شاكر لعيبي - الشعر... قراءة متفردة في الجسد الأنثوي

"الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا". صرخة "جان كوكتو" الملتاعة تبرهن على كل حال على أن الشعر ضرورة. أن نعرف لماذا هو ضرورة معناه أننا نقف في محض تأمل مفيد.

فالشعر يقول المعنى الخفيّ والحميميّ في العالم والظاهرات الكبرى فيه والعلاقات السرية بين كائناته، البشرية وغير البشرية.

تقع ضرورته في أنه يقول ما لم يقله النثر العادي وأنه يقتنص العلائق الداخلية بين الأشياء، بطريقة فيها الكثير من (الانفعال) والكثير من (التعقل) في آن واحد وبالتزامن. وهذان الأمران هما ما سمحا، من جهة، بإقران الشعر بالفلسفة لجهة قدراته التجريدية في قول الظواهر والمعاني، وربطه من جهة أخرى بالغناء أو المشاعر الحارة أو العواطف الدفاقة.

البلاغة الشعرية، إذا ما فهمناها بمعنى قدرات المجاز على القيام بعملتي الربط المتزامنتين الموصوفتين أعلاه، وليس كما تفهم غالبا في بعض الكتابات النقدية الجاهلة على أنها تكلّف وتقعّر والوقوف عند تخوم الماضي، البلاغة والاستعارات الضاربة في الروح تبرهن على أن المستقبل ظل دائما للشعر بسبب قدراته على بث المعاني الوجودية الأساسية الكبيرة وسيظل.

أظن أن المعنى الممنوح للجسد يختلف، بدرجات متفاوتة، بين شاعر وآخر، بين كائن وآخر. وأفهم اليوم أن الكلمة محمَّلة في الكتابات العربية الراهنة بمعنى شبقي،ـ وليس بالضرورة إيروتيكيا. لعلي كتبت قبل الكثير من شعراء جيلي قصيدتي الحسية الإيروتيكية الطويلة (ثمة الحرس أيتها العالية) 1982 المنشورة في مجلة "الكرمل" بعدئذ والتي يبدو أنها وجدت أثرا وتأثيرا لدى مجموعة من الشبان والشابات في مشرق العالم العربي ومغربه، لكنها وجدت تنكرا وصمتا موسوسا من طرف نقاد وشعراء جيلي العرب الذين ظل أحدهم يزعم أن هذه الثيمة لصيقة به.

هذا الأمر لن يغيِّر شيئا في تاريخ الكتابة الشعرية العربية التي ستعاد صياغة أكاذيبها بعد بعض الوقت. لن أقول هنا خيرا مما نشرته تحت عنوان (قصيدة الجسد المغتبط). وأضيف أن الحديث عن الجسد هو غالبا تأمل وكتابة لـ (جسد الآخر): المحبوب والمعشوق الذي نتولَّه به، وليس تبئيرا على الجسد الشخصي.

في الحالة الأخيرة سنقف عند نرسيسية طاغية أقرب للمرضية مما هي لتأمل الكتابة في موضوع خارجي.

بالنسبة إليّ فإن الهيمان بجسد الآخر، الأنثوي يكتمل لسبب بسيط: بيضوية تكوينه وفي تكويره الخلاق والشهي في آن واحد الذي يجد تعبيراته الواضحة في استدارات كل ما نتشهاه في الجسد الآخر، بل حتى في تكوين الكف الأنثوية المستديرة غالبا وفي التكويرة النهائية البينة في مشيتها، مقارنة بخطوط الرجل المستقيمة وزوايا جسده الحادة في كل مكان التي تثير بدورها مخيلة المرأة كما يبدو.

بدت لي هذه لاستدارة ملغزة وذات معان غامضة أردت اقتناصها في ذلك النص. لكنني لم أكن قد فكرت مليا بمغزاها العميق بعد. لاحقا عندما سأنقب في النص التراثي سأجد تأويلا لشغفي بتلك التكويرة. ففي نص لأخوان الصفا وخلان الوفا نقرأ: "وكذلك إذا نظرت وتأملت واعتبرت وجدت أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال، أو كريّات أو مخروطات قريبة من الاستدارة. وهكذا الثقَب التي في أبدان الحيوان إلى الاستدارة أقرب ما تكون.

وهكذا أشكال أواني الناس، وأدوات الصناع وأرحيتهم، ودواليبهم، وآبارهم، والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقِصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب إلى التدوير" وهو تفسير يبدو لي معقولا، معقولا فحسب لجهة جمال وسرية وكونية الجسد الأنثوي البيضوي. أليس في ذلك ما يستجيب إلى كونية كروية ما. هكذا سيذهب بنا الجسد من العالم الصغير(ميكروكوسموس) إلى العالم الكبير (ماكروكوسموس).

عندما أفكر اليوم بتلك القصيدة يبدو لي أن هناك أشياء أردت قولها: أردت اكتناه العالي، عبر الأنثوي، عبر غزل صريح يخرِج المعاني من شكل الشفة وتكوين الجبهة (المكتوبة بالخط الكوفي) والاندغام الجسدي بالآخر.

كذلك عبر المفارقة التي تقع في أن الشغف بما هو أنثوي يحمل في طياته عنفا خفيا، أو واضحا كما هو الحال أثناء المباضعَة، (أسميك الغزالة وأحرِّض عليك أسَدِي)، والواقعة من جهة أخرى في معرفتنا بالحقائق الأكثر ابتذالا في الجسد الأنثوي (أسميك السرّ، ماذا تُخفي حقيبتكِ؟) وبالحقائق البيولوجية (أسميك الربة وأرى إلى زهرة الحيض).

هذا الوله متصاعد مع ذلك وغير منطفئ رغم هذه المعرفة. هنا يقع كل سرّ الإيروتيكية التي تتلامس تلامسا جليا مع التصوُّف. يعلن الانهماك بالتصوف والإيروتيكية كليهما مفارقة ظاهرية لنتوقف أمامها مليا. يبدو تاريخ الرسم قادرا على تقديم إجابات مقنعة لعلاقة من هذا القبيل.

فان مسألة الجسدي تطرح في تاريخ الفن بصفتها تعبيرا عن الإلهي، عن المقدّس وعن المتسامي. تظهر هذه المسألة في الأشكال والتعبيرات اليونانية كتوصيف للتوازن الرفيع الذي يحكم الطبيعة والذي يعبِّر عنه الجسد الآدمي العاري. وللموضوع تتمة طويلة لا مجال لها هنا.

مستغربا ساءلت نفسي، منذ منتصف السبعينات كيف أن صحافة اليسار في العراق – وكانت يومها (طريق الشعب) – لم تكن تقيم وزنا للشعر الغزلي، في الوقت الذي يفترض أن تكون فيه سبـّاقة في الخوض بمياه أكثر طليعية. أي علة يمكن أن تمنع القلب الوطني من أن يتحسر على أنثاه كما يتحسرعلى شعبه؟ ساءلت نفسي.

عبثا، فالوقت العربي لم يكن وقت تساؤل من هذا القبيل، فهو يعيش كارثة إنسانية واقتصادية واجتماعية نشهد عواقبها المتتابعة في بداية القرن الحالي. عبثا رغم شرعية التساؤل.

واحدة من القصائد القلائل التي نشرتها في تلك الصحافة كانت قصيدة غزلية طويلة عنوانها (آه … أيتها الطفلة السماوية) وفيها يتبدى هذا النـزوع إلى غزل حسي خَفِرٌ لكنه مسكونا بعمق، وبحساسية شاب في بداية العشرين، بخفة الجسد الأنثوي والتداعيات التي يثيرها في ذاكرته.

كانت القصيدة تتمسك بتناقض ذاك الإحساس المبكر للذكر المتلمس بدايات فوراناته غير الرومانسية، وهو يتأرجح بين الرجس والطهارة إذا ما استعرنا مفردتين من قاموسنا الديني، أو بين الرغبة الصريحة والتأسي المرمّز، الغامض. ثمة دائما إشارة إلى الغامض، الكوني، الرمزي والمقدس القابع في الإيروتيكي أي في تلك المساحة الواقعة بين التوق لامتلاك الجمال الحسيّ والتأمل فيه.

(للموضوع صلة)


.
otto mueller - deux baigneuses
صورة مفقودة



.



.
 
أعلى