من الصعوبة بمكان متابعة قراءة أحداث هذه الرواية, دون الرجوع لما قرئ سابقًا للتأكّد، والتثبّت من جزئيّة، أو أكثر تشابكت بطريقة بعد صفحات, يأتي ذلك من كونها تحوي الكثير من القصص والحكايات المتفرّعة على مساحات زمنيّة طالت معظم البناء الدرامي للرواية.
جاءت الرواية من المدرسة الواقعية السّاحرة بطريقة السّرد، بخليط عجائبيّ يقود القارئ للمضيّ قُدُمًا بلا اعتراض على ما قرأ، حتّى وإن كان لا معقولا، كمثل الفراشات التي ملأت سماء القرية "ماكندو" حول فتاة جميلة "ريميديوس" أينما حلّت وأقامت، ومن ثم اختفت هذه الأفواج الفراشيّة، مع صعود البنت للسماء واختفائها أمام أعين النّاظرين إليها من أهل القرية، ومن مثل أن عائلة "بوينديا" إذا تزوّجوا من بعضهم فإنه سينجبون أطفالًا مُشوّهين، لهم ذيل خنزير.
يبدو أن الرواية كتبت سيرة آل "بوينديا" إحدى القبائل البدوية التي كانت تمارس الرعي والارتحال طلبًا للماء والكلأ، في منطقة حوض الكاريبي، ضمن نطاق قرية "ماكندو" وهي من قرى الخيال، استدعاها كرمز خيال الكاتب.
واستغرق سرد سيرة هذه العائلة، بداية من قيام "خوسيه أركاديو بوينديا" وهو أول شخص في سلسلة العائلة، وهو من قام بتأسيس القرية، وتخطيط شوارعها ومرافقها بوسائله البدائيّة المتاحة له آنذاك.
نشأ مجتمع القرية في هذا التجمّع الحضريّ قرية "ماكندو"، الأمر الذي انتباه الغجر بالتوجه إليه في مواسم سنوية، صارت كرنفالات احتفاليّة، بما يعرض الغجر من حيلهم البهلوانية، وبما يحملون معهم من بضائع يعرضونها في مجتمع بدائي، يجهل الحياة خارج محيط القرية التي تنام وسط سهوب الأشجار والغابات المدارية، وأمطارها الغزيرة تقريبًا معظم أيّام السنة، وهم بذلك يكسبون المال ليستمرّوا على قيد الحياة.
سبعة أجيال هي عمر عائلة "بوينديا"، استمرّت على مدار قرن من الزمن، وما يلفت النظر أنّهم جيلا بعد جيل تسمّوا باسم (أوريليانو – خوسيه – أركاديو) ومع تعاقب الأجيال صار الاسم يتكرر، وللتمييز يرمز له بلقب الثاني مع اسمه، مثلا (أورليانو الثاني) و(خوسه الثاني)، جدة جدة الأمهات هي (أورسولا) زوجة (خوسيه أركايديو بوينديا) التي عاشت لأكثر من مئة عام، حيث عاصرها أولادها مع أبنائهم وأبناء أبنائهم، فهي حملت معها صلابتها وفكرتها المحافظة على روح الخير والطيبة والإحسان، بكارزميّتها الطاغية على قرارات الأسرة كاملة، فلا يستطيع أحد عصيان أمرها، وهي تخطط بحنكة وذكاء، ولم تتوقف عن تجارتها في صناعة قوالب الحلوى وبيعها، فكوّنت ثروة لا يستهان بها، وقامت ببناء بيت العائلة الذي استمرّ لقرن كامل أو أكر قليلًا وانتهى بانتهاء آخر أفراد العائلة الذي وُلد مشوّها بذيل خنزير، جاء من علاقة (أورليانو) المشبوهة مع خالته وأخت أمه (آمارنتا أورسولا).
***
المجون الشّاطح خارج حدود الخيال، والانفلات التّام مع قواعد السّلوك السليم، والشذوذ الجنسي الرهيب، الذي كان يمارس مع المحارم (العمة والخالة والخادمة والعشيقة)، وتسليط الضوء على ظاهرة عبادة الجسد، وعبثية الممارسات المقززة للذوق والفطرة السليمة، ترافق ذلك مع الخمور يتناولها أصحابها أكثر مما يتناولون الماء في بعض الأحيان.
هناك إشراقات روحيّة وامضة، تمضي فترة من التصاعد السرجي، حتى تعاود السّقوط في هاوية وحمأة الجسد، لتحقيق رغباته لدرجة الانغماس، فلا خروج إلّا منها إلّا للقبر، كما حدث مع الكولونيل (أورليانو خوسيه أوركاديو بوينديا) الذي قاد ثلاثين حربًا خاسرة مع الحكومة المركزية، في صراع المحافظين مع الليبراليين، وكم أهلكت هذه الحروب من البشر ودمّرت، وظلّت تراوده أحلام التمرّد والحرب إلى أخر أيّامه بعد أن بلغ من العمر عتيّا.
وكان هذا الكولونيل صلبًا عنيدًا، فقد رفض عدة مرّات وقاوم محاولات الحكومة لتكريمه، حتى أنه رفض استخدام حقّه الذي كفله له القانون في تقاضي راتب تقاعدي، لأنه كان يعتبر ذلك من نوع الإهانة والتقزيم، ولم تتوقف محاولات الحكومة حتى بعد مماته، حيث قامت بعمل احتفالية لتخليد ذكرى الكولونيل دون معارضة من أحد أحفاده، الذين وافقوا بكل بساطة على ذلك.
***
فكرة الصراع أصيلة في ثنايا أحداث الروايةُ صراع الأجيال بين القديم والجديد، وصراع الأفكار السياسيّة ما بين الحافظين والليبراليين التي جرّت الحروب والويلات على البلاد والعبادُ، فنتائج الحروب تنسحب آثارها إلى عدّة أجيال، وتترك ندوبًا لن تندمل آثارها حتى الموت.
الناس لم يكترثوا بالعمال الذين يمدّون سكّة القطار، فما إن جاء القطار بدخانه المتكون خلفه لمسافات، وصافرته التي كسرت رتابة صمت القرية (ماكندو)، وإيذانًا ببدء عهد جديد، نفض الغبار عن عزلة القرية وسكّانها، جاء النّاس من كل حدَب وصوْب، بمشاريع كبيرة وصغيرة، وشركات تجاريّة فتحت لها فروعًا، وأصبحت محلات اللّهو والحانات وبيوت الدعارة بأشكال مختلفة، ببضائعها المعروضة القادمة من وراء البحار.
وفكرة السيد (براون) مشروع زراعة الموز، فتحت آفاقّا جديدة من الاستثمار الزراعي الجشع القائم على العمّال الوافدين، بعاداتهم وتقاليدهم جلوها معهم إلى القرية، التي صارت مزيجًا غير متجانس، كلّ ذلك أنسى أهل القرية أيّام الأرق الذي استمرّ معهم لفترات طويلة، الأمر الذي أصاب ذاكرتهم بالتلف، وآفة النسيان الظاهرة المقلقة، فصاروا يُسجّلون أسماء الأشياء عليها، ومن ثم تطوّرت الفكرة لتسجيل استخدام كلّ شيء، وحتى لا ينسوا كلّ شيء تمامًا، اهتدوا إلى فكرة المذاكرة اليوميّة من خلال البطاقات التعرفية، ومن هنا نشأت فكرة ورق اللعب (الشدّة، الكوتشينة).
الانفتاح استجلب معه الكثير من قوات الأمن، التي لم تتوانى عن قتل ثلاثة آلاف متظاهر في مجزرة مروّعة، وحمّلهم الجنود في عربات القطار وقذفوهم في البحر، ولم يأت صباح يوم جديد، إلّا و الساحة نظيفة من الدماء والجثث، والآلة الإعلاميّة نفت قتل أحد من المتظاهرين.
وجاء المطر على مدار أكثر من أربع سنوات متواصلة، حتى تتطهر الأرض من الرجس والقذارت الروحيّة والبيئية، وإغلاق شركة الموز لمكاتبها وتسريح العمال، لتعود القرية بعد سنوات لحالتها القديمة في فترة ما قبل القطار، وتغفو من جديد على عزلتها.
الأردن – عمّان
15 \ 7 \ 2018
جاءت الرواية من المدرسة الواقعية السّاحرة بطريقة السّرد، بخليط عجائبيّ يقود القارئ للمضيّ قُدُمًا بلا اعتراض على ما قرأ، حتّى وإن كان لا معقولا، كمثل الفراشات التي ملأت سماء القرية "ماكندو" حول فتاة جميلة "ريميديوس" أينما حلّت وأقامت، ومن ثم اختفت هذه الأفواج الفراشيّة، مع صعود البنت للسماء واختفائها أمام أعين النّاظرين إليها من أهل القرية، ومن مثل أن عائلة "بوينديا" إذا تزوّجوا من بعضهم فإنه سينجبون أطفالًا مُشوّهين، لهم ذيل خنزير.
يبدو أن الرواية كتبت سيرة آل "بوينديا" إحدى القبائل البدوية التي كانت تمارس الرعي والارتحال طلبًا للماء والكلأ، في منطقة حوض الكاريبي، ضمن نطاق قرية "ماكندو" وهي من قرى الخيال، استدعاها كرمز خيال الكاتب.
واستغرق سرد سيرة هذه العائلة، بداية من قيام "خوسيه أركاديو بوينديا" وهو أول شخص في سلسلة العائلة، وهو من قام بتأسيس القرية، وتخطيط شوارعها ومرافقها بوسائله البدائيّة المتاحة له آنذاك.
نشأ مجتمع القرية في هذا التجمّع الحضريّ قرية "ماكندو"، الأمر الذي انتباه الغجر بالتوجه إليه في مواسم سنوية، صارت كرنفالات احتفاليّة، بما يعرض الغجر من حيلهم البهلوانية، وبما يحملون معهم من بضائع يعرضونها في مجتمع بدائي، يجهل الحياة خارج محيط القرية التي تنام وسط سهوب الأشجار والغابات المدارية، وأمطارها الغزيرة تقريبًا معظم أيّام السنة، وهم بذلك يكسبون المال ليستمرّوا على قيد الحياة.
سبعة أجيال هي عمر عائلة "بوينديا"، استمرّت على مدار قرن من الزمن، وما يلفت النظر أنّهم جيلا بعد جيل تسمّوا باسم (أوريليانو – خوسيه – أركاديو) ومع تعاقب الأجيال صار الاسم يتكرر، وللتمييز يرمز له بلقب الثاني مع اسمه، مثلا (أورليانو الثاني) و(خوسه الثاني)، جدة جدة الأمهات هي (أورسولا) زوجة (خوسيه أركايديو بوينديا) التي عاشت لأكثر من مئة عام، حيث عاصرها أولادها مع أبنائهم وأبناء أبنائهم، فهي حملت معها صلابتها وفكرتها المحافظة على روح الخير والطيبة والإحسان، بكارزميّتها الطاغية على قرارات الأسرة كاملة، فلا يستطيع أحد عصيان أمرها، وهي تخطط بحنكة وذكاء، ولم تتوقف عن تجارتها في صناعة قوالب الحلوى وبيعها، فكوّنت ثروة لا يستهان بها، وقامت ببناء بيت العائلة الذي استمرّ لقرن كامل أو أكر قليلًا وانتهى بانتهاء آخر أفراد العائلة الذي وُلد مشوّها بذيل خنزير، جاء من علاقة (أورليانو) المشبوهة مع خالته وأخت أمه (آمارنتا أورسولا).
***
المجون الشّاطح خارج حدود الخيال، والانفلات التّام مع قواعد السّلوك السليم، والشذوذ الجنسي الرهيب، الذي كان يمارس مع المحارم (العمة والخالة والخادمة والعشيقة)، وتسليط الضوء على ظاهرة عبادة الجسد، وعبثية الممارسات المقززة للذوق والفطرة السليمة، ترافق ذلك مع الخمور يتناولها أصحابها أكثر مما يتناولون الماء في بعض الأحيان.
هناك إشراقات روحيّة وامضة، تمضي فترة من التصاعد السرجي، حتى تعاود السّقوط في هاوية وحمأة الجسد، لتحقيق رغباته لدرجة الانغماس، فلا خروج إلّا منها إلّا للقبر، كما حدث مع الكولونيل (أورليانو خوسيه أوركاديو بوينديا) الذي قاد ثلاثين حربًا خاسرة مع الحكومة المركزية، في صراع المحافظين مع الليبراليين، وكم أهلكت هذه الحروب من البشر ودمّرت، وظلّت تراوده أحلام التمرّد والحرب إلى أخر أيّامه بعد أن بلغ من العمر عتيّا.
وكان هذا الكولونيل صلبًا عنيدًا، فقد رفض عدة مرّات وقاوم محاولات الحكومة لتكريمه، حتى أنه رفض استخدام حقّه الذي كفله له القانون في تقاضي راتب تقاعدي، لأنه كان يعتبر ذلك من نوع الإهانة والتقزيم، ولم تتوقف محاولات الحكومة حتى بعد مماته، حيث قامت بعمل احتفالية لتخليد ذكرى الكولونيل دون معارضة من أحد أحفاده، الذين وافقوا بكل بساطة على ذلك.
***
فكرة الصراع أصيلة في ثنايا أحداث الروايةُ صراع الأجيال بين القديم والجديد، وصراع الأفكار السياسيّة ما بين الحافظين والليبراليين التي جرّت الحروب والويلات على البلاد والعبادُ، فنتائج الحروب تنسحب آثارها إلى عدّة أجيال، وتترك ندوبًا لن تندمل آثارها حتى الموت.
الناس لم يكترثوا بالعمال الذين يمدّون سكّة القطار، فما إن جاء القطار بدخانه المتكون خلفه لمسافات، وصافرته التي كسرت رتابة صمت القرية (ماكندو)، وإيذانًا ببدء عهد جديد، نفض الغبار عن عزلة القرية وسكّانها، جاء النّاس من كل حدَب وصوْب، بمشاريع كبيرة وصغيرة، وشركات تجاريّة فتحت لها فروعًا، وأصبحت محلات اللّهو والحانات وبيوت الدعارة بأشكال مختلفة، ببضائعها المعروضة القادمة من وراء البحار.
وفكرة السيد (براون) مشروع زراعة الموز، فتحت آفاقّا جديدة من الاستثمار الزراعي الجشع القائم على العمّال الوافدين، بعاداتهم وتقاليدهم جلوها معهم إلى القرية، التي صارت مزيجًا غير متجانس، كلّ ذلك أنسى أهل القرية أيّام الأرق الذي استمرّ معهم لفترات طويلة، الأمر الذي أصاب ذاكرتهم بالتلف، وآفة النسيان الظاهرة المقلقة، فصاروا يُسجّلون أسماء الأشياء عليها، ومن ثم تطوّرت الفكرة لتسجيل استخدام كلّ شيء، وحتى لا ينسوا كلّ شيء تمامًا، اهتدوا إلى فكرة المذاكرة اليوميّة من خلال البطاقات التعرفية، ومن هنا نشأت فكرة ورق اللعب (الشدّة، الكوتشينة).
الانفتاح استجلب معه الكثير من قوات الأمن، التي لم تتوانى عن قتل ثلاثة آلاف متظاهر في مجزرة مروّعة، وحمّلهم الجنود في عربات القطار وقذفوهم في البحر، ولم يأت صباح يوم جديد، إلّا و الساحة نظيفة من الدماء والجثث، والآلة الإعلاميّة نفت قتل أحد من المتظاهرين.
وجاء المطر على مدار أكثر من أربع سنوات متواصلة، حتى تتطهر الأرض من الرجس والقذارت الروحيّة والبيئية، وإغلاق شركة الموز لمكاتبها وتسريح العمال، لتعود القرية بعد سنوات لحالتها القديمة في فترة ما قبل القطار، وتغفو من جديد على عزلتها.
الأردن – عمّان
15 \ 7 \ 2018