زهرة القاضي - نص دافئ وحزين.

أنا زَهرة القاضِي، طالبة السَّنة ثانِية عربيّة بالمعهدِ التّحضيرِيّ. نجَحتُ سنتِي الأُولى منْذُ زمنٍ قصيرٍ.
مرَّ شهْرٌ ونِصفُ، الشَّمسُ حزِينةٌ ودَافِئةٌ. هزَزتُ برأْسِي يومَ خفقَ قلبِي لأحَدهِم، نحوَ الدِّفْء: لمْ يعترِضنِي شيْئٌ دافِئٌ إلَّا وكانَ حزِينًا. قلبِي دافِئٌ وحزِينٌ. مُحبٌّ لِقطراتِ المطرِ الصّغِيرةِ النَّاعمةِ المُتدحرِجةِ منْ بتلاتِ الأزْهارِ الفتِيَّةِ. منْذُ زمنٍ طوِيلٍ، سألتُ ورَدةً ثافِيةً بالحدِيقة المُجاوِرةِ للمعْهدِ- هلْ أنا مِثلكِ دافِئةٌ وحزِينةٌ؟- وحِيدةً تنتَصبُ الوَردةُ بِركنٍ قَصِيٍّ منْ حائطٍ عبثتْ الشّمْسُ بطِلائهِ، مُهترِئا كانَ كقلبِي.
جَلجلتُ لقلبِي- أيّها الحائِط أنتَ مثلِي، حزينٌ ودافِئٌ!-
أنا زهْرة. قضّيتُ سنتِي الأولَى متَدرجِحة كقطرةِ مطرٍ صغِيرة بينَ المعهدِ والمبيت والمكتَبة. لمْ أستقرَّ على مكتبةٍ واحدةٍ طِيلةَ السّنة، حيثُ يوجدُ ما أبحثُ عليهِ أستقِرّ. لمْ أكنْ أتذكّر، لمْ أكنْ أتكلّم، كنتُ أبحَثُ. ما كان عليّ فعلهُ دائِما أن أمُدّ مُشرفَ المكتبةِ ببطاقةِ طالب وما كانَ عليهِ فِعلُه دائِما أنْ يأتِي لي بمَا أحتاجُه!
مرّاتٍ كثِيرة رغِبتُ أنْ أحتَضنَ كلّ منْ أحْضرَ لي كِتابا
-مرْجَعا- أحتاجُه لكنّنِي لمْ أفعلْ. حالتْ نافذةُ الزّجاجِ بينِي وبينَ رغبتِي، لكنّنِي كنتُ أوتِي بكلِّ عباراتِ الشّكرِ الرنّانةِ وكنتُ أصنعُ منْها مدْحا شجِيّا، مدحا دافِئا وحزينًا.
بدأتْ المسْألة مع الكتبِ الأكاديميّةِ وهذهِ المسألة لن تنتهِي أبدًا- كلّ المكتباتِ التي صادفتنِي ممتدّةٌ امتدادَ مقهًى قبالة المبيتِ. تُرَصّفُ الكراسِي والطّاولاتُ على نحوٍ أفقِيّ غير أنّ المُهمّات تختلفُ. الجالِسون بالمقْهى اعْتادوا بِي وبكوبِ الشّاي الأخْضر المعتادِ كلّما ارتدتُ المقْهى. الشّاي دافِئٌ وحزينٌ، ينسكبُ بالحنجُرةِ فيجْعلنِي أهمِسُ لبقّال الحيّ- ما أدفأ الجالِسينَ هُنا، هلْ يحزنون؟-لمْ يعترضني شيءٌ دافِئ إلّا وكان حزِينا- ربّما الخللُ منْ عينيّ، الكتبُ المراجعُ عمتنِي.
أتفرّسُ الوجوهَ أحيانا من نافذةِ الغرفةِ. كنتُ أقرأُ الحكايا والقِصصَ. القصصُ بهذا الحيّ، أغلبها ليستْ جمِيلة كما عَهِدناها. الموتُ سلَّةُ الجائعِين هنا. الموتُ أيضا دافئٌ وحزينٌ-ما أدفأ القصصَ والحكايا-.
أنا زهرة، طالبةُ السّنة ثانية عربيّة بالمعهد التّحضيريّ، أذكرُ أنِّي قضّيتُ شهْرا أو أكثرَ فِي تفكيكِ جوانبِ مُعلّقة جاهليّة لزهيّر بن أبي سلمى، رميتُ بكلّ معنى جانِبًا وأعدتُ تركِيبها منْ وحْي قلبي والقلم. لمْ أكن أتذكّر، لمْ أكن أتكلّمْ، كنت أبحثُ. كنتُ أبحثُ عن شيءٍ ما، عن شيءٍ دافئٍ وحزينٍ يجْعلنِي أغوصُ بحكايةٍ من حكايا الموتِ. كلّ الشّعراء الجاهليّين رهِبوا من الموتِ وأحيوْا الأطلال لاستعادةِ الماضي والحياة-هل الماضي دافئٌ وحزينٌ؟- لكلّ تجربته ولكلّ قراءاتهُ وماضيه.
أشعرُ أنّني أبثُّ الدّفء إلى قلوبكم كلّما صرختُ علنًا، أمام الجالسين بالمقاهي والمكتبات، أمام الأصدقاء والصّديقات، أنّني زهرة، فتاة دافئةٌ وحزينةٌ، تخشى العُيونَ والآخرين، تكتبُ النّصوصَ السّاذجة. لم تكتبْ نصّا إلّا وأدرجتْ شيْئا منْ أمّها أو أسرتها بهِ. كنتُ صادقةً حينَ عرّيت قلبي أمامهُ: ليس لِي ما أفعله، سوى أن أحبّك!
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى