هذا القول هذا الحكي :
ربما كان آخر ما يمكن للمرء أن يفكّر فيه، هو كلامه الذي يقوله لهذا أو ذاك، وماذا وراء ما يقوله، رغم أن هناك تركيزاً مستمراً على ضرورة التأني في قول كل كلمة، والتفكير في النتائج المترتبة عليها: هل فكر امرؤ ما فيما قاله، ولماذا قال ذلك وبتلك الطريقة؟ وبشكل أدق: هل خطر على ذهنه، سؤال: من أين آتي بالكلام الذي أقوله، وكيف أتكلم، وفيم أتكلم ؟
هناك الكثير من الكلام، ولكنه يظل مجرد " حكي " . ومفهوم الحكي له معنى آخر، فالحكي من " حكى " ، وفعل " حكى " قد لا يكون دقيقاً وصحيحاً، وهو في كل حال، تابع لآخر، فالحكي كلام الغائب، وهو ليس مؤكداً، فنحن نقرأ " يُحكى أن "، وهذا الفعل لا يؤخذ به صادقاً، إنه كلام غير موثق، غير مؤرخ له يندرج في هذا الإطار، كل ما يعتبر قولاً في الآخر " مدحاً " أو " ثناء " عليه، أو حتى " هجاء " ، لتحقيق أكثر من هدف- ليس بوسع أي كان إثبات، أن صاحبه هو صادق في كلامه- إنه في الغالب يحكي/ أي يقلّد نموذجاً صورة متخيلة، أو نمطاً، ليكون مثله- وهو في ضوء ذلك لا يمارس تأريخاً لما يقول، بقدر ما يؤرخ لموقفه ذاك وهو يمدح شخصاً أو يثني عليه، وهو متميز بمقام يعلوه مرتبة في الغالب.
وباختصار، نقول: إنه " بياع حكي ". ولعل الصفة المتميزة للشعر العربي هي اتصافه بميزتين، هما العمود الفقري فيه، المدح والثناء، وبالمقابل الهجاء، ففي عداد المدح والثناء يدخل الرثاء، حيث يعظَّم شأن المتوفى- وكذلك الفخر، فهو بدوره مدح، والذم والتقريع والطعن...الخ يدخل في عداد الهجاء- وفي الحالتين، نتلمس وجود حكي، والذي يمكننا إيجاده في معظم نتاجات الشعراء العرب .
أين هي الذات ؟
ثمة قصة لكاتبنا المعروف " زكريا تامر " أعتقدها في مجموعته القصصية الأخيرة " نداء نوح "، يتحدث فيها عن الشاعر المتنبّي الذي يُعرَف عنه الكثير بوصفه من أكثر الشعراء العرب تعظيماً لنفسه، وحباً لانتمائه العربي " العروبة تحديداً "... الخ يرينا، وفي قالب قصصي، كيف يدفع " كافور الإخشيدي " به إلى مدحه، وبعد ذلك، إلى هجائه، وحين يُسأل عن سبب ذلك، يقول: حتى يتحدث في أمره الناس وينالون منه.. النهاية معروفة- والقصة ذات مغزى.فقصيدة المتنبّي الدالية، وهو يهجو بها " الكافور " ذائعة الصيت عند طلاب المدارس وسواهم، حيث يعتد فيها بنفسه، وبأصله، وقصيدته الأخرى " الميمية " والتي يبرز فيها عدَم فلَاح عُرْب " ملوكها عجم "، يؤكد- كما هو مشاع فيها- اعتزازه بعروبته، وذلك لأن المتنبّي الذي عاش في النص الأول من القرن الرابع الهجري، يعتبر لدى الكثيرين شاعر العروبة بامتياز، وليس بالإمكان نفي هذا الجانب في مواقفه من خلال شعره . ولكن النظر إليه باعتباره شاعر العروبة، ومن موقف راهناً، يعتبر تجييراً للتاريخ وتقويل الشعر الذي تُذكر فيه الشخصية العربية، بما ليس فيه – عند المتنبي " 1 "- فلعل وجود قصائد عديدة، بل وكثيرة قالها المتنبّي في مدح كافور لا يفصح عن الموقف القومي الذي يعلَن عنه هنا وهناك، ويتضح ذلك- بسهولة- بالرجوع إلى ديوانه، كما في هذه الأبيات، حيث يمدح كافور الحبشي الأسود :
فأصبح فوق العالمين يرونه وإن كان يدنيه التكرُّم نائيا
وفي تهنئته له، وهو يبني داراً :
إنما التهنئات للأكفْـــــــــــــاء = ولمن يدّعي من البُعُداء
كرم في شجاعــة وذكــــــــاء = في بهاء وقدرة في وفاء
من لبيض الملوك أن تبدل اللون = بلون الأسناء والسحناء ؟
حيث يُرى هنا أن اللون الأسود " وكافور كان أسود اللون "، هو اللون الأفضل، وأن ذلك يعتبر نعمة، أكبر بكثير، من الأبيض لون الملوك الآخرين.
فهؤلاء دون كافور منزلة، من خلال لونهم.. ويمكن ذكر أمثلة كثيرة من هذا النوع، وهو يعظّم " ملك مصر " "2 "، وهناك بالمقابل قصائد كثيرة، يهجوه فيها، هي عكس الصفات التي كانت تُذكر لملك- مثل:
أُنْوك من عبــــــد ومن عرسه = من حكَّم البعد على نفسه ؟
وقصيدته المشهورة التي يقول فيها :
عيد بأية حال عدت يا عيد = بما مضى أم لأمر فيــــــــك تجديد ؟
ألعبْدُ ليس لحُـــــر صالح بأخ = لو أنه في ثياب الحـــــــــر مولود
لا تشتري العبـــد إلا والعصا معه = إن العبيد لأنجــــــــاس مناكيد
أولى اللئام كُويْفير بمعــذره = في كل لؤم وبعض العـــــــــذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة = عن الجميل فكيف الخصية السود ؟ " 3 "
هل يمكن التوفيق بين مدائحه وهجائياته ؟ وكيف يمكن تحديد خاصية الذات الشاعرة في ذلك؟.
لقد اُستهلك الكثير الكثير من قول الشعر أصحابَه- وبصورة أخرى، لقد كان الشعر حرفة لدى الشعراء العرب والذين شكلوا رموزاً في الثقافة العربية- الإسلامية من غير العرب. كان هناك مناخ، يفرض على الشاعر في الغالب، أن يعبر عن نفسه" أن يبيع حكْياً "، ليسمح له بالدخول في عالم الشعر، أو لكي يكون كائناً في الحياة- ثمة مقتطفان، يفيداننا حول ذلك، من كتاب يركز على عملية " التكسب بالشعر ". الأول هو لـ" فخري أبو السعود ":
( وأضيع جانب ضخم من عبقريات أبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من الفحول في نظم الأكاذيب والمفارقات طلباً لجوائز الأمراء ).
- والثاني لـ" صادق النيهوم ":
( وليس ثمة لغة أخرى تضم من قصائد المدح والهجاء ما تضمه لغتنا، وليس ثمة مكتبة تفوق مكتبتنا في عدد الشعراء الجوالين الذين احترفوا كسب العيش ببيع إنسانيتهم في ديوان السلطان، حتى أن لسان الشاعر العربي كان يبدو في أعمال النقد بمثابة أسوأ سلاح عرفته العصور الماضية إلى أن تمَّ اختراع البارود ) " 4 " .
لماذا هذا الحضور القوي لمثل هذا النوع من الشعر " المدحجائي "- المدح والهجاء- عربياً ؟
ثمة ذات مقهورة، ذات لا تملك حق التصرف في وبذاتها، في نتاج الشاعر في هذا المجال، وهذا يؤدي بنا إلى القول أحياناً، أن ما كان يقال في مجالات أخرى، هو ذاته لا يُؤخذ باعتباره نابعاً عن موقف صادق، كما في الغزل. فكيف لذات مباعة شعراً للآخر" الممدوح " أو حتى مشوهة وعدوانية هجائياً تستطيع التفاعل مع الآخر الحبيب أو المحبوب؟ يداخل هذا أيضاً في دائرة " بيع الحكي " حيث تكون الذات خارج توازنها النفسي! إن التمعين في حركة الشعر العربي قديماً خاصة، يفصح عن بؤرة مركزية تميزه، وهو ارتباطه بقوة تتحكم به. الشاعر لا يقول الشعر إلا لأن هناك سلطة " ليس السلطة بالمعنى الإيديولوجي السياسي "، خفيه وعلنية، تتجاوز سلطان القبيلة والدولة ذاتها مضروبة الجذور في فضاء ميتافيزيقي " ماورائي "، تستنطق الشاعر، وتسخره في خدمتها- حتى على صعيد اللغة المستخدمة. إذ تتجذر سلطة الآخر " الغائب " المتملك للشاعر، والدافع به إلى أن يلتزم بحركات معينة، وهو ينطلق من بداية البيت الشعري، ويصل إلى نهايته، ويرجع كما كان، وكأن خاصية " سيزيفية "، تخضع الشاعر هنا لتنفيذ مشيئة تسلطية رغم أنفه، ثم لا يلبث يتعود على ذلك، وهو يعيش هذه الحالة منذ الصغر. الذاتية تعيش وهْم الأنا المستقلة، هذه التي تعيش من أجل آخر، يكون لها بالمرصاد على أكثر من صعيد، بحيث تتحول العلاقة هذه إلى أمر يُعتاد عليه.
ما موقع المتنبّي في ذلك مثلاً؟ ثمة محور " رغبي "، يجسّد هدف المتنبّي في كل ما قاله : مدحاً أو ذماً- والعروبة لا تعتبر في فضائه الشعري الغاية الأساسية المولّدة والمحرضة لشعره، بقدر ما تكون وضعاً قناعياً، كما يتجلى ذلك في سياق علاقته مع الآخر: الإنسان، والمجهول المنعبّر عن حالة طموح فيه، وهي رأسمال معنوي، لا تُخفى أبعاده الاستراتيجية، كان يلجأ إلى استعماله، والتعامل معه، والترويج له، والدعوة إلى الاعتماد عليه، عندما يشعر أن طموحاته لم تتحقق وفي ضوء ذلك، يأتي مدحه لـ كافور محاولة تقرب مما كان يريد أن يكون كالآخرين مُلْكاً، أو حاكماً إقليمياً.
وحتى في قوله للشعر- ويا له من قول رائع صياغةً ومعنى! كان يقدم نفسه بوصفه صاحب سلطة- النزعة الملوكية " الحاكمية " التي تشجعه على الافتخار والاعتزاز بذاته، تشكل خصيصة مميزة لشعره في الغالب.
هناك حالات تضادية فارقة لشعره، لا تفسَّر أو تُفهَم في ضوء رغبة مأمولة وأخرى فاشلة نهائياً. ولو لم يكن الوضع كذلك، لما كان بالإمكان استيعاب إضفاء الشاعر القيمة الجمالية والمعنوية الكبرى على شخصية كافور وهو يمدحه ويرى في سواده جمالاً خلقياً، يبز البياض نفسه- وبالمقابل عندما يذمه/ يهجوه باعتباره منظومة مساوىء أو مثالب- خاصة وأنه رأى فيه عبداً- وهو عبد خصي- وهذا يفقده كل قيمة إنسانية أو رجولية- بل هناك ما هو أكثر إثارة من ذلك، عندما يعتبر العبد نجساً، وأن التعامل معه، يجب ألا يتم إلا بالعصا- فهو في هذا الإطار، لا يكتفي بالنيل منه، بل يحيله إلى الآخر، إلى مفهوم النجاسة، وبالبهيمية بالتالي .
وفي ضوء ما تقدم نقرأ شخصية المتنبّي من خلال ذات ليست هي التي تتكلم، فهي مغيبة ومؤجلة نطقاً. ثمة رغبة هي التي تتكلم بالنيابة عنها- وهناك فرق كبير بين الذات والرغبة- فالرغبة التي تتكلم هي طموحه، وليست حقيقته، وهو يمدح أو يذم، وهي في هذه الحالة تقنّع الذات بقناع المنفعة، وتقنعها بأن سلوكها " الرغبة " هو طريقة ناجعة لإظهار الذات التي تنتظر الفرصة المناسبة لتعلن سلطتها .
لا يخلو المتنبّي من عظمة طافحة، تتخللل كل ما قاله. ربما ذلك كان تعبيراً عن وضع مجتمعي مخلخل ومأزوم! ولقد أراد أن يكون لسان حال الهدف المنشود ولكن بالاعتماد على نقاط " مراكز القوة ": سيف الدولة أولاً، ومن ثمة كافور الإخشيدي ، حيث كان يتلمس في ذاته قوة تتجاوز في ثقلها كل ممثليها الموجودين في عصره... ولهذا كان شاعرنا بيّاع حكي من الطراز الأول- إلى درجة اقتناعه بكل ما قاله- فرغبته غلبت ذاته، وبالتالي كان ذلك سبباً للقضاء على ذاته. ألم يكن طموحه الرغبي قاتله في النهاية- لقد باع ذاته نفسها، ولم يحقق المبتغى! ولكن " ولكي نقارب شخصية " بياع الحكي " من النوع المذكور، فلا بد أن ندقق في جماع مكوناتها ".
يبدو أننا لن نستطيع استنطاق الشخصية المتقدمة، إذا اعترفنا بما تكونت بالفعل. فـالمتنبّي لم يستبعد الهجاء وهو يمدح، ولا استبعد المدح، وهو يهجو- يظهر المدح فيحقيقته هذه- كما يظهر هجاء مبطناً، وهو بالمقابل تقليل من قيمة الذات المادحة، حيث يصبح الممدوح قيمة مقدرة شعرياً، والذات المادحة هي منتجة مدح، تبيع منتوجها " الكلام " ويظهر الهجاء في واقعه مدحاً مقلوباً، وتعظيماً للذات الذامة هنا- وهذا يساعدنا على فهم العلاقة القائمة بين المدح والهجاء، وما يدخل في عداد كل منهما من مواضيع أخرى، ، مثل: الرثاء والنسيب والفخر والوصف...الخ- العلامة لا تقوم على تضاد، بقدر ما تقوم على تواجه معلوم . فمفهوم التضاد لا يعني أن هناك ما هو عكس الآخر- الحرارة والبرودة ، الهشاشة والصلابة، السائل والجامد...الخ- إن كلاً منهما يستحضر الآخر، وإن كان يلغيه ظاهرياً، فالجليد تصلُّب مقابل الماء فهو سيولة، وهما متضادان ظاهرياً، ولكن ما هي العلامة التي تؤكد لنا متى تفقد الصلابة صلابتها، ومتى يفقد السائل سيولته؟ المدح والهجاء يتداخلان، والمتنبّي مدرك لذلك- وهذا- يستحضر مفهومين متداخلين ميتافيزيقياً . فبين العقاب والثواب شعرة رفيعة شفافة. وليس هناك أحدهما إلا لأن الآخر هو موجود، وداخل هذا المعنى يُظهر المتنبّي متقناً " اللعبة " الشعرية- فهو يعلم مع من يتعامل. فثمة شخص يمثل حامل محورين ويجسدهما في آن: النعمة والنقمة، الرحمة والقسوة، الصلابة واللين، المحدد واللامتناهي، وهو بدوره تتجسد فيه هذه الحالة- إنه " يبيع " حكياً يدرك مع من يتعامل، حيث تكون العلاقات سوقية ، وهي مسواقة " أي العلاقات تلك"، وليس الموضوع موضوع تكسُّب بالشعر، كما يقال، بل هو موضوع تحول الذات إلى موضوع للآخر، موضوع، هو مشروع مستثمر من قبله، أو هو في خدمته تماماً، حيث يفرض عليه سلطته. وهناك قيم تكون مسلعنة بدورها، يخفض أو يعلو سعرها، حسب الحالة، هي قيم إنسانية واجتماعية بالتالي.
وبوسع الشاعر أو الكاتب- أي كاتب- أن يجردها من خصوصيتها المعنوية، ويتقدم بها في نتاجه، كي " يقبض " بالمقابل، وليس شاعرنا ببعيد عن هذه السوق القيمية* !
* - ملاحظة: هذا المقال مستل من كتابي: صدع النص وارتحالات المعنى، مركز الإنماء الحضاري، حلب- سوريا،ط1، 2000، صص: 65-73 .إسهاماً في إنار موضوع مثار راهناً في موقع " الأنطولوجيا "، ولقد ورد المقال كما هو ، باستثناء بعض الشكليات فيه .
ألسنة تحت الطلب :
هناك بيع حكي، لأن هناك من يسمح بذلك، بل يتجلى " بيع الحكي " علامة كبرى من علامات كل ثقافة محورية، حيث يوجد عنصر معين: وحيد أوحد، هو الذي يغذّي ذلك. إذ يحيل الألسنة كلها، أو في غالبها إلى أقنعة خدمية له، من خلال تمركز سلطوي جاذب لذلك. السلطة تبدو بمثابة العمود الفقري الذي يستقطب الجسم كله، ويفرغ الآخر" الكاتب " بصورة عامة، أو " الشاعر " بصورة عامة من كل محتوى تفعيلي ذاتي، يكون له الكلام، لكنه الكلام الذي يُسمَع أو يُسمح له بالانتشار من خلاله. ثمة تجذير لمفهوم الطاغية الذي يتشعب مبنىً ومعنى في اللذاكرة الجماعية للفرد- والكاتب/ الشاعر في المقدمة- حيث يكون تجلّي الروح الأعظم، مبدأ الجماعة وشاغل ذهنها الرئيس وحلمها، في كل ما يمت إلى هذا الطاغية " المبجَّل " بصلة " 5 ".
إن كل داخل في سياق الطاغية " الممدوح " يكتسب قيمة، لأنه يتجسدها علامة من علاماته، مادام هناك اعتراف به، والممدوح هو الذي يحيل الذاكرة الجماعية ذاتها على أكثر من صعيد، وقدر المستطاع إلى لسان واحد يلهج باسمه، إلى أداة قولية وهجائية ضد الآخر " نقيضه " .
الكائنات الحية الأخرى، والجماعات نفسها تغدو أرواحية " مباركة "، مادام الآخر" حامل الأمة/ الجماعة/ الملَّة " يهبُ العلاقات بين العناصر، أو الأشياء قيماً متفاوتة القيم دائماً " 6 "، تتحول حين تكون القوة ناطقة!
تتفاوت الأقوال في قيمتها- لا يعود كل ما يقال، له الأهمية ذاتها قيمياً- في ضوء ذلك، ما أكثر الأقوال المتمحورة حول الآخر الذي يسود " الجميع " غالباً، حيث تفقد مصداقية الموقف. ثمة بياعو حكي بالجملة في التاريخ، يتوزعون حول صورة نسخية مسخية في آن، في الغالب، - مفهوم الواحد المستبد يلخص حركية التاريخ المعاش- بأكثر من معنى. فأن يموت بياعو الحكي، يفصح الحكي عن الآخر، مجرد حكي واحد يتكرر، مشوَّه إنسانياً في التاريخ .
إشارات :
1- انظر مثلاً ما يقوله الدكتور شوق ضيف في كتابه" في الفن ومذاهبه في الشعر العربي "دار المعارف بمصر، ط9، 1976، ص " 301-309 "، حيث يتجاهل البعد المحوري المذكور، بخصوص هذه المنفعية للشاعر.
2- انظر " العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب " للشيخ ناصيف اليازجي، دون ذكر مكان الطبع، ولا تاريخه، ص " 476-479 ". انظر كذلك الصفحات التالية" 480-489-498-502-511...الخ ".
3- انظر المصدر نفسه ، ص " 551 "، وكذلك الصفحات التالية " 542-544-546-551...الخ ".
4- انظر كتاب الدكتور جلال الخيّاط: التكسب بالشعر، داررالآداب، بيروت، 1970، ص " 56 "، والكتاب قيّم في غنى مواده، وتنوع مصادره، رغم غياب الأساسي فيه، هو البعد التحليلي لذلك .
5- انظر حول ذلك، د. إمام عبدالفتاح إمام: الطاغية، عالم المعرفة، الكويت، العدد " 183"، 1994، الفصل الثاني، العالم الإسلامي، ص " 179-242 ".
6- ثمة صور دالة حول ذلك في " التكسب بالشعر " المصدر المذكور، ص 78- 79 ".
إبراهيم محمود
ربما كان آخر ما يمكن للمرء أن يفكّر فيه، هو كلامه الذي يقوله لهذا أو ذاك، وماذا وراء ما يقوله، رغم أن هناك تركيزاً مستمراً على ضرورة التأني في قول كل كلمة، والتفكير في النتائج المترتبة عليها: هل فكر امرؤ ما فيما قاله، ولماذا قال ذلك وبتلك الطريقة؟ وبشكل أدق: هل خطر على ذهنه، سؤال: من أين آتي بالكلام الذي أقوله، وكيف أتكلم، وفيم أتكلم ؟
هناك الكثير من الكلام، ولكنه يظل مجرد " حكي " . ومفهوم الحكي له معنى آخر، فالحكي من " حكى " ، وفعل " حكى " قد لا يكون دقيقاً وصحيحاً، وهو في كل حال، تابع لآخر، فالحكي كلام الغائب، وهو ليس مؤكداً، فنحن نقرأ " يُحكى أن "، وهذا الفعل لا يؤخذ به صادقاً، إنه كلام غير موثق، غير مؤرخ له يندرج في هذا الإطار، كل ما يعتبر قولاً في الآخر " مدحاً " أو " ثناء " عليه، أو حتى " هجاء " ، لتحقيق أكثر من هدف- ليس بوسع أي كان إثبات، أن صاحبه هو صادق في كلامه- إنه في الغالب يحكي/ أي يقلّد نموذجاً صورة متخيلة، أو نمطاً، ليكون مثله- وهو في ضوء ذلك لا يمارس تأريخاً لما يقول، بقدر ما يؤرخ لموقفه ذاك وهو يمدح شخصاً أو يثني عليه، وهو متميز بمقام يعلوه مرتبة في الغالب.
وباختصار، نقول: إنه " بياع حكي ". ولعل الصفة المتميزة للشعر العربي هي اتصافه بميزتين، هما العمود الفقري فيه، المدح والثناء، وبالمقابل الهجاء، ففي عداد المدح والثناء يدخل الرثاء، حيث يعظَّم شأن المتوفى- وكذلك الفخر، فهو بدوره مدح، والذم والتقريع والطعن...الخ يدخل في عداد الهجاء- وفي الحالتين، نتلمس وجود حكي، والذي يمكننا إيجاده في معظم نتاجات الشعراء العرب .
أين هي الذات ؟
ثمة قصة لكاتبنا المعروف " زكريا تامر " أعتقدها في مجموعته القصصية الأخيرة " نداء نوح "، يتحدث فيها عن الشاعر المتنبّي الذي يُعرَف عنه الكثير بوصفه من أكثر الشعراء العرب تعظيماً لنفسه، وحباً لانتمائه العربي " العروبة تحديداً "... الخ يرينا، وفي قالب قصصي، كيف يدفع " كافور الإخشيدي " به إلى مدحه، وبعد ذلك، إلى هجائه، وحين يُسأل عن سبب ذلك، يقول: حتى يتحدث في أمره الناس وينالون منه.. النهاية معروفة- والقصة ذات مغزى.فقصيدة المتنبّي الدالية، وهو يهجو بها " الكافور " ذائعة الصيت عند طلاب المدارس وسواهم، حيث يعتد فيها بنفسه، وبأصله، وقصيدته الأخرى " الميمية " والتي يبرز فيها عدَم فلَاح عُرْب " ملوكها عجم "، يؤكد- كما هو مشاع فيها- اعتزازه بعروبته، وذلك لأن المتنبّي الذي عاش في النص الأول من القرن الرابع الهجري، يعتبر لدى الكثيرين شاعر العروبة بامتياز، وليس بالإمكان نفي هذا الجانب في مواقفه من خلال شعره . ولكن النظر إليه باعتباره شاعر العروبة، ومن موقف راهناً، يعتبر تجييراً للتاريخ وتقويل الشعر الذي تُذكر فيه الشخصية العربية، بما ليس فيه – عند المتنبي " 1 "- فلعل وجود قصائد عديدة، بل وكثيرة قالها المتنبّي في مدح كافور لا يفصح عن الموقف القومي الذي يعلَن عنه هنا وهناك، ويتضح ذلك- بسهولة- بالرجوع إلى ديوانه، كما في هذه الأبيات، حيث يمدح كافور الحبشي الأسود :
فأصبح فوق العالمين يرونه وإن كان يدنيه التكرُّم نائيا
وفي تهنئته له، وهو يبني داراً :
إنما التهنئات للأكفْـــــــــــــاء = ولمن يدّعي من البُعُداء
كرم في شجاعــة وذكــــــــاء = في بهاء وقدرة في وفاء
من لبيض الملوك أن تبدل اللون = بلون الأسناء والسحناء ؟
حيث يُرى هنا أن اللون الأسود " وكافور كان أسود اللون "، هو اللون الأفضل، وأن ذلك يعتبر نعمة، أكبر بكثير، من الأبيض لون الملوك الآخرين.
فهؤلاء دون كافور منزلة، من خلال لونهم.. ويمكن ذكر أمثلة كثيرة من هذا النوع، وهو يعظّم " ملك مصر " "2 "، وهناك بالمقابل قصائد كثيرة، يهجوه فيها، هي عكس الصفات التي كانت تُذكر لملك- مثل:
أُنْوك من عبــــــد ومن عرسه = من حكَّم البعد على نفسه ؟
وقصيدته المشهورة التي يقول فيها :
عيد بأية حال عدت يا عيد = بما مضى أم لأمر فيــــــــك تجديد ؟
ألعبْدُ ليس لحُـــــر صالح بأخ = لو أنه في ثياب الحـــــــــر مولود
لا تشتري العبـــد إلا والعصا معه = إن العبيد لأنجــــــــاس مناكيد
أولى اللئام كُويْفير بمعــذره = في كل لؤم وبعض العـــــــــذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة = عن الجميل فكيف الخصية السود ؟ " 3 "
هل يمكن التوفيق بين مدائحه وهجائياته ؟ وكيف يمكن تحديد خاصية الذات الشاعرة في ذلك؟.
لقد اُستهلك الكثير الكثير من قول الشعر أصحابَه- وبصورة أخرى، لقد كان الشعر حرفة لدى الشعراء العرب والذين شكلوا رموزاً في الثقافة العربية- الإسلامية من غير العرب. كان هناك مناخ، يفرض على الشاعر في الغالب، أن يعبر عن نفسه" أن يبيع حكْياً "، ليسمح له بالدخول في عالم الشعر، أو لكي يكون كائناً في الحياة- ثمة مقتطفان، يفيداننا حول ذلك، من كتاب يركز على عملية " التكسب بالشعر ". الأول هو لـ" فخري أبو السعود ":
( وأضيع جانب ضخم من عبقريات أبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من الفحول في نظم الأكاذيب والمفارقات طلباً لجوائز الأمراء ).
- والثاني لـ" صادق النيهوم ":
( وليس ثمة لغة أخرى تضم من قصائد المدح والهجاء ما تضمه لغتنا، وليس ثمة مكتبة تفوق مكتبتنا في عدد الشعراء الجوالين الذين احترفوا كسب العيش ببيع إنسانيتهم في ديوان السلطان، حتى أن لسان الشاعر العربي كان يبدو في أعمال النقد بمثابة أسوأ سلاح عرفته العصور الماضية إلى أن تمَّ اختراع البارود ) " 4 " .
لماذا هذا الحضور القوي لمثل هذا النوع من الشعر " المدحجائي "- المدح والهجاء- عربياً ؟
ثمة ذات مقهورة، ذات لا تملك حق التصرف في وبذاتها، في نتاج الشاعر في هذا المجال، وهذا يؤدي بنا إلى القول أحياناً، أن ما كان يقال في مجالات أخرى، هو ذاته لا يُؤخذ باعتباره نابعاً عن موقف صادق، كما في الغزل. فكيف لذات مباعة شعراً للآخر" الممدوح " أو حتى مشوهة وعدوانية هجائياً تستطيع التفاعل مع الآخر الحبيب أو المحبوب؟ يداخل هذا أيضاً في دائرة " بيع الحكي " حيث تكون الذات خارج توازنها النفسي! إن التمعين في حركة الشعر العربي قديماً خاصة، يفصح عن بؤرة مركزية تميزه، وهو ارتباطه بقوة تتحكم به. الشاعر لا يقول الشعر إلا لأن هناك سلطة " ليس السلطة بالمعنى الإيديولوجي السياسي "، خفيه وعلنية، تتجاوز سلطان القبيلة والدولة ذاتها مضروبة الجذور في فضاء ميتافيزيقي " ماورائي "، تستنطق الشاعر، وتسخره في خدمتها- حتى على صعيد اللغة المستخدمة. إذ تتجذر سلطة الآخر " الغائب " المتملك للشاعر، والدافع به إلى أن يلتزم بحركات معينة، وهو ينطلق من بداية البيت الشعري، ويصل إلى نهايته، ويرجع كما كان، وكأن خاصية " سيزيفية "، تخضع الشاعر هنا لتنفيذ مشيئة تسلطية رغم أنفه، ثم لا يلبث يتعود على ذلك، وهو يعيش هذه الحالة منذ الصغر. الذاتية تعيش وهْم الأنا المستقلة، هذه التي تعيش من أجل آخر، يكون لها بالمرصاد على أكثر من صعيد، بحيث تتحول العلاقة هذه إلى أمر يُعتاد عليه.
ما موقع المتنبّي في ذلك مثلاً؟ ثمة محور " رغبي "، يجسّد هدف المتنبّي في كل ما قاله : مدحاً أو ذماً- والعروبة لا تعتبر في فضائه الشعري الغاية الأساسية المولّدة والمحرضة لشعره، بقدر ما تكون وضعاً قناعياً، كما يتجلى ذلك في سياق علاقته مع الآخر: الإنسان، والمجهول المنعبّر عن حالة طموح فيه، وهي رأسمال معنوي، لا تُخفى أبعاده الاستراتيجية، كان يلجأ إلى استعماله، والتعامل معه، والترويج له، والدعوة إلى الاعتماد عليه، عندما يشعر أن طموحاته لم تتحقق وفي ضوء ذلك، يأتي مدحه لـ كافور محاولة تقرب مما كان يريد أن يكون كالآخرين مُلْكاً، أو حاكماً إقليمياً.
وحتى في قوله للشعر- ويا له من قول رائع صياغةً ومعنى! كان يقدم نفسه بوصفه صاحب سلطة- النزعة الملوكية " الحاكمية " التي تشجعه على الافتخار والاعتزاز بذاته، تشكل خصيصة مميزة لشعره في الغالب.
هناك حالات تضادية فارقة لشعره، لا تفسَّر أو تُفهَم في ضوء رغبة مأمولة وأخرى فاشلة نهائياً. ولو لم يكن الوضع كذلك، لما كان بالإمكان استيعاب إضفاء الشاعر القيمة الجمالية والمعنوية الكبرى على شخصية كافور وهو يمدحه ويرى في سواده جمالاً خلقياً، يبز البياض نفسه- وبالمقابل عندما يذمه/ يهجوه باعتباره منظومة مساوىء أو مثالب- خاصة وأنه رأى فيه عبداً- وهو عبد خصي- وهذا يفقده كل قيمة إنسانية أو رجولية- بل هناك ما هو أكثر إثارة من ذلك، عندما يعتبر العبد نجساً، وأن التعامل معه، يجب ألا يتم إلا بالعصا- فهو في هذا الإطار، لا يكتفي بالنيل منه، بل يحيله إلى الآخر، إلى مفهوم النجاسة، وبالبهيمية بالتالي .
وفي ضوء ما تقدم نقرأ شخصية المتنبّي من خلال ذات ليست هي التي تتكلم، فهي مغيبة ومؤجلة نطقاً. ثمة رغبة هي التي تتكلم بالنيابة عنها- وهناك فرق كبير بين الذات والرغبة- فالرغبة التي تتكلم هي طموحه، وليست حقيقته، وهو يمدح أو يذم، وهي في هذه الحالة تقنّع الذات بقناع المنفعة، وتقنعها بأن سلوكها " الرغبة " هو طريقة ناجعة لإظهار الذات التي تنتظر الفرصة المناسبة لتعلن سلطتها .
لا يخلو المتنبّي من عظمة طافحة، تتخللل كل ما قاله. ربما ذلك كان تعبيراً عن وضع مجتمعي مخلخل ومأزوم! ولقد أراد أن يكون لسان حال الهدف المنشود ولكن بالاعتماد على نقاط " مراكز القوة ": سيف الدولة أولاً، ومن ثمة كافور الإخشيدي ، حيث كان يتلمس في ذاته قوة تتجاوز في ثقلها كل ممثليها الموجودين في عصره... ولهذا كان شاعرنا بيّاع حكي من الطراز الأول- إلى درجة اقتناعه بكل ما قاله- فرغبته غلبت ذاته، وبالتالي كان ذلك سبباً للقضاء على ذاته. ألم يكن طموحه الرغبي قاتله في النهاية- لقد باع ذاته نفسها، ولم يحقق المبتغى! ولكن " ولكي نقارب شخصية " بياع الحكي " من النوع المذكور، فلا بد أن ندقق في جماع مكوناتها ".
يبدو أننا لن نستطيع استنطاق الشخصية المتقدمة، إذا اعترفنا بما تكونت بالفعل. فـالمتنبّي لم يستبعد الهجاء وهو يمدح، ولا استبعد المدح، وهو يهجو- يظهر المدح فيحقيقته هذه- كما يظهر هجاء مبطناً، وهو بالمقابل تقليل من قيمة الذات المادحة، حيث يصبح الممدوح قيمة مقدرة شعرياً، والذات المادحة هي منتجة مدح، تبيع منتوجها " الكلام " ويظهر الهجاء في واقعه مدحاً مقلوباً، وتعظيماً للذات الذامة هنا- وهذا يساعدنا على فهم العلاقة القائمة بين المدح والهجاء، وما يدخل في عداد كل منهما من مواضيع أخرى، ، مثل: الرثاء والنسيب والفخر والوصف...الخ- العلامة لا تقوم على تضاد، بقدر ما تقوم على تواجه معلوم . فمفهوم التضاد لا يعني أن هناك ما هو عكس الآخر- الحرارة والبرودة ، الهشاشة والصلابة، السائل والجامد...الخ- إن كلاً منهما يستحضر الآخر، وإن كان يلغيه ظاهرياً، فالجليد تصلُّب مقابل الماء فهو سيولة، وهما متضادان ظاهرياً، ولكن ما هي العلامة التي تؤكد لنا متى تفقد الصلابة صلابتها، ومتى يفقد السائل سيولته؟ المدح والهجاء يتداخلان، والمتنبّي مدرك لذلك- وهذا- يستحضر مفهومين متداخلين ميتافيزيقياً . فبين العقاب والثواب شعرة رفيعة شفافة. وليس هناك أحدهما إلا لأن الآخر هو موجود، وداخل هذا المعنى يُظهر المتنبّي متقناً " اللعبة " الشعرية- فهو يعلم مع من يتعامل. فثمة شخص يمثل حامل محورين ويجسدهما في آن: النعمة والنقمة، الرحمة والقسوة، الصلابة واللين، المحدد واللامتناهي، وهو بدوره تتجسد فيه هذه الحالة- إنه " يبيع " حكياً يدرك مع من يتعامل، حيث تكون العلاقات سوقية ، وهي مسواقة " أي العلاقات تلك"، وليس الموضوع موضوع تكسُّب بالشعر، كما يقال، بل هو موضوع تحول الذات إلى موضوع للآخر، موضوع، هو مشروع مستثمر من قبله، أو هو في خدمته تماماً، حيث يفرض عليه سلطته. وهناك قيم تكون مسلعنة بدورها، يخفض أو يعلو سعرها، حسب الحالة، هي قيم إنسانية واجتماعية بالتالي.
وبوسع الشاعر أو الكاتب- أي كاتب- أن يجردها من خصوصيتها المعنوية، ويتقدم بها في نتاجه، كي " يقبض " بالمقابل، وليس شاعرنا ببعيد عن هذه السوق القيمية* !
* - ملاحظة: هذا المقال مستل من كتابي: صدع النص وارتحالات المعنى، مركز الإنماء الحضاري، حلب- سوريا،ط1، 2000، صص: 65-73 .إسهاماً في إنار موضوع مثار راهناً في موقع " الأنطولوجيا "، ولقد ورد المقال كما هو ، باستثناء بعض الشكليات فيه .
ألسنة تحت الطلب :
هناك بيع حكي، لأن هناك من يسمح بذلك، بل يتجلى " بيع الحكي " علامة كبرى من علامات كل ثقافة محورية، حيث يوجد عنصر معين: وحيد أوحد، هو الذي يغذّي ذلك. إذ يحيل الألسنة كلها، أو في غالبها إلى أقنعة خدمية له، من خلال تمركز سلطوي جاذب لذلك. السلطة تبدو بمثابة العمود الفقري الذي يستقطب الجسم كله، ويفرغ الآخر" الكاتب " بصورة عامة، أو " الشاعر " بصورة عامة من كل محتوى تفعيلي ذاتي، يكون له الكلام، لكنه الكلام الذي يُسمَع أو يُسمح له بالانتشار من خلاله. ثمة تجذير لمفهوم الطاغية الذي يتشعب مبنىً ومعنى في اللذاكرة الجماعية للفرد- والكاتب/ الشاعر في المقدمة- حيث يكون تجلّي الروح الأعظم، مبدأ الجماعة وشاغل ذهنها الرئيس وحلمها، في كل ما يمت إلى هذا الطاغية " المبجَّل " بصلة " 5 ".
إن كل داخل في سياق الطاغية " الممدوح " يكتسب قيمة، لأنه يتجسدها علامة من علاماته، مادام هناك اعتراف به، والممدوح هو الذي يحيل الذاكرة الجماعية ذاتها على أكثر من صعيد، وقدر المستطاع إلى لسان واحد يلهج باسمه، إلى أداة قولية وهجائية ضد الآخر " نقيضه " .
الكائنات الحية الأخرى، والجماعات نفسها تغدو أرواحية " مباركة "، مادام الآخر" حامل الأمة/ الجماعة/ الملَّة " يهبُ العلاقات بين العناصر، أو الأشياء قيماً متفاوتة القيم دائماً " 6 "، تتحول حين تكون القوة ناطقة!
تتفاوت الأقوال في قيمتها- لا يعود كل ما يقال، له الأهمية ذاتها قيمياً- في ضوء ذلك، ما أكثر الأقوال المتمحورة حول الآخر الذي يسود " الجميع " غالباً، حيث تفقد مصداقية الموقف. ثمة بياعو حكي بالجملة في التاريخ، يتوزعون حول صورة نسخية مسخية في آن، في الغالب، - مفهوم الواحد المستبد يلخص حركية التاريخ المعاش- بأكثر من معنى. فأن يموت بياعو الحكي، يفصح الحكي عن الآخر، مجرد حكي واحد يتكرر، مشوَّه إنسانياً في التاريخ .
إشارات :
1- انظر مثلاً ما يقوله الدكتور شوق ضيف في كتابه" في الفن ومذاهبه في الشعر العربي "دار المعارف بمصر، ط9، 1976، ص " 301-309 "، حيث يتجاهل البعد المحوري المذكور، بخصوص هذه المنفعية للشاعر.
2- انظر " العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب " للشيخ ناصيف اليازجي، دون ذكر مكان الطبع، ولا تاريخه، ص " 476-479 ". انظر كذلك الصفحات التالية" 480-489-498-502-511...الخ ".
3- انظر المصدر نفسه ، ص " 551 "، وكذلك الصفحات التالية " 542-544-546-551...الخ ".
4- انظر كتاب الدكتور جلال الخيّاط: التكسب بالشعر، داررالآداب، بيروت، 1970، ص " 56 "، والكتاب قيّم في غنى مواده، وتنوع مصادره، رغم غياب الأساسي فيه، هو البعد التحليلي لذلك .
5- انظر حول ذلك، د. إمام عبدالفتاح إمام: الطاغية، عالم المعرفة، الكويت، العدد " 183"، 1994، الفصل الثاني، العالم الإسلامي، ص " 179-242 ".
6- ثمة صور دالة حول ذلك في " التكسب بالشعر " المصدر المذكور، ص 78- 79 ".
إبراهيم محمود