د. وفاء الحكيم - (صينية الحناء).. عندما تكون القصةُ القصيرةُ براحًا واسعًا للسرد والحكايا ...

زيارة سريعة في رحلةٍ إلى مدينةِ القاهرةِ رغبَ مدرسُ الرسمِ أنْ يُـرِيَ تلاميذَهُ تمثالَ (الملك رمسيس) في مَيدانهِ الشهيرِ ؛ أوقفَ الحافلةَ تحرَّكُـوا في صفٍ واحدٍ، وجدَ تجمُّعـًا من الناسِ يتجادلونَ ، ويشيرونَ إلى صبيٍّ عارٍ تبوَّل عند قاعدةِ التمثالِ...

في الاختبارِ عندما طلبَ المدرسُ من تلاميذِهِ ؛ رسمَ تمثال رمسيس ؛ رسمَ معظمُهمْ صبيًّا عاريًا ونثروا حولَهُ قطراتٍ من المياهِ الملونةِ.

ــ القاص المصري / عادل الغنام ــ


ينظرُ الكثيرونَ إلى القصةِ القصيرةِ على أنَّها كائنٌ هلاميٌّ طيبٌ ومتسامحٌ وبلا أنيابٍ حادَّةٍ ؛ فيتجرأون عليها دونَ أدني اعتبارٍ لمكوناتِ القصَّةِ القصيرةِ ، ومعاييرها الإنسانيةُ والإبداعيةُ ، والمختلفةُ من جيلٍ إلي جيلٍ ، ومن خصوصيةِ تجربة لمبدعٍ إلي تجربةِ مبدعٍ آخر، ومن حاجةٍ إنسانيةٍ إلي احتياجاتٍ إنسانيةٍ أُخرى .

وقد تم اختزالُ حُـزْمَةِ المعايير القصصيةِ بأكملها في الجملةِ الشهيرة ( بلاغة التكثيف ) ، والتي أصبحت بفعلِ الفهم الخاطئِ والممارسات الخاطئة إلى ( التكثيف المُخِل ) الذي أساء كثيرًا إلى السرد باعتباره اللاعبُ الأساسيُّ في الكتابةِ القصصيةِ ؛ فظهرتْ كتاباتٌ وصفها أصحابُها بأنها حداثيةٌ وهي بعيدةٌ كل البعد عن الشكل الفني الحقيقي وبعيدةٌ أيضًا كل البعد عن أُسس تحطيمِ وغربلَةِ هذا الشكل للصوتِ إلي الشكل الأكثر تطورًا وحداثيّةً .

في مجموعتهِ القصصية ( صينية الحناء ) للكاتب (عادل الغنام) والتي فازتْ بمسابقة النشر الإقليمي للهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية ، محافظة البحيرة (عام ٢٠٢٠) ؛ يلفت النظرَ أنَّ كاتبَها يُمسِكُ جيدًا بخيط السردِ ، ولا يفلته من يديه ربما يُرخي الخيطَ كثيرًا أو يشدُّهُ بعنفٍ ؛ لكنه في النهاية لا يفلتُهُ من يده كأرضيةٍ ثابتةٍ للكتابةِ القصصيةِ ؛ مهما اختلفنا في اتجاهاتِ القصةِ التي يكتبها سواء واقعيةً أم رمزيةً أم فانتازيا أم حداثية .!

تتضمَّنُ المجموعةُ عددًا من القصص يبلغُ حوالي ( أربعًا وعشرين قصة ) ومجموعةً من القصص كتبت تحت عنوان (ق . ق . ج) .

في قصته " زيارة سريعة " ؛ والتي لفتتْ نظري بشكلٍ خاص جدا ، وشخصيٍّ ، والتي لم أتفقْ معه في وضعها تحت عنوان (ق . ق . ج) حتي وإنْ كانتْ قد كُتبت في عدَّة سطورٍ فهي قصةٌ قصيرةٌ هامة ولافته وتحملُ كلَّ مكوناتِ السرد ، وتحميل اندياح السرد والتكييف علي فضاءاتٍ واسعةٍ للغاية

فهناك الزمان / الرحلة

والمكان / الرحلة في مكان به أحد الآثار الفرعونية القديمة

والشخوص / المدرس ، تمثال رمسيس ، التلاميذ ، الصبي المرسوم

والأفعال/ رغب ، أوقف ، تحركوا ، يتجادلوا ، يشيرون ، يتبول ، يسأل ، رسموا ، نثروا

والخاتمة الفاعلة والفعَّالة في أفق السرد " نثروا حوله قطرات من المياه الملونة " نهاية قصصية رائعة بامتياز وكأنها تحاولُ أن تلونَ الثاني حضاريا ضائعا علي صفحة كراسة الرسم أو أن تقول على استحياء : انتبهوا كثيرا فنحن لم نعد نجيد شيئا سوى أن نبول علي الاشياء الثمينةِ كفعل مضاد، تبدو الصورةُ / القصة ليست ملونةً بل لها رائحة نفَّاذة هي رائحة البول .!

هذه القصة من أجمل القصص القصيرة ، وهي قصة رمزية واقعية يبدو السردُ فيها سيدَ الموقف بلا منازعٍ ، والتكثيفُ هنا قد أحال السردَ إلي براح أوسع وأشمل استطاع الكاتبُ من خلاله أن يقول الكثيرَ وهي من القصص التي ترشَّحُ للترجمةِ إلي لغاتٍ أخرى ؛ إن كان هناك من يهتم بترجمة القصص القصيرة والمصرية منها بخاصة .

في قصة " ايكو " تبدو الأفارقةُ واضحةً والقصةُ كلاسيكية في طريقة تناولها وإن كنتُ تمنيتُ أن يكون ذِكُرُ اللون الأبيض علي لسان البطل ليحملَ دلالاتٍ آخرة كثيرة غير ما تحمله كلمة الطبيب . .

أما قصته " سلاسل الخوف " فقد جاءت بتقنية اعتدنا كتابتَها أو المحاولة في كتابتها فنجح من نجح وأخفق من أخفقَ ؛ وهى تقنيةٌ تحتاج إلي وعيٍ تام بالتقطيع كتقنية قصصية خلال خيط سردي واحد لا ينفلتُ .

١ / أكثر الطائرات أمنا تلك التي يصنعها الطفل بذراعيه

٢ / قيصر عندما لمح الخوف في عيني كليوباترا اتخذها أسيرته للأبد

٣ / سألت صديقي ما أشد ما يخيفك هذه الأيام.؟

٤/ هذه المرة يحاكم بتهمة ازدراء الأديان !!

وكأننا حين نحاول التحليق / الحلم عن طريق الطفل / البراءة ومنذ أيام كيلو باترا / ميراثنا الحضاري وحتي هذه اللحظة لحظة الكتابة / البوح / الحرية يصدمنا الخوف لنفعل فعلتنا في القص بسبب الخوف ونفقد القص بأيدينا وهج الكتابة ونغلق كل منافذ السرد والوهج والتحليق خوفا من التهم الجاهزة والمعلبة كتهمة / ازدراء الأديان.

وسلاسل الخوف لا تقرأ بعيدا عن قصة " حورية " التي تحوي صرخةً عاليةً جدا وكأنَّ الكاتبَ قد ضاق بالمواءمات صحيح أن القصَّ لم يفقد دهشتَه ، ومناورتَه لكن (عادل غنام) قد ضاق ذرعا بالخوف وراح يصرخُ ( اتركونا نكتب ما نشاء لا تجثموا بأجسادكم الثقيلة وأفكاركم الحجرية علي لحظة النور / التنوير / الاستشراف ودعكم من كل هؤلاء الذين قد.... ( الكثير قد يسيء فهمها _ فكرة أن سيدة تؤمُّ الرجالَ في الصلاةِ غريبةٌ ومدلولُها الرمزيُّ صعبُ الفهم ) وحوارُ الذات ، وحيرتها بين ما يريد الكاتبُ وما يريدُ مَن حولَه والذين حتى الآن لم نعرفْ علي وجه اليقين تحديدًا من هم .؟

دعاةُ دينٍ ، دعاةُ جهلٍ وانتكاسةٍ للوراءِ ، قارئٌ متربص بالخطايا ، قارئٌ تبوَّأ مكانًا ليس له ليجعلَ من فهمهِ مقصلةً للوأدِ . ( سيأتي الزمن الذي تقع فيه أحداث قصتك وتخسر نبوءة الأديب ) وما الأدب إلا نبوءة . هذه القصةُ التي تفصح عن كم التنازلات التي مارسناها بسبب الخوف فامتهنا فيه قدرتنا وابداعاتنا . هذه القصة اللافتة بحق والتي بها نفس السيرة الذاتية ، والكتابة الذاتية هي قصة تزعق أمامنا إن كنتم لا تريدون الفهم .

أما قصته ( صينية الحناء ) فهي تجربةُ الحنين في صيغتها الأولي ، والملازمة لكل كاتب بصورة مختلفة ؛ حيث بكارةُ المكان والسفر من مدينة دمنهور إلي مدينة دسوق والسفر من الطفولة إلي التجربة ، والسفر من عين الطفل ، ودهشة الحكي ، والاستفسارات ، والاسئلة الملحة في الحديث مع الأم إلي نضج الفهم والأسى واللوم ( والله لأغني لك يا عريس يا غالي والله لأغنية لك واسهر الليالي ) وكلما استبقي القاص نظرةَ الطفل كلما كان الأقربَ إلي الكتابة المؤثرة مهما كانت التقنية ،

" بدا المشهد كدوران راقصي المولوية في حضرة الأولياء، نتحدُ كجِرمٍ سماويٍّ يسبح في فضاء سرمدي ، نتعدى حدود الزمان والمكان ، تتراقص الشموع ، وتعبق رائحة الورود الروح الهائمة ، أنظر في دموعها؛ فأرى يدًا مازحةً تدفعُ طفلا صغيرا في الهواء فيتهلل من البهجة ؛ تصرخ الأم من الفزع وتحتضنُه معلنةً أنها تريدُه جوارَ قلبها على الأرض " هنا الكاتب يغازل الحكايا ويفر من تقنيات القصة القصيرة إلي بوح الحكايات والتي تأخذ من كل فعلٍ ، ومن كل زمنٍ ومن كلِّ ذكرى بعض منها ثم تعيد لملمةَ ونسج الحكايا يبدو السردُ عاديًّا ، واللغة عادية لكنَّ الحزنَ والفقدَ هو البطلُ الرئيس ؛ اللغة المبطنة يعلو صوتها عن اللغة الظاهرة . " هل وجدتَ هناك من يحبك مثلي.؟ " ، " هل أَنِسَ الغريب غربته " هنا حكاية تحتاج إلي قارئٍ خاصٍ، وقارئٍ عادي لا يهمه كثيرا سوى أنه عاش التجربة ذاتها وأحس بالفقد ذاته .

إن القصص التي تغازل ذاكرةَ القارئ بتفاصيل متشابهةٌ للغاية هي قصص أقرب إلي طقس (صينية الحناء) كلُّ يحملُها ِفوق رأسه وأكتافه بطريقته الخاصة جدا . يزدادُ ثقل صينية الحناء / أشعر الآن بثقل الحمل / أبحث عن أصوات محبِّةٍ تأتي من قريب / أقفُ في سكينة فيتعلقنَ بخَصْري / ترتفع أناملهنَّ الرقيقةُ إلي صينية الحناء / لتكمل الدورةَ ، دورةَ الحياة ودورةَ الحكي بتقنيةِ القصة الدائرية التي تصلُ نهايتُها إلي نقطةِ بدايتها بهدوء شديدٍ مارسَهُ الكاتبُ دونَ أنْ ننتبهَ فقد تُهْنَا في سراديب الحنينِ . .

المجموعةُ بها الكثيرُ ، والكثيرُ للوقوفِ عندهُ ، والكتابةُ عنها باستفاضةٍ .

ولكنَّني لا أحب ارتداءَ مُسوحِ النقادِ ؛ وأظل أردد مرارًا بأنني مجردُ قارئةٍ تبحثُ عن نصٍّ جديدٍ لهؤلاء الذين يحاولونَ فينجحونَ ويخفقون ، هؤلاء الذين يفهمون جيدا معني الاختلاف ومعني الذائقةِ الأديبة الخاصة وأخيرا معني القصة القصيرة ؛ هذا الكائنُ الجميلُ والذي يحبُّ الجمالَ كثيرًا فيبحثُ عن قارئٍ جميلٍ ، وحدَثٍ جميلٍ ، و محاولاتٍ أخرى طازجةٍ وجميلةٍ ، ولا يفوتني أن أُهَنِّئَ الكاتبَ علي الإهداء إلي مَن رغبتْ أنْ تبقى .. حين سكنَ الآخرون الغيابَ ؛ وجعلَ هاءَ هيَ قابلةً لتأويلاتٍ شتى عن الأم والحبيةِ والوطن والكتابة والغربة والحرقة و و و . وأخيرًا " عندما ينعدمُ الزمنُ ، يلتقي الماضي والحاضرُ والمستقبلُ في لحظةٍ واحدةٍ ، يطوفُ فيها الإنسانُ حولَ ذاتِه المبعثرةِ ، متأمِّلا لحظاتِ الصَّخَبِ والسكونِ ، هائمًا بين الظلامِ والنورِ ، يسألُ المَدَدَ ) تظلُّ كلماتُ مفتتحِ (عادل الغنام) عالقةً في ذهنِ المتلقي وهو يسألُ الكلماتِ أن تعطيَهُ المددَ . .!

د / وفاء الحكيم ــ طبيبة أطفال ــ قاصة ــ عضو اتحاد كتاب مصر / سوهاج
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

أحدث المراجعات

قراءة نقدية متميزة، تمكنت من الربط بين القصص بشكل يكشف عن أبعادها المعرفية، مع التركيز على الكثير من التركيبات الفنية للعمل.
بالغ الشكر والتقدير لهذه المقالة الثرية.
مقال نقدي قرائي في غاية الروعة والتميز يقرب المسافات بين القصاصيين ويزيد من حماسة البحث والتدقيق والتعميق في ما هو جديد ابداعياً
  • Like
التفاعلات: عادل الغنام

تعليقات

من خلال طروحاتك سيدتي الدكتورة .. عن القاص (عادل غنام) وتشخيصاتك المستفيضة قرائياً في مجموعته ( صينية الحناء ) شعرت أن لابد من الوصول الى (غنام) وقراءته بشكل عميق... اضافة الى قوة قلمك العميقة في المعنى والشفافية في التناول.. مقال نقدي مميز ..دام الله توفيقات مدادك ..
 
من خلال طروحاتك سيدتي الدكتورة .. عن القاص (عادل غنام) وتشخيصاتك المستفيضة قرائياً في مجموعته ( صينية الحناء ) شعرت أن لابد من الوصول الى (غنام) وقراءته بشكل عميق... اضافة الى قوة قلمك العميقة في المعنى والشفافية في التناول.. مقال نقدي مميز ..دام الله توفيقات مدادك ..
تحياتي لك أستاذي الفاضل، شكرا لاهتمامك، من الممكن التواصل عبر رابط صفحتي في الفيسبوك
 
أعلى