لابد أن يكون لنا مسرح إذا أردنا أن نُدخل الأدب المسرحي في الأدب العربي، وسوف يظل الأدب العربي في مؤخرة آداب العالم ما لم يدخله الأدب المسرحي، ذلك الأدب الذي يشغل النصف وأكثر من النصف من آداب الأمم الحية التي تفرض نفسها وثقافتها وفكرها على غيرها من الأمم، وهي إنما تتم لها تلك السيطرة الذهنية بما يبذل أدباؤها المسرحيون من إنتاج عجيب لا يعرف الكسل، ويأبى إلا أن يعطي أكثر مما يأخذ، بل هو في الغالب يعطي كثيراً ولا يأخذ شياً...
وإن لم يكن بد من أن يكون لنا مسرح فليس الشعب وحده هو الذي يضع دعائمه، وليست الحكومة وحدها هي التي تضطلع بكل شيء فيه، وليست جهود الأفراد المتواضعة هي التي تكفل قيام هذا الصرح الذي نريد أن يكون رمز نهضتها كما هو رمز نهضة تلك الأمم التي تكتسح آدابها - عن طريق السينما والمسرح والكتب - حياتنا المصرية خاصة، وحياة الأمم العربية على وجه العموم. . . بل يجب أن تتضافر الجهود جميعاً في إنشاء هذا المسرح، على أن تكون القيادة العليا بيد الدولة مؤقتاً، وعلى أن تكون تلك القيادة العليا قسمةً بين وزارتي المعارف العمومية والشئون الاجتماعية. . . قسمةً في الاختصاص، وليست قسمة في الهدف؛ فتنشئ وزارة المعارف المعاهد الكثيرة للتمثيل لتمد وزارة الشئون بمن تحتاج إليهم من الممثلين والمخرجين ومصوري المناظر ومهندسي الإضاءة وغيرهم ممن تفتقر إليهم مسارحها التي يجب أن تنشئها في طول البلاد وعرضها لتثقيف الشعب وتهذيبه، ولنشر الدعايات الوطنية والأخلاقية التي ينبغي بثها في طبقاته
لقد آن الأوان لإصلاح الغلطة الكبرى التي وقعت فيها إحدى الوزارات الانقلابية الرجعية السابقة. . . تلك الوزارة التي سوغت لها التقاليد التي كانت تحرص عليها في جهل هو أقبح من العمى فألغت معهد التمثيل، وحرمت بذلك نهضتنا من الممثل المثقف الذي هو المادة الأولى للحياة المسرحية
لقد آن لنا أن ننظر إلى المسرح نظرة فيها جد وفيها احترام وفيها تقدير للرسالة التي يقو بها بيننا رجاله الأوفياء المجاهدون
يجب أن تكفل الدولة العيش الهانئ الرغيد لكل المسرحيين من مؤلفين ومخرجين وممثلين ومهندسين حتى تضمن إخلاصهم لفنهم، وحتى لا تسلمهم آخر المطاف للفقر والفاقة، وتسلم أبناءهم للجوع والعوز
التمثيل فن ومهنة ورسالة. . . وهو لم يعد تلك المتعة الرخيصة المبتذلة التي كانت تبحث عن أبطالها بين الطبالين والزمارين والراقصين
التمثيل من أشرف المهن إن لم يكن أشرفها جميعاً، وهو لم يعد يهدف إلى إمتاع الناس فحسب، بل هو يعمل على رفع مستواهم وإصلاح حالهم بطرق لا يستطيع غيره أن يحسنها. . . فالمسرح يستطيع أن يؤدي من الخير للأمة مالا تستطيع المدرسة أن تؤديه. . . ولتكن هذه المدرسة أية المدارس شئت. . . ورب دراسة تشير من بعيد إلى أحد الأمراض السرية، تقي الناس من تعريض أنفسهم لهذا المرض، فتنجو الأمة من شروره، وتوفر على كلية الطب جهوداً تستطيع أن تصرفها إلى ميادين أخرى
ورب درامة تؤدي لأمن هذه البلاد وسلامها مالا تستطيع مائة كاملة من دور البوليس أن تؤديه؛ لأن الدرامة تعالج الجرائم قبل وقوعها، فإما أن تمتنع امتناعاً تاماً فلا يقع منها شيء، وإما أن يقع العدد القليل منها في صور مخففة. أما دور البوليس ومحاكم القضاء فتعالج الجرائم بعد وقوعها، ثم هي تعالجها علاجاً سلبياً قد ينتهي إلى شرور مضاعفة تزيد في متاعب الأمة وتعقد أمورها تعقيداً شديداً
ورب درامة ترفع من مستوى الأمة الصحي بما لا تستطيعه تلك المئات من المكاتب الصحية المنتشرة في البلاد، وذلك بما توحي به من العناية بالنظافة وإنقاذ الطبقات من عاداتها المستهجنة
ورب درامة تبث من روح الجندية والاستبسال الوطني أضعاف ما تستطيعه تلك الأناشيد الببغائية التي يرددها الجنود ترديداً أصم دون أن يفقهوا لها معنى
ومن المؤلم حقاً أن نورد هذه البراهين التي هي بالموضوعات الإنسانية أخلق لكي نقنع أنفسنا بقيمة المسرح. . . ولكن ما الحيلة وقد أشرنا في كلمة قديمة إلى انحطاط المستوى الثقافي بين رجال المسرح المصري، وما ينتهي إليه انحطاط هذا المستوى الثقافي من انحطاط الممثل في أخلاقه وسلوكه وعدم تقديره لملكاته أو انخداعه في تقدير تلك الملكات، وما يؤدي ذلك إليه من زراية الناس به وإزرائهم عليه وهوانه عندهم، وما يصيب المسرح من جراء ذلك من التأخر والانتكاس، بل الموت والفناء، فجادلنا بعض الأصدقاء في حقيقة المسرح، وأنكروا وجوده على الإطلاق،. وذهبوا في عدم اعترافهم به إلى أبعد حدود المغالاة. ونحن ما زلنا عند ما أثنينا به على الكثيرين من القائمين بأمر المسرح المصري، لأننا نعدهم أبطالاً شهداء استطاعوا أن يقفوا في تيار الزراية بهم حتى فتحوا أعيننا على حقيقة المسرح، وما ينبغي له من عناية وإصلاح. . . أو تجديد كامل إن اقتضى الأمر التجديد الكامل، لأن هذا لا يضيرهم في شيء، ما دامت الدولة ستعرف لهم سابقة الفضل وأولوية الجهاد، والبدء بالتضحية التي بخلت بها العائلات المحافظة فضنت بأبنائها وبناتها على المسرح الناشئ جهلاً منها وعدم عرفان بقيمته، وإن خرج بعض الشباب من أبناء أرقى الأسرات المصرية على هذا التقليد، فأقدموا إقدام الأبطال على الاحتراف المسرحي، فأعلوا من قدر المسرح، وارتفع بهم شأن التمثيل
ولقد عرضنا على القراء في كلمات سابقة بعض الخطوات التي خطاها المسرح في عدد من الممالك الأوربية بين الحرب الكبرى والحرب العالمية الحاضرة، وكان عرضنا لها بقصد الانتفاع بها في تجديد المسرح المصري، وأقام دعائمه على ضوء التجارب التي نضح بها المسرح الأوربي حتى نوفر على أنفسنا مشقة الوقوع في أخطاء لا داعي للوقوع فيها ما دام في مستطاعنا أن نهتدي بما تم من ذلك في الممالك الأخرى. وقد اتفقت الآراء على وجوب إنشاء أكثر من معهد واحد للتمثيل لتخريج الممثل المثقف الذي يجيد لغة أجنبية واحدة على الأقل، والذي له نصيبه من الثقافة العامة التي ينبغي ألا تقل عن القدر الذي يتم به الطالب علومه الثانوية، يضاف إلى ذلك ما يلقاه في المعهد من تاريخ المسرح وفن الإلقاء، وما يمارسه فيه من أداء عدد من (الأدوار) في مختلف العصور المسرحية، ومن مختلف أنواع الدرامة، إلى ما يحسن أن يعرفه أو يتقنه من أصول الموسيقى والإنشاد وما إلى ذلك مما لا تكمل ثقافة الممثل إلا به، وما ينبغي له من الرياضة البدنية والتمرن على إطلاق النار والمبارزة مما تتم به مرونة الجسم ويتفادى به ذلك الاستكراش والترهل الذي يعيب جسوم الكثيرين من ممثلينا ولا يعقل أن ننتظر حتى تنشئ وزارة المعارف معاهد التمثيل هذه وحتى يتخرج الممثل المثقف الذي نريده لنهضتنا المسرحية لا يعقل أن ننتظر حتى يتم ذلك وغيره لنشيد مسرحنا الجديد. . . بل ينبغي على وزارة المعارف أن تسارع فتنشئ اتحاداً للممثلين الحاضرين - ولنسمهم القدامى مع تقديم اعتذارنا - على أن تقدم لهذا الاتحاد داراً فخمة تصلح أن تكون نادياً لهم، كما تصلح أن تكون معهداً تلقى عليهم فيه محاضرات منظمة في كل ماله علاقة بفنهم وكل ما من شأنه أن يضمن لهم قدراً من الثقافة التي حرم أكثرهم منها - وفي مصر ولله الحمد عدد لا بأس به من رجال المسرح المثقفين ثقافة عالية يستطيعون أن ينظموا هذه المحاضرات، أو الدروس، وأن يلقوها على فترات متقاربة مقابل مكافئات طيبة، (ويجب أن تكون طيبة!). . . ولا بأس مطلقاً، من سبيل التشجيع للمثلين على الاهتمام بتلك المحاضرات، أن يعقد لهم امتحانات بعد مدة معينة، فمن جازها منهم منح شهادة فنية تحميه في المستقبل من كبرياء الخريجين الجدد في معاهد التمثيل، حتى يقف معهم حين يجد الجد على قدم المساواة، وبذلك لا تقع الدولة فيما وقعت فيه من قبل مع المحامين الذين لم يحصلوا على شهادة الحقوق القديمة والذين حصلوا عليها، ثم مع المدرسين الذين لا يحملون مؤهلات فنية والمدرسين الذين يحملون هذه المؤهلات
ولا محيص أيضاً من تشجيع الإقبال على معاهد التمثيل بربط درجات في ميزانية الدولة لخريجي هذه المعاهد، ولا بد من أن تكون تلك الدرجات مساوية على الأقل لدرجات الشهادات العالية، على أن ينال الممثلون القدامى ممن منحوا الشهادات الفنية الحق في التمتع بتلك الدرجات وعلى أن يمتازوا أيضاً بفرق الأقدمية تكريماً لهم وتعويضاً عن جهادهم الشاق الطويل
ولا يحق لوزارة الشئون أن تعتبر المسارح منشئات تجارية تدر الربح، بل يجب أن تعتبرها مدارس شعبية ينفق عليها وتربط لها الميزانيات الضخمة كما تنفق وزارة المعارف على التعليم الإلزامي والتعليم الأولي، وكما تساهم في نفقات التعليم العام والتعليم العالي بأكثر مما يدفعه الطالب وبأضعافه في بعض كليات الجامعة. . . مما يبلغ الملايين الضخمة سنوياً. . . يجب أن تتناول وزارة الشئون مسألة المسرح على هذا النحو من الوجهة الاقتصادية، ولتذكر أن دولة أثينا القديمة كانت تعتبر المسرح هو المدرسة الشعبية العامة، وكانت تخفض أجرة الدخول إلى الحد الذي لا يرهق أحد حتى أفقر أفراد الشعب، إذ كانت تلك الأجرة لا تتجاوز ثلاثة أوبولات أي ما يساوي قرشين تقريباً، وكان من حق العمال جميعاً أن يأخذوا من خزانة الدولة هذه الأجرة على ضآلتها، وذلك لكي يتسنى لهم شهود درامات آلهة المسرح الإغريقي العتيد من أمثال: سخبلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. وكان بركليس يباهي بذلك قائلاً: (إننا هنا، وبتلك الوسيلة، نستطيع أن نخلق شعبنا على المثال الذي نريد!) ومن رأينا أن نحتذي حذو أثينا ونقتدي بما كانت تصنع، فنخفض أجور المسارح إلى الحد الأدنى، على أن يكون للعمال حق الدخول مجاناً أو بنصف الثمن أما من أين توفر الدولة ما يقتضيه ذلك من الأموال الضخمة فأمامها بلديات المدن المصرية جميعاً. لتفرض على ميزانيات تلك البلديات دفع إعانات خاصة، وعلى حسب مقدرة كل منها، لتشجيع المسرح، ولنتخذ من ألمانيا قبل الحرب الحاضرة مثالاً نحتذيه، فلقد ذكرنا في مقالاتنا السابقة أن بلدية كولونيا كانت تعين مسرحها المحلي بخمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات سنوياً، وأن قرية ثورن كانت تعين مسرحها المحلي المتواضع بألف من الجنيهات سنوياً، وقس على ذلك جميع المدن والقرى الألمانية؛ فإذا ساهمت بلديات المدن المصرية بمبلغ إجباري تدفعه سنوياً لوزارة الشئون لتوفر لديها مبلغ ضخم يربى على الملايين يفعل الأعاجيب في نهضتنا المسرحية، إذ تسدد منه جميع النفقات، كما تضمن للممثلين علاوات كبيرة، وللمجيدين منهم منحاً عالية ويسعها في الوقت نفسه أن تجزي المترجمين الذين ينقلون الدرامات الأجنبية إلى العربية، ثم المؤلفين المصريين والمؤلفين العرب الذين يمدون المسرح بثمار قرائحهم، عاملين جهدهم على خلق الدرامة المصرية أو العربية وسلكها في الأدب العربي الذي لا يعرفها. . . ولتذكر وزارة الشئون بهذه المناسبة - مناسبة المؤلفين - أن حكومة أثينا كانت تعقد المباريات بين المؤلفين اليونانين في العصر القديم - القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد - وأنها كانت تجزي الفائزين بمكافآت سخية تربى الواحدة منها على المائتين من الجنيهات عداً ونقداً
وقد يلاحظ بعضهم أن ما نقترحه هنا يدور كله عن المسرح الحكومي، وإننا لم نشر إلى وجوب وجود المسرح الحر الذي تنطلق في جوه الحرية بأوسع معانيها. . . ونحن بالطبع لم نغفل ذكر هذا المسرح إلا ونحن نعمد هذا الإغفال الآن، حتى يكثر عدد خريجي معاهد التمثيل، وحتى تأخذ القاعدة الاقتصادية الخاص بالعرض والطلب مجراها، فتضيق المسارح الحكومية بالخريجين وتوجد الفرصة بالضرورة لقيام المسرح الحر على مثال الـ في فرنسا والـ في ألمانيا والنمسا والمسرح الحر الإنجليزي بكل أنواعه، ثم تنشأ المنافسة البريئة بين المسرحين على أن تكون منافسة ترعاها الحكومة وتتولاها حتى لا تنتهي إلى ما انتهت إليه في أوربا من قيام المسرح التجاري الذي ينحط بجمهوره ولا يحاول الارتفاع به، لأن أقصى ما يعنيه هو الربح والربح وحده - ويستطيع المسرح الحر حين يقوم أن يعتمد على موارد ثابتة وموارد متقلبة يغطى بها نفقاته ويضمن لأصحابه أرباحاً ضخمة يسيل لها لعاب أصحاب رؤوس الأموال. أما الموارد الثابتة فتتألف من الإعلانات الحكومية ومن اشتراكات أعضاء المسرح المحليين، وذلك على نحو ما كان حاصلاً في ألمانيا قبل الحرب الحاضرة وقبل قيام الحكم النازي على وجه التحقيق. وينبغي ألا تكون الإعلانات الحكومية هبة تمنح في كثير من التردد والمن، بل يجب أن تكون شيئاً مقرراً لا تملك الحكومة رفض صرفه أو قطعه لغير أسباب لها وجاهتها، كما يجب أن تكون هذه الإعلانات ضماناً لحسن سير العمل بالمسارح في أول الأمر، فلا يتحكم المديرون في الممثلين ولا ينصبوا من أنفسهم طغاة عليهم. . . أما نظام الاشتراك المسرحي الذي يجب أن يأخذ به مسرحنا الحر عن المسرح الألماني، فهو نظام عتيد يضمن للمسرح إيراداً ضخماً يتجدد من اشتراكات ضئيلة لا ترهق الأفراد، فلقد ذكرنا أن أحد مسرحي برلين يضم أعضاء من العمال يبلغ عددهم ستين ألفاً يدفعون ستين ألفاً من الجنيهات سنوياً - أي أن العضو يدفع جنيهاً سنوياً على أقساط - مقابل شهود أربعين رواية في كل موسم تمثيلي، ومقابل امتيازات أخرى عالية منها حضور محاضرات ثقافية منظمة والحصول على مجلة شهرية تعنى بأمور كثيرة أهمها المسرح والرياضة. ونحن نستطيع أن نعدل في النظام الاشتراك المسرحي ما نشاء بحيث نبقي على روحه لينفع مسرحنا الحر من الوجهة الاقتصادية. أما الموارد المتقلبة فأهمها (إيراد الشباك) والإعلانات التجارية التي نشهد منها نماذج في دور الصور بالقاهرة اليوم، وهي تدر أرباحاً لا بأس بها تضيف إلى إيراد المسرح.
(يتبع)
دريني خشبه
مجلة الرسالة - العدد 524
بتاريخ: 19 - 07 - 1943
وإن لم يكن بد من أن يكون لنا مسرح فليس الشعب وحده هو الذي يضع دعائمه، وليست الحكومة وحدها هي التي تضطلع بكل شيء فيه، وليست جهود الأفراد المتواضعة هي التي تكفل قيام هذا الصرح الذي نريد أن يكون رمز نهضتها كما هو رمز نهضة تلك الأمم التي تكتسح آدابها - عن طريق السينما والمسرح والكتب - حياتنا المصرية خاصة، وحياة الأمم العربية على وجه العموم. . . بل يجب أن تتضافر الجهود جميعاً في إنشاء هذا المسرح، على أن تكون القيادة العليا بيد الدولة مؤقتاً، وعلى أن تكون تلك القيادة العليا قسمةً بين وزارتي المعارف العمومية والشئون الاجتماعية. . . قسمةً في الاختصاص، وليست قسمة في الهدف؛ فتنشئ وزارة المعارف المعاهد الكثيرة للتمثيل لتمد وزارة الشئون بمن تحتاج إليهم من الممثلين والمخرجين ومصوري المناظر ومهندسي الإضاءة وغيرهم ممن تفتقر إليهم مسارحها التي يجب أن تنشئها في طول البلاد وعرضها لتثقيف الشعب وتهذيبه، ولنشر الدعايات الوطنية والأخلاقية التي ينبغي بثها في طبقاته
لقد آن الأوان لإصلاح الغلطة الكبرى التي وقعت فيها إحدى الوزارات الانقلابية الرجعية السابقة. . . تلك الوزارة التي سوغت لها التقاليد التي كانت تحرص عليها في جهل هو أقبح من العمى فألغت معهد التمثيل، وحرمت بذلك نهضتنا من الممثل المثقف الذي هو المادة الأولى للحياة المسرحية
لقد آن لنا أن ننظر إلى المسرح نظرة فيها جد وفيها احترام وفيها تقدير للرسالة التي يقو بها بيننا رجاله الأوفياء المجاهدون
يجب أن تكفل الدولة العيش الهانئ الرغيد لكل المسرحيين من مؤلفين ومخرجين وممثلين ومهندسين حتى تضمن إخلاصهم لفنهم، وحتى لا تسلمهم آخر المطاف للفقر والفاقة، وتسلم أبناءهم للجوع والعوز
التمثيل فن ومهنة ورسالة. . . وهو لم يعد تلك المتعة الرخيصة المبتذلة التي كانت تبحث عن أبطالها بين الطبالين والزمارين والراقصين
التمثيل من أشرف المهن إن لم يكن أشرفها جميعاً، وهو لم يعد يهدف إلى إمتاع الناس فحسب، بل هو يعمل على رفع مستواهم وإصلاح حالهم بطرق لا يستطيع غيره أن يحسنها. . . فالمسرح يستطيع أن يؤدي من الخير للأمة مالا تستطيع المدرسة أن تؤديه. . . ولتكن هذه المدرسة أية المدارس شئت. . . ورب دراسة تشير من بعيد إلى أحد الأمراض السرية، تقي الناس من تعريض أنفسهم لهذا المرض، فتنجو الأمة من شروره، وتوفر على كلية الطب جهوداً تستطيع أن تصرفها إلى ميادين أخرى
ورب درامة تؤدي لأمن هذه البلاد وسلامها مالا تستطيع مائة كاملة من دور البوليس أن تؤديه؛ لأن الدرامة تعالج الجرائم قبل وقوعها، فإما أن تمتنع امتناعاً تاماً فلا يقع منها شيء، وإما أن يقع العدد القليل منها في صور مخففة. أما دور البوليس ومحاكم القضاء فتعالج الجرائم بعد وقوعها، ثم هي تعالجها علاجاً سلبياً قد ينتهي إلى شرور مضاعفة تزيد في متاعب الأمة وتعقد أمورها تعقيداً شديداً
ورب درامة ترفع من مستوى الأمة الصحي بما لا تستطيعه تلك المئات من المكاتب الصحية المنتشرة في البلاد، وذلك بما توحي به من العناية بالنظافة وإنقاذ الطبقات من عاداتها المستهجنة
ورب درامة تبث من روح الجندية والاستبسال الوطني أضعاف ما تستطيعه تلك الأناشيد الببغائية التي يرددها الجنود ترديداً أصم دون أن يفقهوا لها معنى
ومن المؤلم حقاً أن نورد هذه البراهين التي هي بالموضوعات الإنسانية أخلق لكي نقنع أنفسنا بقيمة المسرح. . . ولكن ما الحيلة وقد أشرنا في كلمة قديمة إلى انحطاط المستوى الثقافي بين رجال المسرح المصري، وما ينتهي إليه انحطاط هذا المستوى الثقافي من انحطاط الممثل في أخلاقه وسلوكه وعدم تقديره لملكاته أو انخداعه في تقدير تلك الملكات، وما يؤدي ذلك إليه من زراية الناس به وإزرائهم عليه وهوانه عندهم، وما يصيب المسرح من جراء ذلك من التأخر والانتكاس، بل الموت والفناء، فجادلنا بعض الأصدقاء في حقيقة المسرح، وأنكروا وجوده على الإطلاق،. وذهبوا في عدم اعترافهم به إلى أبعد حدود المغالاة. ونحن ما زلنا عند ما أثنينا به على الكثيرين من القائمين بأمر المسرح المصري، لأننا نعدهم أبطالاً شهداء استطاعوا أن يقفوا في تيار الزراية بهم حتى فتحوا أعيننا على حقيقة المسرح، وما ينبغي له من عناية وإصلاح. . . أو تجديد كامل إن اقتضى الأمر التجديد الكامل، لأن هذا لا يضيرهم في شيء، ما دامت الدولة ستعرف لهم سابقة الفضل وأولوية الجهاد، والبدء بالتضحية التي بخلت بها العائلات المحافظة فضنت بأبنائها وبناتها على المسرح الناشئ جهلاً منها وعدم عرفان بقيمته، وإن خرج بعض الشباب من أبناء أرقى الأسرات المصرية على هذا التقليد، فأقدموا إقدام الأبطال على الاحتراف المسرحي، فأعلوا من قدر المسرح، وارتفع بهم شأن التمثيل
ولقد عرضنا على القراء في كلمات سابقة بعض الخطوات التي خطاها المسرح في عدد من الممالك الأوربية بين الحرب الكبرى والحرب العالمية الحاضرة، وكان عرضنا لها بقصد الانتفاع بها في تجديد المسرح المصري، وأقام دعائمه على ضوء التجارب التي نضح بها المسرح الأوربي حتى نوفر على أنفسنا مشقة الوقوع في أخطاء لا داعي للوقوع فيها ما دام في مستطاعنا أن نهتدي بما تم من ذلك في الممالك الأخرى. وقد اتفقت الآراء على وجوب إنشاء أكثر من معهد واحد للتمثيل لتخريج الممثل المثقف الذي يجيد لغة أجنبية واحدة على الأقل، والذي له نصيبه من الثقافة العامة التي ينبغي ألا تقل عن القدر الذي يتم به الطالب علومه الثانوية، يضاف إلى ذلك ما يلقاه في المعهد من تاريخ المسرح وفن الإلقاء، وما يمارسه فيه من أداء عدد من (الأدوار) في مختلف العصور المسرحية، ومن مختلف أنواع الدرامة، إلى ما يحسن أن يعرفه أو يتقنه من أصول الموسيقى والإنشاد وما إلى ذلك مما لا تكمل ثقافة الممثل إلا به، وما ينبغي له من الرياضة البدنية والتمرن على إطلاق النار والمبارزة مما تتم به مرونة الجسم ويتفادى به ذلك الاستكراش والترهل الذي يعيب جسوم الكثيرين من ممثلينا ولا يعقل أن ننتظر حتى تنشئ وزارة المعارف معاهد التمثيل هذه وحتى يتخرج الممثل المثقف الذي نريده لنهضتنا المسرحية لا يعقل أن ننتظر حتى يتم ذلك وغيره لنشيد مسرحنا الجديد. . . بل ينبغي على وزارة المعارف أن تسارع فتنشئ اتحاداً للممثلين الحاضرين - ولنسمهم القدامى مع تقديم اعتذارنا - على أن تقدم لهذا الاتحاد داراً فخمة تصلح أن تكون نادياً لهم، كما تصلح أن تكون معهداً تلقى عليهم فيه محاضرات منظمة في كل ماله علاقة بفنهم وكل ما من شأنه أن يضمن لهم قدراً من الثقافة التي حرم أكثرهم منها - وفي مصر ولله الحمد عدد لا بأس به من رجال المسرح المثقفين ثقافة عالية يستطيعون أن ينظموا هذه المحاضرات، أو الدروس، وأن يلقوها على فترات متقاربة مقابل مكافئات طيبة، (ويجب أن تكون طيبة!). . . ولا بأس مطلقاً، من سبيل التشجيع للمثلين على الاهتمام بتلك المحاضرات، أن يعقد لهم امتحانات بعد مدة معينة، فمن جازها منهم منح شهادة فنية تحميه في المستقبل من كبرياء الخريجين الجدد في معاهد التمثيل، حتى يقف معهم حين يجد الجد على قدم المساواة، وبذلك لا تقع الدولة فيما وقعت فيه من قبل مع المحامين الذين لم يحصلوا على شهادة الحقوق القديمة والذين حصلوا عليها، ثم مع المدرسين الذين لا يحملون مؤهلات فنية والمدرسين الذين يحملون هذه المؤهلات
ولا محيص أيضاً من تشجيع الإقبال على معاهد التمثيل بربط درجات في ميزانية الدولة لخريجي هذه المعاهد، ولا بد من أن تكون تلك الدرجات مساوية على الأقل لدرجات الشهادات العالية، على أن ينال الممثلون القدامى ممن منحوا الشهادات الفنية الحق في التمتع بتلك الدرجات وعلى أن يمتازوا أيضاً بفرق الأقدمية تكريماً لهم وتعويضاً عن جهادهم الشاق الطويل
ولا يحق لوزارة الشئون أن تعتبر المسارح منشئات تجارية تدر الربح، بل يجب أن تعتبرها مدارس شعبية ينفق عليها وتربط لها الميزانيات الضخمة كما تنفق وزارة المعارف على التعليم الإلزامي والتعليم الأولي، وكما تساهم في نفقات التعليم العام والتعليم العالي بأكثر مما يدفعه الطالب وبأضعافه في بعض كليات الجامعة. . . مما يبلغ الملايين الضخمة سنوياً. . . يجب أن تتناول وزارة الشئون مسألة المسرح على هذا النحو من الوجهة الاقتصادية، ولتذكر أن دولة أثينا القديمة كانت تعتبر المسرح هو المدرسة الشعبية العامة، وكانت تخفض أجرة الدخول إلى الحد الذي لا يرهق أحد حتى أفقر أفراد الشعب، إذ كانت تلك الأجرة لا تتجاوز ثلاثة أوبولات أي ما يساوي قرشين تقريباً، وكان من حق العمال جميعاً أن يأخذوا من خزانة الدولة هذه الأجرة على ضآلتها، وذلك لكي يتسنى لهم شهود درامات آلهة المسرح الإغريقي العتيد من أمثال: سخبلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. وكان بركليس يباهي بذلك قائلاً: (إننا هنا، وبتلك الوسيلة، نستطيع أن نخلق شعبنا على المثال الذي نريد!) ومن رأينا أن نحتذي حذو أثينا ونقتدي بما كانت تصنع، فنخفض أجور المسارح إلى الحد الأدنى، على أن يكون للعمال حق الدخول مجاناً أو بنصف الثمن أما من أين توفر الدولة ما يقتضيه ذلك من الأموال الضخمة فأمامها بلديات المدن المصرية جميعاً. لتفرض على ميزانيات تلك البلديات دفع إعانات خاصة، وعلى حسب مقدرة كل منها، لتشجيع المسرح، ولنتخذ من ألمانيا قبل الحرب الحاضرة مثالاً نحتذيه، فلقد ذكرنا في مقالاتنا السابقة أن بلدية كولونيا كانت تعين مسرحها المحلي بخمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات سنوياً، وأن قرية ثورن كانت تعين مسرحها المحلي المتواضع بألف من الجنيهات سنوياً، وقس على ذلك جميع المدن والقرى الألمانية؛ فإذا ساهمت بلديات المدن المصرية بمبلغ إجباري تدفعه سنوياً لوزارة الشئون لتوفر لديها مبلغ ضخم يربى على الملايين يفعل الأعاجيب في نهضتنا المسرحية، إذ تسدد منه جميع النفقات، كما تضمن للممثلين علاوات كبيرة، وللمجيدين منهم منحاً عالية ويسعها في الوقت نفسه أن تجزي المترجمين الذين ينقلون الدرامات الأجنبية إلى العربية، ثم المؤلفين المصريين والمؤلفين العرب الذين يمدون المسرح بثمار قرائحهم، عاملين جهدهم على خلق الدرامة المصرية أو العربية وسلكها في الأدب العربي الذي لا يعرفها. . . ولتذكر وزارة الشئون بهذه المناسبة - مناسبة المؤلفين - أن حكومة أثينا كانت تعقد المباريات بين المؤلفين اليونانين في العصر القديم - القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد - وأنها كانت تجزي الفائزين بمكافآت سخية تربى الواحدة منها على المائتين من الجنيهات عداً ونقداً
وقد يلاحظ بعضهم أن ما نقترحه هنا يدور كله عن المسرح الحكومي، وإننا لم نشر إلى وجوب وجود المسرح الحر الذي تنطلق في جوه الحرية بأوسع معانيها. . . ونحن بالطبع لم نغفل ذكر هذا المسرح إلا ونحن نعمد هذا الإغفال الآن، حتى يكثر عدد خريجي معاهد التمثيل، وحتى تأخذ القاعدة الاقتصادية الخاص بالعرض والطلب مجراها، فتضيق المسارح الحكومية بالخريجين وتوجد الفرصة بالضرورة لقيام المسرح الحر على مثال الـ في فرنسا والـ في ألمانيا والنمسا والمسرح الحر الإنجليزي بكل أنواعه، ثم تنشأ المنافسة البريئة بين المسرحين على أن تكون منافسة ترعاها الحكومة وتتولاها حتى لا تنتهي إلى ما انتهت إليه في أوربا من قيام المسرح التجاري الذي ينحط بجمهوره ولا يحاول الارتفاع به، لأن أقصى ما يعنيه هو الربح والربح وحده - ويستطيع المسرح الحر حين يقوم أن يعتمد على موارد ثابتة وموارد متقلبة يغطى بها نفقاته ويضمن لأصحابه أرباحاً ضخمة يسيل لها لعاب أصحاب رؤوس الأموال. أما الموارد الثابتة فتتألف من الإعلانات الحكومية ومن اشتراكات أعضاء المسرح المحليين، وذلك على نحو ما كان حاصلاً في ألمانيا قبل الحرب الحاضرة وقبل قيام الحكم النازي على وجه التحقيق. وينبغي ألا تكون الإعلانات الحكومية هبة تمنح في كثير من التردد والمن، بل يجب أن تكون شيئاً مقرراً لا تملك الحكومة رفض صرفه أو قطعه لغير أسباب لها وجاهتها، كما يجب أن تكون هذه الإعلانات ضماناً لحسن سير العمل بالمسارح في أول الأمر، فلا يتحكم المديرون في الممثلين ولا ينصبوا من أنفسهم طغاة عليهم. . . أما نظام الاشتراك المسرحي الذي يجب أن يأخذ به مسرحنا الحر عن المسرح الألماني، فهو نظام عتيد يضمن للمسرح إيراداً ضخماً يتجدد من اشتراكات ضئيلة لا ترهق الأفراد، فلقد ذكرنا أن أحد مسرحي برلين يضم أعضاء من العمال يبلغ عددهم ستين ألفاً يدفعون ستين ألفاً من الجنيهات سنوياً - أي أن العضو يدفع جنيهاً سنوياً على أقساط - مقابل شهود أربعين رواية في كل موسم تمثيلي، ومقابل امتيازات أخرى عالية منها حضور محاضرات ثقافية منظمة والحصول على مجلة شهرية تعنى بأمور كثيرة أهمها المسرح والرياضة. ونحن نستطيع أن نعدل في النظام الاشتراك المسرحي ما نشاء بحيث نبقي على روحه لينفع مسرحنا الحر من الوجهة الاقتصادية. أما الموارد المتقلبة فأهمها (إيراد الشباك) والإعلانات التجارية التي نشهد منها نماذج في دور الصور بالقاهرة اليوم، وهي تدر أرباحاً لا بأس بها تضيف إلى إيراد المسرح.
(يتبع)
دريني خشبه
مجلة الرسالة - العدد 524
بتاريخ: 19 - 07 - 1943