إبراهيم محمود - لماذا يخاف العربُ الماءَ ؟ - " فكر ونقد "

ثمة كم هائل من التناقضات التي تقلق " ذات الفلسفة " في الحديث عن نوعية الصّلات المعقودة بين العرب والماء. إنما رغم التأكيد على اعتبار الماء أصل الحياة، منذ أكثر من ستة آلاف عام، إن انطلقنا من ميزوبوتاميا أو بلاد النيل فالشام، وليس مع فلسفة الماء الطاليسية بمرجعيتها اليونانية، وإن كانت تستحق تناولاً لها، كونه فلسف الماء، كونه أشار إلى " بصمة " الماء الكبرى في الوجود، بوصفه دالة وجود، ما جعل من فيلسوف " عدمي " هو نيتشه أن يزكّيه ليكون فيلسوفه المنتقى من الزاوية الأكثر انفتاحاً وهي في وصفها مائية، ليفلسف فلسفته هو الآخر. كذلك ليس ما أُكّد عليه قرآنياً في محْورة الماء كونياً، أو الرهان عليه فردوسياً، كإغراء لا يقاوَم لدى شعبه الناطق بالعربية، ومثلجته لدى كتّاب الإسلام العرب- المسلمين وخلفيتهم التوراتية الثاوية أو في اللاشعور القرآني تأريخياً، إن توقفنا عند أكبر سورة قرآنية بنية ومفهوماً واعتبارها ثقافة وسيكولوجيا وبداية تقريباً " سورة البقرة "، حيث تقيَّم في المتن كائناً خارج المجموعة الحيوانية في " الزولوجيا " العربية بامتياز. إنها حيوان غير معترَف به، لا تتناغم مع مناخات الثقافة العربية – الإسلامية " تعرضتُ لجوانب مختلفة حول هذا الاسم الغريب- العجيب في كتابي: تقديس الشهوة " الرموز الفلكية في النص القرآنية، منشورات الريس، بيروت، 2000"، وهذا يحفّزني عبر متخيلي الثقافي في عصر سنّي العجاف العربي راهناً أكثر على طرح هذه الفكرة وطابعها التجديفي، كما يتراءى لي في سؤال:
لماذا يخاف العربُ الماءَ ؟
ثمة الفعل والفاعل والمفعول به، لكن وشائج القربى غير موجودة جرّاء فعل " الخوف "، فكان السؤال/ الاستفسار، وما إذا كان ذلك ممكناً تناولُ الموضوع من الجهات الأكثر عتامة !
ما أدفع به إلى واجهة المقاربة النقدية- التأريخية، وحصره لتقليبه على وجوهه هو أطروحة وليس حكم قيمة أساساً، والأطروحة من الطرح والمطارحة، وليس المنافحة والمسافحة والمكافحة، وبالتالي المصادرة على الحقيقة، وإن كان في المتلمَّس المائي ما ينفي الخاصية الاحتمالية كأطروحة تتوسل حواراً، لصالح الإجمالية فيه لدى البعض على الأقل .
لا يحب العرب الماء، أو يخاف العرب الماء " واستبدلتُ الجملتين بوعي دلالي "، جرّاء تعلقهم بمنيهم! إنهم استمنائيون إلى درجة أنهم ينسون ما يكونه المني/ النطفة أساساً، وأن المصدر القيمي لهذه العلامة الفارقة الكبرى هي الفحولة، والفحولة تمضي بهم إلى ما كانوا عليه، وما يستمرون به عليه تباعاً، وما تترجمه الثقافة الكبرى و" الأصلية " لهم وهي بوصفتها الاعتدادية الإشهارية: شعب الصحراء بجلاء، أي وهم بنسَبهم الصحراوي، كنسَب جغرافي قار تليد طبعاً، أو متجذر في الذاكرة الجمعية، ومتحكم باللاشعور الجمعي لحظة القيام بجردة إحصائية لأعز الكلمات تداولاً أو انشغالاً بها تاريخياً، من خلال أم معاجمهم " لسان العرب " رغم وجود معاجم سابقة عليه "، والطوطم الحيواني/ الزولوجي: الجملي الكائن الأكثر تمثيلاً لروحية الصحراء بلونه وشكله الغريب والخزّين المائي المحمول لديه، إنما نفوره من الماء طالما أنه يمضي بنا إلى الصحراء أو تخومها، وما يختزل الاسم إلى منبسط رملي تيهي، مستولد للحمية " حمية الجاهلية النقّالة/ الحمّالة "، وجملة " المناقب " التي تستبقي الجمل هذا الحيوان الذي لا يجارى في الفحولة أو الضراب والاستئثار الذكوري على جمع غفير من النوق، والتفاعل الحيواني التلذذي في وسطها، وموقعة المني في عملية الضراب والعلاقة .
كثير هو ماؤهم، كما هو متردد وملموس. قليل هو ماؤهم، كما هو معايَن من خلال طبيعة إدارة الشئون المائية وديناميكية الماء – الحياة في بنيتهم الثقافية المتداولة. نادر هو ماؤهم، جرّاء هذا الاستخفاف بمكانة الماء، بهندسته، وهم مفتونون بحساب الواحات وشظف العيش فيها، وما هو متحقَّق ومتَّبع على أرضية الحياة اليومية بكل تجلياتها. فالبر مفْرداً يُعلّم على النمطية، وربما الاستهواء، حيث تنبسط مساحات هائلة مهيبة من الصحارى، والماء يعلّم على التحول، وربما البقاء في عالم من المغامرة وتلمُّس المزيد من الأعماق. في الحالة الأولى تكون الخشونة، كما تكون السيرورة غالباً، في الثانية: الليونة، كما تكون الصيرورة غالباً. في الحالة الأولى يكون الجمل المقتّر والملبَّس بالشيطان والمنشود والحامل لعمارة مصنّعة " الهودج " والآكل والمأكول، في هياجه وانتعاظه، أو مشهدية " ضِرابه " حيث يغلي فيه دمه، ماؤه، وشاربهما مصاب بعدواه، أو يسرُّه إقرار ما بهذه العدوى، بهذا التلبس الجملي الشيطاني قبل كل شيء، وفي الطرف المقابل، تكون البقرة الغفل من الاسم، الحيوان الحضري، أو المستقر، بنسبه المائي، بكوكبيته ولو من خلال متعال فلكي – برجيّ " الثور "، والبقرة لا تُركَب، بمقدار ما تتطلب من يعنى بها، وهي رهان مقدس، وغير مصرَّح بها إلا في انعطافة تاريخية أو تأزم .
يخاف العرب الماء، لأنهم لا كتابيون سابقاً، إنما شفاهيون، سيّارون، قاطعو مسافات وإن استقروا في المكان باعتبارهم حضراً، مقيمي مدن وليس معمّريها دلالياً، لا ذاكرة اغتسالية لديهم، كما ينبغي، ليحسنوا إقامة علاقة ترتيبية مثمرة مع الماء بمداخله الكبرى في عالم الحضر، يضفون على بول الجمل: الطوطم قيمة شعائرية ورمزية، والبول ماء متحول، وهو ما يمكن تبينه اعتماداً على تحرٍّ بحثي واستقصائي ولعبة الأسماء لديهم، وبول الجمل محوَّل إلى الرأس، إلى شعره، ومذكّر بدالة فحولة: منْي الجمل وطول استغراقه في مواقعة : أنثاه !
في صِلات القربى الجَمَلية، يتحول المشهد الطبيعي إلى مدى صحراوي، أي ما يقدّم الشفاهة على الكتابة، على استبقاء القضيب بمداه الفحولي الضارب والمسيطر على جماع الذاكرة " حيث الماضي الممَرْئي " وجماع المتخيَّل " حيث الآتي الممرئي من خلال أدبياته الماورائية، إلى درجة صعوبة، لا بل واستحالة المواءمة بينهما. الكتابة ذات أهلية مائية كمصدر حياوي، وتستدعي استلقاء وتفاعلاً مع متغيرات الطبيعة، وفضيلة الإقامة الفعلية بالمقابل. سوى أن الشفاهة بواعيتها، حتى إن أعطينا اعتباراً لكل متجليات الحضر، تمضي بنا إلى عالم الصحراء، كما لو أن النطفة هي المداد، وحياء الناقة هي الأرشيف العضوي/ الجنساني الحامل لهذا الأثر المكثَّف، وما يعنيه الاستمناء وأسطرته: معاودة الضراب " حيث الذكر لا يمل "، وما يرفِق الفحولة بالبلاغة " البلاغة قابلية إدامة الاستمناء لزمن أطول حتى يتهاوى الجسد أو يُستنزَف ". لكن عالم الماء يفترض دخولاً في عقد معقَّد، مركَّب، يتخلى المتعاقد عن أنشطة مختلفة في بنيته الجسدية الداخلية لصالح ما هو خارجي مسلَّم له وبه في عملية البناء الفعلية، فيحوَّل الاستمناء كطاقة خارج الثقب المستهدَف، فثمة إمكان لتنويع المتعة خارج المعبَر اللحمي للفخذين .
" إن الماء والخضرة والوجه الحسن " من مسمّيات الماء، ولكنها المقولة التي تضع المعني في مواجهة الندرة، ولهذا يُشدَّد عليها. إنها بمركَّبها الثالوثي : مائية البنية، وهنا تكمن قمة التناقض.
يرتد العرب في بعض حيوي من طبيعتهم الجنسانية إلى مضمار الحب العذري، إذ كان هناك كسيستام حياوي غير مؤرَّخ له، ذي طقوس لم يفصَح عن حقيقتها: ولادة وتحولاً، هي ضرب من الصوم " من الرمضانية " التي تجلّد الروح، وقياس الجهد في ذلك، في الوقت الذي كان يشهد على توافر الاتصال الجنسي دون إعاقة، أو ليس لوجود موانع، كما لو أن الذين ابتدعوا هذا الحب في فكرته، أرادوا تسجيل موقف، لكنها لعبة البر والماء: برّية المتاح، ومائية الندرة .
ليت أحدهم في الحالة هذه يتتبع تاريخية العلاقة بين " التيمم " بوصفه وضوءاً، وهو مشدود إلى ما هو ترابي، وهذا الجانب المثار، بمنحاه البري: الصحراوي- الجملي !
يخاف العربُ الماءَ، لأن الماء يستوجب الدخول في نوع من هندسة الجسد متفاعلاً مع تموجات الماء، مع الأعماق، حيث السرد يتقطع، ويسهل المراجعة والتقييم والتجاوز، لكأن رهبة المتجذر في داخلهم صحراوياً، أكثر من كونه " العصبية " بالمفهوم الخلدوني، قد استحالت سلطة أبوية قاهرة، كما لو أنها حقيقة، ولا بد أن المأثور اليومي في العلاقات البينية يعزز هذا الوجه الأكثر سفوراً للسلب المعمول، وهوما يتطلب مراجعة متعددة المستويات لاستنطاق المغيَّب فيه، وليبعدهم ذلك عن المفيد والرشيد: الماء الذي يبرز شديد الحساسية ويتطلب قدراً كبيراً من الوعي النافذ لفهم أداءاته في الحياة: كيف يُتعلَّم منه، كيف يستشرف الأقاصي بالخائض غماره، كيف يستوقفه، يتهدده، يمتحنه، يبقيه يقظاً، ليكون جمالية التأويل، وليس تفسيراً متسلطاً .
الماء يستحضر استغراقاً فيه، وهم يعيشون وضعية الفناء من منظور زوالهم كبشر بحكم إلهي عام، كوني : أي الفناء، وانشدادهم إلى ماء مغاير، وهم لم يستوعبوا بعد درس الماء وجودياً !
يخاف العرب الماء، إدراكاً منهم بالشروط الضمنية التي يفرضها على المتعامل معه. إنهم يقدّرونه كقوة هائلة: منجبة وموجبة، لكنهم يستخفون به، حين يقع في فعل الماضي أو المستقبل، ويستشبح أو يقفّر الحاضر، أو يخلخل بنيان العلاقة طالما ينعدم التفكير المائي، حيث يكون السطح والعمق، والحركة في الاتجاهات كافة، وما تنتجه العلاقات هذه من حضورات إبداعية !
وفي إطار الحديث عن السياسة المائية، بالمعنى العام للكلمة، نصادف ما هو مأسوي، وهو أن عدم قدرة العرب على إدراك الأهمية الحيوية للماء، لا تتمثل في صعوبة السيطرة على الممار المائية، أو جرّاء الصراعات أو النزاعات البينية، وإنما لأن هناك قوة رادعة تحول بينهم وبين إقامة علاقات سوية معه، حيث يكون أصل الحياة، حيث يكون المغذّي لمجمل ما هو حيوي .
ليس لدى العرب إن نظِر في خفيّ أمرهم، والحالة الخصامية البينية هذه، كما نعايشها راهناً، أي ذاكرة مائية فاعلة في صيرورة التاريخ الذي يعنيهم، فهم ييممون شطر الصحراء وليس الماء.
إن السندباد البحري، طالما أنه يخوض غمار البحر، وهو بغدادي الإقامة أو الموطن، لا يستعد لسرد مغامراته المختلفة، وهي المائية محتوىً، وللسندباد البرّي: توأمه، أو ربما قرينه، إلا حين يصبح على بيّنة من أنه بات في أمان بعد طول عمر، كأني به اختزن معلوماته ذات الفضيلة المائية طوال هذه السنين، انتظاراً للحظة " البرّية " الحاسمة، ومغامراته تُشتمُّ منها رائحة البحر، أو الماء المتموج والصاخب واللامتناهي، وحتى إذا تحدثنا عن تلك التجربة العربية بصدد خاصيتها المائية: البحرية- المحيطية- النيلية، إلا أنهم لم يكونوا أصدقاء الماء، يلهمهم الماء وليس البر، يشدهم الماء وليس البر كمصدر قوة، وكمحفّز أكثر على امتلاك الحياة، إذ إن أوربا، على سبيل المثال، لولا قدرتهم على اكتشاف مناقبية الماء " منذ أيام اليونان إلى عصرها الحديث، فالراهن، وكيفية التحكم في مصادر قوته "، لما أصبحوا فضائيين.
إن البترول نفسه، كمثال، ولحظة مكاشفته، في مستخرَجه الأرضي، ماء من نوع آخر، مصرَّف أو متحكم به، من خلال إدراك دوره في الحياة وفي رسم السياسات أوربياً، جرّاء ما تقدم .
هل أشير إلى مثال آخر، قد يكون صادماً، في نطاق علاقة العرب بالماء " فوبياه "، وقد تمت حيازته إسلامياً، وهو أن المتركز في " الجنابة " ووظيفة الاغتسال الطقوسية " الدينية أساساً " والسابقة على الإسلام تأريخياً، لا يتفسر استناداً إلى البعد التطهيري للماء" كون الجنابة تذكيراً بنجاسة ماثلة في الممارسة الجنسية: يا للهول، وهي عتبة جينالوجيا: تحديداً ! " إنما إلى البعد الإحيائي وهو اضطراري ومؤقت بالمقابل: اشتهاء المني والاستمناء من مترتبات الفحولة المرغوبة، والغسل من الجنابة وضعية مغايرة لمتحصّل الجماع، حيث يصبح ماء الاغتسال تطهيراً من المسمى بـ" النجاسة " وهي حياتية، والحياة قائمة بركنها الركين : الماء، وليس النظافةَ التي تنعطف على روح الماء. ومن يمعن النظر في الموجّهات الجنسانية للأثر المائي يكتشف الحراك الدلالي لهذه العلاقة المطمورة: مني الرجل النطفي وهو يلقّح البييضة الأنثوية " وهي أساساً ماء "، وفيما مضى كان الإله الميثولوجي يقذف بمنيّه في الماء" النهر " للإخصاب، وحضور الأم الكبرى في ذلك، ليكون الاستحمام تغليفاً طقوسياً تعبدياً مائي العلامة، وما في ذلك من الحيلولة دون المضي قدُماً إلى تنويع علاقة أكثر إثماراً ودنيوية مع الماء.
لو أن باحثاً متفتحاً " هكذا أفترض " وضع إحصائية لمآثر الجنة " الإسلامية " لهاله المتحصّل، وهو هذا الفقد المائيُّ القيمة، وكذلك المرجو المائي والمركَّب والمتحول مائياً فيها جهة التنويع.
بعيداً عن كل حكم قيمة مجدداً: هل يستحق سؤال: لماذا يخاف العربُ الماء، طرحاً وانهماماً به؟
إذا كان ما طرحته هلوسة، وتجنياً ما على ما استرسلت فيه، فلتُسنَد جريرته إلي مساءلةً !

تعليقات

هل العرب يخافون فعلا الماء؟

لا أدعي بأنني قادر على الإجابة على هذا السؤال، لكني أن افترض أن الإجابة، أية إجابة لا بد أن تواجه ذاتها بأسئلة أخرى يمكن توجه ملامسة موضوع بهذا العمق.

عن أن أي خوف نتحدث هنا، هل هو خوف نفسي، شبيه برهاب الماء، لكنه رهاب غير شعوري، جمعي، يتصل بالثقافة و الميثولوجيا العربية أكثر من اتصاله بالسيكولوجيا؟

انطلقت من هذه الفرضية لمحاولة قراءة النص، لأنني لا أتصور أن يكون الخوف هنا حالة نفسية عرقية. و كان السؤال الأول الذي يواجهني هو التالي:
هل حديثنا عن العرب، معين في حدود الجغرافيا و التاريخ، معني بحالة تاريخية ماضية أم أنه حديث عن ثقافة و ميثولوجيا مستمرة، ذلك أن الدينامية هي الطابع الأساسي لكل ثقافة، حتى و إن كان الجمود طابعها الداخلي الأكثر وضوحا، لأن الثقافات تتصارع و تتلاقح دونما تتوقف، إنها كائنات حية، لذلك تغدو كل موضعة زمكانية لها، أشبه بعملية تشريح ، مع ما تتضمنه عمليات التشريح بغرض الفهم من مخاطر قد تنتهي بقتل الكائن الحي المشرَح.
طبعا، لا أنفي وجود ميثولوجيا عربية، و لا مخيال جمعي عربي، و لا أنفي وجود خصائص ثقافية يمكن نسبها للعرب ذاتهم دون غيرهم، لكن لا بد من الاعتراف :
أولا، بصعوبة القول بوجود مكون ثقافي أو ديني منسجم يسلم نفسه كبنية ثقافية عربية واحدة ، يتأكد هذا عبر الصدع الاجتماعي و الثقافي المواكب لثورة الإسلام، و حتى قبله من خلال تعدد العقائد و العبادات و سديميتها المرتبطة بما يفرضه الترحال من تغيير مطلوب للأمكنة و الولاءات، و لكن أيضا بسبب غياب سلطة مركزية تفرض نمطا واحد من التقاليد و الممارسات و الأفكار ، بعض القراءات تفترض أن قريش التي أنجبت محمد ، قبيلة شامية سورية. تختلف الأصول الأولى لأساطيرها و تتمايزعمقا و بنية عن تلك المتداولة شفهيا في الحجاز.
ثانيا، بنسبية المشروعية المنهجية التي توفرها الوثائق التاريخية لاستنطاق ثقافة شفاهية، تزامنا مع جنينية الوعي بخصوصية الميثولوجيا العربية و تميزها عن باقي الميثلوجيات التي تستند لأثر ديني مكتوب. إن غياب أثر ثقافي عربي مكتوب، لا يعني انحصاره ضمن دائرة الصحراء و الجمل و ما يصلنا من أشعار، و لا يعني علة في القدرة المخيالية و الإبداعية لدى العرب ، إنه يعني فقط أننا لا نبحث عن الذاكرة العربية حيث يجب أن نبحث، لقد قدم joseph chelhod بحثا مهما وضح فيه كيف تتوجه الأسطورة العربية نحو تأليه الإنسان ) مقابل أنسنة الآلهة في ثقافات دينية أخرى و التوضيح هنا من عندي.( و كيف أن ما نظر إليه الباحثون باعتباره حكايات غابرة يمكن أن يشكل معينا ميثولوجيا قائما بذاته.
ثالثا، من الصعب جدا الحديث عن العرب اليوم بمعزل عن وضعية الرقابة التي فرضتها و تفرضها المؤسسات الدينية و السياسية، و من السهل جدا أن ترتد الرقابة الذاتية إلى تمرين معاكس، يُدين موضوعه و يفتته بشكل شعوري أو لاشعوري، مع ما يتضمن مثل هذا التمرين من مخاطر الاقتراب دونما قصد من شراك التصنيف القيمي للثقافات.

شكرا للرائع إبراهيم محمود الذي يمنحنا فرصة الحوار و " الترحال" نحو أبواب غير مطروقة في ثقافتنا العربية.
 
بصدد التعليق على مقالي " هل يخاف العرب الماءَ؟ " لأخي جبران الشداني تحية مائية أولاً
وأقولها " مائية " تعبيراً عن حيوية الماء ومركزيته الكونية. ثانياً، هو ما أفصحتَ عنه، وأظنك تعيش همه وغمه، وما هذا الموقع وباسمه، إلا سعياً إلى كيفية بلوغ أدائيات: ديناميكيات الماء فيما بيننا. دعْك " وهذه ليست أمرية " ممَّن يُسمّون بالناس العاديين، فهذه العبارة ذاتها تتطلب مقاربة حفْرية، فكم من عاديين وهم مأهولون بحياة غير مؤطَّرة! ولنتساءل عما يشغِل تفكير الباحث العربي أو المعتبَر مفكراً عربياً وصلته بوسطه، أو بنصه تحديداً ومرجعياته الفاعلة فيه أساساً. أي حضور مائي ساري المفعول فيه على وجه العموم؟ هنا يكون الماء مستويات، ولكنه يمتلك قوى موجهة في مسارات شتى " أذكّر بكتاب باشلار عن الماء والأحلام، وسر العلاقة بينهما، وهو مترجم عربياً "، ومقصدي من القول هو ما إذا كان الذين يعرَّف بهم مثقفي الأمة وأدوارهم السلبية في الواقع من زاوية سلطوية " لا أعني السلطة السياسية وحاكميتها حصراً، إنما سلطة تتبدى من خلال طريقة القول وأسلوب المخاطبة وبناء الشخصية البحثية "، وفحولية الحركة في الإبانة، ليكون الجمل بمفهومه الاسمي حقلاً واسعاً مغرياً لمكاشفة تاريخية وانتروبولوجية وحتى لغوية " دون عراضة بحثية، أنجزت بحثاً منذ سنوات عن ثقافة الجمل، وكيفية تجذرها في المتخيل العربي بمعان شتى، ومن منظور فحولي..على الأقل، ذلك يحفّز على استشراف ما هو قصي ومغيب في الواعية الثقافية العربية، بسيستاماتها المختلفة: السياسة، الاجتماعية، التربوية والأدبية...الخ، ويوسف شلحد، كما هو مترجم إلى العربية " في كتابه: بنى المقدس عند العرب ، شيء من هذا القبيل الطوطمي المأثور، لكنه يتطلب تعميقاً ومتابعة وتوسيع قاعدة الرؤية البحثية جرّاء المكتشفات العلمية والانفجار المعرفي هنا وهناك ".
أكرر شكري لك أخي جبران مجدداً على قراءتك، وكل الأخوة/ الزملاء المعنيين بالحرف ونحن على أكثر من حرف .

ابراهيم محمود، في 30-5/ 2018
 
أعلى