علي الامارة - في جدلية الشعر والسرد

كم تتسع مساحة فن الشعر للسرد؟ وكم تتسع مساحة فن السرد للشعر؟ وكيف يوازن الشاعر أو القاص بينهما بعد أن تداخلت الأجناس الأدبية وامتد النص أو انفتح على المساحتين أو أكثر واقتبست الأجناس الأدبية تقنيات عديدة من بعضها وانصهرت في مساحة نصية واحدة ضمن ما يسمى بالنص الجامع أو جامع النص في ترجمة أخرى كما أسماه جيرار جينيت في كتابه (مدخل لجامع النص).إن الشاعر يكوّن النص الشعري بأدواته ورؤاه وإشعاعه المجازي أو الإيقاعي، وحين يتوغل نصه في فضاء السردية فإن كوامنه الشعرية وصوره الفنية والتنامي الدرامي يحصنها من الوقوع في السردية المحضة التي تجعل من القصيدة حكاية موزونة أو قصة مجازية، فالبناء المحكم للقصيدة يحيطها بهالة شعرية يستجيب لها المتلقي ويتفاعل معها مهما استخدمت من أدوات السرد أو نهلت منه ما يخدم درامية القصيدة ويعزز بناءها الفني والدلالي.. فعلاقة الشعر بالسرد قديمة قدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عن أبطال وأحداث وسير وأمكنة.. كذلك ثمة قصائد في الشعر العربي القديم ذات نفس ملحمي يشير إلى نفس مكونات السرد في الملاحم الشعرية كما في قصيدة فتح عمورية لأبي تمام وقصيدة قلعة الحدث للمتنبي.
كما أن ملامح السرد كانت واضحة في بعض قصائد الحطيئة وعمر بن ربيعة وأبي نؤاس وتأبط شراً وغيرهم ..ولعل موضوعة الطلل تمثل ملمحا واضحا من ملامح السرد في الشعر العربي القديم.. فالطلل يعني (المكان المهجور) وهذا يشير بتحليل هذه العبارة إلى أن ثمة مكانا وهو من مكونات السرد الأساسة وأن ثمة حدثا هو الهجرة وثمة شخصية قامت بالحدث الهجرة ومن ثم هناك زمن ماض حدث فيه الحدث.. هذه هي مكونات السرد الكامنة في مفردة (طلل).. وإذا تداخلنا في فضاء هذه المفردة لتوصلنا إلى ذروة السرد وهي ما يسمى بالعقدة الروائية، فعقدة الطلل استرجاعية ذاكراتية تكمن فيما بعد الحدث الهجرة وما قبله.. فلحظة الوقوف على الطلل هي لحظة انفصال واتصال في آن واحد وهي بوابة الدخول إلى فضاء هذه العقدة السردية واستكناه كوامنها : فقدان حبيب ، انهدام زمن، اندثار مكان، انكفاء علاقة وانهمار حنين، من هنا كان الشعر العربي شعرا مكانيا، فمنذ امرئ القيس ارتبط الشعر بالمكان ارتباطه بالحبيب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) إلى عمر أبي ريشة (قفي قدمي إن هذا المكان يغيب به المرء عن حسه).
ومثلما تعالق الشعر بالمكان فقد تعالق بمكونات السرد الأخرى كالحدث والشخصية والحوار وغيرها.. بيد أن الشعر العربي القديم كان محصنا من الوقوع في السرد المحض وذلك (لقدسيته) الإيقاعية ولاشتماله على نظام الشطرين الذي كان يعد الميزة الكبرى للشعر.. فقصيدة الحطيئة التي مطلعها:
وطاو ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف لساكنها رسما
هي حكاية بكل مستويات السرد فيها لكن أحداً لم يقل عنها حكاية أو حكاية شعرية لأنها تقدمت للقارئ مرتدية الزي العام للشعر وهو إيقاع البيت ذي الشطرين.. وكذلك قصيدة تأبط شرا عن اصطياد الغول، وغيرها كثير كانت السمة الشعرية الوزنية فيها طاغية على السرد ومكوناته. وحتى الشعراء الكبار الذين أحسوا بوطأة السرد على خطابهم الشعري في بعض قصائدهم حاولوا أن يقدموا للقصيدة بالنسيب الغزل أو الحكمة لأنهما موضوعان شعريان بالدرجة الأولى.. فمثلا قصيدة أبي تمام عن فتح عمورية هي قصيدة سردية لكنها تبدأ بحكمتها الشعرية (السيف أصدق إنباءً من الكتب) كذلك قصيدة المتنبي عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان لكنها تتقدم بلباس الحكمة: على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وحتى في الشعر العربي الحديث ذي التفعيلة.. تحصنت القصيدة السردية بإيقاعها وتفعيلتها مهما توغلت في السرد واعتمدت مكوناته فمثلا قصيدة (الطارق) للشاعر محمود البريكان هي حكاية أو قصة شعرية، لكننا لا ننظر لها من هذا المنظار بل نعدها قصيدة فقط.. لا لأن كاتبها شاعر أو أنها تقدمت بتسمية قصيدة، بل لأن إيقاعها الشعري يؤكد انتماءها إلى الشعر أولا ،وأن مفرداتها البنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي رغم تساؤلاتها الشعرية الفلسفية.
وهنا نصل إلى المنطقة الحرجة بين الشعر والسرد وهي منطقة الشعر السردي حين تتقدم القصيدة خالعة رداءها التاريخي الذي هو الإيقاع الخارجي أو التفعيلة.. بعد الانزياح الشكلي الذي حصل للشعر والقص أيضاً.. أي حين تكون قصيدة نثر تحاول أن تتميز بفنون الشعر الحديثة كالمجاز والترميز والتكثيف ومجانية التعبير كما تقول سوزان برنارد فهل تكفي القصيدة كل هذه الفنون لتحصينها من الوقوع في عراء السردية ووضوحها، وهل تستطيع القصيدة أن ترسم حدودها الشعرية حين تفيد من فنون السرد في دلالتها وفنيتها؟ بل هذا السؤال ينطبق على بعض القصص التي تحاول الإفادة من فنون الشعر حد الإسهاب أحياناً.
إن المنطقة الفاصلة بينهما في النص الواحد أو بالأحرى المنطقة المتصلة بين الشعر والسرد بقيت تتصف بالجمالية من ناحية التشاكل والإفادة الفنية وانفتاح النص، وكذلك تتصف بالخطورة على بناء النص من ناحية الإسهاب وفقدان الملامح الأصلية للنص، وهذا يعتمد على مقدرة الكاتب على الموازنة والمحافظة على خصوصية نصه الفنية ..ولا سيما قصيدة النثر تلك التي تعتمد الفكرة الشعرية أكثر من اعتمادها الصورة الشعرية، أي حين تكون قصيدة فكرة وليس قصيدة صورة ومجاز، فالصورة الشعرية تحيل إلى أولاً إلى الشعر لأنها من ميزات الشعر الأولى وخاصيته الأكثر حضورا في القصيدة.
أما قصيدة الفكرة فتعتمد على السياق الدلالي والفني وتستمد بريقها من هذا السياق، ولكنها تلتقي بالقصة في هذه النقطة الحرجة الفكرة فتصبح قاسما مشتركا بين الخطاب السردي والخطاب الشعري، وهنا يتداخل الخطابان ضمن خواص مشتركة ويذوب جدار التجنيس فينخلق نص مفتوح يسبح في فصاءات الأجناس الأدبية المتجاورة ولا سيما الشعر والسرد عبر فضاء نصي جديد أو (نص جامع)، ثم إن التحولات الحداثية قد خلخلت ثوابت نظرية الأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبية صارمة.. فتلاقحت الأجناس والفنون وانهمرت خواصها الفنية على بعضها فظهرت تقنيات تشكيلية وسينمائية في الشعر فضلا عن تقنيات السرد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى