منى محمد صالح

توطئة: ثمّةَ لحظاتٌ لا تُقال، بل تُقام كصلاةٍ في معبدِ الغياب. رائحةُ قلبٍ لم يُكمِل وداعَه تسري في ذاكرةِ العطر، كأنّها نجاةٌ مؤجَّلة. هناك، في ذلك الحيّز الشفيف، تتهيّأ اللغة لابتداعِ رحيلٍ يشبهها؛ تُخبّئ في البياضِ اسمَها، فليس الختامُ نهايةً، بل رعشةٌ تتوارى في الغيم، تُغازل ملامحَ ولادتها...
توطئة: كلُّ غيابٍ مرآةٌ أخرى للحضور، وكلُّ مرآةٍ تنكسرُ في قلبٍ يتذكّرُ، كنايٍ... يختبئ في خاصرة الحنين. ••• كأنني أُغنّيكَ للمرة الأولى ليلٌ آخر، يعانق نبضَ أنفاسكَ يتسلَّل بين حروفي ونجومٌ شاردة تحوم معي. تختلس المشي على منحنى خاصرتي، دفءٌ حنونٌ ينساب على جسدِ القصيدة. امرأةٌ تخبئ في...
حين تُشعلُ مجرّاتُ الشوقِ فضاءاتِ صدري، تتفتّقُ مسامُّ الحنينِ كأُغنيةٍ نازفةٍ تبحثُ عن وترِها الضائع، وأراكَ هناك... الآن ودائمًا، حيث تنحني الريحُ لخطاك، تتسلّلُ كبهجةٍ خفيّةٍ في وشمِ الذاكرة، تخلعُ الفصولُ عن عرشِها على إيقاعِ الغياب. هناك، في أقصى الضوء، امرأةٌ من صلاةٍ وحنين، تترنّمُ...
كنتُ أرتدي اسمي كوشاحٍ مثقوب، وما إن أُسدلَ ستارُ الوجع، تقيّأتني المرايا في نهايةِ صمتي، ومضيتُ، كأنني غبارٌ عالق في حُلمِ نهرٍ قديم. كنتُ وحدي، أحملني كخطأٍ لغويّ في جملةٍ لم يُكملها أحد. أجرّني عبر ضفافٍ لا تعرفني، هي نفس الوجوه التي عبرتني، لم تكن تُجيد الظل، ولا حفِظت اسمي حين كنتُ أتهاوى...
توطئة... في حضرةِ الغياب، لا تملكُ امرأةُ المسافاتِ البعيدة سوى أن تُقيمَ في تفاصيلها كغيمةٍ تغزلُ من الشوقِ صلاةً لا تنتهي... فثمّةَ غيابٌ لا يُعالجُه الوقت، بل تُضيئه التراتيلُ التي تبقى هناك، حيثُ كلُّ ما يشبهها. كنتُ أعبُرُ بين الغيماتِ، مِرارًا مِرَاراً.. أستعيرُ صدفةً من زبدِ الوقت،...
توطئة.. تتجلى الخسارة كظلّ لا يزول، ويفضي الحنين كحرفٍ زائدٍ في الوزن العاطفي.. قالت له.. لا تُروى الحكاية بلسان المُحب... بل بصوت امرأةٍ تحاول أن تنجو من أثرٍ لا يُمحى. همسةُ خسرانٍ أولى، تمهيدٌ خفيفٌ لارتعاشٍ يتسلّل مثل ظلٍّ شارد.. مكتظ بالغياب. إنها لا تبكي عليه، بل ترشّ غمام صمتها على...
كان المساءُ أليفًا، ينسابُ على جفنِ قمرٍ بعيد، رأيتُني هناك، أعانقُ دمعَ المرايا في فجرٍ صادرَتْهُ الذاكرةُ. تلفظني الفضاءاتُ البعيدة، والمدينةُ، ربطتْ على كتفيها وشاحًا من ضوءٍ، نسيَتْهُ الشمسُ على أرجوحةِ السراب، كأنني نُثارُ اسمٍ تاهَ في زفرةٍ من ريحٍ عابرة. استيقظتُ على صوتٍ كخيطٍ طويلٍ من...
وحدها الريح تعرفني، لا أملك سوى ملامحي التي لم تروّضها المرايا، عاريةٌ من كلِّ انتماء. امرأةٌ، بخفّة غيمةٍ، تعبرُ نافذةَ الليلِ وتذرُ خطى ارتباكٍ دافئ وعطرَ وداعٍ قديم... دونَ التفات. عبثاً أرادوا لي أن أكون: خفيفةً كظلٍّ يتلاشى دون أن يتركَ أثراً، هشّةً كارتعاشةِ شمعةٍ في ممرٍّ مهجور، كحزنٍ...
لم يكن يلزمني سوى خطوةٍ واحدة، يا أمي، واحدة فقط... كان من الممكن أن يخلع الأفقُ معطفه، أن يتعثّر المصير قليلًا... قليلًا، ريثما اختلس، أمنياتي المؤجلة، أن يُعيدَ لي المدى، ترتيبَ الطرقاتِ الموحلة بي، كي تنبت البذور التي خبأتُها في عتمتي، دون وجل، كرسالة حب ضائعة، بين عاشقين. لم يكن يلزمني سوى...
كنتُ هناك وحدي، كما لا أحد. لغتي المعشّرقة بكَ تلوّح للغيمِ من أسوار حديقتها. يتسلل الحزن حافيًا، شيء أشبه بشظايا الحنين المتكسّر في ولادته المتكرّرة. كنتُ سيدة المدى في قلبه، لغةٌ عارية، تخلع ظلّها وتمضي بعيدة، مُحمّلة بكلّ ما لا يُقال. أهداني صمته كاملا — ثمانون خاتمًا من الضوء، ونورسًا...
تمشي، على قشر البيض، كل خطوةٍ، تفضحُ هشاشةَ الرفقة، كلما ارتجفتَ، تشظّت، خطاك. تتوارى عن المرايا، لئلا يفضح الزجاجُ غربتك فيهم، وشقوق وجهك المستعار. كيفَ لمن يسكن الظلَّ أن يحتمل الضوء؟ ليسوا أصدقاء.. إن كنتَ تنكمشُ، كي لا ينكسروا. كلّ صباح، تخلع وجهك مثل قميصٍ ضيّق، وترتدي ما يناسب عيونهم...
في الليلة التي دفنتُ فيها طفلي، كان القمر بعيدًا. بدا ثابتًا مثل حجر يختبئ خلف غيمة عابرة. لم يكن المكان كأي مقبرة، بل كان معزولًا، صامتًا، كأنه لم يشهد موتًا من قبل. كان الهواء مثقل بصمتٍ لا شيء يسمعه سوى الأرض. حفرتُ القبر بيديَّ العاريتين الباردتين، لكنني لم أدفن سوى صورته في رأسي، أكثر مما...
كانت الشمس تحرق الأرض، والرياح الحارة تغني بأصوات غامضة بين الأشجار. في ذلك النهار القائظ، الزمن يتحرك ببطء سحلية كسولة، والجبال تحدق في الأفق البعيد، تحرس المكان بصمتٍ راسخ، عند سفح جبل "مكي الشابك*"، قريبًا من ثكنات الجيش النائية خلف أسوار شائكة بالغموض والحذر. هناك، بيتٌ عتيق، في الحي القديم،...
لم أكتبها لأحد. كانت قصيدة عن النهايات، تسبق تلك التي تنتظرني عن الحياة، حين تسقط الأقنعة، وتفضح عن وجهها، ثقل الحقيقة التي لا تُطاق. أسررتها لنفسي، حين انكسر الصوت وحيداً هناك، ووشاية الغيمات السادرة بيننا، أخفت كل شيء في طياتها الضبابية. لكنني أعرف... الكدمات التي لا تُرى، الأبواب التي...
أن تشعل صلاة الفرح الغائب كأنما انشقاق جناحٍ في حنجرة الليل، وأنت تبحث عن السعادةِ في مكانٍ ما، قريبًا من انعطافة القلب، بعيدًا كثيرًا عن تنهيدةٍ عالقةٍ في صدر الحنين، ليستدير بك البوح ينمو سرًا بين تجاعيد الحزن، حيث الجدران تحفظ أنفاسك المختنقة، حتى أخمص الصحو الأخير تتسلل من بين زواياك القصيّة...

هذا الملف

نصوص
50
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى