ساعتها، كان البحر هادئا، وكانت الجزيرة الصغيرة الواقعة بين ضفتى البحر والشبيهة بحدوة الحصان تنام. سمع الجميع نفس الصوت فى آن واحد وكان الليل قد بلغ منه الثلث أو الثلثان، لا أحد يذكر بالضبط فقد كانت أمواج البحر ترتطم بالصخور، واصوات الضفادع والصراصير تصل بانتظام تام، لكنهم سمعوا الصوت هذه المرة يطغى على صوت البحر، ويطغى على صوت الضفادع والصراصير فقد سمعه أحمد ابو سماعين حين كان يغازل زوجته العاقر التى ما ولدت له ولدا ولا بنتا حتى الآن. سمعه حين كان يلمس على ساقها اليسرى على الفراش الواحد فى الحجرة الضقية المعمولة بالخوص... فتغير وتضحك وتضمه الى صدرها فيعصره عصرا بكفى يديه الناشفتين، وسمعه أيضا لحظة أن كان يهم بخلع قميصه وسرواله، لكنه توقف لحظة سماعه الصوت . وسمعه رمضان ولد عبد القادر الغيطى حين كان يهم باعتلاء امرأته التى كان يسمع صوتها وصراخها فى الليل من فحولته، وسمعه كثيرون كانوا يمارسون طقس الجزيرة اليومى فى تلك الليلة العجيبة، توقف أحمد أبو سماعين لحظتها عن خلع ملابسه، ونزل رمضان ولد عبد القادر الغيطى عن أمراته التى ما كانت قد صرخت بعد، كذا توقف الجميع لحظتها وأنصتوا لهذا الصوت الآتى من أعماق البحر، من المؤكد أن أحدا منهم لم يسمع هذا الصوت من قبل، ومن المؤكد انهم أصيبوا برعب وفزع شديدين، فقد ظن البعض ان من علامات الساعة سماع أنين البحر، كانوا مكذبين اول الأمر أن للبحر أنينا، ومع الانصات الشديد فى عتمة الليل سمعوا جيدا، وسمعوا دقات قلوبهم وهبوط رغباتهم المشتعلة وارتخاء عضلات أعضائهم الواقفة فى استقامة عجيبة. بكى أحمد أبو سماعين بعد أن تأكد أن عليه أن يموت دون أن يغتسل، وبكى الجميع لنفس السبب، ولم يفكر أحد فى الخروج للتأكد من صحة هذا الصوت ومصدره، كانوا يبكون، وحين تمالكوا جلسوا محملقين فى سقف العشش الخوص منتظرين النهاية الآتية من أعماق البحر والتى لا ريب فى قدومها، ولكن احمد أبو سماعين قال كلمته لامرأته التى جرت عليه وقعدت عند رجليه، قالها فى خوف أول الامر، ولكنه قالها فى تصميم... تعجب هوله فى المرة الثانية، وفى المرة الثالثة قالها ولم تفهم ما يعنيه وقد حملقت فيه وهو يفعل ما لم يفعله من قبل، وأحست أنه رجلها أحمد أبو سماعين الذى لم تعرفه من قبل حين خرج ووقف على باب عشته وضع سيف كفه اليمنى على جبهته محملقا فى الليل، وجد الجميع يقفون على ابواب عششهم، وعندما تحرك كانوا قد تحركوا فالتقوا جميعا، وقالوا أنصتنا وسمعنا صوتا أتيا من اعماق البحر. قال أحمد أبو سماعين سمعت أنينا، وقال رمضان ولد عيد القادر الغيطى سمعت صوتا وبكاء، وقال عبد الكريم بل سمعت معركة رهبية وصوت أسلحة. لم يكن أحد من سكان الجزيرة متأكدا مما سمعه، ولكن الشئ المؤكد للجميع هو سماع صوت آت من أعماق البحر.
قال أحمد أبو سماعين: لابد من الذهاب للبحر. ولما لم يسمعه أحد زعق: نذهب لنتأكد من الصوت. فى أول الأمر نظروا الى بعضهم فى وجوم، ثم نظروا الى أنفسهم فى خوف ولم يتكلموا. قال أحمد أبو سماعين: لقاء الموت أهون من انتظاره يا جدعان. عندما نظرت اليه أمراته وقد عرفت انه رجلها الذى عرفته الآن، وضمته الى صدرها، وكانت بعيدة عنه. وذمت شفتيها تقبله، وكان يتكلم فى الناس: لابد من الذهاب ياناس . يا ناس لابد من عمل الأصول التى ورثناها جدا عن جد
تسلل صوت أحمد أبو سماعين فى سكون المحار الذى يصطاده محروس الصياد، ويصطاده عوض اليتيم الذى ليس له جذر يتفرع منه ، وتوقف احمد ابو سماعين عن الكلام، وشعر بقلبه ينزل الى تجويف البطن المريضة بداء" الكلى" المليانة بكل أنواع الحصا والقواقع وأعشاب البحر. كان عليهم أن يتحركوا، ولم يتحرك احد ، وكان عليهم أن يتكلموا، فلم يتكلموا، وزعقت الجدة خضرة التى اقترب فرعها من الأرض: على النسوان ان يعملن عمل الرجال، لكنها توقفت وسمعت، لما سمعت خافت، الجدة خضرة انكمش فرعها، كذلك سمع الجميع نفس الصوت.... أنينا طويلا وحشرجة المقبل على موت ، رج الصوت الجزيرة رجا حتى انهم انبطحوا على وجوههم يخفونها بسواعدهم، وكان الصوت ياتى من كل اتجاهات الجزيرة،لكنه توقف فجأة، أما ما كان من أحمد أبو سماعين فأنه لم ينبطح، وأنه لم يتوقف، فقد سار متوغلا فى الليل فى اتجاه الشاطئ، وتطلع الجميع اليه فقد سمعوا حركة رجليه على الحصا، لكن أحدا منهم لم يوقفه، وأحدا منهم لم يقل له ويزعق فيه ارجع ياحمد أبو سماعين.
ولو سمع أحدهم يقول له ارجع ياحمد يأبو سماعين لما رجع، ولما نظر خلفه، لكنه سار، وفى نيته أن لقاء الموت أهون من انتظاره، فى قلبه كان الرعب ينبح نباحا عميقا سمعه بأذنيه، كذلك سمع أزيز الخطر، وسمع ساعديه يرتطمان بجانبيه ولم يعد يحس بهما، وكادت رجلاه تتوقف عن المشى فجرها جرا، أما عيناه فكانت تريان جيدا، ولسانه لا يكف عن الشهادتين، وحز فى نفسه أنه لم يغتسل، وأنه نجس، وأن هذا له عقابه الشديد لحظة لقائه بناكر ونكير، لكن الرب يراه، ويعلم أنه كان يركب حلالا طيبا، وأنه ماقصر يوما فى أداء مهامه الزوجية، وقال أحمد أبو سماعين: لماذا يا بحر تغضب علينا نحن رعاياك المخلصين، فأنك أذللتنا منذ أسبوعين ومنعت عنا خيرك، منعت عنا سمكك وقرموطلك وبلطيك، وجعلتنا يا بحر نأكل العيش الناشف مغموسا فى مرق العدس فأرفع سخطك وغضبك عنا. وفى راسه تشكلت صورة القيامة، ناس معلقة من أرجلها، وناس مسلوخة جلودها، نساء معلقات من أثدائهن، ومن هؤلاء يا جبريل؟ هؤلاء العاهرات الفاجرات، وهؤلاء المعلقون من أرجلهم؟ هم الذين ماتوا على نجاسة، ورأى جوعى يأكلون لحومهم، وآخرون عطشى يشربون عرقهم، قال: لا فرق بين الأولى والآخرة. كان قد اقترب من الشط، لكنهم يئسوا من رجوعه وراحوا يبكون، ولطمت امرأته الخدين فسال الدم، ونادت: ياولداه ياحمد يابو سماعين يا عينى عليك يا خويا. لكنه اقترب، وما اهتزت صورة القيامة فى عينيه، وحين اقترب أكثر سمع وشوشة البحر، وسمع أنينا خافتا، وتسمرت رجلاه فقد اصطدمتا بشئ رخو وشم رائحة السمك الميت، وعلى الضوء الباهت الآتى من الفنار رأى جسدا ممدوا بطول الشط، ارتعب، لكنه اقترب منه ووقف فوق رأسه، وكان يرقد على ظهره وبطنه فى مواجهة القمر الهلال، أحس بارتعاشة الجسم الممدود وتقلصاته، الآن العينان فى العينين، نظر أحمد أبو سماعين نظرة طويلة عميقة، كان يبكى، قال أحمد أبو سماعين: وكتاب الله المنزل رأيته يبكى، وقال أحمد أبو سماعين: والمقام الشريف طلب منى شربة ماء.
جرى الى البحر، غرف بيديه، صبها فى حلقه الكبير، لكنه مات، مات على يدى أحمد أبو سماعين. قبل أن يموت قال لى بلسان عربى فصيح: ياحمد يابو سماعين، فتعجبت لنطق اسمى، وقال: عملت فى معروفا وجزاؤك رده، أطلب تجاب، ولم أطلب، فقد مات، وعلى الطلاق بالثلاث بكيت بكائى على طفلى الذى لم يجئنى من صلبى. حين رجع، كان يعلم أنه قابل أكبر سمكة فى حياته، وأنها قد تكون أكبر سمكة فى العالم، وأن عليه ان يذيع الخبر فى الجزيرة فيلتم الخلق ويفعلون الأفاعيل فى السمكة التى استجارت ولم يجرها أحد.
لما أذاع الخبر فى الجزيرة تجمعوا، ولما وصلوا أليها داروا حولها، ياألطاف الله، سمكة بطول الشط، وياولداه مجروحة فى بطنها. باتوا حولها، ولما أصبح الصباح واضاء الكريم بنوره ولاح، عملوا فى تقطيعها، وقالت الجدة خضرة: على النسوان البور أن ياكلن كبد الحوت، وعلى النسوان الشراقى أن يخطين من فوقها أحدى وعشرين خطوة، وان تعذر فسبع تكفى.
واحد فقط لم يذهب يشارك رجال الجزيرة فى القسمة، وواحدة فقط لم تذهب لتأكل كبد الحوت، وتشرب زيت كبد الحوت وتخطو أحدى وعشرين خطوة، أحمد أبو سماعين، وامرأة أحمد ابو سماعين، وكان يغتسل ، ويبكى، وجلس الناس يحكون قصة الحوت العظيم الذى استجار بالشط ولم يجره أحد .
***