منى محمد صالح

كنتُ هناك وحدي، كما لا أحد. لغتي المعشّرقة بكَ تلوّح للغيمِ من أسوار حديقتها. يتسلل الحزن حافيًا، شيء أشبه بشظايا الحنين المتكسّر في ولادته المتكرّرة. كنتُ سيدة المدى في قلبه، لغةٌ عارية، تخلع ظلّها وتمضي بعيدة، مُحمّلة بكلّ ما لا يُقال. أهداني صمته كاملا — ثمانون خاتمًا من الضوء، ونورسًا...
تمشي، على قشر البيض، كل خطوةٍ، تفضحُ هشاشةَ الرفقة، كلما ارتجفتَ، تشظّت، خطاك. تتوارى عن المرايا، لئلا يفضح الزجاجُ غربتك فيهم، وشقوق وجهك المستعار. كيفَ لمن يسكن الظلَّ أن يحتمل الضوء؟ ليسوا أصدقاء.. إن كنتَ تنكمشُ، كي لا ينكسروا. كلّ صباح، تخلع وجهك مثل قميصٍ ضيّق، وترتدي ما يناسب عيونهم...
في الليلة التي دفنتُ فيها طفلي، كان القمر بعيدًا. بدا ثابتًا مثل حجر يختبئ خلف غيمة عابرة. لم يكن المكان كأي مقبرة، بل كان معزولًا، صامتًا، كأنه لم يشهد موتًا من قبل. كان الهواء مثقل بصمتٍ لا شيء يسمعه سوى الأرض. حفرتُ القبر بيديَّ العاريتين الباردتين، لكنني لم أدفن سوى صورته في رأسي، أكثر مما...
كانت الشمس تحرق الأرض، والرياح الحارة تغني بأصوات غامضة بين الأشجار. في ذلك النهار القائظ، الزمن يتحرك ببطء سحلية كسولة، والجبال تحدق في الأفق البعيد، تحرس المكان بصمتٍ راسخ، عند سفح جبل "مكي الشابك*"، قريبًا من ثكنات الجيش النائية خلف أسوار شائكة بالغموض والحذر. هناك، بيتٌ عتيق، في الحي القديم،...
لم أكتبها لأحد. كانت قصيدة عن النهايات، تسبق تلك التي تنتظرني عن الحياة، حين تسقط الأقنعة، وتفضح عن وجهها، ثقل الحقيقة التي لا تُطاق. أسررتها لنفسي، حين انكسر الصوت وحيداً هناك، ووشاية الغيمات السادرة بيننا، أخفت كل شيء في طياتها الضبابية. لكنني أعرف... الكدمات التي لا تُرى، الأبواب التي...
أن تشعل صلاة الفرح الغائب كأنما انشقاق جناحٍ في حنجرة الليل، وأنت تبحث عن السعادةِ في مكانٍ ما، قريبًا من انعطافة القلب، بعيدًا كثيرًا عن تنهيدةٍ عالقةٍ في صدر الحنين، ليستدير بك البوح ينمو سرًا بين تجاعيد الحزن، حيث الجدران تحفظ أنفاسك المختنقة، حتى أخمص الصحو الأخير تتسلل من بين زواياك القصيّة...
عندما يلامس زند القصائد حوافَ الشذى، وتتراكم في قلبكَ تلك العواصف، سيبدو كل شيءٍ حقيقيًا، رقيقًا، مثل قلبين عاشقين، وأقربَ مما تظن: ستكتب الأمطار رسائلها على نوافذك، وترى قوسَ قزح، وابتسامتها الأولى تزاحم شوقَ المسافات بين السحب. نكون معًا، في ذات المكان، لا اختصاراتَ بيننا، في دروبِ القصائد...
أن تُرتّلَ امرأةٌ، هسيسَ المساء على مهلٍ، تهمسُ لظلِّها المُتعبَ: كيفَ يُزهرُ الحنينُ قمرًا في مروجِ الذكريات؟ أن تبكي امرأةٌ، أغنيةً تُراقصُها الريح، وأناملُ الليل تتناثرُ أهدابًا على كتفيها، تتركُ وراءها خرائطَ الأسئلة، كوكبات تائهة تبحثُ عن ملامحها، "ونزقٌ حنونٌ يُشبهُها أن تقف امرأةٌ، عند...
وتسألني العرّافة عن مواويلي البعيدة، وعن أغنيةٍ توقّفت عند أوّل المساء. أن تأتي، مرةً واحدة فقط، تُخالف الوعد… كآخر وترٍ ارتعشت فرائضه، وأضاء، صلاتي في عينيكَ. لا أذكرُ، أين خبأتُ وشايتي. وخطوات أرهقها الوقت، وصوت ضاع بين الريح والأفق أين تركتِ أحلامكِ؟ قالت لي، وقلبُ عصفورٍ عاشق كان يحلم أن...
جلست (...) على عتبة الباب الخلفي لحديقة البيت، مكان صغير يضيء بهواجس عزلتها من وقت لآخر. تدخّن سيجارتها بحذرٍ لذيذ، مشوبٍ بالكثير من الهدوء، يرافقها ذلك المساء الرمادي الثقيل، والمكان من حولها صامتٌ ووحيد. كانت تُراقب السماء التي تغيّرت زرقتها، تجول بنظرها بين السحب التي تلبّدت بغيماتٍ بعيدةٍ...
يحدث أن أعاهد نفسي بأن أُطفئَ ضجيجَ السؤال، وأمنحَ الصمتَ… ما يشتهي من البكاء. أتراجعُ قليلاً.. قليلاً خطوةً، خطوتين، يدخلُ الغيابُ على شكل مصادفةٍ. أفتحُ له نافذةً أوسعَ، يراقبُني، متلبّساً نزق الحنين ويدعوني إلى عمقه بلا ملامةٍ. أُخفّفُ من ثقلِ القرب، أعيدُ ترتيبَ الظلِّ حولي، ويبقى القلبُ،...
أتقنت ابتسامتها الهادئة مثل صلوات الفجر، تعلمت أن تحتفظ بكل مشاعرها في زوايا القلب حتى وقت متأخر من الوجع كانت تدرك جيدًا كيف تكتسب الأشياء حزنها عندما تغيب دهشتها، نزق عذوبتها، وحينما ينهار قلبها في غفلةٍ ما... تصعد لتأخذ بعض الهواء، تلتقط أنفاسها، في سماء غائمة هناك، تغطي فمها بيدها حتى لا...
تحت رماد السماء المنطفئة، يتدرّب قلبك على النّسيانِ، ويبتكر موتًا آخر لليلٍ جديد مجردُ شبحٍ يعبر نافذة الفقد، يترك خلفه غبار الصباح ويمضي، عابرًا أعمى، بلا ذاكرة، كما الحرب يأخذ معه أسفار المدن المنسيّة، دفعة واحدة وينتظر، وجيف الريحِ، كزجاجٍ متناثر سماء تسقط آخر غيماتها، طفوًا منسيًا،...
يحدث أن نطوي الحزن في صندوقٍ صغير والغياب، يمر بيننا كجرحٍ عابر مثل هروبِ الظلِّ الشاخص من مرآةِ الفجر، وسؤالٌ يهرول نحو أقدامِنا العارية، متشرنقاً بملحِ الحنين: كيف تضيء السماء ظلمة ولادتك الأخيرة؟ كيف تربطَ حلمًا بخيطٍ شفيفٍ لتقتلَ ظلالَكِ الأولى؟ وأنا التي أراقبكَ من بعيدٍ، أراكَ الآن،...
ليسَ مجرّدَ ريحٍ عابرة يقولُ العابرُ بينَ الجُرحِ، هناك، على ضفّةِ الوادي، في وطنٍ صار طيرًا في قفصٍ وأيادٍ مثقلة بروائح الخوفِ ولافتات الريح ؛ يا ابن الرمل المنسيّ احمل خيبتَكَ الأخيرةَ كما يحملُ الغيمُ أسرارَه واغسل وجعَك، بأسماءٍ تغفو في الريحِ *** لا وقتَ لديكَ للوقوفِ هنا... في بلادٍ...

هذا الملف

نصوص
41
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى