر أن يفتح الطرق التي تؤدي إلى إنسانية الإنسان وذلك باستغلال اللغة إلى الحدود القصوى لما هو ممكن، وبتأمل التجارب الاجتماعية والتعبير عنها. فالشعر أولا ضغط (pression) وثانيا تعبير (ex-pression) وهذا الأخير شكل ومضمون حيث لا شعر إلا بالاتحاد الوثيق للصوت والمعنى (sons et sens).

اللغة هي الوجود : فلنهذب قولنا، لأن الشعر إبداع وتواصل وتوالد فهو إغناء للغة وإغناء للحياة، وبها تتحدد الموجودات اللغوية في الإطار العام للموجودات .

الشعر مشاكس بطبعه : يبحث عن الخروقات الدقيقة والجروحات الرقيقة للواقع: يعكس صدى ما يمر مختفيا شبحيا أمامنا وفينا.

من هنا فالشاعر كالأركيولوجي يباشر الحفر في الأعماق الإنسانية للوقوف على البنيات التحتية للوجود الإنساني، للوقوف على البنيات العميقة للغة الانسانية، فهو يقترح، يوحي ويقدم للذوق بدل أن يبرهن أو يستدل أو يقدم للعقل.

يجوز لنا بعد هذا العرض البسيط لقول الحبابي بصدد الشعر أن نجزم بأن الشعر لديه يوجد في مفترق الطرق بين اللغة والوجود، ينحشر عميقا في اللغة وأشكالها وتعابيرها وتركيبها حتى تخاله شكلا لغويا، لعبا بالكلمات من أجل الكلمات، ثم ينفلت من اللغة لينحشر في الوجود واللاوجود حتى تحسبه قولا بلا جدوى ولا حدود. إن هذا الوضع المفارق للشعر(31) هو ما يشكل مدخلا لقراءتنا لبعض قصائد الشاعر الفيلسوف.

إذا انطلقنا من ديوان " بريء حتى الثمالة"(32) وبالضبط من قصيدته الأولى "المجد للغة" سنجد فيها فهما متميزا للغة في علاقتها بالشاعر : المجد للغة ولكلمتها الجديدة"، والشكر للذة اللعب الثلاثي بالكلمات فهو لعب شبيه بالتواصل الشمسي في قبة السماء، يمتد ويتصل ، ينفصل ويضيع، فيضيعنا في معادلات لا معنى لها، وفي عزلة يحاصرنا فيها الكلام الممنوع بالمقول الخاطئ حتى نعثر على أنفسنا في فضاء صوتي لا جملة فيه، ولا صوت فيه للذاتية. فالشاعر في هذا الفردوس المحرم الموصود بدون مفتاح، يهشم الباب، يجني الكلمات يقطفها بالأشواك ويحملها على ظهره تاركا شيئا ما من قلبه ورهافته، باحثا عن المشاعر الرقيقة التائهة والتي لا يمكن التعبير عنها بسبب " غياب الكلمة". لكنه متحكم في عنفه، ماسك بفعل اللامبالاة، يهذب أطرافه معيدا الكرة دون ملل، متقدما لا يقف إلا عند محطات السراب في اتجاه التعبير غير المعبر عنه شاهدا على زواج اللغة باللغات الأخرى…إنها طريقة جميلة لملء الهفوات التي تحرم الخطاب من المعنى.

هذه القراءة الأولى للقصيدة تستدعي قراءة ثانية وربما ثالثة، قراءة تسائل هذه المرة سر الكلمة الجديدة تلك، المشار إليها. عن غياب أية كلمة تتحدث القصيدة؟

تتحدث القصيدة عن الكلمة. لا تقول لنا ما هي؟ قد تكون الحرية أو الحب أو الشجاعة أو العدل أو الوطن .. وهي كلها كلمات تغنى بها الشعراء دون ذكرها صراحة، حتى أننا نخال الكلمة وهي تعني كل تلك الكلمات بل كل الكلمات مادامت لا تعني واحدة منها بالضبط، لذا فحرية اختيار الكلمة الملائمة ، أمر معطى لنا، غير أن هذا العطاء مشروط في وجوده وكرمه بسياق القصيدة وتمفصلها وكذا بنتيجة القصيدة ومقصدها.

إنها رحلة الشاعر - الفيلسوف داخل تخوم اللغة، تخوم الغابة العذراء، بحثا عن الكلمة عن اللعب بالكلمات، عن سراب الكلمات وحين تنبثق المشاعر والإحساسات، تتيه، ترحل ، وتترهل بسبب غياب الكلمة وفراغ المعنى بالتالي .

لذا فمأمورية الشاعر الفيلسوف، في هذه الرحلة هي ولوج أدغال اللغة/ الغابة (المقبرة اللغة) نبحث عن الامتلاء في المعنى، وقوفا عند السراب وعند التعابير غير المعبر عنها قصد أداء الشهادة في زواج اللغة باللغات.

زواج/امتزاج قصيدته هي ملء ثغرات وهفوات الخطاب. واضح أن الهفوة الكبيرة والفراغ القصي والغياب الأنطولوجي هو غياب " الكلمة الصغيرة" التي تختفي عند الإشارة إلى الحاضر والتي تنحذف كواسطة فعلية (من الفعل) بين علامة وأخرى، غياب سراب، فراغ لا يدرك إلا كحرج لغوي وتلكؤ لساني. هل هذه "الكلمة " هي التي يعنيها م.ع. الحبابي ؟ ما الدليل على أنها الكلمة الملائمة وبالتالي المقصودة؟

الدليل نعثر عليه بارزا في القصيدة " الكلمة هي قدري"(33) يمكن تلخيص هذه القصيدة على الشكل التالي :


في عالم اصطناعي، بروتوكولي

تضيع فيه الحقيقة، وتندثر

تتضخم ذاتي وتمتد لصق اللانهائي

أرتحل بحثا عن غنى "الوجود"

زادي العلامات

ودليلي الكلمات

فالقول الإنساني رغم كل ذلك لا يتميز

لا ينفرد أيها الغريب

إن الظلم هو ورمي المزدوج

أحمله في الروح وفي القلب

ومع الفجر تكبر الكلمة

وتجد وهجها، فلا يغدو الغناء مرا.



رحلة الشاعر الفيلسوف مازالت مستمرة، بحثا عن الحقيقة، ونفيا للاحقيقة، بحثا عن "الوجود"/الكلمة وسط العلامات والكلمات الأخرى، ومقارنة باللغات الأجنبية الغربية. ارتحل بحثا عن غنى "الوجود".

أكيد أن هذه الرحلة وهذا العناء لا يستقيم إلا برفع خطر بعض الكلمات الشائكة: كالظلم الذي يحجب الفجر ويقزم الكلمة ويطفئ جذوتها ويجعل من كل غناء غناء مرا وتبقى رحلة الشاعر هذه التي لا يكل ولا يمل منها مستمرة مهما كانت الظروف:


لكي يشع نورا

فإنه سيواصل سفره

عبر منعرجات أناه

بغية اكتشاف الفراغ، الغياب"(34)


فهو يجري إلى حدود وراء كلمة - سراب، لا يمكن تسميتها ولا يمكن تعيين سرها(36). هناك آلاف العراقيل تعوق التسمية وتخفيها، تقصدها وتفصدها. فالكلمة كالعملة ذات وجهين، وجه يخفي الواقع وآخر يظهره وجه يكسف والآخر يخسف .



إن ذلك الذي لا يسمى يحافظ على سره

رغم قطيع الأصوات الذي لا يسمى

إن جدار الكلمات يمنعني من استشراف

أسراره الخفية(36)


وفي مكان آخر :



يبتلع الوجود جراحاته المتعددة

وتتحرك الكلمة المسيحية

بداخل ثنيها الكثيف

بدون أضواء(37)


وآخر :


أيتها الكلمة، إنك تتوفرين على كل أسرار العالم

عالم المفارقات هذا حيث الـ..كلمة

هي المفتاح الوحيد

إنك تصوغين الحب

تصنعين الموت

بدون إمكانية تسميتها(38).


إذا كان غياب تلك الكلمة قد أخذ كل هذا الحيز وكل هذا الاهتمام، فما هي الامتدادات الأنطولوجية لهكذا غيب واختفاء ؟

كيف انعكست تلك الحاجة الملحة للكلمة في الأشعار ذات النفس الميتافيزيقي والأنطولوجي ؟

في قصيدة بعنوان " الكاف كـ .." من ديوان " بريء حتى الثمالة" يخاطب الحبابي أرسطو بين قوسين قائلا . (إننا نعاني من العدم يا أرسطو العزيز). فليكن ! لكن كيف يمكننا مداواة ومعالجة هذا الداء وهذه المعاناة ؟

أولا العدم هو رزين الصدى في الفراغ الرهيب، حيث يلتحم الموت بالوجود، ويلتهم الفراغ ويسائله، فيجيب الصدى بجوار هموم الناس والحياة، سمعت ا.ل.ع.د.م في صفيره وزمهريره .. لكنه لم يكن، إنه الصدى يرد على الصدى كالعدم بجوار العدم(39).

وفي قصيدة "الشاعر الشارد" يقول م.ع. الحبابي :



إنه (الشاعر) الشاهد بالعين

على خلق العالم من عدم(40).


ثانيا يمكننا ذلك بواسطة اللغة، فاللغة بالإضافة إلى كل ما قيل في حقها سابقا، هي مكونة العالم وبالتالي الوجود. (dire c'est être) هذا الكلام التائه في الفراغ، المكون للمستقبل هو الذي يخلق إنشقاقات وارتجاجات في وعينا الشقي، هو الذي يكون أشياء المستقبل. هذه الشقوق يسميها الحبابي "انكسار الوجود‎" (cassure de l'être) فإذا كان الإنسان أزمة هوية، فالنسيان هو منقذه. أما الذكريات فهي الأشياء المنكسرة التي تنعكس في الذات كانقسام، من هنا "فانكسار الوجود" هو العدم، هو النسيان. وجودنا منكسر، وفي انكساره بعثت الحياة وانطلقت حرة طليقة إلى ملاقاة الموت لتعود إلى منطلقها وبدايتها أي إلى العدم :



من العدم تتهاوى الحياة مخترقة الفراغ

لكن الموت تعيدها إلى نقطة الانطلاق(41)



إن التصور المتكامل لهذه الدائرة الانطولوجية نلاقيه في ديوان آخر(42) تحت عنوان "تمركز الذات".

من أين جاءت هذه الذات البشرية ؟كيف أدركت وجودها ووجود الآخرين؟ إلى أين مآلها ومستقرها؟ عن هذه التساؤلات يجيبنا الحبابي في قالب شعري جيد جدا يقول: حين يجد العدم يتحول وجودا، يوجد المولود، يدرك أمه وأحضانها ثم ذاته وأطرافها وإذا به ها هو : "أنا" سائدة متضخمة إلى حد التمركز.

ثم لاشيء، ظلام يغطي الصمت اللانهائي، ما هو هذا اللاشيء؟ إنه شبح يتلاشى قبل الأوان، إنه العبث كخط هندسي رقيق بين عدم وآخر، إنه العبث الشاسع الضاغط إلى حدود محو الخط وتحوله من خيط أبيض إلى خيط أسود، وفي تلك الليلة نسي فيها الجد الوجود فتحول إلى عدم.

إذن بين الجد والعبث خط، خيط، فاصل رقيق، يتحول يتكون يمنح الوجود والتغير ثم اللاشيء يمتد صمتا رهيبا ويتلاشى " فمن العدم كان كل شيء " كان تعاليا، متجاوزا لمملكة اللوغوس، يفتح العقل على متاهات النيرفانا، حيث الصمت السائد في تعدد اللغات وسيادة الكلمات والصور، لا أحد يدرك الطوباوية كواقع آخر لظمأ الوجود. وفي الصمت الرهيب تحرز على براءتنا.

إن التحرك داخل المفارقة، أي داخل الزمن المفارق، تحرك أصيل، يعتمد الخطوات المتداخلة إلى حد الالتباس، لتنظيم زمننا وترتيبه إلى حد سيطرته علينا، واندماجنا في فروعه مع نسيان الأصل. إن هذا الزمان الإسراري يسميه الحبابي الحينونة (l’entrain de) وهو نفس عنوان القصيدتين المهداتين إلى (vanghélos moustsopoulos) جاء فيهما :


النجم مكان بدون فضاء (النقطة)

القمر امتداد يولد من نقطة

في اتجاه معين (الخط)

ليس أوسع من لا وجوده

والشمس تلك المساحة الحارقة (الدائرة)

هل هي حقا فلك صادق

لأنه يعرينا، يهاجمنا

يغزونا من فوق رؤوسنا

يهاجم أسرارنا وليالينا

لكن أين يجثم حين يأتي الليل ؟(43)



هناك في هذه القصيدة ثلاثة أزمنة ( أحيان) زمن النقطة وزمن الخط/الخيط، وزمن الدائرة، ومن زمان إلى آخر تتكون الحينونة، في هذا الزمن يتكون الكون والوجود. من النقطة (النجم) إلى الخط، الخيط (القمر) إلى الدائرة (الشمس) كان الوجود.

هنا أيضا كانت الشمس (العد العكسي) تتسم بعنف يشاكس الليل، وكان النجم ينطفئ تحت وطأة الظلام وكان القمر يخشى النهار لكن لا يعرف إلى أين يسير؟ هكذا يترك الوجود مكانه للعدم، هنا/ك حيث يتلاشى الزمن ويذوب، هنا/ك في نقطة الموت والشحوب، حيث يجمتع المصير بالكلمات البكماء ، حيث يعود الوجود وجودا و جودا لكن بدون زمان.

يبدو أن الأنطولوجيا قد عثرت على مسكن لها، قديم كل القدم شاسع شساعة الأسئلة، وفسيح فسحة الآفاق الأنطولوجية ·


الهوامش :


1 - محمد عزيز الحبابي : "من الكائن إلى الشخص" دراسات في الشخصانية الواقعية. 1954 P.U.F ص IX (بالفرنسية)

2 - نفس المرجع، ص 216

3 - نفس المرجع ، ص 222

4 - نفس المرجع ، ص 222

5 - نفس المرجع، ص 227، التشديد من عندنا

6 - نقصد بالوجود هنا "الوجود تحت التطيب" أي تلك العلامة التي تفيد الإمحاء والإضمار وتفيد الغياب الذي لايدرك إلا كأثر وكفسحة. والفراءة تحت تشطيب تعني الحضور الغائب لهذه العلامة أو تلك. وهذه هي حال الوجود ( Etre) في معناه الأنطولوجي في فلسفة م.ع. الحبابي خاصة، وفي اللغة العربية بصفة عامة.

7 - م.ع. الحبابي " من الكائن إلى الشخص" دراسات في الشخصانية الواقعية، دار المعارف مصر، الطبعة الثانية ص 20

8 - نفس المرجع بالفرنسية ص 7.

9 -نفس المرجع بالفرنسية ص 51-52.

10 - يستعمل م.المصباحي مفهوم " خرقة الكينونة " في قوله : "أليست العودة إلى الخرقة خرقة الكينونة، أسلك سبيلا لخرق العادة " (ص 73)، إن " صدمة انعدام الوجود" هذه عاد بها المصباحي إلى ما قبلها، وما قبلها لحظة سيدي عبد السلام بن مشيش ولحظة سيدي عبد الرحمان المجذوب، الأول " يعود إلى الأصل فزعا من التشرد وهروبا من ضوضاء الكائنية نحو سكون الوحدة " إرادة للعودة ب "تفصيلة كسوة الكائن" إلى حالة القامش الذي لم يخترقه مقص الخياط بعد.." ( ص : 64) والثاني يحاول مشاهدة "الكون بالكون" التي تفضي بها (البصيرة) إلى نهاية مثيرة لدهشة العمى…" ( ص : 66).

أنظر من " تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن" نظرية في لحظة الحبابي الفلسفية " الندوة التكريمية م.ع.الحبابي 1988 بفاس، منشورات كلية الآداب فاس.

11 - م.ع. الحبابي "من الكائن إلى الشخص" م.م. بالعربية ص :11.

12 - م.ع. الحبابي "من الكائن إلى الشخص" بالفرنسية م.م.

13 - نفس المصدر بالعربية ص : 20-21.

14 - نفس المصدر ، بالعربية ص : 16

15 - "المرأة خير من يمثل الوجود، فإذا ما نحن قمنا بدورة خلفها، فإننا لن نجد شيئا".

" هناك الوجود بكل تأكيد، لكنه يعتبر لا شيء خارج هاته الحركة إنها بمثابة اللجظة المنظمة للتشخيص.

" لنذكر بأن الكائن في نظرنا هو الكائن البشري لا المعطى الكائنولوجي للشيء… إلخ"

16 - نفس المصدر بالعربية ص :21.

17 - عبد الله العروي، أوراق، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ص 206

18 - أنظر مقالنا الأسرارأو الوجود المغاير.

19 - نفس المرجع بالعربية ص 23

20 - نفس المرجع بالفرنسية ص 123.

21 - الكلام بين معقوفين من عندنا

22 - نفس المصدر م. بالفرنسية ص 146 التشديد من عندنا.

23 - م.ع. الحبابي ، الشخصانية الاسلامية P.U.F 1964.

24 - نفس المصدر السابق، ص 48

25 - نفس المرجع المذكور، ص 33

26 - ليست النويتيك شيئا آخر سوى إمكانيات التفكير الموجود خلف المستويات المتباينة للغة "طه عبد الرحمان".

27 -" (على أن الديوان شعر هواية، فهو على هذا خطوات إنسان يخلو إليها بين الفينة والأخرى تنفيسا عن مكبوت يستعصي على الفكر لأنه شقيق الانفعال الخالص، أو تداركا بلغة الشعر مافات لغة النثر أو ترويحا للنفس من عناء، الكتابة تقدح زناد الفكرة العصية، أو إحماضا تنتقل النفس معه من حالة التجهم إلى حالة الاستئناس".

من مقدمة م. السرغيني لديوان يتيم تحت الصفر، م.ع. الحبابي، عيون المقالات ص 12.

28 - م.ع. الحبابي "الوردة تحتضر" شعر ، مطبعة عكاظ الرباط ومنشورات الجنوب باريس 1987 ص 5 (بالفرنسية).

29 - "مفارق مثل الوجود، ولا يتكون إلا من هذه المفارقة، من هنا يؤسس الشعر كل ما هو أصلي" أنظر "هنري مالديني" الفضاء والشعر، مجلة الفضاء والشعر ص 97 (بالفرنسية).

30 - م.ع. الحبابي "بريء حتى الثمالة" مجموعة " في الانصات إلى الينابيع" منشورات سان جير مادوبري 1980.

31 - م.ع. الحبابي حتى الثمالة.م. مذكور ص 15.

32 - من ديوان بريء حتى الثمالة، م. مذكور قصيدة الشاعر المنزعج ص 20.

33 - من ديوان الوردة تحتضر، قصيدة الشاعر والكلمة ص 56/57.

34 - من ديوان بريء حتى الثمالة م. مذكور قصيدة الكلمة بين الوجه أو القفا ص 16.

35 - نفس الديوان، قصيدة بريء حتى الثمالة ص 37/38.

36 - من ديوان الوردة تحتضر، قصيدة الشاعر والكلمة ص 57.

37 - من ديوان "الوردة تحتضر" قصيدة العدم ص 60.

38 - من ديوان يتيم تحت الصفر، قصيدة الشاعر الشارد ص 18.

39 - م.ع. الحبابي، بريء حتى الثمالة، قصيدة معركة غير متكافئة ص 65.

40 - م.ع. الحبابي بؤس وضياء، دار الكتاب، الطبعة 4، البيضاء ص 102/103 بالفرنسية.

41 - من ديوان "الوردة تحتضر"، الحينونة ص 22 إلى 26.









* مجلة فكر ونقد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى