يمزج ديوان “دموع الياسمين” الصادر عن مطابع الرباط نت imprimerie rabat net ، الطبعة الاولى 2017، بين الألم والأمل وبين الغربة والحنين للوطن، ويسلط الديوان الذي يعد الأول لكاتبه محمد القاطوف، الضوء على واقع سوريا، راصدا بذلك الوضع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه بلاد الشام في ظل الثورة التي صاحبت الربيع العربي ولم يكن لها إلا أن صارت هشيما تذروه رياح الفتنة والتشتت، يطرح الديوان أسئلة راهنية عن وضع سوريا المتوجسة بين القلق والأمل، القلق من واقع يفرض القتل والتقتيل وأمل يستشرف المستقبل الجميل الرافض للظلم .
يقع ديوان دموع الياسمين في 110 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم 29 قصيدة قسم إلى ثلاثة نفحات شعرية وهي:
• الحرية من ص: 9 إلى ص: 47
• الحنين من ص: 51 إلى ص: 69
• العشق من ص: 73 إلى ص: 108
جاء جلها تجل واضح الملمح لوضع سوريا الراهن واحتفالية تنشد الحرية والكرامة الإنسانية، عبر ثورة الحرف والكلمة المرافقة لثورة الأجساد الندية، وسنعمل من خلال هذه الدراسة استنطاق الخطاب الشعري مع التركيز على سمة النص التواصلية والمنفتحة على محيطها، فالنص لم يعد مغلقا معزولا عن سياقه، بل إنه مجبول على الاتصال بالقوى الخارجية في عالم الكاتب والقارئ معا، إن النص بهذا المعنى مبني على الافتراض المسبق وعلى المقصدية والتعدد الدلالي والتأويلي الذي يساهم في بنائه كل من المنتج والنص والمتلقي في إطار تفاعلي وتواصلي
• النص الموازي في ديوان” دموع الياسمين” :
إن العناوين والتصديرات والإهداءات المصاحبة للنص والموازية له le paratexte ، لها دلالات تحيل إلى الخطاب الشعري الذي ينحو إليه الشاعر، وتبني أفقا توقعيا مبدئيا للقراءة يشير إلى مضمون الخطاب، ويوجه المتلقي إلى كُمون دلالي يقتضي تقفي أثره وفحصه وجعله قابلا للتعدد التأويلي الذي قد يكشف مضمون النص عن تلاؤمه مع أفقه التوقعي أم العكس، فالنصوص المصاحبة لها كثافتها الدلالية لأنها ببساطة ليست نصوصا بريئة، فاستخدام صورة لغلاف الديوان وفق شكل معين واختيار ألوان دون غيرها، لا يأتي اعتباطا من طرف المبدع الذي يجعل النص الموازي خطابا يتطلب قارئا متميزا لكشف خباياه، متجاوزا محدودية الألفاظ والتركيب ومتعديا الأساليب التعبيرية التقليدية ليحتفي بالعين مكونا رئيسيا، لنقل تجربة الشاعر والإفصاح عن المسكوت عنه. إن صورة الغلاف تحرك سُنن القراءة والتأويل التي تسعى لتأسيس بلاغة لا متناهية، بلاغة رمزية تلملم جراح الواقع وتعيد لحم المشتت منه، ف ” ليس الرمزي كنزا مخزونا، إنه سفر فثمة صور تأخذنا للسفر وأخرى لا، لذا فإن الصورة الأولى تسمى أحيانا مقدسة “(1)
فما المقصود بالنص الموازي وكيف تمظهر في ديوان “دموع الياسمين”؟
يرجع الاهتمام بالتصديرات والتقديمات وفضاءات الكتابة إلى العهد القديم حيث نجده عند ابن قتيبة وابن الأثير والصولي ، وقد أُدخل إلى النقد الحديث عن طريق جيرار جينيت، إذ عرّفه محمد بنيس وعبد الفتاح الحجمري بالنص الموازي، كما حدده فريد الزاهي بمحيط النص الخارجي، أو المناص على غرار ترجمة سعيد يقطين، كلها تشير إلى أهمية الملحقات النصية الكفيلة بإضاءة بعض جوانب النص.
وتبدو العتبات حسب عبد الجليل الأزدي ” موضوعا جديرا بالاحتفال مادة خصبة للنقد عموما والنقد الإيديولوجي بكيفية حصرية وذلك لسببين: أولهما، يرتبط بأهميتها المحددة بمواقعها الاستراتيجية وبوظائفها وأدوارها، وثانيهما، يعود إلى علاقتها النوعية بالعالم وبالنص الذي تنكتب على مشارفه وتشكل تخومه”(2)
فماهي تجليات النص الموازي في ديوان “دموع الياسمين” ؟
تعد صورة غلاف الديوان بمتابة العتبة التهييئية لدخول عالم النص، يتساوق فيها الشق اللغوي بالأيقوني، فبينما يشير الجانب اللغوي إلى التعريف بالمؤلف وعنوان المؤلَّف ونوعية الجنس الأدبي الذي يندرج ضمنه النص، وجدنا الصورة امتدادا دلاليا للعنوان، إذ تُظهر الصورة طفلا صغيرا يبكي لتُمزَج دمعة الطفل السوري بدمعة الياسمين ودمعة الشاعر المغترب التي دعمها المكون اللساني في الواجهة الخلفية للغلاف إذ يقول:
في مقلتي دمعة
قتلني … الحنين
وآلامتني … الأشواق
وسكن …أوصالي
..الأنين..
إن ياسمين الشام الذي عُرف بطيب أريجه يبكي ألم الفتنة والضياع فعندما يبكي ياسمين الشام تتعثر الكلمات وترتجف الأقلام لأن وضع سوريا لم يعد أبيض فياح كما كان، ورغم مأساوية الوضع إلا أن اختياره للون البنفسجي المرتبط منذ القدم بالروحانية والقداسة دلالة على أن سوريا مهد الحضارات والديانات لن ترزح تحت وطأة الضياع، وهذا ما أكده استحضار اللون الأبيض المجسد لزهر الياسمين، والأخضر الدال على الخصب المنتظر الذي سقي بدماء الشهداء وبكاء أطفال دمشق، إن تشكل الألوان وتمازجها مع الصورة في غلاف الديوان جسد انتماءا ضمنيا لسياق المتن الشعري الذي أسفر عن منظومة تواصلية داخل الديوان وخارجه.
إضافة إلى الصورة شكل العنوان جزءا من استراتيجية الكتابة وعتبة ضرورية لولوج عالم النص ، لقدرته على استدراج المتلقي وإغوائه للغوص في عوالمه، وتتعدد العناوين إلى رئيسة وفرعية أضاف إليها جيرار جينيت علامة التجنيس، فيما يتعلق بالعنوان الأساسي “دموع الياسمين” هو مركب اسمي إضافي، انتقلت على إثره كلمة دموع من التنكير إلى التعريف بعد إضافتها إلى “الياسمين” لتكتسب سمة المعرفة التي منحتها شكلا وهوية، إن الدموع تحيل إلى لغة الصمت والعجز، كما تحيل إلى لغة البوح الصادق المطلق أو دموع الاشتياق والحنين، كما قد تكون تعبيرا عن فرح أو مكر.
إن محمد القاطوف جعل كلمة دموع ترتبط بموطنه الذي يئن تحت وطأة الفتنة والضياع يقول في قصيدته “دموع الياسمين” :
“عندما يبكي
ياسمين الشام
تتعثر الكلمات
في الحناجر
وترتجف الأقلام
فوق السطور
ويرتعش الفؤاد
ألما ” (3)
كما تحيل إلى الحنين وحرقة البعد عن الوطن، أما كلمة الياسمين فهي إلى جانب إحالتها إلى زهرة الياسمين، فهي تحيل إلى دمشق موطن الياسمين، شكل عنوان الديوان جدع شجرة دلالية تفرعت إلى ثلاثة أغصان فرعية جسدت كل من الحرية والحنين والعشق وكل عتبة رسمت خيوط رحلة موسومة بالألم والأمل.
بعد الإهداء نجد توطئة تمهد لحيثيات ميلاد كلمات الشاعر، والتي تزامنت مع وضع سوريا الذي مازالت تعصف به رياح القتل والتقتيل، كما أشارت التوطئة لبنية الديوان الذي انتظم وفق ثلاثة مجموعات صدرت بومضات افتتاحية تشير إلى مضمون القصائد حيث اتسمت بمشاعر متضاربة بين الحنين للوطن ونشدان الحرية والكرامة، وبين عشقٍ لوطن جُسِّد في امرأة معشوقة مبتغاة، صُدرت المجموعة الأولى الحرية بقول مأثور لعمر المختار:” أنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح” (4).
كما صدرت المجموعة الثانية المعنونة بالحنين بفعل أمر ” قف ” وليسترسل قوله ” هنا وطني والحنين لنطرد خارج الأسوار العدو اللعين” (5). وفي المجموعة الثالثة المعنونة بعشق فقد صدرها بأسطر شعرية له:
“أعشقك يا وطني …
عشق الحرية
إلى السجين
أموت … ويبقى
إليك … الحنين”(6)
ومختلف الومضات الافتتاحية تحمل بداخلها هموم الشاعر في علاقته بوطنه وذاته وما يعانيه من اغتراب وتمزق، كما كشفت العتبات المدروسة سابقا عن مقصدية الشاعر وهواجسه التي وجهتنا كقراء لفهم ما يرمي إليه من أفكار ومشاعر وانشغالات.
• المتخيل النصي في ديوان: “دموع الياسمين”
إن النص الشعري فضاء تخييلي يراود السائد والمتعارف عليه، بلغة فنية وبناءات لغوية تحاول احتواء الواقع وتجاوزه، فالشاعر لا يكون مبدعا إلا إذا ولج عالم المتخيلات العميقة والفضاءات المراوغة التي تخلق تميزه وألقه المعرفي الذي يتبلور في شكل ومضمون االنص الشعري ويحقق متعة التلقي والاكتشاف ويتحقق ذلك باعتماد الانزياح المحقق للفاعلية الشعرية والمحفز للعلامة اللغوية، وقد عمل الشاعر محمد القاطوف على تفعيل الانزياحات لخلق متخيل شعري قادر على مراوغة الواقع كما في قصيدته ندي الدماء إذ يقول:
” ثملت الأرض
وارتوت سواقيها…
شقائق النعمان
تفوح عطرا
نديُّ الدماء
ذاك
الذي أزهر
ربيع عمره
لها واندثر” (7)
إن الانزياح ولد حركة جمالية في النسق الشعري للقصيدة، فندي الدماء هو الشهيد الذي أزهر ربيع عمره فداء لوطنه، كما يتحقق التخييل الشعري أيضا بالتلوين الحسي الذي يشرك المتلقي ويستدعيه لاستشعار ألفاظه، إذ صور الشاعر الضمير العربي غارقا في سباته مستفزا له ومستجديه للنهوض قصد ستر جسد العربي حتى لا يعبث بجسده الطاهر العدو اللعين، يقول مخاطبا الضمير:
” تعال أيها القابع
في سبات
قبل أن يعبث
بجسدي الطاهر
من لايخافك
انهض
كفاك … وهنا
ضعفا… خمولا
انهض … لتسترني” (8)
كما جاءت قصائد الشاعر حوارية تفاعلية ترصد الذات في علاقتها بالآخر(قلت وقالت) كما في “وطن الأشواق” و ” مغربية وشامي” و” لهيب العشق” ، وترصد حوارا داخليا يجسد عبثية الواقع السوري الذي بات صوت رصاصه مألوفا يقول في “خيوط العنكبوت”:
“أسير على حافة النهر
أسمع أزيز الرصاص
لاشيء … إنه صوت رصاص”
إن المتخيل النصي في ديوان دموع الياسمين يستجدي الحلم للهروب من واقع الانكسار الذي تعيشه سوريا، والذي يفصح عن تشظي الذات في عالم التناقضات وحده الحلم الذي يرسم صورة الأمل بعيدا عن الألم يقول في قصيدة “اشتياق”:
” انتظر غفوة الليل
لأحرر سجينا
ذاب عشقا
فيك أنت
ويبحث عنك
حيث أنت
لينتزع مرارة الألم
وكوابيس الوهم
ليعيش …
فيك أنت” (9)
إن ذات الشاعر تلجأ للحلم قصد جبر الانكسار العربي وجراحه، ليتحول عمله الفني إلى كثلة شعورية طافحة بالرؤى و الدلالات الغائرة في عمق معاناة الشاعر وشعبه، و لا يخلو ديوان “دموع الياسمين” من الخطاب السردي ذي النفس القصصي التعبيري، الذي يربط ماضي سوريا التليد بحاضرها الممزق بين شظايا النيران والعدوان، ونجد دلالة السرد حاضرة من خلال اعتماده أفعالا مضارعة تستشرف المستقبل المأمول، بل إن الأفعال الماضية نفسها حملت نفسا استشرافيا مستقبليا.
نخلص مما سبق أن الشاعر محمد القاطوف استعان بمختلف الصيغ التصويرية والتخييلية والجمالية لتقريب الواقع السوري من متلقيه، بأسلوب يقتنص تناقضات الواقع وأوجاعه ويعبر عنها بصيغة جمالية فنية تشرك المتلقي، وتجعله منتجا فاعلا يُسهم في تفكيك رموز النص بدءا من العتبات ووصولا إلى المتن النصي عبر تحريكه لبنيته التخيلية العميقة، لتغدو بذلك القراءة فعلا إنتاجيا ومولدا للتعدد الدلالي والتأويلي.
الهوامش :
(1) – ريجيس دوبري : حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي ، افريقيا الشرق الطبعة الثانية 2013 المغرب ،ص: 47
(2) – عبد الجليل الأزدي: عتبات الموت- قراءة في هوامش وليمة لأعشاب البحر، فضاءات ، المغرب، العددان 2-3 ، 1996، ص: 37
(3) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ، مطابع الرباط نت ، الطبعة الأولى 2017 ص : 75
(4) – نفسه ص :7
(5) – نفسه ص : 49
(6) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ، ص: 71
(7) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ص : 38
(8)- نفسه ص : 24
(9) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ص: 52
يقع ديوان دموع الياسمين في 110 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم 29 قصيدة قسم إلى ثلاثة نفحات شعرية وهي:
• الحرية من ص: 9 إلى ص: 47
• الحنين من ص: 51 إلى ص: 69
• العشق من ص: 73 إلى ص: 108
جاء جلها تجل واضح الملمح لوضع سوريا الراهن واحتفالية تنشد الحرية والكرامة الإنسانية، عبر ثورة الحرف والكلمة المرافقة لثورة الأجساد الندية، وسنعمل من خلال هذه الدراسة استنطاق الخطاب الشعري مع التركيز على سمة النص التواصلية والمنفتحة على محيطها، فالنص لم يعد مغلقا معزولا عن سياقه، بل إنه مجبول على الاتصال بالقوى الخارجية في عالم الكاتب والقارئ معا، إن النص بهذا المعنى مبني على الافتراض المسبق وعلى المقصدية والتعدد الدلالي والتأويلي الذي يساهم في بنائه كل من المنتج والنص والمتلقي في إطار تفاعلي وتواصلي
• النص الموازي في ديوان” دموع الياسمين” :
إن العناوين والتصديرات والإهداءات المصاحبة للنص والموازية له le paratexte ، لها دلالات تحيل إلى الخطاب الشعري الذي ينحو إليه الشاعر، وتبني أفقا توقعيا مبدئيا للقراءة يشير إلى مضمون الخطاب، ويوجه المتلقي إلى كُمون دلالي يقتضي تقفي أثره وفحصه وجعله قابلا للتعدد التأويلي الذي قد يكشف مضمون النص عن تلاؤمه مع أفقه التوقعي أم العكس، فالنصوص المصاحبة لها كثافتها الدلالية لأنها ببساطة ليست نصوصا بريئة، فاستخدام صورة لغلاف الديوان وفق شكل معين واختيار ألوان دون غيرها، لا يأتي اعتباطا من طرف المبدع الذي يجعل النص الموازي خطابا يتطلب قارئا متميزا لكشف خباياه، متجاوزا محدودية الألفاظ والتركيب ومتعديا الأساليب التعبيرية التقليدية ليحتفي بالعين مكونا رئيسيا، لنقل تجربة الشاعر والإفصاح عن المسكوت عنه. إن صورة الغلاف تحرك سُنن القراءة والتأويل التي تسعى لتأسيس بلاغة لا متناهية، بلاغة رمزية تلملم جراح الواقع وتعيد لحم المشتت منه، ف ” ليس الرمزي كنزا مخزونا، إنه سفر فثمة صور تأخذنا للسفر وأخرى لا، لذا فإن الصورة الأولى تسمى أحيانا مقدسة “(1)
فما المقصود بالنص الموازي وكيف تمظهر في ديوان “دموع الياسمين”؟
يرجع الاهتمام بالتصديرات والتقديمات وفضاءات الكتابة إلى العهد القديم حيث نجده عند ابن قتيبة وابن الأثير والصولي ، وقد أُدخل إلى النقد الحديث عن طريق جيرار جينيت، إذ عرّفه محمد بنيس وعبد الفتاح الحجمري بالنص الموازي، كما حدده فريد الزاهي بمحيط النص الخارجي، أو المناص على غرار ترجمة سعيد يقطين، كلها تشير إلى أهمية الملحقات النصية الكفيلة بإضاءة بعض جوانب النص.
وتبدو العتبات حسب عبد الجليل الأزدي ” موضوعا جديرا بالاحتفال مادة خصبة للنقد عموما والنقد الإيديولوجي بكيفية حصرية وذلك لسببين: أولهما، يرتبط بأهميتها المحددة بمواقعها الاستراتيجية وبوظائفها وأدوارها، وثانيهما، يعود إلى علاقتها النوعية بالعالم وبالنص الذي تنكتب على مشارفه وتشكل تخومه”(2)
فماهي تجليات النص الموازي في ديوان “دموع الياسمين” ؟
تعد صورة غلاف الديوان بمتابة العتبة التهييئية لدخول عالم النص، يتساوق فيها الشق اللغوي بالأيقوني، فبينما يشير الجانب اللغوي إلى التعريف بالمؤلف وعنوان المؤلَّف ونوعية الجنس الأدبي الذي يندرج ضمنه النص، وجدنا الصورة امتدادا دلاليا للعنوان، إذ تُظهر الصورة طفلا صغيرا يبكي لتُمزَج دمعة الطفل السوري بدمعة الياسمين ودمعة الشاعر المغترب التي دعمها المكون اللساني في الواجهة الخلفية للغلاف إذ يقول:
في مقلتي دمعة
قتلني … الحنين
وآلامتني … الأشواق
وسكن …أوصالي
..الأنين..
إن ياسمين الشام الذي عُرف بطيب أريجه يبكي ألم الفتنة والضياع فعندما يبكي ياسمين الشام تتعثر الكلمات وترتجف الأقلام لأن وضع سوريا لم يعد أبيض فياح كما كان، ورغم مأساوية الوضع إلا أن اختياره للون البنفسجي المرتبط منذ القدم بالروحانية والقداسة دلالة على أن سوريا مهد الحضارات والديانات لن ترزح تحت وطأة الضياع، وهذا ما أكده استحضار اللون الأبيض المجسد لزهر الياسمين، والأخضر الدال على الخصب المنتظر الذي سقي بدماء الشهداء وبكاء أطفال دمشق، إن تشكل الألوان وتمازجها مع الصورة في غلاف الديوان جسد انتماءا ضمنيا لسياق المتن الشعري الذي أسفر عن منظومة تواصلية داخل الديوان وخارجه.
إضافة إلى الصورة شكل العنوان جزءا من استراتيجية الكتابة وعتبة ضرورية لولوج عالم النص ، لقدرته على استدراج المتلقي وإغوائه للغوص في عوالمه، وتتعدد العناوين إلى رئيسة وفرعية أضاف إليها جيرار جينيت علامة التجنيس، فيما يتعلق بالعنوان الأساسي “دموع الياسمين” هو مركب اسمي إضافي، انتقلت على إثره كلمة دموع من التنكير إلى التعريف بعد إضافتها إلى “الياسمين” لتكتسب سمة المعرفة التي منحتها شكلا وهوية، إن الدموع تحيل إلى لغة الصمت والعجز، كما تحيل إلى لغة البوح الصادق المطلق أو دموع الاشتياق والحنين، كما قد تكون تعبيرا عن فرح أو مكر.
إن محمد القاطوف جعل كلمة دموع ترتبط بموطنه الذي يئن تحت وطأة الفتنة والضياع يقول في قصيدته “دموع الياسمين” :
“عندما يبكي
ياسمين الشام
تتعثر الكلمات
في الحناجر
وترتجف الأقلام
فوق السطور
ويرتعش الفؤاد
ألما ” (3)
كما تحيل إلى الحنين وحرقة البعد عن الوطن، أما كلمة الياسمين فهي إلى جانب إحالتها إلى زهرة الياسمين، فهي تحيل إلى دمشق موطن الياسمين، شكل عنوان الديوان جدع شجرة دلالية تفرعت إلى ثلاثة أغصان فرعية جسدت كل من الحرية والحنين والعشق وكل عتبة رسمت خيوط رحلة موسومة بالألم والأمل.
بعد الإهداء نجد توطئة تمهد لحيثيات ميلاد كلمات الشاعر، والتي تزامنت مع وضع سوريا الذي مازالت تعصف به رياح القتل والتقتيل، كما أشارت التوطئة لبنية الديوان الذي انتظم وفق ثلاثة مجموعات صدرت بومضات افتتاحية تشير إلى مضمون القصائد حيث اتسمت بمشاعر متضاربة بين الحنين للوطن ونشدان الحرية والكرامة، وبين عشقٍ لوطن جُسِّد في امرأة معشوقة مبتغاة، صُدرت المجموعة الأولى الحرية بقول مأثور لعمر المختار:” أنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح” (4).
كما صدرت المجموعة الثانية المعنونة بالحنين بفعل أمر ” قف ” وليسترسل قوله ” هنا وطني والحنين لنطرد خارج الأسوار العدو اللعين” (5). وفي المجموعة الثالثة المعنونة بعشق فقد صدرها بأسطر شعرية له:
“أعشقك يا وطني …
عشق الحرية
إلى السجين
أموت … ويبقى
إليك … الحنين”(6)
ومختلف الومضات الافتتاحية تحمل بداخلها هموم الشاعر في علاقته بوطنه وذاته وما يعانيه من اغتراب وتمزق، كما كشفت العتبات المدروسة سابقا عن مقصدية الشاعر وهواجسه التي وجهتنا كقراء لفهم ما يرمي إليه من أفكار ومشاعر وانشغالات.
• المتخيل النصي في ديوان: “دموع الياسمين”
إن النص الشعري فضاء تخييلي يراود السائد والمتعارف عليه، بلغة فنية وبناءات لغوية تحاول احتواء الواقع وتجاوزه، فالشاعر لا يكون مبدعا إلا إذا ولج عالم المتخيلات العميقة والفضاءات المراوغة التي تخلق تميزه وألقه المعرفي الذي يتبلور في شكل ومضمون االنص الشعري ويحقق متعة التلقي والاكتشاف ويتحقق ذلك باعتماد الانزياح المحقق للفاعلية الشعرية والمحفز للعلامة اللغوية، وقد عمل الشاعر محمد القاطوف على تفعيل الانزياحات لخلق متخيل شعري قادر على مراوغة الواقع كما في قصيدته ندي الدماء إذ يقول:
” ثملت الأرض
وارتوت سواقيها…
شقائق النعمان
تفوح عطرا
نديُّ الدماء
ذاك
الذي أزهر
ربيع عمره
لها واندثر” (7)
إن الانزياح ولد حركة جمالية في النسق الشعري للقصيدة، فندي الدماء هو الشهيد الذي أزهر ربيع عمره فداء لوطنه، كما يتحقق التخييل الشعري أيضا بالتلوين الحسي الذي يشرك المتلقي ويستدعيه لاستشعار ألفاظه، إذ صور الشاعر الضمير العربي غارقا في سباته مستفزا له ومستجديه للنهوض قصد ستر جسد العربي حتى لا يعبث بجسده الطاهر العدو اللعين، يقول مخاطبا الضمير:
” تعال أيها القابع
في سبات
قبل أن يعبث
بجسدي الطاهر
من لايخافك
انهض
كفاك … وهنا
ضعفا… خمولا
انهض … لتسترني” (8)
كما جاءت قصائد الشاعر حوارية تفاعلية ترصد الذات في علاقتها بالآخر(قلت وقالت) كما في “وطن الأشواق” و ” مغربية وشامي” و” لهيب العشق” ، وترصد حوارا داخليا يجسد عبثية الواقع السوري الذي بات صوت رصاصه مألوفا يقول في “خيوط العنكبوت”:
“أسير على حافة النهر
أسمع أزيز الرصاص
لاشيء … إنه صوت رصاص”
إن المتخيل النصي في ديوان دموع الياسمين يستجدي الحلم للهروب من واقع الانكسار الذي تعيشه سوريا، والذي يفصح عن تشظي الذات في عالم التناقضات وحده الحلم الذي يرسم صورة الأمل بعيدا عن الألم يقول في قصيدة “اشتياق”:
” انتظر غفوة الليل
لأحرر سجينا
ذاب عشقا
فيك أنت
ويبحث عنك
حيث أنت
لينتزع مرارة الألم
وكوابيس الوهم
ليعيش …
فيك أنت” (9)
إن ذات الشاعر تلجأ للحلم قصد جبر الانكسار العربي وجراحه، ليتحول عمله الفني إلى كثلة شعورية طافحة بالرؤى و الدلالات الغائرة في عمق معاناة الشاعر وشعبه، و لا يخلو ديوان “دموع الياسمين” من الخطاب السردي ذي النفس القصصي التعبيري، الذي يربط ماضي سوريا التليد بحاضرها الممزق بين شظايا النيران والعدوان، ونجد دلالة السرد حاضرة من خلال اعتماده أفعالا مضارعة تستشرف المستقبل المأمول، بل إن الأفعال الماضية نفسها حملت نفسا استشرافيا مستقبليا.
نخلص مما سبق أن الشاعر محمد القاطوف استعان بمختلف الصيغ التصويرية والتخييلية والجمالية لتقريب الواقع السوري من متلقيه، بأسلوب يقتنص تناقضات الواقع وأوجاعه ويعبر عنها بصيغة جمالية فنية تشرك المتلقي، وتجعله منتجا فاعلا يُسهم في تفكيك رموز النص بدءا من العتبات ووصولا إلى المتن النصي عبر تحريكه لبنيته التخيلية العميقة، لتغدو بذلك القراءة فعلا إنتاجيا ومولدا للتعدد الدلالي والتأويلي.
الهوامش :
(1) – ريجيس دوبري : حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي ، افريقيا الشرق الطبعة الثانية 2013 المغرب ،ص: 47
(2) – عبد الجليل الأزدي: عتبات الموت- قراءة في هوامش وليمة لأعشاب البحر، فضاءات ، المغرب، العددان 2-3 ، 1996، ص: 37
(3) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ، مطابع الرباط نت ، الطبعة الأولى 2017 ص : 75
(4) – نفسه ص :7
(5) – نفسه ص : 49
(6) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ، ص: 71
(7) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ص : 38
(8)- نفسه ص : 24
(9) – محمد القاطوف : دموع الياسمين ص: 52