رائحة العرق يفحها الجسم فى تؤدة وصمت ، رائحة أعرفها ، تشبه رائحة الجنود المتوحدين في الصحراء ، تذكرني بأيام الجندية والقوة والفحولة الجنسية والآن وأنا أسير في شوارع المدينة النظيفة ، تواجهني الفتيات بجمالهن الصارخ ، أذرع بضة ووجوه ملونة وشعر لا أعرف لونه ، أما الرجال فألامس في أيديهم رائحة الترف وكثرة النقود ، فأقول لنفسي ، كان لابد أن أستحم بماء الورد لأزيل هذه الرائحة .
غسلت وجهي وفمي بالماء البارد وشربت أيضاً قبل أن أدخل إليه ، هل وصلت في الموعد ؟ قال : أهلاً ، وأعطاني أصابعه البضة ، فأمسكت بها برفق غير أنى تركتها على الفور ، لا أعرف أياً منا سحب يده أولاً ، جلست فوق مقعد بجواره ، وطلب هو شايا ، دون أن يسألني رأيي ، يمر الوقت طويلاً مثل قطار قديم ، وأخيرا يصل الشاي فوق يد رجل عجوز تخطى الستين ،وضعه في صمت ومضى . نظرت إلى مضيفي ،ولكنه كان مشغولاً عنى ، أردت أن أقول شيئاً ، أي شئ ، تشاغلت بتصفح وجوه الجالسين في الحجرة الواسعة ، لم يبادلني أحد الابتسام ، هل ابتسمت لأحد ؟ ربما أكون فعلت ، فجأة التفت إلىً قائلاً :
- لا تقلق سنقوم حالاً ، سأعطى المقال للمطبعة ونسير.
أخيراً غادرنا المبنى الكبير ، نحن الآن في الشارع ، أسير بجواره وها نحن أمام عربة فخمة. ركبت بجواره واخترقنا شوارع المدينة ، ثم بدأ يتكلم ويتكلم ، فقط من آن لآخر كنت أعلق بكلمات قليلة ، لم أكن منتبها كلية له ، كانت ما تزال تؤرقني مشاكلي الوجودية الخاصة : هل سأظل كما أنا تفوح منى رائحة العرق وتؤلمني أسناني؟ وما جدوى الكتابة ؟ وأنت يا أبا نواس هل تشعر بآلامي الآن وأنا أبحث عنك ، وفيك ؟ كان لابد أن يستمر في الكلام ، وكان لابد أن يعلق أيضاً : فهمت ! فأقول نعم ولكن يا صديقي كيف تتكون العربات الفخمة؟ وما المنهج العلمي الذي يجب أن يستخدمه المرء ليحصل عليها أو على واحدة منها ؟ وكان لابد أن أنزل أيضاً لأقف أمام سور هذه العمارة الأفخم .
قادتني خطاه ، وفجأة التفت إلى وقال :
- ألم تأت معي إلى هنا من قبل ؟
- نعم
ثم ضحك ، هل كان الباب مفتوحاً ؟ وهل سرنا فوق السلم ؟ أم نزل السلم لنا ؟ قميص قصير يغطى نصف ركبتيها بالكاد ، أطرافها سمراء سمرة صافية ، عيناها السمراوان مريحتان ، استقبلتني بابتسامة ترحيب ، أزالت عن وجهي لفحة الخجل ، قلت في نفسي ابنته هذه الجميلة ، أما هو فقال لها وهو يشير نحوي :
- سيجلس خمساً وعشرين دقيقة فقط ، في الصالة ، لن يقلقك .
علقت ضاحكاً ، مستعيداً نصف ثقتي وأنا أرى هذا النعيم :
ـ لا .. أمامي كثير .
هل ضحكت هي الأخرى ؟ لا أعرف ، بيد أنها جلست في مقعد كبير ، على مقربة منى وجلست أنا بجوار النافذة فوق مقعد هزاز ، تصورت في البدء أنه سيكون مريحاً ، آه مازلت أشعر بآلام في ظهري ، وبدأت في تصفح الرسالة العلمية ، التي كنت أنتظرها في شوق ، وكأنه كان يقرأ ما في داخلي ، قال :
- كنت حاتموت عليها ، ما رأيك ؟عادية
رفعت صوتي في اضطراب ومجاملة معاً!
- هذا ما يسمونه الشغل الأكاديمي السمج .
لم يعلق ،كان قد ابتعد عنى ، لكن من تلك التي تذهب وتروح من أمامي ؟ أيهما زوجته؟أخيراً أدركت ، لقد فتحت لنا الزوجة أما تلك ذات الظهر الأبيض ، وها هي تمر أمامي للمرة الثالثة ولم ألمح إلا ظهرها ،وهذا مضيفي في الحجرة المجاورة ينادى :
- تليفون علشانك يا ….
وقبل أن أرد ، جاء لحم يرتج في جلباب قصير أشبه بقميص نوم أنثوى خفيف ، كان الفتى يمر بجواري ، وجه أحمر سمين ، يختلط فيه الزغب بشعر لحيته القصير ، رفع السماعة وحمل التليفون وجلس في مقعد غير بعيد ، من دون أن يلتفت إلىً ، وأخذ يرد على المكالمة،قلت لنفسي ، عليك أن تنجز عملك . وسمعت مضيفي في الحجرة المجاورة ولأول مرة لمحته عندما تلفت حولي بحرية ، لقد كان يجلس خلف مكتبه المليء بالأوراق ، التقت أعيننا لأول مرة:
- هل تحتاج إلى أوراق ؟
ولم أكن في حاجة إلى أوراق ، كانت معي بطاقات بحوث كرتونية ، ولكنى صرت موزع الذهن بين تأمل الكتاب وتأمل ما حولي ، هاهي الفتاة مرة أخرى ، إنها ترتدى قميصا أخضر فاتح اللون ، أما شعرها فقد كان يميل إلى الخضرة أيضاً ، بل أن جسدها المكشوف من خلال فتحتي الظهر والصدر يبدو بياضه مائلاً للخضرة أيضا ، ولم أر لون عينيها ، وأرجح أن لونهما أخضر، وأخيراً جاء الشاي ، أتت به السمراء ووضعته أمامي في صمت ولم أستطع أن أنظر في عينيها ، لكنى رأيت في جانب وجهها عندما استدارت لتتركني طبقة كثيفة من اللون الأحمر ، أكد سمرة بشرتها ، وأشعرني بانقباض .
هل كنت أشعر بالقلق ؟ لا أعتقد ، إنه ظهري الذي يؤلمني ! المقعد غير مريح . هل أستطع أن أنفصل عن هذا المكان ؟ جاء مضيفي وجلس خلف المنضدة ، فصار في مواجهتي تماماً ، قال:
- إزى الحال … هل أعجبتك؟
ثم أخذ يقلب البطاقات التي نقلنها من الرسالة ، وكنت قد انتهيت منها تقريباً، وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية ظهراً ، هل كنت أشعر بالجوع ؟ كانت رائحة شئ ما يقلى آتية من المطبخ ، تذكرت أمي وهى تقلى الباذنجان في الزيت ، ولكن هذا ليس باذنجان ، ما هذا ؟ وفاجأني مضيفي :
- هل تنتظر لتتغدى معي ؟
- شكراً
- ليست عزومة مراكبية .
ليست عزومة مراكبية ، إذن هي عزومة حقيقية ، أين أنت يا أبا نواس ؟ لا يا مضيفي العزيز أنا أقرأ جيداً ما خلف الكلمات ، إنها حرفتي ، صوتك مختنق وذهنك بليد وزوجتك وابنتك جميلتان وأنا فلاح وعيناي رصاصتان من جوع وشبق ، الظهر أبيض وفى الصدر شق مبهم يحتوى حرماني المقهور .
كان لابد أن أترك الجنة وأنزل ، لممت أوراقي ، وأومأت برأسي وخرجت ، فجأة وجدتني وسط الطريق على حدود القاهرة الشرقية وحيداً ، تائها ، وتساءلت هل يمكن أن أعود إلى البيت سالماً ؟ كانت البنايات من حولي شامخة ساكنة ترقب حيرتي ، بينما الأطفال أمامها وفى أعلى الشرفات يصخبون ويلعبون ، وكدت أسأل واحداً منهم ، ولكن هل مثل هؤلاء المنعمين يعرفون أرقام الأتوبيسات ، ومواعيد المترو؟ ! أخذت أحدق في مدخل هذه البنايات العالية علني أجد أحداً أسأله عن وسيلة تنقذني من هذا الضياع ، ووجدته ، كان أسمر اللون ، نحيف الوجه ، يرتدى فانلة زرقاء وبنطلونا أسود ، رد تحيتي في بساطة ، وعندما لمحت عرجاً في رجله اليسرى أشفقت عليه من القيام ، سار بجواري خطوات وأشار إلى الجهة المقابلة للشارع ، شددت على يده ومضيت .
*القصة من مجموعتى القصصية الأولى : لن أقلع عن هذه العادة .
د. محمد عبدالحليم غنيم
غسلت وجهي وفمي بالماء البارد وشربت أيضاً قبل أن أدخل إليه ، هل وصلت في الموعد ؟ قال : أهلاً ، وأعطاني أصابعه البضة ، فأمسكت بها برفق غير أنى تركتها على الفور ، لا أعرف أياً منا سحب يده أولاً ، جلست فوق مقعد بجواره ، وطلب هو شايا ، دون أن يسألني رأيي ، يمر الوقت طويلاً مثل قطار قديم ، وأخيرا يصل الشاي فوق يد رجل عجوز تخطى الستين ،وضعه في صمت ومضى . نظرت إلى مضيفي ،ولكنه كان مشغولاً عنى ، أردت أن أقول شيئاً ، أي شئ ، تشاغلت بتصفح وجوه الجالسين في الحجرة الواسعة ، لم يبادلني أحد الابتسام ، هل ابتسمت لأحد ؟ ربما أكون فعلت ، فجأة التفت إلىً قائلاً :
- لا تقلق سنقوم حالاً ، سأعطى المقال للمطبعة ونسير.
أخيراً غادرنا المبنى الكبير ، نحن الآن في الشارع ، أسير بجواره وها نحن أمام عربة فخمة. ركبت بجواره واخترقنا شوارع المدينة ، ثم بدأ يتكلم ويتكلم ، فقط من آن لآخر كنت أعلق بكلمات قليلة ، لم أكن منتبها كلية له ، كانت ما تزال تؤرقني مشاكلي الوجودية الخاصة : هل سأظل كما أنا تفوح منى رائحة العرق وتؤلمني أسناني؟ وما جدوى الكتابة ؟ وأنت يا أبا نواس هل تشعر بآلامي الآن وأنا أبحث عنك ، وفيك ؟ كان لابد أن يستمر في الكلام ، وكان لابد أن يعلق أيضاً : فهمت ! فأقول نعم ولكن يا صديقي كيف تتكون العربات الفخمة؟ وما المنهج العلمي الذي يجب أن يستخدمه المرء ليحصل عليها أو على واحدة منها ؟ وكان لابد أن أنزل أيضاً لأقف أمام سور هذه العمارة الأفخم .
قادتني خطاه ، وفجأة التفت إلى وقال :
- ألم تأت معي إلى هنا من قبل ؟
- نعم
ثم ضحك ، هل كان الباب مفتوحاً ؟ وهل سرنا فوق السلم ؟ أم نزل السلم لنا ؟ قميص قصير يغطى نصف ركبتيها بالكاد ، أطرافها سمراء سمرة صافية ، عيناها السمراوان مريحتان ، استقبلتني بابتسامة ترحيب ، أزالت عن وجهي لفحة الخجل ، قلت في نفسي ابنته هذه الجميلة ، أما هو فقال لها وهو يشير نحوي :
- سيجلس خمساً وعشرين دقيقة فقط ، في الصالة ، لن يقلقك .
علقت ضاحكاً ، مستعيداً نصف ثقتي وأنا أرى هذا النعيم :
ـ لا .. أمامي كثير .
هل ضحكت هي الأخرى ؟ لا أعرف ، بيد أنها جلست في مقعد كبير ، على مقربة منى وجلست أنا بجوار النافذة فوق مقعد هزاز ، تصورت في البدء أنه سيكون مريحاً ، آه مازلت أشعر بآلام في ظهري ، وبدأت في تصفح الرسالة العلمية ، التي كنت أنتظرها في شوق ، وكأنه كان يقرأ ما في داخلي ، قال :
- كنت حاتموت عليها ، ما رأيك ؟عادية
رفعت صوتي في اضطراب ومجاملة معاً!
- هذا ما يسمونه الشغل الأكاديمي السمج .
لم يعلق ،كان قد ابتعد عنى ، لكن من تلك التي تذهب وتروح من أمامي ؟ أيهما زوجته؟أخيراً أدركت ، لقد فتحت لنا الزوجة أما تلك ذات الظهر الأبيض ، وها هي تمر أمامي للمرة الثالثة ولم ألمح إلا ظهرها ،وهذا مضيفي في الحجرة المجاورة ينادى :
- تليفون علشانك يا ….
وقبل أن أرد ، جاء لحم يرتج في جلباب قصير أشبه بقميص نوم أنثوى خفيف ، كان الفتى يمر بجواري ، وجه أحمر سمين ، يختلط فيه الزغب بشعر لحيته القصير ، رفع السماعة وحمل التليفون وجلس في مقعد غير بعيد ، من دون أن يلتفت إلىً ، وأخذ يرد على المكالمة،قلت لنفسي ، عليك أن تنجز عملك . وسمعت مضيفي في الحجرة المجاورة ولأول مرة لمحته عندما تلفت حولي بحرية ، لقد كان يجلس خلف مكتبه المليء بالأوراق ، التقت أعيننا لأول مرة:
- هل تحتاج إلى أوراق ؟
ولم أكن في حاجة إلى أوراق ، كانت معي بطاقات بحوث كرتونية ، ولكنى صرت موزع الذهن بين تأمل الكتاب وتأمل ما حولي ، هاهي الفتاة مرة أخرى ، إنها ترتدى قميصا أخضر فاتح اللون ، أما شعرها فقد كان يميل إلى الخضرة أيضاً ، بل أن جسدها المكشوف من خلال فتحتي الظهر والصدر يبدو بياضه مائلاً للخضرة أيضا ، ولم أر لون عينيها ، وأرجح أن لونهما أخضر، وأخيراً جاء الشاي ، أتت به السمراء ووضعته أمامي في صمت ولم أستطع أن أنظر في عينيها ، لكنى رأيت في جانب وجهها عندما استدارت لتتركني طبقة كثيفة من اللون الأحمر ، أكد سمرة بشرتها ، وأشعرني بانقباض .
هل كنت أشعر بالقلق ؟ لا أعتقد ، إنه ظهري الذي يؤلمني ! المقعد غير مريح . هل أستطع أن أنفصل عن هذا المكان ؟ جاء مضيفي وجلس خلف المنضدة ، فصار في مواجهتي تماماً ، قال:
- إزى الحال … هل أعجبتك؟
ثم أخذ يقلب البطاقات التي نقلنها من الرسالة ، وكنت قد انتهيت منها تقريباً، وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية ظهراً ، هل كنت أشعر بالجوع ؟ كانت رائحة شئ ما يقلى آتية من المطبخ ، تذكرت أمي وهى تقلى الباذنجان في الزيت ، ولكن هذا ليس باذنجان ، ما هذا ؟ وفاجأني مضيفي :
- هل تنتظر لتتغدى معي ؟
- شكراً
- ليست عزومة مراكبية .
ليست عزومة مراكبية ، إذن هي عزومة حقيقية ، أين أنت يا أبا نواس ؟ لا يا مضيفي العزيز أنا أقرأ جيداً ما خلف الكلمات ، إنها حرفتي ، صوتك مختنق وذهنك بليد وزوجتك وابنتك جميلتان وأنا فلاح وعيناي رصاصتان من جوع وشبق ، الظهر أبيض وفى الصدر شق مبهم يحتوى حرماني المقهور .
كان لابد أن أترك الجنة وأنزل ، لممت أوراقي ، وأومأت برأسي وخرجت ، فجأة وجدتني وسط الطريق على حدود القاهرة الشرقية وحيداً ، تائها ، وتساءلت هل يمكن أن أعود إلى البيت سالماً ؟ كانت البنايات من حولي شامخة ساكنة ترقب حيرتي ، بينما الأطفال أمامها وفى أعلى الشرفات يصخبون ويلعبون ، وكدت أسأل واحداً منهم ، ولكن هل مثل هؤلاء المنعمين يعرفون أرقام الأتوبيسات ، ومواعيد المترو؟ ! أخذت أحدق في مدخل هذه البنايات العالية علني أجد أحداً أسأله عن وسيلة تنقذني من هذا الضياع ، ووجدته ، كان أسمر اللون ، نحيف الوجه ، يرتدى فانلة زرقاء وبنطلونا أسود ، رد تحيتي في بساطة ، وعندما لمحت عرجاً في رجله اليسرى أشفقت عليه من القيام ، سار بجواري خطوات وأشار إلى الجهة المقابلة للشارع ، شددت على يده ومضيت .
*القصة من مجموعتى القصصية الأولى : لن أقلع عن هذه العادة .
د. محمد عبدالحليم غنيم