وفي القرن الثالث أيضاً كثرت مؤلفات النقاد في الشعر والشعراء؛ وكتاب ابن سلام (طبقات الشعر) مشهور وهو أول عمل أدبي منظم في النقد، وقد قسم الجاهليين عشر طبقات وأضاف إليهم شعراء المراثي وشعراء المدن العربية، ووضع في الطبقة الأولى أمرؤ القيس وزهيراً والأعشى والنابغة؛ ولم يسبقه إلى هذا التقسيم الفني للشعراء الجاهليين وطبقاتهم الأدبية إلا أبو عبيده الذي قسم الجاهليين ثلاث طبقات ووضع في الأولى أمرؤ القيس والنابغة وزهيراً، وفي الثانية الأعشى وطرفة ولبيداً. ويذكر ابن سلام في طبقاته الشعراء الإسلاميين ويقسمهم طبقات عشراً أيضاً ولا يذكر أحداً من الشعراء المحدثين؛ بعكس ابن قتيبة الذي ألف كتابه (الشعر والشعراء) وذكر فيه الكثير من الشعراء المحدثين الذين عاشوا قبيل منتصف القرن الثالث؛ وهذا يدل على أن ابن قتيبة كان أكثر تقديراً للشعر الجيد وحده بصرف النظر عن ئله وزمنه. وهذا يذكرنا بجمع الفضل وأبي يزيد الأنصاري للشعر العربي؛ فقد جمع المفضل في كتابه مختارات لشعراء الجاهليين وللقليل جداً من الشعراء المخضرمين. أما أبو زيد الأنصاري ففي كتابه الجمهرة مختارات للجاهليين والمخضرمين والإسلاميين. ثم ألف ابن المعتز أيضاً كتاباً في طبقات الشعراء المحدثين طبع أوربا ويسير فيه نهج ابن قتيبة من حيث ذكر الشاعر وحياته ومذهبه الفني في شعره ونماذج من مختارات شعره، وأول ترجمة له في الكتاب هي ترجمة بشار م 167هـ، وأقصى شاعر من ترجم له ابن المعتز هو: الناشئ م 293هـ ومحمد الشيرازي الذي يقول فيه المؤلف: وهو اليوم شاعر زماننا، وجميع التراجم التي يحتوي عليها الكتاب والتي تبلغ أكثر من 130 ترجمة هي لشعراء عاشوا بين التاريخين، وهو أوفى كتاب في دراسة طبقة بشار وطبقة أبي نواس وطبقة أبي تمام والبحتري.
7 - والقرن الرابع الهجري كان أحفل قرن بالنقد والنقاد، وظهرت فيه أصول كتب النق الأدبي مثل: نقد الشعر لقدامة م 327هـ، وأخبار أبي تمام للصولي م 336هـ، والموازنة للآمدي م 371هـ، وإعجاز القرآن للباقلاني م 405هـ، والوساطة للجرجاني م 392هـ؛ كما ظهر في القرن الخامس: ابن رشيق م 456هـ صاحب العمدة، وابن سنان الخفاجي م 466هـ صاحب سر الفصاحة، وكتاب الأسرار والدلائل لعبد القاهر الجرجاني م 471هـ.
وكان النقاد في هذين القرنين يسيرون على نهج الجاحظ، فلم يتعصبوا للشعر الجاهلي لتقدم زمنه، ولم يميلوا على المحدثين لتأخر عصرهم؛ بل حكموا الذوق وحده في كل شيء؛ حتى لقد وقفوا معددين لأخطاء الجاهليين، كما فعل الآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم، قال الآمدي في كتابه الموازنة: (وما رأينا أحداً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن ولا من أخذ الرواة عليه الغلط والعيب)؛ وقال صاحب الوساطة في أول كتابه: (ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية، فأنظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت من أبيات لا يمكن لعائب القدح فيه إما في لفظه ونظمه أو ترتيبه أو معناه، أو إعرابه، ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة لوجدت كثيراً من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية؛ لكن هذا الظن الجميل، والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام)، ولو تصفحت ما تكفله النحويون لهم من الاحتجاج، وتبينت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة، التي يشهد القلب أن المحرك لها والباعث عليها شدة إعظام المتقدم، والكلف بنصره ما سبق إلية الاعتقاد والفته النفس)؛ وأزري الآمدي والجرجاني بوقف بعض النقاد المتعصبين على المحدثين كالأصمعي الذي أنشده إسحاق الموصلي:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروي الصدى ويشفي الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ فقال: لبعض الأعراب، فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني، فقال إسحاق: إنها لليلتهما. فقال الأصمعي: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما؛ وكابن الأعرابي الذي أنشده بعض الناس شعراً وهو لا يعرف قائله فأعجب به إعجاباً شديداً وكتبه فلما علم أنه لأبي نواس أنكره.
ونقد الباقلاني في إعجاز القرآن قصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
نقداً طويلاً، وهو أول نقد مفصل لقصيدة من الشعر العربي.
8 - وفي العصور الوسطى ضعفت الملكات وعقمت الأذواق وتعصب العلماء والأدباء للشعر القديم لقدمه، فكانوا يحيطون الشعر الجاهلي بهالة من التقديس والجلالة ولا يردن أحداً أحسن مثل إحسان الشعر الجاهليين ولا أجاد إجادتهم، ورأوا معصومين من الخطأ والعيب والنقد، واستمر هذا المذهب سائداً حتى العصر الحديث.
9 - وفي العصر الحديث تفاوتت ثقافات الأدباء والنقاد، فوقف أولو الثقافات العربية الخالصة موقف الإعجاب والتقدير البعيد للشعر الجاهلي، وهب جماعة من أولي الثقافات الأوربية يطعنون على الشعر الجاهلي ويرمونه حيناً بالضعف والتفكك، وحيناً بأنه منتحل مختلق. ومن الحق أن بعض نقد هؤلاء كان عادلاً منصفاً، وأما الكثير منه فكان مغالى فيه.
عاب العقاد على الشعر الجاهلي أنه لا يصلح أن يكون نموذجاً يقتدي به في النظم لأنه في الغالب أبيات مبعثرة تجمعها قافية واحدة يخرج فيها الشاعر من المعنى ثم يعود إلية ثم يخرج منه على غير وتيرة معروفة ولا ترتيب مقبول، وأن فيه غير التفكك وضعف الصياغة كثيراً من العيوب العروضية والتكرير الساذج والاقتسار المكروه والتجوز المعيب الذي يؤخذ من روايته أن الشعر لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وإنما كان ضرباً من الكلام يقوله كل قائل ويرور المحكم منه وغير المحكم على السواء، فنراه يعيبه بما يلي:
1 - ضعف وحدة القصيدة، ونحن في الرد على هذه الكرة نكتفي بهذين الكلمتين: قال نولدكه المستشرق الهولندي المشهور، (وفي أحوال كثيرة يحتفظ الشاعر الجاهلي بوحدة الفكرة في قصيدته بأن يجعل كل قسم من أقسامها خاصاً يوصف مناظر وحوادث من حياة الشاعر نفسه أو الحياة العامة التي يحياها البدوي في الصحراء؛ وقال جميل صدقي الزهاوي الشاعر المجدد: (وهناك شيء يستحبه الذين تشبعت أدمغتهم بالأدب الغربي، هو وجوب أن تكون القصيدة الواحدة خاصة بفكرة واحدة، أو وصفاً لشيء واحد، من غير خروج إلى غير الموضوع، ولو كان في فصل منعزل عن الأول، وهذا ليس من الشعر في أصله، بل هو تابع للأذواق ولطريقة الشاعر في شعره، ولا ينوع الشاعر المبرز في العربية الموضوع في كل قصيدة، فكثيراً ما يحصر شعره في القصيدة الواحدة في موضوع واحد، وإذا نوع الموضوع فهو يخرج إلى الثاني بمناسبة وبعد فصله الأول، مريداً بذلك أن تكون قصيدته كالروضة الغناء محتوية على مختلف الأزهار، وهذا أقرب إلى الطبيعة، وليس فيه ما يؤاخذ عليه غير كونه ينافي ما يفعله شعراء الغرب، ولكل أمة سياق ونزعة ليست لأختها، وأعتقد أن الكتاب الذين يزرون بشعر شعرائنا على الإطلاق لو أتيح لهم أن يكونوا شعراء لما خرجوا كثيراً عن النهج الذي يمشي عليه المبرزون من هؤلاء، والسبب هو ما قدمته من اختلاف ألوان الشعور عندنا عن ألوانه عند الغربيين، من جهة وقيد القافية وإعرابها عندنا وفقد أنه عندهم من جهة أخرى، وقد هم كثير من الشعراء المتضلعين من العلوم العصرية بتقليد الغرب في شعره، فلم يكن ما أتوا به غربياً ولا شرقياً، ولم يوفقوا إلا في ألوان من الشعور هي مشتركة بين الأمم جميعاً. ومهما تمرد الشاعر الكبير على الأساليب والتصورات في أمته فهو لا يستطيع أن يطفر مرة واحدة إلى تصورات وأساليب تخالف ما ألفه شعبه فيقطع الوشائج القوية التي تربط الحال بالماضي.
2 - ويعيب العقاد الشعر الجاهلي ثانياً بأنه لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وذلك لا يسير مع الحقيقة والواقع، فشعراء المعلقات ومذاهبهم الفنية في الشعر معروفة. ويقول الدكتور طه حسين بك في كتابه الأدب الجاهلي: وأما مضر فكان لها في الجاهلية شعراء يتخذون الشعر فناً يمثلون به نهضة فنية عقلية في هذا الإقليم من جزيرة العرب.
3 - ويعيبه ثالثاً بهلهلة صياغته وما فيه من عيوب عروضية وتكرير ساذج وتجوز معيب. وفي هذا مغالاة.
وكانت ثورة النقد الكبرى بين الدكتور طه حسين بك وبعض النقاد والباحثين حول الشعر الجاهلي ذات صدى بعيد في دراسات الشعر الجاهلي. ويؤيد الدكتور هذا الانتحال بأدلة كثيرة: فضلاً عن أنه لا يمثل اللغة الجاهلية نفسها لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية الفصحى مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها ولم يتخذها لغة أدبية لهم قبل الإسلام مما يدل على انتحال هذا الشعر على هؤلاء القحطانيين، فوق أن الشعر الجاهلي لا يصور اختلاف اللهجات العدنانية التي لا شك فيه.
ويبني الدكتور على انتحال الشعر الجاهلي رفضه الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن، لأن لليمن لغة تخالف لغة قريش وهجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولاً، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن، ثانياً، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين بل هم مضريون، ويرى أنه ليس لليمن في الجاهلية شعراء. أما ربيعه من عدنان وكانت تسكن في الشمال فيرى الدكتور أن شعرها دون شعر المضريين لأنها لم تكن تتكلم لغة قريش وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فناً. ثم درس بعض أعلام الشعراء الجاهليين على ضوء نظريته في انتحال الشعر، ووضع مقاييس لتمييز المنحول من الشعر الجاهلي، وجعل الشعر أصلاً من مضر ثم انتقل منها إلى ربيعه فاليمن فإلى الموالي، وبذلك يعكس نظرية انتقال الشعر الجاهلي في القبائل، وهي نظرية معروفة ذهب إليها علماء الأدب المتقدمون.
وهذه الآراء والتعليق عليها موضوع بحث آخر ودراسة جديدة إن شاء الله. وقد ذكرت في كتابي (الحياة الأدبية في العصر الجاهلي) كثيراً من المناقشات الأدبية للفكرة نفسها بتفصيل.
وسيلي هذا البحث بحث آخر مكمل له عنوانه (دفاع عن الشعر الجاهلي) نرجو أن يكون فيه مزيد من الشرح والتحليل والنقد لموقف النقاد في الشعر الجاهلي وبالله التوفيق.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس في كلية اللغة العربية
26 - 06 - 1950
7 - والقرن الرابع الهجري كان أحفل قرن بالنقد والنقاد، وظهرت فيه أصول كتب النق الأدبي مثل: نقد الشعر لقدامة م 327هـ، وأخبار أبي تمام للصولي م 336هـ، والموازنة للآمدي م 371هـ، وإعجاز القرآن للباقلاني م 405هـ، والوساطة للجرجاني م 392هـ؛ كما ظهر في القرن الخامس: ابن رشيق م 456هـ صاحب العمدة، وابن سنان الخفاجي م 466هـ صاحب سر الفصاحة، وكتاب الأسرار والدلائل لعبد القاهر الجرجاني م 471هـ.
وكان النقاد في هذين القرنين يسيرون على نهج الجاحظ، فلم يتعصبوا للشعر الجاهلي لتقدم زمنه، ولم يميلوا على المحدثين لتأخر عصرهم؛ بل حكموا الذوق وحده في كل شيء؛ حتى لقد وقفوا معددين لأخطاء الجاهليين، كما فعل الآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم، قال الآمدي في كتابه الموازنة: (وما رأينا أحداً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن ولا من أخذ الرواة عليه الغلط والعيب)؛ وقال صاحب الوساطة في أول كتابه: (ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية، فأنظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت من أبيات لا يمكن لعائب القدح فيه إما في لفظه ونظمه أو ترتيبه أو معناه، أو إعرابه، ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة لوجدت كثيراً من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية؛ لكن هذا الظن الجميل، والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام)، ولو تصفحت ما تكفله النحويون لهم من الاحتجاج، وتبينت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة، التي يشهد القلب أن المحرك لها والباعث عليها شدة إعظام المتقدم، والكلف بنصره ما سبق إلية الاعتقاد والفته النفس)؛ وأزري الآمدي والجرجاني بوقف بعض النقاد المتعصبين على المحدثين كالأصمعي الذي أنشده إسحاق الموصلي:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروي الصدى ويشفي الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ فقال: لبعض الأعراب، فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني، فقال إسحاق: إنها لليلتهما. فقال الأصمعي: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما؛ وكابن الأعرابي الذي أنشده بعض الناس شعراً وهو لا يعرف قائله فأعجب به إعجاباً شديداً وكتبه فلما علم أنه لأبي نواس أنكره.
ونقد الباقلاني في إعجاز القرآن قصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
نقداً طويلاً، وهو أول نقد مفصل لقصيدة من الشعر العربي.
8 - وفي العصور الوسطى ضعفت الملكات وعقمت الأذواق وتعصب العلماء والأدباء للشعر القديم لقدمه، فكانوا يحيطون الشعر الجاهلي بهالة من التقديس والجلالة ولا يردن أحداً أحسن مثل إحسان الشعر الجاهليين ولا أجاد إجادتهم، ورأوا معصومين من الخطأ والعيب والنقد، واستمر هذا المذهب سائداً حتى العصر الحديث.
9 - وفي العصر الحديث تفاوتت ثقافات الأدباء والنقاد، فوقف أولو الثقافات العربية الخالصة موقف الإعجاب والتقدير البعيد للشعر الجاهلي، وهب جماعة من أولي الثقافات الأوربية يطعنون على الشعر الجاهلي ويرمونه حيناً بالضعف والتفكك، وحيناً بأنه منتحل مختلق. ومن الحق أن بعض نقد هؤلاء كان عادلاً منصفاً، وأما الكثير منه فكان مغالى فيه.
عاب العقاد على الشعر الجاهلي أنه لا يصلح أن يكون نموذجاً يقتدي به في النظم لأنه في الغالب أبيات مبعثرة تجمعها قافية واحدة يخرج فيها الشاعر من المعنى ثم يعود إلية ثم يخرج منه على غير وتيرة معروفة ولا ترتيب مقبول، وأن فيه غير التفكك وضعف الصياغة كثيراً من العيوب العروضية والتكرير الساذج والاقتسار المكروه والتجوز المعيب الذي يؤخذ من روايته أن الشعر لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وإنما كان ضرباً من الكلام يقوله كل قائل ويرور المحكم منه وغير المحكم على السواء، فنراه يعيبه بما يلي:
1 - ضعف وحدة القصيدة، ونحن في الرد على هذه الكرة نكتفي بهذين الكلمتين: قال نولدكه المستشرق الهولندي المشهور، (وفي أحوال كثيرة يحتفظ الشاعر الجاهلي بوحدة الفكرة في قصيدته بأن يجعل كل قسم من أقسامها خاصاً يوصف مناظر وحوادث من حياة الشاعر نفسه أو الحياة العامة التي يحياها البدوي في الصحراء؛ وقال جميل صدقي الزهاوي الشاعر المجدد: (وهناك شيء يستحبه الذين تشبعت أدمغتهم بالأدب الغربي، هو وجوب أن تكون القصيدة الواحدة خاصة بفكرة واحدة، أو وصفاً لشيء واحد، من غير خروج إلى غير الموضوع، ولو كان في فصل منعزل عن الأول، وهذا ليس من الشعر في أصله، بل هو تابع للأذواق ولطريقة الشاعر في شعره، ولا ينوع الشاعر المبرز في العربية الموضوع في كل قصيدة، فكثيراً ما يحصر شعره في القصيدة الواحدة في موضوع واحد، وإذا نوع الموضوع فهو يخرج إلى الثاني بمناسبة وبعد فصله الأول، مريداً بذلك أن تكون قصيدته كالروضة الغناء محتوية على مختلف الأزهار، وهذا أقرب إلى الطبيعة، وليس فيه ما يؤاخذ عليه غير كونه ينافي ما يفعله شعراء الغرب، ولكل أمة سياق ونزعة ليست لأختها، وأعتقد أن الكتاب الذين يزرون بشعر شعرائنا على الإطلاق لو أتيح لهم أن يكونوا شعراء لما خرجوا كثيراً عن النهج الذي يمشي عليه المبرزون من هؤلاء، والسبب هو ما قدمته من اختلاف ألوان الشعور عندنا عن ألوانه عند الغربيين، من جهة وقيد القافية وإعرابها عندنا وفقد أنه عندهم من جهة أخرى، وقد هم كثير من الشعراء المتضلعين من العلوم العصرية بتقليد الغرب في شعره، فلم يكن ما أتوا به غربياً ولا شرقياً، ولم يوفقوا إلا في ألوان من الشعور هي مشتركة بين الأمم جميعاً. ومهما تمرد الشاعر الكبير على الأساليب والتصورات في أمته فهو لا يستطيع أن يطفر مرة واحدة إلى تصورات وأساليب تخالف ما ألفه شعبه فيقطع الوشائج القوية التي تربط الحال بالماضي.
2 - ويعيب العقاد الشعر الجاهلي ثانياً بأنه لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وذلك لا يسير مع الحقيقة والواقع، فشعراء المعلقات ومذاهبهم الفنية في الشعر معروفة. ويقول الدكتور طه حسين بك في كتابه الأدب الجاهلي: وأما مضر فكان لها في الجاهلية شعراء يتخذون الشعر فناً يمثلون به نهضة فنية عقلية في هذا الإقليم من جزيرة العرب.
3 - ويعيبه ثالثاً بهلهلة صياغته وما فيه من عيوب عروضية وتكرير ساذج وتجوز معيب. وفي هذا مغالاة.
وكانت ثورة النقد الكبرى بين الدكتور طه حسين بك وبعض النقاد والباحثين حول الشعر الجاهلي ذات صدى بعيد في دراسات الشعر الجاهلي. ويؤيد الدكتور هذا الانتحال بأدلة كثيرة: فضلاً عن أنه لا يمثل اللغة الجاهلية نفسها لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية الفصحى مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها ولم يتخذها لغة أدبية لهم قبل الإسلام مما يدل على انتحال هذا الشعر على هؤلاء القحطانيين، فوق أن الشعر الجاهلي لا يصور اختلاف اللهجات العدنانية التي لا شك فيه.
ويبني الدكتور على انتحال الشعر الجاهلي رفضه الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن، لأن لليمن لغة تخالف لغة قريش وهجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولاً، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن، ثانياً، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين بل هم مضريون، ويرى أنه ليس لليمن في الجاهلية شعراء. أما ربيعه من عدنان وكانت تسكن في الشمال فيرى الدكتور أن شعرها دون شعر المضريين لأنها لم تكن تتكلم لغة قريش وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فناً. ثم درس بعض أعلام الشعراء الجاهليين على ضوء نظريته في انتحال الشعر، ووضع مقاييس لتمييز المنحول من الشعر الجاهلي، وجعل الشعر أصلاً من مضر ثم انتقل منها إلى ربيعه فاليمن فإلى الموالي، وبذلك يعكس نظرية انتقال الشعر الجاهلي في القبائل، وهي نظرية معروفة ذهب إليها علماء الأدب المتقدمون.
وهذه الآراء والتعليق عليها موضوع بحث آخر ودراسة جديدة إن شاء الله. وقد ذكرت في كتابي (الحياة الأدبية في العصر الجاهلي) كثيراً من المناقشات الأدبية للفكرة نفسها بتفصيل.
وسيلي هذا البحث بحث آخر مكمل له عنوانه (دفاع عن الشعر الجاهلي) نرجو أن يكون فيه مزيد من الشرح والتحليل والنقد لموقف النقاد في الشعر الجاهلي وبالله التوفيق.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس في كلية اللغة العربية
26 - 06 - 1950