كانت الحجرة مستطيلة الشكل ، محدودة ، وكان شباكها مفتوحا ، بلاحدود ، وكان بداخلها طفل غارق في البكاء . كان الطفل ممددا على الأرض ، يهمش الهواء بقدميه ، وهو يبكي وكان لبكائه معنى كالكلام.
عندما هبط الليل ، حط على حافة الشباك طائر بشع . كان في حجم الطفل بل أكبر . وكان أزرق الجسد ضارب إلى السواد . نظر إلى الطفل طويلا ثم استدار ، وفرد أجنحته ، ثم رفرف ، طائراً في الفضاء .
كان الليل قد لف الكون في غلالة سوداء داكنة ، وكانت البلدة نائمة في ثبات عميق . لاصدى إلا صوت نباح الكلب . تجتمع ثم تنفض ، تنبح ثم تنبح . عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك ما زال مفتوحا بلا حدود .
حاصر الطائرالطفل بين شعاعي عينيه فازداد الطفل بكاء . نظر الطائر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل قائلا : لماذا تبكي؟
وأوأ الطفل قائلا : خرجت أمي هذا الصباح مع رجل ، ولم تعد .
ـ هل هو أبوك؟
ـ لا .
هز الطائر ذيله، وقال : رجل غريب إذن .
نظر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل : أين أبوك؟
وأوأ الطفل قائلا : لا أعرف .
ـ هل هو في الحقل ؟
ـ لا أعرف .
ـ هل هو في المصنع؟
ـ لا أعرف .
ـ تاجر؟
ـ ربما .
وعاد يهمش الهواء بقدميه ، بينما تحرك الطائر في مكانه ، ثم قال في شبه همس : أين أبوك إذن؟
وعاد يهز ذيله ، وسأل الطفل : أليس لك أب؟
ـ ربما .
ـ أنت بلا أم ، ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل قدميه ويديه ، ثم عاد إلى مكانه على حافة الشباك ، ولم يلبث أن فرد أجنحته ، ثم طار ، وترك الطفل يبكي ألما ، والدم يسيل منه .
مر يومان كأنهما سنوات على الطفل الوحيد . عيناه تتحرك، لكنه لا يبصر . عاجز عن الحركة ، عاجز عن الدفاع عن نفسه . كان ما زال يصيح ويبكي ، وكان الدم قد تجمد على الرسغين وعلى الصدر ، والبطن والفخذين ، وعلى الساقين ، وعلى الأرض بجانبه ذراعان وساقان من الدم . تجمد .
وعندما هبط الليل ، في اليوم الخامس .. حط على حافة الشباك طائر بشع كان رأسه في حجم رأس الطفل ، بل أكبر ، وكان أزرق الجسد ، ضارب إلى السواد ، وما أن لمحه الطفل ، حتى أخذ يصيح باكيا . استدار الطائر ثم فرد أجنحته . رفرف طائرا في الفضاء .
كان الكون غارقا في بئر تضرب فيه الظلمة الحالكة السواد . وكانت البلدة غارقة في سبات عميق لاصدى لصوت إلا نباح الكلاب . تجتمع لتنبح وتنفض وهي تنبح .
عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك مازال مفتوحا وبلا حدود .
ابتدره الطفل قائلا في صوت يقطر دموعا : لقد عادت أمي لكنها هزيلة ضريرة تسير على هدي عكاز ، أسمعتها صوتي ، لكنها خرجت ولم تعد .
تحرك الطائر في مكانه ، وقال كالمخاطب نفسه : أنت بلا أم ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل ساقيه ، وفخذيه وبطنه ، وصدره وذراعيه ، ثم عاد إلى حافة الشباك ، ولم يمكث طويلا . فرد أجنحته ، ثم طار . لف في الفضاء لفتين ، ثم عاد وهجم على الطفل ، فأكل رقبته ، وترك الرأس تشر دما .
* هامش :
** نص كتبه يوسف القط بعد هزيمة 5 يونيو 1967 ، ونشره في الصحف العربية ، وتم نشره في كتاب " 9 قصص" الصادر (سنة 1980) ، وأعيد النشر ثانية في كتاب " القصة القصيرة في دمياط " ، إصدارات الرواد ، العدد 25، يناير 1990 ، والعنوان من اجتهادنا .
** يوسف القط من مواليد بني سويف . عمل وعاش في مدينة دمياط. خاصم الدنيا ، وذهب عقله. وجد ميتا من قسوة البرد في حديقة عامة تطل على نهر النيل. تقريبا سنة 1986. وهذه القصة أبثها هنا تحية لروحه المتفردة. يرحمه الله.
عندما هبط الليل ، حط على حافة الشباك طائر بشع . كان في حجم الطفل بل أكبر . وكان أزرق الجسد ضارب إلى السواد . نظر إلى الطفل طويلا ثم استدار ، وفرد أجنحته ، ثم رفرف ، طائراً في الفضاء .
كان الليل قد لف الكون في غلالة سوداء داكنة ، وكانت البلدة نائمة في ثبات عميق . لاصدى إلا صوت نباح الكلب . تجتمع ثم تنفض ، تنبح ثم تنبح . عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك ما زال مفتوحا بلا حدود .
حاصر الطائرالطفل بين شعاعي عينيه فازداد الطفل بكاء . نظر الطائر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل قائلا : لماذا تبكي؟
وأوأ الطفل قائلا : خرجت أمي هذا الصباح مع رجل ، ولم تعد .
ـ هل هو أبوك؟
ـ لا .
هز الطائر ذيله، وقال : رجل غريب إذن .
نظر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل : أين أبوك؟
وأوأ الطفل قائلا : لا أعرف .
ـ هل هو في الحقل ؟
ـ لا أعرف .
ـ هل هو في المصنع؟
ـ لا أعرف .
ـ تاجر؟
ـ ربما .
وعاد يهمش الهواء بقدميه ، بينما تحرك الطائر في مكانه ، ثم قال في شبه همس : أين أبوك إذن؟
وعاد يهز ذيله ، وسأل الطفل : أليس لك أب؟
ـ ربما .
ـ أنت بلا أم ، ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل قدميه ويديه ، ثم عاد إلى مكانه على حافة الشباك ، ولم يلبث أن فرد أجنحته ، ثم طار ، وترك الطفل يبكي ألما ، والدم يسيل منه .
مر يومان كأنهما سنوات على الطفل الوحيد . عيناه تتحرك، لكنه لا يبصر . عاجز عن الحركة ، عاجز عن الدفاع عن نفسه . كان ما زال يصيح ويبكي ، وكان الدم قد تجمد على الرسغين وعلى الصدر ، والبطن والفخذين ، وعلى الساقين ، وعلى الأرض بجانبه ذراعان وساقان من الدم . تجمد .
وعندما هبط الليل ، في اليوم الخامس .. حط على حافة الشباك طائر بشع كان رأسه في حجم رأس الطفل ، بل أكبر ، وكان أزرق الجسد ، ضارب إلى السواد ، وما أن لمحه الطفل ، حتى أخذ يصيح باكيا . استدار الطائر ثم فرد أجنحته . رفرف طائرا في الفضاء .
كان الكون غارقا في بئر تضرب فيه الظلمة الحالكة السواد . وكانت البلدة غارقة في سبات عميق لاصدى لصوت إلا نباح الكلاب . تجتمع لتنبح وتنفض وهي تنبح .
عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك مازال مفتوحا وبلا حدود .
ابتدره الطفل قائلا في صوت يقطر دموعا : لقد عادت أمي لكنها هزيلة ضريرة تسير على هدي عكاز ، أسمعتها صوتي ، لكنها خرجت ولم تعد .
تحرك الطائر في مكانه ، وقال كالمخاطب نفسه : أنت بلا أم ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل ساقيه ، وفخذيه وبطنه ، وصدره وذراعيه ، ثم عاد إلى حافة الشباك ، ولم يمكث طويلا . فرد أجنحته ، ثم طار . لف في الفضاء لفتين ، ثم عاد وهجم على الطفل ، فأكل رقبته ، وترك الرأس تشر دما .
* هامش :
** نص كتبه يوسف القط بعد هزيمة 5 يونيو 1967 ، ونشره في الصحف العربية ، وتم نشره في كتاب " 9 قصص" الصادر (سنة 1980) ، وأعيد النشر ثانية في كتاب " القصة القصيرة في دمياط " ، إصدارات الرواد ، العدد 25، يناير 1990 ، والعنوان من اجتهادنا .
** يوسف القط من مواليد بني سويف . عمل وعاش في مدينة دمياط. خاصم الدنيا ، وذهب عقله. وجد ميتا من قسوة البرد في حديقة عامة تطل على نهر النيل. تقريبا سنة 1986. وهذه القصة أبثها هنا تحية لروحه المتفردة. يرحمه الله.