أدب السجون أدب السجون : أمين حمزاوى - يوم سقط الباستيل

الأحاسيس تختنق بداخلى وتشتبك ببعضها البعض فى مشهد مرتبك، أجد محيطى الذى تمثل بزنزانة ضيقة وقفص حديدى احتجزت بداخله سخيفا وعاريا من كل أشكال الحياة، سخيف بقدر يكفى لإزهاق أرواح جموع الحشرات التى رافقت جدرانه، وتسللت أٍسفل أعتاب أبوابه، استندت إلى ظهر القفص الحديدى الصدأ الذى احتوانى طوال إقامتى بذاك المكان الموحش الكئيب، وكأننى قد ألقى بى إلى العالم الآخر، وها أنا أتذوق مر العقاب على ما قد ارتكبته من ذنوب أخطئت بها فى حق الإله. هواءٌ مسموم يملأ رئتاى كبتا واشمئزازا، ورغيف من الخبز عفن تنخر الحشرات كل قضمة فيه، وتقضى معدتك الساعة الاولى من أكله فى ألم شديد حتى تنتهى من هضم قذارته. ذلك ما أبقانى على قيد الحياة. تأملت السلاسل الطويلة التى ربطت بها يداى نزولا إلى قدمى، شعرت حينها بأننى مكبل النفس والجسد، وحاصرنى اليأس من كل اتجاه وطاردنى الموت فى كل ركن من أركان الزمن، وكان ينتهى كل أمل لى بالخلاص والهرب حيث تنتهى السلسة بكرتين ثقيلتين تقيدان الحركة، وتمنعانى من الوقوف الذى وان تكالبت وتحاملت عليه فلن أبلغه، وذلك لضيق القفص واقتراب سقفه بشدة من الأرض.

بقدر ما يكون المناخ معتادا صباح كل يوم، فانه اليوم لم يكن كذلك حيث سكن الأجواء من الداخل باتجاه الزنازين التى احتجزت ستة آخرين مثلى صمت مريب، وحل وضع لم يكن مألوفا بالمرة، فلم يأتنى طعامى أو (رغيف الخبز)، ولم يرد لسمعى تهامس الحراس المعتاد وحكايتاهم المعادة، والتى كانت تساعدنى قليلا على الاحتفاظ بشىء من العقل والذى كدت أفقده لندرة الكلام.وبينما أنا على حالتى تلك قابعا بقفص محكم الألم، بجحر زنزانة ساكن بركن من أركان ذلك السجن الضخم الذى ابتلعتنى ظلماته، وعانقت كآبته نور السماء فأطفئته، وانجلى عن داخله كل ما يمت للنبض والحياة بصلة، وفى منتصف الصباح عم المحيط صخب شديد وصوت مدوٍ لإطلاق النيران، ترى هل هى الحرب؟!، هل هاجمتنا بريطانيا ؟، هل قررت غزونا ووصلت إلى باريس بتلك السرعة؟، ربما لم يكن الأمر كذلك، ربما تمرد أو اعترض بعض جنود الحامية من السويسريين على شىء ما فوصل الوضع إلى الإشتباك مع مرافقيهم من الفرنسيين، محتمل أيضا أن يكون أحد من الشرطة فى مطاردة لبعض الخارجين عن القانون، لم يخطر قط ببالى أن تكون انتفاضة للشعب! . “دعك من كل تلك الأفكار والاحتمالات، ودعهم كما يحلو لهم ونم قليلا، فلا تملك سبيلا للهروب إلا النوم”، هكذا حدثتنى نفسى فغرقت أثناء الحديث فى نوم عميق لا عهد لى بمثله منذ وطئت قدماى تلك الأرض.

مر القليل من الوقت، وبينما كنت مستغرقا بتعمق فى النوم، أحلم بالحياة وبالحرية التى افتقدتها، أحلم بالاسترخاء على العشب والتطلع حيث النجوم والقمر معانقا السماء، وحيث الهواء النقي، والنسيم الرقيق الذى يداعب وجنتاى ويمحو عن ذاكرتى سنون الأسى وخيبة الأمل والعذاب، فجأةً ينقطع الحلم، لأستيقظ على صوت رجلان تراءا ليا فى الظلام، حدقت فيهما بشدة وأيضا دهشة، وقد بدا أنهما لم يعيرا نظراتى أى اهتمام، فقط انشغلا بكسر باب القفص، فأخذا يضربان القفل الحديدى بالمطارق حتى تم لهما ذلك، ثم حررانى من القيود باستخدام أحد المفاتيح التى دائما ما رافقت أيدى الحرس، خرجت من القفص ثم الزنزانة، كنت مندهشا ولم يملك جسدى غير اللحاق بالرجلين مهرولا نحو الأمام قاصدا أسوار السجن، ولكن عقلى ظل ساكنا عاجزا عن تفسير ما حدث، هل لا زلت أحلم ؟ أم أن الحلم قد استفاق على الحقيقة التى ترضيه وتمنحه قبلة الحياة، تحسست وجهى لأتيقن من صحة اللحظة التى عايشتها، لأتيقن من أن المشهد بكل ما احتوى من تفاصيل كان أمرا بينا، ولم ألبث كثيرا حتى لامست وجهى أنوار السماء، وتعطرت أنفاسى برائحة البارود التى تبخر بها سحر المنظر، وقد اكتست الأرض بلون الدماء القاتمة الحمراء، واكتست به قدماى أيضا. لا زلت غير مصدق، إنه سجن “الباستيل” تقف على أعتابه جموع غاضبة، تلك الجموع التى حملت فيما بعد عند دار البلدية رأسا مقطوعا لتطوف به شوارع باريس، فتتعرق الجلود وترتعش المفاصل تهليلا وفرحا بالنصر، كانت الغيوم تنكشف عن جوف السماء، والصرخات الممتزجة بلون التعاسة والمرح فى ذات الوقت ترقص فى حناجر هؤلاء الذى نفذت أمالهم من قبل وعادت لتحيا من جديد. حملوا الرأس الذى قد ارتسمت على ملامح وجهه -أو ما كان وجهه- صورة غابرة بعينين جاحظتين، وأنف دام برهن على أن صاحبه قد لفظ أخر أنفاسه مرعوبا، ولسان لاثم بين شفتين زرقاوين من أثر الخوف الذى عايشه بينما الموت يدنو من رأسه، إنها رأس “دى لونى” بين الغمام البشرى وأصوات الأنين المنتشية بفورة الأسى والملل والغضب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى