حين تسلمتُ هذه المجموعةَ الشعرية؛ لكتابة مقدمة عنها، ترددتُ كثيرا؛ لأن الأفضل، في تقديري، أن يقدم لها مَن يكون من جيل الشاعرة. ذلك بأنه، منذ أن هبت علينا رياحُ التحديث، أصبح شعرنا موزعا بين الأجيال، وخاصة بعد استقلال أغلبِ الدولِ، فأصبحنا أمام شعر سنوات الستين، وشعر سنوات السبعين، و.... واتضح أن كل جيل يحمل شعرُه مقوماتٍ جماليةً يسعى إلى أن يجعل من جيله مدينةً فاضلة لا يدخلها الشيوخُ أمثالي، وإن كان الواقعُ الشعري بالمغرب قد أفرز شعراء شيوخا عَبَروا كل الأجيال، بل منهم من مَهَّد شعرُه ببروز أجيال قادمة. كيفما كان الحال، فالأحسن أن يبرز داخل كل جيل نقادُه الذين يُبَشِّرون بالصيغ الجمالية الجديدة التي جاء جيل شعرائه بالتبشير بها.
تنتمي الشاعرةً البتول إلى جيل من الشعراء برز مع الألفية الثانية من هذا القرن. ساد في شعر هذا الجيل قصيدةُ النثر. وهذه السيادةُ لا تعني غيابَ القصيدة، والقصيدة الحرة. وإنما تعني أن الإعلام اهتم بهذا الشكل الشعري الأصعب. لكن الممارسين له ظنوه سهلا. فكثر بينهم أشباهُ الشعراء. مع هذا الجيل سيظهر جيلٌ آخر تمسك بالقصيدة، وساهم برنامج أمير الشعراء في الترويج لهم. والجميل في شعر هذا الجيل، أنه في نماذجه الشعرية الجيدة، نسج قصيدته بنسيج العصر، وكأني بهذا الجيل قد خرج من معطف نزار قباني، مع حضور رائحة سعيد عقل.
أين نضع الشاعرة البتول؟
أنا أومن بأن البيئة الاجتماعية، والثقافية، هي التي تحدد مسير الشاعر، وتحدد لشعره مكوناتِه الجمالية التي ينبغي أن تتطور مع الأيام.
البتول نشأت في قرية بشرق المغرب (قريبا من دبدو). قرية يعيش فيها الإنسان جنبا إلى جنب مع الطبيعة، بأعشابها، وبأشجارها، وبحيواناتها، حيث يربي الإنسانُ في بيته غنمه. وتتولد ألفةٌ عميقةٌ بين الغنم ومالكها. في هذه البيئة نشأت الشاعرة. في هذه البيئة مارست الشاعرة ما يمارسه كل أبناء القرية. وأهم هذه الممارسة الرعي. وكأني بالطفلة الراعية وهي تقود غنمها إلى حيث الكلأ تلتقط بأذنيها حفيف أقدام غنمها، وهي تنثر خلفها إيقاعا منضبطا. لاشك أن هذا كان يثير إحساسا غريبا في أعماق الطفلة، ويجعل منها طفلة تخزن في قلبها غلائلَ هذا الإيقاع الجميل. تلتقط بعينها، وهي خلف قطيعها، في ذهابه، أو إيابه، وهي تعده بهيمةً، بهيمة، خشية أن يكون الذئب قد مارس عنفه، صوراً منتظمة لهذا القطيع، وكأن كل بهيمة تفعيلة. حين تنضم هذه التفعيلة/ البهيمة إلى أخرى، فأخرى، يتشكل من هذا الضم البيتُ الذي يأوي المعنى، وينشر الدفء في أرجائه.
وأنا أرسم هذا المشهد، أتصور أن الشاعرة البتول، لو ظلت بقريتها، لكان ينبغي أن تقول الشعر باللسان البدوي. فينقل المنشدون بمزمارهم، وطبلهم، أزجالَها في ألحان شجية. لكن البتول ستحمل معها هذه الثقافة البدوية إلى وجدة؛ لتنتسب إلى جامعتها. من هذا الفضاء الجديد ستعرف الشعرَ العربي وستستبدل في قلبها لغة بلغة وشكلا بشكل. لا شك أن الشعر الجاهلي هو الشعر الذي كان يذكرها بقريتها البعيدة. وكأن هذا الديوان الذي أقدم للقارئ الكريم من خلاله هذه الكلمة، هو حصيلة هذا الاحتكاك الجديد. فكانت قصائده صدى للحياة بالقرية، وصدى لاحتكاكها بفضاء المدينة الصاخب.
بدأتُ الحديث عن علاقة الشاعرة بقريتها، وبغنمها، وكيف تسرب إليها إيقاع البادية من خلال وقع أقدام البُهم على الأرض. هل يتجلى هذا في هذا الديوان؟
جمعتْ الشاعرة في هذه المجموعة الشعرية شكلين شعريين: الأول مارسه أجدادُنا. وكان بحق الشكلَ المنسجم وطبيعة الصحراء. وحضورُ هذا الشكل في هذه المجموعة حضور يثبت تشبث الشاعرة بجذورها التي غاصت في تربة قريتها، وامتدت بحثا عن الماء حتى التقت بجذورٍ وافدة من أعماق الجزيرة العربية. لكن الغريب أن نسبة حضور هذا الشكل لا يتعدى 17/°، في حين أن القصيدة الحرة يتعدى حضورها 80/°. هل معنى هذا أن إيقاع المدينة كان الأقوى . الأرقام تقول: "نعم". لكن للأذن رأيا أخر ذلك بأن اللغة في الشكلين لغةٌ واحدة. والأذنُ وهي تصغي إلى لنص لا تستطيع أن تميز القصيدةَ عن القصيدة الحرة. فالبيتُ في القصيدة الحرة، مهما طال، وتجاوز طول البيت المعرف، إلا أن الشاعرة حققت داخلَه وقفاتٍ عروضيةً. إذ قسمته إلى أكثر من قسيم فتلتقط الأذن بهذا، في القصيدة الحرة، البيتَ المشطورَ، أو المجزوءَ، أو التأم. وبهذا نقول إن للشكلين معا، في هذه المجموعة، إيقاعا متناغما ومشتركا.
الأنساق الإيقاعية في هذه المجموعة أنساق نتبعتُ من كثبان الرمال، وهي الكامل، والبسيط، والمتقارب، والمتدارك، والوافر. وبهذا نلحظ حضور أنساق المعلقات في كلا الشكلين. لكن إيقاعا غريبا عن أنساقنا العربية، كما سجلها، ودونها الخليلُ، رحمه الله، يحضر بقوة. وهو الخبب الذي غطي القصيدة الحرة وحدها، واتسم بلغة لينة استدعاها غيابُ الوتد في هذا النسق.
أمر آخر أود الإشارة إليه. أن نصوص هذه المجموعة قرأتُها مرتبة ترتيبا زمنيا، واكتشفت من هذا أن شعر البتول يتطور باستمرار. وهذا ما يجعلني أنتظر منها أعمالا قادمة لا شك ستكون أكثر تطورا.
استمتعت بقراءة هذه المجموعة، وأدعو القارئ الكريم إلى أن يشاركني هذه المتعة. وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضاه.
وجدة.
05/03/2015
تنتمي الشاعرةً البتول إلى جيل من الشعراء برز مع الألفية الثانية من هذا القرن. ساد في شعر هذا الجيل قصيدةُ النثر. وهذه السيادةُ لا تعني غيابَ القصيدة، والقصيدة الحرة. وإنما تعني أن الإعلام اهتم بهذا الشكل الشعري الأصعب. لكن الممارسين له ظنوه سهلا. فكثر بينهم أشباهُ الشعراء. مع هذا الجيل سيظهر جيلٌ آخر تمسك بالقصيدة، وساهم برنامج أمير الشعراء في الترويج لهم. والجميل في شعر هذا الجيل، أنه في نماذجه الشعرية الجيدة، نسج قصيدته بنسيج العصر، وكأني بهذا الجيل قد خرج من معطف نزار قباني، مع حضور رائحة سعيد عقل.
أين نضع الشاعرة البتول؟
أنا أومن بأن البيئة الاجتماعية، والثقافية، هي التي تحدد مسير الشاعر، وتحدد لشعره مكوناتِه الجمالية التي ينبغي أن تتطور مع الأيام.
البتول نشأت في قرية بشرق المغرب (قريبا من دبدو). قرية يعيش فيها الإنسان جنبا إلى جنب مع الطبيعة، بأعشابها، وبأشجارها، وبحيواناتها، حيث يربي الإنسانُ في بيته غنمه. وتتولد ألفةٌ عميقةٌ بين الغنم ومالكها. في هذه البيئة نشأت الشاعرة. في هذه البيئة مارست الشاعرة ما يمارسه كل أبناء القرية. وأهم هذه الممارسة الرعي. وكأني بالطفلة الراعية وهي تقود غنمها إلى حيث الكلأ تلتقط بأذنيها حفيف أقدام غنمها، وهي تنثر خلفها إيقاعا منضبطا. لاشك أن هذا كان يثير إحساسا غريبا في أعماق الطفلة، ويجعل منها طفلة تخزن في قلبها غلائلَ هذا الإيقاع الجميل. تلتقط بعينها، وهي خلف قطيعها، في ذهابه، أو إيابه، وهي تعده بهيمةً، بهيمة، خشية أن يكون الذئب قد مارس عنفه، صوراً منتظمة لهذا القطيع، وكأن كل بهيمة تفعيلة. حين تنضم هذه التفعيلة/ البهيمة إلى أخرى، فأخرى، يتشكل من هذا الضم البيتُ الذي يأوي المعنى، وينشر الدفء في أرجائه.
وأنا أرسم هذا المشهد، أتصور أن الشاعرة البتول، لو ظلت بقريتها، لكان ينبغي أن تقول الشعر باللسان البدوي. فينقل المنشدون بمزمارهم، وطبلهم، أزجالَها في ألحان شجية. لكن البتول ستحمل معها هذه الثقافة البدوية إلى وجدة؛ لتنتسب إلى جامعتها. من هذا الفضاء الجديد ستعرف الشعرَ العربي وستستبدل في قلبها لغة بلغة وشكلا بشكل. لا شك أن الشعر الجاهلي هو الشعر الذي كان يذكرها بقريتها البعيدة. وكأن هذا الديوان الذي أقدم للقارئ الكريم من خلاله هذه الكلمة، هو حصيلة هذا الاحتكاك الجديد. فكانت قصائده صدى للحياة بالقرية، وصدى لاحتكاكها بفضاء المدينة الصاخب.
بدأتُ الحديث عن علاقة الشاعرة بقريتها، وبغنمها، وكيف تسرب إليها إيقاع البادية من خلال وقع أقدام البُهم على الأرض. هل يتجلى هذا في هذا الديوان؟
جمعتْ الشاعرة في هذه المجموعة الشعرية شكلين شعريين: الأول مارسه أجدادُنا. وكان بحق الشكلَ المنسجم وطبيعة الصحراء. وحضورُ هذا الشكل في هذه المجموعة حضور يثبت تشبث الشاعرة بجذورها التي غاصت في تربة قريتها، وامتدت بحثا عن الماء حتى التقت بجذورٍ وافدة من أعماق الجزيرة العربية. لكن الغريب أن نسبة حضور هذا الشكل لا يتعدى 17/°، في حين أن القصيدة الحرة يتعدى حضورها 80/°. هل معنى هذا أن إيقاع المدينة كان الأقوى . الأرقام تقول: "نعم". لكن للأذن رأيا أخر ذلك بأن اللغة في الشكلين لغةٌ واحدة. والأذنُ وهي تصغي إلى لنص لا تستطيع أن تميز القصيدةَ عن القصيدة الحرة. فالبيتُ في القصيدة الحرة، مهما طال، وتجاوز طول البيت المعرف، إلا أن الشاعرة حققت داخلَه وقفاتٍ عروضيةً. إذ قسمته إلى أكثر من قسيم فتلتقط الأذن بهذا، في القصيدة الحرة، البيتَ المشطورَ، أو المجزوءَ، أو التأم. وبهذا نقول إن للشكلين معا، في هذه المجموعة، إيقاعا متناغما ومشتركا.
الأنساق الإيقاعية في هذه المجموعة أنساق نتبعتُ من كثبان الرمال، وهي الكامل، والبسيط، والمتقارب، والمتدارك، والوافر. وبهذا نلحظ حضور أنساق المعلقات في كلا الشكلين. لكن إيقاعا غريبا عن أنساقنا العربية، كما سجلها، ودونها الخليلُ، رحمه الله، يحضر بقوة. وهو الخبب الذي غطي القصيدة الحرة وحدها، واتسم بلغة لينة استدعاها غيابُ الوتد في هذا النسق.
أمر آخر أود الإشارة إليه. أن نصوص هذه المجموعة قرأتُها مرتبة ترتيبا زمنيا، واكتشفت من هذا أن شعر البتول يتطور باستمرار. وهذا ما يجعلني أنتظر منها أعمالا قادمة لا شك ستكون أكثر تطورا.
استمتعت بقراءة هذه المجموعة، وأدعو القارئ الكريم إلى أن يشاركني هذه المتعة. وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضاه.
وجدة.
05/03/2015