قال أحمد بن فضلان :
لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل من ذلك.
وكان السفير له نذير الحرمي فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدى إليه والإشراف على الفقهاء والمعلمين وسبب له بالمال المحمول إليه لبناء ما ذكرناه وللجراية على الفقهاء والمعلمين على الضيعة المعروفة بأرثخشمثين من أرض خوارزم من ضياع ابن الفرات.
وكان الرسول إلى المقتدر من صاحب الصقالبة رجل يقال له عبد الله بن باشتو الخزري والرسول من جهة السلطان سوسن الرسي مولى نذير الحرمي وتكين التركي وبارس الصقلابي وأنا معهم على ما ذكرت فسلمت إليه الهدايا له ولامرأته ولأولاده واخوته وقواده وأدوية كان كتب إلى نذير يطلبها.
العجم والأتراك
فرحلنا من مدينة السلام يوم الخميس لأحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وثلاثمئة فأقمنا بالنهروان يوماً واحداً ورحلنا مجدين حتى وافينا الدسكرة فأقمنا بها ثلاثة أيام ثم رحلنا قاصدين لا نلوي على شيء حتى صرنا إلى حلوان فأقمنا بها يومين.
وسرنا منها إلى قرميسين فأقمنا بها يومين ثم رحلنا فسرنا حتى وصلنا إلى همذان فأقمنا بها ثلاثة أيام.
ثم سرنا حتى قدمنا ساوة فأقمنا بها يومين ومنها إلى الري فأقمنا بها أحد عشر يوماً ننتظر أحمد ابن علي أخا صعلوك لأنه كان بخوار الري. ثم رحلنا إلى خوار الري فأقمنا بها ثلاثة أيام ثم رحلنا إلى سمنان ثم منها إلى الدامغان صادفنا بها ابن قارن من قبل الداعي فتنكرنا في القافلة وسرنا مجدين حتى قدمنا نيسابور وقد قتل ليلى بن نعمان فأصبنا بها حمويه كوسا صاحب جيش خراسان.
ثم رحلنا إلى سرخس ثم منها إلى مرو ثم منها إلى قشمهان وهي طرف مفازة آمل فأقمنا بها ثلاثة أيام نريح الجمال لدخول المفازة. ثم قطعنا المفازة إلى آمل ثم عبرنا جيحون وصرنا إلى آفرير رباط طاهر بن علي.
ثم رحلنا إلى بيكند ثم دخلنا بخارى وصرنا إلى الجيهاني وهو كاتب أمير خراسان وهو يدعى بخراسان الشيخ العميد فتقدم بأخذ دار لنا وأقام لنا رجلاً يقضي حوائجنا ويزيح عللنا في كل ما نريد فأقمنا أياماً.
ثم استأذن لنا على نصر بن أحمد فدخلنا إليه وهو غلام أمرد فسلمنا عليه بالإمرة وأمرنا بالجلوس فكان أول ما بدأنا به أن قال: كيف خلفتم مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وسلامته في نفسه وفتيانه وأوليائه فقلنا: بخير قال: زاده الله خيراً.
ثم قرئ الكتاب عليه بتسلم أرثخشمثين من الفضل بن موسى النصراني وكيل ابن الفرات وتسليمها إلى أحمد بن موسى الخوارزمي وإنفاذنا والكتاب إلى صاحبه بخوارزم بترك العرض لنا والكتاب بباب الترك ببذرقتنا وترك العرض لنا.
فقال: وأين أحمد بن موسى فقلنا: خلفناه بمدينة السلام ليخرج خلفنا لخمسة أيام فقال: سمعاً وطاعة لما أمر به مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. قال: واتصل الخبر بالفضل بن موسى النصراني وكيل ابن الفرات فأعمل الحيلة في أمر أحمد بن موسى وكتب إلى عمال المعاون بطريق خراسان من جند سرخس إلى بيكند: أن أذكوا العيون على أحمد بن موسى الخوارزمي في الخانات والمراصد وهو رجل من صفته ونعته فمن ظفر به فليعتقله إلى أن يرد عليه كتابنا بالمسألة فأخذ بمرو وأعتقل.
وأقمنا نحن ببخارا ثمانية وعشرين يوماً وقد كان الفضل بن موسى أيضاً واطأ عبد الله بن باشتو وغيره من أصحابنا يقولون: إن أقمنا هجم الشتاء وفاتنا الدخول وأحمد بن موسى إذا وافانا لحق بنا.
قال: ورأيت الدراهم ببخارا ألواناً شتى منها دراهم يقال لها الغطريفية: وهي نحاس وشبه وصفر يؤخذ منها عدد بلا وزن مئة منها بدرهم فضة وإذا شروطهم في مهور نسائهم: تزوج فلان ابن فلان فلانة بنت فلان على كذا وكذا ألف درهم غطريفية وكذلك أيضاً شراء عقارهم وشراء عبيدهم لا يذكرون غيرها من الدراهم ولهم دراهم أخر صفر وحده أربعون منها بدانق ولهم أيضاً دراهم صفر يقال لها السمرقندية ستة منها بدانق.
فلما سمعت كلام عبد الله بن باشتو وكلام غيره يحذرونني من هجوم الشتاء رحلنا من بخارا راجعين إلى النهر فتكارينا سفينة إلى خوارزم والمسافة إليها من الموضع الذي اكترينا منه السفينة أكثر من مئتي فرسخ فكنا نسير بعض النهار ولا يستوي لنا سيره كله من البرد وشدته إلى أن قدمنا خوارزم فدخلنا على أميرها محمد ابن عراق خوارزم شاه فأكرمنا وقربنا وأنزلنا داراً فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضرنا وناظرنا في الدخول إلى بلد الترك وقال: لا آذن لكم في ذلك ولا يحل إلي ترككم تغررون بدمائكم وأنا أعلم أنها حيلة أوقعها هذا الغلام يعني تكين لأنه كان عندنا حداداً وقد وقف على بيع الحديد ببلد الكفار وهو الذي غر نذيرا وحمله على كلام أمير المؤمنين وإيصال كتاب ملك الصقالبة إليه والأمير الأجل يعني أمير خراسان كان أحق بإقامة الدعوة لأمير المؤمنين في ذلك البلد لو وجد محيصاً ومن بعد فبينكم وبين هذا البلد الذي تذكرون ألف قبيلة من الكفار وهذا تمويه على السلطان وقد نصحتكم.
ولا بد من الكتاب إلى الأمير الأجل حتى يراجع السلطان أيده الله في المكاتبة وتقيمون أنتم إلى وقت يعود الجواب فانصرفنا عنه ذلك اليوم ثم عاودناه ولم نزل نرفق به ونقول: هذا أمر أمير المؤمنين وكتابه فما وجه المراجعة فيه حتى أذن لنا فانحدرنا من خوارزم إلى الجرجانية وبينها وبين خوارزم في الماء خمسون فرسخاً.
ورأيت دراهم خوارزم مزيفة ورصاصاً وزيوفاً وصفراً ويسمون الدرهم طازجة ووزنه أربعة دوانيق ونصف والصيرفي منهم يبيع الكعاب والدوامات والدراهم. وهم أوحش الناس كلاماً وطبعاً كلامهم أشبه شيء بصياح الزرازير وبها قرية على يوم يقال لها أردكو أهلها يقال لهم الكردلية كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دبر كل صلاة. فأقمنا بالجرجانية أياماً وجمد نهر جيحون من أوله إلى آخره وكان سمك الجمد سبعة عشر شبراً وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطرق وهو ثابت لا يتخلخل فأقام على ذلك ثلاثة أشهر.
فرأينا بلداً ما ظننا إلا أن باباً من الزمهرير قد فتح علينا منه ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة وإذا أتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد بره قال له: تعال إلي حتى نتحدث فإن عندي ناراً طيبة هذا إذا بالغ في بره وصلته إلا أن الله تعالى قد لطف بهم في الحطب أرخصه عليهم: حمل عجلة من حطب الطاغ بدرهمين من دراهمهم تكون زهاء ثلاثة آلاف رطل.
ورسم سؤالهم أن لا يقف السائل على الباب بل يدخل إلى دار الواحد منهم فيقعد ساعة عند ناره يصطلي ثم يقول: بكند يعني الخبز فإن أعطوه شيئاً أخذ وإلا خرج.
وتطاول مقامنا بالجرجانية وذلك أنا أقمنا بها أياماً من رجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وكان طول مقامنا من جهة البرد وشدته ولقد بلغني أن رجلين ساقا اثني عشر جملاً ليحملاً عليها حطباً من بعض الغياض فنسيا أن يأخذا معهما قداحة وحراقة وأنهما باتا بغير نار فأصبحا والجمال موتى لشدة البرد. ولقد رأيت لهواء بردها بأن السوق بها والشوارع لتخلو حتى يطوف الإنسان أكثر الشوارع والأسواق فلا يجد أحداً ولا يستقبله إنسان ولقد كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار.
ولقد كنت أنام في بيت جوف بيت وفيه قبة لبود تركية وأنا مدثر بالأكسية والفرى فربما التصق خدي على المخدة ولقد رأيت الجباب بها تكسي البوستينات من جلود الغنم لئلا تتشقق وتنكسر فلا يغني ذلك شيئاً.
ولقد رأيت الأرض تنشق فيها أودية عظام لشدة البرد وأن الشجرة العظيمة العادية لتنفلق بنصفين لذلك فلما انتصف شوال من سنة تسع وثلاثمئة أخذ الزمان في التغير وانحل نهر جيحون وأخذنا نحن فيما نحتاج إليه من آلة السفر واشترينا الجمال التركية واستعملنا السفر من جلود الجمال لعبور الأنهار التي نحتاج أن نعبرها في بلد الترك وتزودنا الخبز والجاورس والنمكسوذ لثلاثة أشهر.
وأمرنا من كنا نأنس به من أهل البلد بالاستظهار في الثياب والاستكثار منها وهولوا علينا الأمر وعظموا القصة فلما شاهدنا ذلك كان أضعاف ما وصف لنا فكان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة وبرنس لا تبدو منه إلا عيناه وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب وتأخر عنا الفقيه والمعلم والغلمان الذين خرجوا معنا من مدينة السلام فزعا من الدخول إلى ذلك البلد وسرت أنا والرسول وسلف له والغلامان تكين وبارس.
فلما كان في اليوم الذي عزمنا فيه على المسير قلت: لهم يا قوم معكم غلام الملك وقد وقف على أمركم كله ومعكم كتب السلطان ولا أشك أن فيها ذكر توجيه أربعة آلاف دينار المسيبية له وتصيرون إلى ملك أعجمي فيطالبكم بذلك فقالوا: لا تخش من هذا فإنه غير مطالب لنا فحذرتهم وقلت: أنا أعلم أنه يطالبكم فلم يقبلوا. واستدف أمر القافلة واكترينا دليلاً يقال له قلواس من أهل الجرجانية ثم توكلنا على الله عز وجل وفوضنا أمرنا إليه ورحلنا من الجرجانية يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمئة فنزلنا رباطاً يقال له زمجان وهو بباب الترك ثم رحلنا من الغد فنزلنا منزلاً يقال له جيت وجاءنا الثلج حتى مشت الجمال إلى ركبها فيه فأقمنا بهذا المنزل يومين.
ثم أوغلنا في بلد الترك لا نلوي على شيء ولا يلقانا أحد في برية قفر بغير جبل فسرنا فيها عشرة أيام ولقد لقينا من الضر والجهد والبرد الشديد وتواصل الثلوج الذي كان برد خوارزم عنده مثل أيام الصيف ونسينا كل ما مر بنا وأشرفنا على تلف الأنفس.
ولقد أصابنا في بعض الأيام برد شديد وكان تكين يسايرني وإلى جانبه رجل من الأتراك يكلمه بالتركية فضحك تكين وقال: إن هذا التركي يقول: لك أي شيء يريد ربنا منا هو ذا يقتلنا بالبرد ولو علمنا ما يريد لرفعناه إليه فقلت له: قل له يريد منكم أن تقولوا لا إله إلا الله فضحك وقال: لو علمنا لفعلنا ثم صرنا بعد ذلك إلى موضع فيه من حطب الطاغ شيء عظيم فنزلناه وأوقدت القافلة واصطلوا ونزعوا ثيابهم وشرورها.
ثم رحلنا فما زلنا نسير في كل ليلة من نصف الليل إلى وقت العصر أو إلى الظهر بأشد سير يكون وأعظمه ثم ننزل فلما سرنا خمس عشرة ليلة وصلنا إلى جبل عظيم كثير الحجارة وفيه عيون تنجرف عبره وبالحفرة تستقر الماء.
فلما قطعناه أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية وإذا هم بادية لهم بيوت شعر يحلون ويرتحلون ترى منهم الأبيات في كل مكان ومثلها في مكان آخر على عمل البادية وتنقلهم وإذا هم في شقاء وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل ولا يعبدون شيئاً بل يسمون كبراءهم أرباباً فإذا استشار أحدهم ريئسه في شيء قال له: يا رب إيش أعمل في كذا وكذا وأمرهم شورى بينهم غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنقض ما قد أجمعوا عليه.
وسمعتهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله تقرباً بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين لا اعتقاداً لذلك وإذا ظلم أحد منهم أو جرى عليه أمر يكرهه رفع رأسه إلى السماء وقال: بير تنكري وهو بالتركية الله الواحد لأن بير بالتركية واحد وتنكري: الله بلغة الترك. ولا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك وليس بينهم وبين الماء عمل خاصة في الشتاء ولا يستتر نساؤهم من رجالهم ولا من غيرهم كذلك لا تستر المرأة شيئاً من بدنها عن أحد من الناس.
ولقد نزلنا يوماً على رجل منهم فجلسنا وامرأة الرجل معنا فبينا هي تحدثنا إذ كشفت فرجها وحكته ونحن ننظر إليها فسترنا وجوهنا وقلنا: أستغفر الله فضحك زوجها وقال للترجمان: قل لهم تكشفه بحضرتكم فترونه وتصونه فلا يوصل إليه هو خير من أن تغطيه وتمكن منه وليس يعرفون الزنا ومن ظهروا منه على شيء من فعله شقوه بنصفين وذلك أنهم يجمعون بين أغصان شجرتين ثم يشدونه بالأغصان ويرسلون الشجرتين فينشق الذي شد إليهما.
وقال بعضهم وسمعني أقرا قرآناً فاستحسن القرآن وأقبل يقول للترجمان قل له: لا تسكت وقال لي هذا الرجل يوماً على لسان الترجمان: قل لهذا العربي: ألربنا عز وجل امرأة فاستعظمت ذلك وسبحت الله واستغفرته فسبح واستغفر كما فعلت وكذلك رسم التركي كلما سمع المسلم يسبح ويهلل قال مثله. ورسوم تزويجهم وهو أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه: إما ابنته أو أخته أو بعض من يملك أمره على كذا وكذا ثوب خوارزمي فإذا وافقه حملها إليه وربما كان المهر جمالاً أو دواب أو غير ذلك وليس يصل الواحد إلى امرأته حتى يوفي الصداق الذي قد وافق وليها عليه فإذا وفاه إياه جاء غير محتشم حتى يدخل إلى المنزل الذي هي فيه فيأخذها بحضرة أبيها وأمها وإخوتها فلا يمنعونه من ذلك.
وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد تزوج الأكبر من ولده بامرأته إذا لم تكن أمه ولا يقدر أحد من التجار ولا غيرهم أن يغتسل من جنابة بحضرتهم إلا ليلا من حيث لا يرونه وذلك أنهم يغضبون ويقولون: هذا يريد أن يسحرنا لأنه قد تفرس في الماء ويغرمونه مالا.
ولا يقدر أحد من المسلمين أن يجتاز ببلدهم حتى يجعل له منهم صديقاً ينزل عليه ويحمل له من بلد الإسلام ثوباً ولامرأته مقنعة وشيئاً من فلفل وجاورس وزبيب وجوز فإذا قدم على صديقه ضرب له قبة وحمل إليه من الغنم على قدره حتى يتولى المسلم ذبحها لأن الترك لا يذبحون وإنما يضرب الواحد منهم رأس الشاة حتى تموت.
وإذا أراد الرجل منهم الرحيل وقد قام عليه شيء من جماله ودوابه أو احتاج إلى مال ترك ما قد قام عند صديقه التركي وأخذ من جماله ودوابه وماله حاجته ورحل فإذا عاد من الوجه الذي يقصده قضاه ماله ورد إليه جماله ودوابه.
وكذلك لو اجتاز بالتركي إنسان لا يعرفه ثم قال: أنا ضيفك وأنا أريد من جمالك ودوابك ودراهمك دفع إليه ما يريد فإن مات التاجر في وجهه ذلك وعادت القافلة لقيهم التركي وقال أين ضيفي فإن قالوا: مات حط القافلة ثم جاء إلى أنبل تاجر يراه فيهم فحل متاعه وهو ينظر فأخذ من دراهمه مثل ماله عند ذلك التاجر بغير زيادة حبة وكذلك يأخذ من دوابه وجماله وقال: ذلك ابن عمك وأنت أحق من غرم عنه وإن فر فعل أيضاً ذلك الفعل وقال له ذلك مسلم مثلك خذ أنت منه وإن لم يوافق المسلم ضيفه في الجادة سأل عن بلاده: أين هو فإذا أرشد إليه سار في طلبه مسيرة أيام حتى يصير إليه ويرفع ماله عنده وكذلك ما يهديه له.
وهذه أيضاً سبيل التركي إذا دخل الجرجانية سأل عن ضيفه فنزل عليه حتى يرتحل ومتى مات التركي عند صديقه المسلم واجتازت القافلة وفيها صديقه قتلوه وقالوا: أنت قتلته بحبسك إياه ولو لم تحبسه لما مات وكذلك إن سقاه نبيذا فتردى من حائط قتلوه به فإن لم يكن في القافلة عمدوا إلى أجل من فيها فقتلوه.
وأمر اللواط عندهم عظيم جداً ولقد نزل على حي كوذركين وهو خليفة ملك الترك رجل من أهل خوارزم فأقام عند ضيف له مدة في ابتياع غنم وكان للتركي ابن أمرد فلم يزل الخوارزمي يداريه ويراوده عن نفسه حتى طاوعه على ما أراد وجاء التركي فوجدهما في بنيانهما فرفع التركي ذلك إلى كوذركي فقال له: اجمع الترك فجمعهم فلما اجتمعوا قال للتركي: بالحق تحب أن أحكم أم بالباطل قال: بالحق قال: أحضر ابنك فأحضره فقال: يجب عليه وعلى التاجر أن يقتلا جميعاً فامتعض التركي من ذلك وقال: لا أسلم ابني فقال: فيفتدي التاجر نفسه ففعل ودفع للتركي غنماً للفعل بابنه ودفع إلى كوذركين أربعمئة شاة لما رفع عنه وارتحل عن بلد الترك فأول من لقينا من ملوكهم ورؤسائهم ينال الصغير وقد كان أسلم فقيل له: إن أسلمت لم ترؤسنا فرجع عن إسلامه فلما وصلنا إلى الموضع الذي هو فيه قال: لا أترككم تجوزون لأن هذا شيء ما سمعنا به قط ولا ظننا أنه يكون فرفقنا به إلى أن رضي بخفتان جرجاني يساوي عشرة دراهم وشقة باي باف وأقراص خبز وكف زبيب ومئة جوزة فلما دفعنا هذا إليه سجد لنا وهذا رسمهم إذا أكرم الرجل الرجل سجد له وقال: لولا أن بيوتي نائية عن الطريق لحملت إليكم غنما وبرا وانصرف عنا وارتحلنا.
فلما كان من غد لقينا رجل واحد من الأتراك دميم الخلقة رث الثياب قميء المنظر خسيس المخبر وقد أخذنا مطر شديد فقال: قفوا فوقفت القافلة بأسرها وهي نحو ثلاثة آلاف دابة وخمسة آلاف رجل ثم قال: ليس يجوز منكم أحد فوقفنا طاعة لأمره فقلنا له: نحن أصدقاء كوذركين فأقبل يضحك ويقول: من كوذركين أنا أخرى على لحية كوذركين ثم قال: بكند يعني الخبز بلغة خوارزم فدفعت إليه أقراصاً فأخذها وقال مروا قد رحمتكم. قال: وإذا مرض الرجل منهم وكان له جوارٍ وعبيد خدموه ولم يقربه أحد من أهل بيته ويضربون له خيمة ناحية من البيوت فلا يزال فيها إلى أن يموت أو يبرأ وإن كان عبداً أو فقيراً رموا به في الصحراء وارتحلوا عنه.
وإذا مات الرجل منهم حفروا له حفيرة كبيرة كهيئة البيت وعمدوا إليه فألبسوه قرطقة ومنطقته وقوسه وجعلوا في يده قدحاً من خشب فيه نبيذ وتركوا بين يديه إناء من خشب فيه نبيذ وجاءوا بكل ماله فجعلوه معه في ذلك البيت ثم أجلسوه فيه فسقفوا البيت عليه وجعلوا فوقه مثل القبة من الطين وعمدوا إلى دوابه على قدر كثرتها فقتلوا منها مئة رأس إلى مئتي رأس إلى رأس واحد وأكلوا لحومها إلا الرأس والقوائم والجلد والذنب فإنهم يصلبون ذلك على الخشب وقالوا: هذه دوابه يركبها إلى الجنة فإن كان قتل إنساناً وكان شجاعاً نحتوا صوراً من خشب على عدد من قتل وجعلوها على قبره وقالوا: هؤلاء غلمانه يخدمونه في الجنة.
وربما تغافلوا على قتل الدواب يوماً أو يومين فيحثهم شيخ من كبارهم فيقول: رأيت فلاناً يعني الميت في النوم فقال لي: هو ذا تراني وقد سبقني أصحابي وشققت رجلاي من أتباعي لهم ولست ألحقهم وقد بقيت وحدي فعندها يعمدون إلى دوابه فيقتلوها ويصلبونها عند قبره فإذا كان بعد يوم أو يومين جاءهم ذلك الشيخ وقال: قد رأيت فلاناً وقال: عرف أهلي وأصحابي أني قد لحقت من تقدمني واسترحت من التعب.
قال: والترك كلهم ينتفون لحاهم إلا أسبلتهم وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه وعليه البوستين فإذا رآه إنسان من بعد لم يشك أنه تيس.
وملك الترك الغزية يقال له يبغو وهو اسم الأمير وكل من ملك هذه القبيلة فبهذا الاسم يسمى ويقال لخليفته كوذركين وكذا كل من يخلف رئيساً منهم يقال له: كوذركين ثم نزلنا بعد ارتحالنا من ناحية هؤلاء بصاحب جيشهم ويقال له: أترك بن القطغان فضرب لنا قباباً تركية وأنزلنا فيها وإذا له ضبنة وحاشية وبيوت كبيرة وساق إلينا غنماً وقاد دواب لنذبح الغنم ونركب الدواب ودعا هو جماعة من أهل بيته وبني عمه فقتل لهم غنماً كثيرة وكنا قد أهدينا إليه هدية من ثياب وزبيب وجوز وفلفل وجاورس فرأيت امرأته وقد كانت امرأة أبيه وقد أخذت لحماً ولبناً وشيئاً مما أتحفناه به وخرجت من البيوت إلى الصحراء فحفرت حفيرة ودفنت الذي كان معها فيها وتكلمت بكلام فقلت للترجمان: ما تقول قال: تقول هذه هدية للقطغان أبي الترك أهداها له العرب فلما كان في الليل دخلت أنا والترجمان إليه وهو في قبته جالس ومعنا كتاب نذير الحرمي إليه يأمره فيه بالإسلام ويحضه عليه ووجه إليه خمسين ديناراً فيها عدة دنانير مسيبية وثلاثة مثاقيل مسك وجلود أديم وثياب مروية وقطعنا له منها قرطقين وخف أديم وثوب ديباج وخمسة أثواب حرير فدفعنا إليه هديته ودفعنا إلى امرأته مقنعة وخاتما.
وقرأت عليه الكتاب فقال للترجمان: لست أقول لكم شيئاً حتى ترجعوا وأكتب إلى السلطان بما أنا عازم عليه ونزع الديباجة التي كانت عليه ليلبس الخلع التي ذكرنا فرأيت القرطق الذي تحتها وقد تقطع وسخاً لأن رسومهم أن لا ينزع الواحد منهم الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعاً وإذا هو قد نتف لحيته كلها وسباله فبقي كالخادم ورأيت الترك يذكرون أنه أفرسهم.
ولقد رأيت يوماً وهو يسايرنا على فرسه إذ مرت وزة طائرة فأوتر قوسه وحرك دابته تحتها ثم رماها فإذا هو قد أنزلها.
فلما كان في بعض الأيام وجه خلف القواد الذين يلونه وهم: طرخان وينال وابن أخيهما وإيلغز وكان طرخان أنبلهم وأجلهم وكان أعرج أعمى أشل فقال لهم: إن هؤلاء رسل ملك العرب إلى صهري ألمش بن شلكي ولم يخير لي أن أطلقهم إلا عن مشورتكم فقال طرخان: هذا شيء ما رأيناه قط ولا سمعنا به ولا اجتاز بنا رسول سلطان مذ كنا نحن وآباؤنا وما أظن إلا أن السلطان قد أعمل الحيلة ووجه هؤلاء إلى الخزر ليستجيش بهم علينا والوجه أن يقطع هؤلاء الرسل نصفين نصفين ونأخذ ما معهم.
وقال آخر منهم: لا بل نأخذ ما معهم ونتركهم عراة يرجعون من حيث جاءوا وقال آخر: لا ولكن لنا عند ملك الخزر أسراء فنبعث بهؤلاء نفادي بهم أولئك فما زالوا يتراجعون بينهم هذه الأشياء سبعة أيام ونحن في حالة الموت حتى أجمع رأيهم على أن يخلوا سبيلنا ونمضي فخلعنا على طرخان خفتاناً مروياً وشقتين باي باف وعلى أصحابه كل واحد قرطقاً وكذلك على ينال ودفعنا إليهم فلفلاً وجاورس وأقراصاً من خبز وانصرفوا عنا.
ورحلنا حتى صرنا إلى نهر يغندي فأخرج الناس سفرهم وهي من جلود الجمال فبسطوها وأخذوا بالأثاث من الجمال التركية لأنها مدورة فجعلوها في جوفها حتى تمتد ثم حشوها بالثياب والمتاع فإذا امتلأت جلس في كل سفرة جماعة من خمسة وستة وأربعة وأقل وأكثر ويأخذون بأيديهم خشب الخدنك فيجعلونه كالمجاديف ولا يزالون يجدفون والماء يحملها وهي تدور حتى نعبر فأما الدواب والجمال فإنه يصاح بها فتعبر سباحة ولا بد أن تعبر جماعة من المقاتلة ومعهم السلاح قبل أن يعبر شيء من القافلة ليكونوا طليعة للناس خيفة من الباشغرد أن يكبسوا الناس وهم يعبرون.
فعبرنا يغندي على هذه الصفة التي ذكرنا ثم عبرنا بعد ذلك نهراً يقال له جام في السفر أيضاً ثم عبرنا جاخش ثم أذل ثم أردن ثم وارش ثم أختي ثم وتبا وهذه كلها أنهار كبار.
ثم صرنا بعد ذلك إلى البنجاك وإذا هم نزول على ماء شبيه بالبحر غير جار وإذا هم سمر شديدو السمرة وإذا هم محلقوا اللحى فقراء خلاف الغزية لأني رأيت من الغزية من يملك عشرة آلاف دابة ومئة ألف رأس من الغنم وأكثر ما ترعى من الغنم ما بين الثلج تبحث بأظلافها تطلب الحشيش فإذا لم تجده قضمت الثلج فسمنت غاية السمن فإذا كان الصيف وأكلت الحشيش هزلت فنزلنا على البجناك يوما واحداً ثم ارتحلنا فنزلنا على نهر جيخ وهو أكبر نهر رأيناه وأعظمه وأشده جرية ولقد رأيت سفرةً انقلبت فيه فغرق من كان فيها وذهبت رجال كثير من الناس وغرقت عدة جمال ودواب ولم نعبره إلا بجهد. ثم سرنا أياماً وعبرنا نهر جاخا ثم بعده نهر أرخز ثم باجاغ ثم سمور ثم كنال ثم نهر سوخ ثم نهر كنجلو.
ووقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد فحذرناهم أشد الحذر وذلك أنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداماً على القتل يلقى الرجل الرجل فيفرز هامته ويأخذها ويتركه وهم يحلقون لحاهم ويأكلون القمل يتتبع الواحد منهم درز قرطقة فيقرض القمل بأسنانه ولقد كان معنا منهم واحد قد أسلم وكان يخدمنا فرأيته وجد قملة في ثوبه فقصعها بظفره ثم لحسها وقال لما رآني: جيد.
وكل واحد منهم ينحت خشبة على قدر الإحليل ويعلقها عليه فإذا أراد سفراً أو لقاء عدو قبلها وسجد لها وقال: يا رب افعل بي كذا وكذا فقلت للترجمان: سل بعضهم ما حجتهم في هذا ولم جعله ربه قال: لأني خرجت من مثله فلست أعرف لنفسي خالقاً غيره.
ومنهم من يزعم أن له أثني عشر ربا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب وللريح رب وللشجر رب وللناس رب وللدواب رب وللماء رب ولليل رب وللنهار رب وللموت رب وللأرض رب والرب الذي في السماء أكبرهم إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضى كل واحد منهم بما يعمل شريكه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات وطائفة تعبد السمك وطائفة تعبد الكراكي فعرفوني أنهم كانوا يحاربون قوماً من أعدائهم فهزموهم وأن الكراكي صاحت وراءهم ففزعوا وانهزموا بعدها هزموا فعبدوا الكراكي لذلك وقالوا: هذه ربنا وهذه فعالاته هزم أعدائنا فهم يعبدونها لذلك.
قال: وسرنا من بلد هؤلاء فعبرنا نهر جرمشان ثم نهر أورن ثم نهر أورم ثم نهر بياناخ ثم نهر وتيغ ثم نهر نياسنه ثم نهر جاوشيز وبين النهر والنهر مما ذكرنا اليومان والثلاثة والأربعة وأقل من ذلك وأكثر.
الصقالبة
فلما كنا من ملك الصقالبة وهو الذي قصدنا له على مسيرة يوم وليلة وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده وإخوته وأولاده فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجاوزس وساروا معنا فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو بنفسه فلما رآنا نزل فخر ساجداً شكراً لله جل وعز وكان في كمه دراهم فنثرها علينا ونصب لنا قباباً فنزلناها.
وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة عشر وثلاثمئة فكانت المسافة من الجرجانية إلى بلده سبعين يوماً فأقمنا يوم الأحد ويوم الأثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء في القباب التي ضربت لنا حتى جمع الملوك والقواد وأهل بلده ليسمعوا قراءة الكتاب فلما كان يوم الخميس واجتمعوا نشرنا المطردين اللذين كانا معنا وأسرجنا الدابة بالسرج الموجه إليه وألبسناه السواد وعممناه وأخرجت كتاب الخليفة وقلت له: لا يجوز أ نجلس والكتاب يقرأ فقام على قدميه هو ومن حضر من وجوه أهل مملكته وهو رجل بدين بطين جداً وبدأت فقرأت صدر الكتاب فلما بلغت منه سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو قلت: رد على أمير المؤمنين السلام فرد وردوا جميعاً بأسرهم ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفاً حرفاً فلما استتممنا قراءته كبروا تكبيرة ارتجت لها الأرض.
ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس وهو قائم ثم أمرته بالجلوس فجلس عند قراءة كتاب نذير الحرمي فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له ولامرأته فلم أزل أعرض عليه وعليها شيئاً شيئاً حتى فرغنا من ذلك ثم خلعت على امرأته بحضرة الناس وكانت جالسة إلى جنبه وهذه سنتهم وزيهم فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم وانصرفنا.
فلما كان بعد ساعة وجه إلينا فدخلنا إليه وهو في قبته والملوك عن يمينه وأمرنا أن نجلس عن يساره وإذا أولاده جلوس بين يديه وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي فدعا بالمائدة فقدمت وعليه اللحم المشوي وحده فابتدأ هو فأخذ سكيناً وقطع لقمة وأكلها وثانية وثالثة ثم احتز قطعة دفعها إلى سوسن الرسول فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يديه وكذلك الرسم لا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة فساعة يتناولها قد جاءته مائدة ثم ناولني فجاءتني مائدة ثم قطع قطعة وناولها الملك الذي عن يمينه فجاءته مائدة ثم ناول الملك الثاني فجاءته مائدة ثم ناول الملك الرابع فجاءته مائدة ثم ناول أولاده فجاءتهم الموائد وأكلنا كل واحد من مائدته لا يشركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئا فإذا فرغ من الطعام حمل كل واحد منهم ما بقي على مائدته إلى منزله فلما أكلنا دعا بشراب العسل وهم يسمونه السجو ليومه وليلته فشرب قدحاً ثم قام قائماً فقال: هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وقام الملوك الأربعة وأولاده لقيامه وقمنا نحن أيضاً حتى إذا فعل ذلك ثلاث مرات ثم انصرفنا من عنده.
وقد كان يخطب له على منبره قبل قدومي: اللهم وأصلح الملك يلطوار ملك بلغار فقلت أنا له: إن الله هو الملك ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره جل وعز وهذا مولاك أمير المؤمنين قد رضي لنفسه أن يقال على منابره في الشرق والغرب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين وكذا من كان قبله من آبائه الخلفاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "فقال لي: فكيف يجوز أن يخطب لي قلت: باسمك واسم أبيك قال: إن أبي كان كافراً ولا أحب أن أذكر اسمه على المنبر وأنا أيضا فما أحب أن يذكر اسمي إذ كان الذي سماني به كافراً ولكن ما اسم مولاي أمير المؤمنين فقلت: جعفر قال: فيجوز أن أتسمى باسمه قلت: نعم قال: قد جعلت اسمي جعفرا واسم أبي عبد الله فتقدم إلى الخطيب بذلك ففعلت فكان يخطب له: اللهم وأصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين
ولما كان بعد قراءة الكتاب وإيصال الهدايا بثلاثة أيام بعث إلي وقد كان بلغه أمر الأربعة آلاف دينار وما كان من حيلة النصراني في تأخيرها وكان خبرها في الكتاب فلما دخلت إليه أمرني بالجلوس فجلست ورمى إلي كتاب أمير المؤمنين فقال: من جاء بهذا الكتاب قلت: أنا ثم رمى إلي كتاب الوزير فقال: وهذا أيضا قلت: أنا قال: فالمال الذي ذكر فيهما ما فعل به قلت: تعذر جمعه وضاق الوقت وخشينا فوت الدخول فتركناه ليلحق بنا فقال: إنما جئتم بأجمعكم وأنفق عليكم مولاي ما أنفق لحمل هذا المال إلي حتى أبني به حصناً يمنعني من اليهود الذين قد استعبدوني فأما الهدية فغلامي قد كان يحسن أن يجيء بها قلت: هو كذلك إلا أنا قد اجتهدنا فقال للترجمان: قل له أنا لا أعرف هؤلاء إنما أعرفك أنت وذلك أن هؤلاء قوم عجم ولو علم الأستاذ أيده الله أنهم يبلغون ما تبلغ ما بعث بك حتى تحفظ علي وتقرأ كتابي وتسمع جوابي ولست أطالب غيرك بدرهم فاخرج من المال فهو أصلح لك فانصرفت من بين يديه مذعوراً مغموماً وكان رجلاً له منظر وهيبة بدين عريض كأنما يتكلم من خابية فخرجت من عنده وجمعت أصحابي وعرفتهم ما جرى بيني وبينه وقلت: لهم من هذا حذرت.
وكان مؤذنه يثني الإقامة إذا أذن فقلت له: إن مولاك أمير المؤمنين يفرد في داره الإقامة فقال للمؤذن: اقبل ما يقوله لك ولا تخالفه فأقام المؤذن على ذلك أياماً وهو يسألني عن المال ويناظرني فيه وأنا أويسه منه وأحتج فيه فلما يئس منه تقدم إلى المؤذن أن يثني الإقامة ففعل وأراد بذلك أن يجعله طريقا إلى مناظرتي فلما سمعت تثنيته للإقامة نهيته وصحت عليه فعرف الملك فأحضرني وأحضر أصحابي فلما اجتمعنا قال الترجمان: قل له يعنيني ما يقول في مؤذنين افرد أحدهما وثنى الآخر ثم صلى كل واحد منهما بقوم أتجوز الصلاة أم لا قلت: الصلاة جائزة فقال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع قال: قل له فما يقول في رجل دفع إلى قوم مالا لا قوام ضعفى محاصرين مستعبدين فخانوه فقلت: هذا لا يجوز وهؤلاء قوم سوء قال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع فقال للترجمان: قل له: تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشاً كان يقدر علي قلت: لا قال: فأمير خراسان قلت: لا قال: أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار قلت: بلى قال: قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإني لخائف من مولاي أمير المؤمنين وذلك أني أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو علي فأهلك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة وأنتم تأكلون خبزه وتلبسون ثيابه وترونه في كل وقت خنتموه في مقدار رسالة بعثكم بها إلي إلى قوم ضعفى وخنتم المسلمين لا أقبل منكم أمر ديني حتى يجيئني من ينصح لي فيما يقول فإذا جاءني إنسان بهذه الصورة قبلت منه فألجمنا وما أحرنا جواباً وانصرفنا من عنده.
قال: فكان بعد هذا القول يؤثرني ويقربني ويباعد أصحابي ويسميني أبا بكر الصديق.
ورأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها كثرةً من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرت احمراراً شديداً وسمعت في الجو أصواتاً شديدة وهمهمة عالية فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه وإذا فيه أمثال الناس والدواب وإذا في أيدي الأشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواب وسلاحاً فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة ففزعنا من ذلك وأقبلنا على التضرع والدعاء وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا. قال: وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة فتختلطان جميعاً ساعة ثم تفترقان فما زال الأمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا فسألنا الملك عن ذلك فزعم أن أجداده كانوا يقولون: إن هؤلاء من مؤمني الجن وكفارهم وهم يقتتلون في كل عشية وأنهم ما عدموا هذا مذ كانوا في كل ليلة.
قال: ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قد وقع إلى تلك الناحية قبتي لنتحدث فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع ونحن ننتظر أذان العتمة فإذا بالأذان فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر فقلت للمؤذن :أي شيء أذنت قال: أذان الفجر قلت: فالعشاء الآخرة قال: نصليها مع المغرب قلت: فالليل قال: كما ترى وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول وذكر أنه منذ شهر ما نام خوفا أن تفوته صلاة الغداة وذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج.
قال: ورأيت النهار عندهم طويلاً جداً وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عدداً يسيراً ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكباً متفرقة وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتةً وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجل الرجل فيه من أكثر من غلوة سهم.
قال: ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر وحدثني الملك أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوم يقال لهم ويسو الليل عندهم أقل من ساعة قال: ورأيت البلد عند طلوع الشمس يحمره كل شيء فيه من الأرض والجبال وكل شيء ينظر الإنسان إليه حين تطلع الشمس كأنها غمامة كبرى فلا تزال الحمرة كذلك حتى تتكبد السماء وعرفني أهل البلد أنه إذا كان الشتاء عاد الليل في طول النهار وعاد النهار في قصر الليل حتى إن الرجل منا ليخرج إلى موضع يقال له إتل بيننا وبينه أقل من مسيرة فرسخ وقت طلوع الفجر فلا يبلغه إلى العتمة إلى وقت طلوع الكواكب كلها حتى تطبق السماء فما برحنا من البلد حتى امتد الليل وقصر النهار.
ورأيتهم يتبركون بعواء الكلاب جداً ويفرحون به ويقولون: سنة خصب وبركة وسلامة.
ورأيت الحيات عندهم كثيرة حتى إن الغصن من الشجرة لتلتف عليه العشرة منها والأكثر ولا يقتلونها ولا تؤذيهم حتى لقد رأيت في بعض المواضع شجرة طويلة يكون طولها أكثر من مئة ذراع وقد سقطت وإذا بدنها عظيم جداً فوقفت أنظر إليه إذ تحرك فراعني ذلك وتأملته فإذا عليه حية قريبة منه في الغلظ والطول فلما رأتني سقطت عنه وغابت بين الشجر فجئت فزعاً فحدثت الملك ومن كان في مجلسه فلم يكترثوا لذلك وقال: لا تجزع فليس تؤذيك ونزلنا مع الملك منزلاً فدخلت أنا وأصحابي تكين وسوسن وبارس ومعنا رجل من أصحاب الملك بين الشجر فرأينا عوداً صغيراً أخضر كرقة المغزل وأطول فيه عرق أخضر على رأس العرق ورقة عريضة مبسوطة على الأرض مفروش عليها مثل النابت فيها حب ولا يشك من يأكله أنه رمان أمليسي فأكلنا منه فإذا به من اللذة أمر عظيم فما زلنا نتبعه ونأكله.
ورأيت لهم تفاحاً أخضر شديد الخضرة وأشد حموضةً من خل الخمر وتأكله الجواري فيسمن عليه ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق لقد رأيت منه غياضاً تكون الغيضة أربعين فرسخاً في مثلها ورأيت لهم شجراً لا أدري ما هو مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ورؤوسه كرؤوس النخل له خوص دقاق إلا أنه مجتمع يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه فيثقبونه ويجعلون تحته إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل إن أكثر الإنسان منه أسكره كما يسكر الخمر.
وأكثر أكلهم الجاورس ولحم الدابة على أن الحنطة والشعير كثير وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه ليس للملك فيه حق غير أنهم يؤدون إليه في كل سنة من كل بيت جلد سمور وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان فغنمت كان له معهم حصة ولا بد لكل من يعترس أو يدعو دعوة من زله للملك على قدر الوليمة وساخرخ من نبيذ العسل وحنطة ردية لأن أرضهم سوداء منتنة.
وليس لهم مواضع يجمعون فيها طعامهم ولكنهم يحفرون في الأرض آباراً ويجعلون الطعام فيها فليس يمضي عليه إلا أيام يسيرة حتى يتغير ويريح فلا ينتفع به وليس لهم زيت ولا شيرج ولا دهن بتةً وإنما يقيمون مقام هذه الأدهان دهن السمك فكل شيء يستعملونه فيه يكون زفراً ويعملون من الشعير حساء يحسونه الجواري والغلمان وربما طبخوا الشعير باللحم فأكل الموالي اللحم وأطعموا الجواري الشعير إلا أن يكون رأس تيس فيطعم من اللحم.
وكلهم يلبسون القلانس فإذا ركب الملك ركب وحده بغير غلام ولا أحد يكون معه فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فجعلها تحت إبطه فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم إلى رؤوسهم وكذلك كل من يدخل إلى الملك من صغير وكبير حتى أولاده وإخوته ساعة ينظرون إليه قد أخذوا قلانسهم فجعلوها تحت آباطهم ثم أوموا إليه برؤوسهم وجلسوا ثم قاموا حتى يأمرهم بالجلوس وكل من يجلس بين يديه فإنما يجلس باركا ولا يخرج قلنسوته ولا يظهرها حتى يخرج من بين يديه فيلبسها عند ذلك.
وكلهم في قباب إلا أن قبة الملك كبيرة جداً تسع ألف نفس وأكثر مفروشة بالفرش الأرمني وله في وسطها سرير مغشى بالديباج الرومي.
ومن رسومهم أنه إذا ولد لابن الرجل مولود أخذه جده دون أبيه وقال: أنا أحق به من أبيه في حضنه حتى يصير رجلاً وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده فعرفت الملك أن هذا غير جائز وعرفته كيف المواريث حتى فهمها.
وما رأيت أكثر من الصواعق في بلدهم وإذا وقعت الصاعقة على بيت لم يقربوه ويتركونه على حالته وجميع من فيه من رجل ومال وغير ذلك حتى يتلفه الزمان ويقولون: هذا بيت مغضوب عليهم.
وإذا قتل الرجل منهم الرجل عمداً أقادوه به وإذا قتله خطأً صنعوا له صندوقاً من خشب الخدنك وجعلوه في جوفه وسمروه عليه وجعلوا معه ثلاثة أرغفة وكوز ماء ونصبوا له ثلاث خشبات مثل الشبائح وعلقوه بينها وقالوا: نجعله بين السماء والأرض يصيبه المطر والشمس لعل الله أن يرحمه فلا يزال معلقا حتى يبليه الزمان وتهب به الرياح.
وإذا رأوا إنساناً له حركة ومعرفة بالأشياء قالوا: هذا حقه أن يخدم ربنا فأخذوه وجعلوا في عنقه حبلاً وعلقوه في شجرة حتى يتقع.
ولقد حدثني ترجمان الملك أن سندياً سقط إلى ذلك البلد فأقام عند الملك برهة من الزمان يخدمه وكان خفيفاً فهماً فأراد جماعة منهم الخروج معهم فنهاه عن ذلك فاستأذن السندي الملك في الخروج معهم فنهاه عن ذلك وألح عليه حتى أذن له فخرج معهم في سفينة فرأوه حركاً كيساً فتآمروا بينهم وقالوا هذا يصلح لخدمة ربنا فنوجه به إليه واجتازوا في طريقهم بغيضة فأخرجوه إليها و جعلوا في عنقه حبلاً وشدوه في رأس شجرة عالية وتركوه ومضوا.
وإذا كانوا يسيرون في طريق فأراد أحدهم البول فبال وعليه سلاحه انتهبوه وأخذوا سلاحه وثيابه وجميع ما معه وهذا رسم لهم ومن خط عنه سلاحه وجعله ناحية وبال لم يعرضوا له وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض ولا يزنون بوجه ولا سبب ومن زنا منهم كائناً من كان ضربوا له أربع سكك وشدوا يديه ورجليه إليها وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً ثم يعلق كل قطعة منه ومنها على شجرة وما زلت اجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني وفي غياضهم عسل كثير في مساكن النحل يعرفونها فيخرجون لطلب ذلك فربما وقع عليهم قوما من أعدائهم فقتلوهم وفيهم تجار كثير يخرجون إلى أرض الترك فيجلبون الغنم وإلى بلد يقال له ويسو فيجلبون السمور والثعلب الأسود.
ورأينا فيهم أهل بيت يكونون خمسة الآف نفس من امرأة ورجل قد أسلموا كلهم يعرفون بالبرنجار وقد بنوا لهم مسجداً من خشب يصلون فيه ولا يعرفون القراءة فعلمت جماعة ما يصلون به.
ولقد اسلم على يدي رجل يقال له طالوت فأسميته عبد الله فقال: أريد أن تسميني باسمك محمداً ففعلت وأسلمت امرأته وأمه وأولاده فسموا كلهم محمداً وعلمته الحمد لله و قل هو الله أحد فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة.
وكنا لما وافينا الملك وجدناه نازلاً على ماء يقال له خلجة وهي ثلاث بحيرات منها اثنتان كبيرتان وواحدة صغيرة إلا أنه ليس في جميعها شيء يلحق غوره وبين هذا الموضع وبين نهر لهم عظيم يصب إلى بلاد الخزر يقال له نهر إتل نحو الفرسخ وعلى هذا النهر موضع سوق تقوم في كل مديدة ويباع فيها المتاع الكثير النفيس.
وكان تكين حدثني أن في بلد الملك رجلاً عظيم الخلق جداً فلما صرت إلى البلد سألت الملك عنه فقال: نعم قد كان في بلدنا ومات ولم يكن من أهل البلد ولا من الناس أيضاً وكان من خبره أن قوماً من التجار خرجوا إلى نهر إتل وهو نهر بيننا وبينه يوم واحد كما يخرجون وهذا النهر قد مد وطغى ماؤه فلم أشعر يوماً إلا وقد وافاني جماعة من التجار فقالوا: أيها الملك قد قفا على الماء رجل إن كان من أمة تقرب منا فلا مقام لنا في هذه الديار وليس لنا غير التحويل.
فركبت معهم حتى صرت إلى النهر فإذا أنا بالرجل وإذا هو بذراعي اثنا عشر ذراعاً وإذا له رأس كأكبر ما يكون من القدور وأنف أكثر من شبر وعينان عظيمتان وأصابع تكون أكثر من شبر شبر فراعني أمره وداخلني ما داخل القوم من الفزع وأقبلنا نكلمه ولا يكلمنا بل ينظر إلينا فحملته إلى مكاني وكتبت إلى أهل ويسو وهم منا على ثلاثة أشهر أسألهم عنه فكتبوا إلي يعرفونني أن هذا الرجل من يأجوج ومأجوج وهم منا على ثلاثة أشهر عراة يحول بيننا وبينهم البحر لأنهم على شطه وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً يخرج الله عز وجل لهم كل يوم سمكة من البحر فيجيء الواحد منهم ومعه المدية فيجز منها قدر ما يكفيه ويكفي عياله فإن أخذ فوق ما يقنعه اشتكى بطنه وكذلك عياله يشتكون بطونهم وربما مات وماتوا بأسرهم فإذا أخذوا منها حاجتهم انقلبت ووقعت في البحر فهم في كل يوم على ذلك.
وبيننا وبينهم البحر من جانب والجبال محيطة بهم من جوانب أخر والسد أيضاً قد حال بينهم وبين الباب الذي كانوا يخرجون منه فإذا أراد الله عز وجل أن يخرجهم إلى العمارات سبب لهم فتح السد ونضب البحر وانقطع عنهم السمك.
قال: فسألته عن الرجل فقال: أقام عندي مدة فلم يكن ينظر إليه صبي إلا مات ولا حامل إلا طرحت حملها وكان إن تمكن من إنسان عصره بيديه حتى يقتله فلما رأيت ذلك علقته في شجرة عالية حتى مات إن أردت أن تنظر إلى عظامه ورأسه مضيت معك حتى تنظر إليها فقلت: أنا والله أحب ذاك فركب معي إلى غيضة كبيرة فيها شجرُ عظام فتقدمني إلى شجرة سقطت عظامه ورأسه تحتها فرأيت رأسه مثل القفير الكبير وإذا أضلاعه أكبر من عراجين النخل وكذلك عظام ساقيه وذراعيه فتعجبت منه وأنصرفت.
قال: وارتحل الملك من الماء الذي يسمى خلجة إلى نهر يقال له جاوشيز فأقام به شهرين ثم أراد الرحيل فبعث إلى قوم يقال لهم سواز يأمرهم بالرحيل معه فأبوا عليه وافترقوا فرقتين فرقة مع ختنه وكان قد تملك عليهم واسمه ويرغ فبعث إليهم الملك وقال: إن الله عز وجل قد من علي بالإسلام وبدولة أمير المؤمنين فأنا عبده وهذه الأمة قد قلدتني فمن خالفني لقيته بالسيف وكانت الفرقة الأخرى مع ملك من قبيلة يعرف بملك اسكل وكان في طاعته إلا أنه لم يكن داخلاً في الإسلام فلما وجه إليهم هذه الرسالة خافوا ناحيته فرحلوا بأجمعهم معه إلى نهر جاوشيز وهو نهر قليل العرض يكون عرضه خمسة أذرع وماؤه إلى السرة وفيه مواضع إلى الترقوة وأكثره قامة وحوله شجر كثير من الشجر الخدنك وغيره وبالقرب منه صحراء واسعة يذكرون أن بها حيواناً دون الجمل في الكبر وفوق الثور رأسه رأس جمل وذنبه ذنب ثور وبدنه بدن بغل وحوافره مثل أظلاف الثور له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير كلما أرتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح فمنه ما يكون طوله خمسة أذرع إلى ثلاثة أذرع إلى أكثر وأقل يرتعي ورق الشجر جيد الخضرة إذا رأى الفارس قصده فإن كان تحته جواد أمن منه بجهد وإن لحقه أخذه من ظهر دابته بقرنه ثم زج به في الهواء واستقبله بقرنه فلا يزال كذلك حتى يقتله.
ولا يعرض للدابة بوجه ولا سبب وهم يطلبونه في الصحراء والغياض حتى يقتلوه وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي يكون بينها ويجتمع لذلك عدة من الرماة بالسهام المسمومة فإذا توسطهم رموه حتى يثخنوه ويقتلوه.
ولقد رأيت عند الملك ثلاث طيفوريات كبار تشبه الجزع اليماني عرفني أنها معمولة من أصل قرن هذا الحيوان وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن.
قال: وما رأيت منهم إنساناً يحمر بل أكثرهم معلول وربما يموت أكثرهم بالقولنج حتى إنه ليكون بالطفل الرضيع منهم وإذا مات المسلم عندهم أو زوج المرأة الخوارزميه غسلوه غسل المسلمين ثم حملوه على عجلة تجره وبين يديه مطرد حتى يصيروا به إلى المكان الذي يدفنونه فيه فإذا صار إليه أخذوه عن العجلة وجعلوه على الأرض ثم خطوا حوله خطاً ونحوه ثم حفروا داخل ذلك الخط قبره وجعلوا له لحداً ودفنوه وكذلك يفعلون بموتاهم.
ولا تبكي النساء على الميت بل الرجال منهم يبكون عليه يجيئون في اليوم الذي مات فيقفون على باب قبته فيضجون بأقبح بكاء يكون وأوحشه.
هؤلاء للأحرار فإذا انقضى بكاؤهم وافى العبيد ومعهم جلود مضفورة فلا يزالون يبكون ويضربون جنوبهم وما ظهر من أبدانهم بتلك السيور حتى تصير في أجسادهم مثل ضرب السوط ولا بد من أن ينصبوا بباب قبته مطرداً ويحضروا سلاحه فيجعلونها حول قبره ولا يقطعون البكاء سنتين.
فإذا انقضت السنتان حطوا المطرد وأخذوا من شعورهم ودعا أقرباء الميت دعوة يعرف بها خروجهم من الحزن وإن كانت له زوجة تزوجت هذا إذا كان من الرؤساء فأما العامة فيفعلون بعض هذا بموتاهم.
وعلى ملك الصقالبة ضريبة يؤديها إلى ملك الخزر من كل بيت في مملكته جلد سمور وإذا قدمت السفينة من بلد الخزر إلى بلد الصقالبة ركب الملك فأحصى ما فيها وأخذ من جميع العشر وإذا قدم الروس أو غيرهم من سائر الأجناس برقيق فللملك أن يختار من كل عشرة أرؤس رأساً.
وابن ملك الصقالبة رهينة عند ملك الخزر وقد كان اتصل بملك الخزر عن ابنة ملك الصقالبة جمال فوجه يخطبها فاحتج عليه ورده فبعث وأخذها غصباً وهو يهودي وهي مسلمة فماتت عنده فوجه يطلب بنتاً له أخرى فساعة اتصل ذلك بملك الصقالبة بادر فزوجها لملك اسكل وهو من تحت يده خيفة أن يغتصبه إياها كما فعل بأختها وإنما دعا ملك الصقالبة أن يكاتب السلطان ويسأله أن يبني له حصناً خوفاً من ملك الخزر.
قال: وسألته يوما فقلت له: مملكتك واسعة وأموالك جمة وخراجك كثير فلم سألت السلطان أن يبني حصناً بمال من عنده لا مقدار له فقال رأيت دولة الإسلام مقبلة وأموالهم يؤخذ من حلها فالتمست ذلك لهذه العلة ولو أني أردت أن أبني حصناً من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذر ذلك علي وإنما تبركت بمال أمير المؤمنين فسألته ذلك.
الروسية
قال: ورأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إتل فلم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل شقرُ حمر لا يلبسون القراطق ولا الخفاتين ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه ويخرج إحدى يديه منه ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه جميع ما ذكرنا. وسيوفهم صفائح مشطبة أفرنجية ومن حد ظفر الواحد منهم إلى عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك.
وكل امرأة منهم فعلى ثديها حقة مشدودة إما من حديد وإما من فضة وإما من نحاس وإما من ذهب على قدر مال زوجها ومقداره وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضاً وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقاً وإن ملك عشرين ألفاً صاغ لها طوقين وكذلك كل عشرة آلاف يزداد طوقاً لامرأته فربما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة.
وأجل الحلي عندهم الخزر الأخضر من الخزف الذي يكون على السفن يبالغون فيه ويشترون الخرزة بدرهم وينظمونه عقودا لنسائهم.
وهم أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيديهم من الطعام بل هم كالحمير الضالة يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بإتل وهو نهر كبير ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب.
ويجتمع في البيت الواحد العشرة والعشرون والأقل والأكثر ولكل واحد سرير يجلس عليه ومعهم الجواري الروقة للتجار فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يفضي أربه.
ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يمتخط ويبصق فيها ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت وكل واحد منهم يمتخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الإنسان وحولها صور صغار وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها ثم يقول لها: يا رب قد جئت من بلد بعيد ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً ومن السمور كذا وكذا جلداً حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته ثم يقول: وجئتك بهذه الهدية ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة ويقول: أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول ثم ينصرف.
فإن تعسر عليه بيعه وطالت أيامه عاد بهدية ثانية وثالثة فإن تعذر ما يريد حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هدية وسألها الشفاعة وقال: هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه فلا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها ويستشفع بها ويتضرع بين يديها فربما تسهل له البيع فباع فيقول: قد قضى ربي حاجتي وأحتاج أن أكافيه فيعمد ما أريد ولا يخالفني فيما أقول ثم ينصرف إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك فيقول: الذي فعله قد رضي ربي عني وأكل هديتي.
وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحية عنهم وطرحوه فيها وجعلوا معه شيئاً من الخبز والماء ولا يقربونه ولا يكلمونه بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفاً أو مملوكاً فإن برئ وقام رجع إليهم وإن مات أحرقوه فإن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير.
وإذا أصابوا سارقاً أو لصاً جاءوا به إلى شجرة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقاً وعلقوه فيها ويبقى معلقاً حتى يتقطع من المكث بالرياح والأمطار.
وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أموراً أقلها الحرق فكنت أحب أن أقف على ذلك حتى بلغني موت رجل منهم جليل فجعلوه في قبره وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها.
وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة ويجعلونه فيها ويحرقونها والغني يجمعون ماله ويجعلونه ثلاثة أثلاث: فثلث لأهله وثلث يقطعون له به ثياباً وثلث ينبذون به نبيذاً يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها وتحرق مع مولاها.
وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلاً ونهاراً وربما مات الواحد منهم والقدح في يده وإذا مات الرئيس منهم قال أهله لجواريه وغلمانه: من منكم يموت معه فيقول بعضهم: أنا فإذا قال ذلك فقد وجب عليه لا يستوي له أن يرجع أبدا ولو أراد ذلك ما ترك وأكثر من يفعل هذا الجواري.
فلما مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قالوا لجواريه: من يموت معه فقالت إحداهن: أنا فوكلوا بها جاريتين تحفظانها وتكونان معها حيث سلكت حتى إنها ربما غسلتا رجليها بأيديهما وأخذوا في شأنه وقطع الثياب له وإصلاح ما يحتاج إليه والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة.
فلما كان اليوم الذي يحرق فيه هو والجارية حضرت إلى النهر الذي فيه سفينته فإذا هي قد أخرجت وجعل لها أربعة أركان من خشب الخدنك وغيره وجعل أيضاً حولها مثل الأنابير الكبار من الخشب ثم مدت حتى جعلت على ذلك الخشب وأقبلوا يذهبون ويجيئون ويتكلمون بكلام لا أفهم وهو بعد في قبره لم يخرجوه ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة وغشوه بالمضربات الديباج الرومي والمساند الديباج الرومي ثم جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا وهي وليت خياطته وإصلاحه وهي تقتل الجواري ورأيتها جوان بيرة ضخمة مكفهرة.
فلما وافوا قبره نحوا التراب عن الخشب ونحوا الخشب واستخرجوه في الإزار الذي مات فيه فرأيته قد اسود لبرد البلد وقد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذاً وفاكهة وطنبوراً فأخرجوا جميع ذلك فإذا هو لم ينتن ولم يتغير منه شيء غير لونه.
فألبسوه سراويل ورانا وخفاً وقرطقاً وخفتان ديباج له أزرار ذهب وجعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمورية وحملوه حتى أدخلوه القبة التي على السفينة وأجلسوه على المضربة وأسندوه بالمساند وجاءوا بالنبيذ والفاكهة والريحان فجعلوه معه.
وجاءوا بخبز ولحم وبصل فطرحوه بين يديه وجاءوا بكلب فقطعوه نصفين وألقوه في السفينة ثم جاءوا بجميع سلاحه فجعلوه إلى جانبه ثم أخذوا دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيف وألقوا لحمهما في السفينة.
ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضا وألقوهما فيها ثم أحضروا ديكاً ودجاجة فقتلوهما وطرحوهما فيها.
والجارية التي تريد أن تقتل ذاهبة وجائية تدخل قبةً قبةً من قبابهم فيجامعها صاحب القبة ويقول لها: قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك.
فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجليها على أكف الرجال وأشرفت على ذلك الملبن وتكلمت بكلام لها فأنزلوها ثم أصعدوها ثانية ففعلت كفعلها في المرة الأولى ثم أنزلوها وأصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين ثم دفعوا إليها دجاجة فقطعت رأسها ورمت به وأخذوا الدجاجة فألقوها في السفينة.
فسألت الترجمان عن فعلها فقال: قالت في أول مرة أصعدوها: هو ذا أرى أبي وأمي وقالت في الثانية: هو ذا أرى جميع قرابتي الموتى قعوداً وقالت في المرة الثالثة: هو ذا أرى مولاي قاعداً في الجنة والجنة حسنة خضراء ومعه الرجال والغلمان وهو يدعوني فاذهبوا بي إليه.
فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها ودفعتهما إلى المرأة التي تسمى ملك الموت وهي التي تقتلها ونزعت خلخالين كانا عليها ودفعتهما إلى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها وهما ابنتا المرأة المعروفة بملك الموت.
ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب ودفعوا إليها قدحاً نبيذاً فغنت عليه وشربته فقال لي الترجمان: إنها تودع صواحباتها بذلك ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته وطولت الغناء والعجوز تستحثها على شربه والدخول إلى القبة التي فيها مولاها فرأيتها وقد تبلدت وأرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها وبين السفينة فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة ودخلت معها.
وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري ولا يطلبن الموت مع مواليهن ثم دخل إلى القبة ستة رجال فجامعوا بأسرهم الجارية ثم أضجعوها إلى جانب مولاها وأمسك اثنان رجليها واثنان يديها وجعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلاً مخالفاً ودفعته إلى اثنين ليجذباه وأقبلت ومعها خنجر عريض النصل فأقبلت تدخله بين أضلاعها موضعاً موضعاً وتخرجه والرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت.
ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت فأخذ خشبة وأشعلها بالنار ثم مشى القهقرى نحو قفاه إلى السفينة ووجهه إلى الناس والخشبة المشعلة في يده الواحدة ويده الأخرى على باب استه وهو عريان حتى أحرق الخشب المعبأ الذي تحت السفينة من بعدما وضعوا الجارية التي قتلوها في جنب مولاها.
ثم وافى الناس بالخشب والحطب ومع كل واحد خشبة قد ألهب رأسها فيلقيها في ذلك الخشب فتأخذ النار في الحطب ثم في السفينة ثم في القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها ثم هبت ريح عظيمة هائلة فاشتد لهب النار واضطرم تسعرها وكان إلى جانبي رجل من الروسية فسمعته يكلم الترجمان الذي معي فسألته عما قال له فقال: إنه يقول: أنتم يا معاشر العرب حمقى.
فقلت: لم ذلك قال: إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب وتأكله التراب والهوام والدود ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته.
ثم ضحك ضحكاً مفرطاً فسألت عن ذلك فقال: من محبة ربه له قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعة فما مضت على الحقيقة ساعة حتى صارت السفينة والحطب والجارية والمولى رماداً مدداً
ثم بنوا على موضع السفينة وكانوا قد أخرجوها من النهر شبيها بالتل المدور ونصبوا في وسطه خشبة كبيرة خدنك وكتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا.
قال: ومن رسم ملك الروس أن يكون معه في قصره أربعمئة رجل من صناديد أصحابه وأهل الثقة عنده فهم يموتون بموته ويقتلون دونه ومع كل واحد منهم جارية تخدمه وتغسل رأسه وتصنع له ما يأكل ويشرب وجارية أخرى يطؤها وهؤلاء الأربعمئة يجلسون تحت سريره وسريره عظيم مرصع بنفيس الجوهر ويجلس معه على السرير أربعون جارية لفراشه وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه الذين ذكرنا.
ولا ينزل عن سريره فإذا أراد قضاء حاجة قضاها في طشت وإذا أراد الركوب قدموا دابته إلى السرير فركبها منه وإذا أراد النزول قدم دابته حتى يكون نزوله عليه وله خليفة يسوس الجيوش ويواقع الأعداء ويخلفه في رعيته.
الخزر
فأما ملك الخزر واسمه خاقان فإنه لا يظهر إلا في كل أربعة أشهر متنزهاً ويقال له خاقان الكبير ويقال لخليفته خاقان به وهو الذي يقود الجيوش ويسوسها ويدبر أمر المملكة ويقوم بها ويظهر ويغزو وله تذعن الملوك الذين يصاقبونه ويدخل في كل يوم إلى خاقان الأكبر متواضعاً يظهر الأخبات والسكينة ولا يدخل عليه إلا حافياً وبيده حطب فإذا سلم عليه أوقد بين يديه ذلك الحطب فإذا فرغ من الوقود جلس مع الملك على سريره عم يمينه ويخلفه رجل يقال له كندر خاقان ويخلف هذا أيضاً رجل يقال له جاوشيغر.
ورسم الملك الأكبر أن لا يجلس للناس ولا يكلمهم ولا يدخل عليه أحد غير من ذكرنا.
الولايات في الحل والعقد والعقوبات وتدبير المملكة على خليفته خاقان به.
ورسم الملك الأكبر إذا مات أن يبنى له دار كبيرة فيها عشرون بيتاً ويحفر له في كل بيت منها قبر وتكسر الحجارة حتى تصير مثل الكحل وتفرش فيه وتطرح النورة فوق ذلك وتحت الدار نهر والنهر نهر كبير يجري ويجعلون القبر فوق ذلك النهر ويقولون: حتى لا يصل إليه شيطان ولا إنسان ولا دود ولا هوام.
وإذا دفن ضربت أعناق الذين يدفنونه حتى لا يدرى أين قبره من تلك البيوت ويسمى قبره الجنة ويقولون: قد دخل الجنة وتفرش البيوت كلها بالديباج المنسوج بالذهب.
ورسم ملك الخزر أن يكون له خمس وعشرون امرأة كل امرأة منهن ابنة ملك من الملوك الذين يحاذونه يأخذها طوعاً أو كرهاً وله من الجواري السراري لفراشه ستون ما منهن إلا فائقة الجمال وكل واحدة من الحرائر والسراري في قصر مفرد لها قبة مغشاة بالساج وحول كل قبة مضرب ولكل واحدة منهم خادم يحجبها فإذا أراد أن يطأ بعضهن بعث إلى الخادم الذي يحجبها فيوافي بها في أسرع من لمح البصر حتى يجعلها في فراشه. ويقف الخادم على باب قبة الملك فإذا وطئها أخذ بيدها وانصرف ولم يتركها بعد ذلك لحظة واحدة.
وإذا ركب هذا الملك الكبير ركب سائر الجيوش لركوبه ويكون بينه وبين المواكب ميل فلا يراه أحد من رعيته إلا خر لوجهه ساجداً له لا يرفع رأسه حتى يجوزه.
ومدة ملكهم أربعون سنة إذا جاوزها يوماً واحداً قتلته الرعية وخاصته وقالوا: هذا قد نقص عقله واضطرب رأيه. وإذا بعث سرية لم تول الدبر بوجهٍ ولا سبب فإن انهزمت قتل كل من ينصرف إليه منها فأما القواد وخليفته فمتى انهزموا أحضرهم وأحضر نساءهم وأولادهم فوهبهم بحضرتهم لغيرهم وهم ينظرون وكذلك دوابهم ومتاعهم وسلاحهم ودورهم وربما قطع كل واحد منهم قطعتين وصلبهم وربما علقهم بأعناقهم في الشجر وربما جعلهم إذا أحسن إليهم ساسة.
ولملك الخزر مدينة عظيمة على النهر إتل وهي جانبان في أحد الجانبين المسلمون وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه وعلى المسلمين رجل من غلمان الملك يقال له خز وهو مسلم وأحكام المسلمين المقيمين في بلد الخزر والمختلفين إليهم في التجارات مردودة إلى ذلك الغلام المسلم لا ينظر في أمورهم ولا يقضي بينهم غيره.
لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل من ذلك.
وكان السفير له نذير الحرمي فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدى إليه والإشراف على الفقهاء والمعلمين وسبب له بالمال المحمول إليه لبناء ما ذكرناه وللجراية على الفقهاء والمعلمين على الضيعة المعروفة بأرثخشمثين من أرض خوارزم من ضياع ابن الفرات.
وكان الرسول إلى المقتدر من صاحب الصقالبة رجل يقال له عبد الله بن باشتو الخزري والرسول من جهة السلطان سوسن الرسي مولى نذير الحرمي وتكين التركي وبارس الصقلابي وأنا معهم على ما ذكرت فسلمت إليه الهدايا له ولامرأته ولأولاده واخوته وقواده وأدوية كان كتب إلى نذير يطلبها.
العجم والأتراك
فرحلنا من مدينة السلام يوم الخميس لأحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وثلاثمئة فأقمنا بالنهروان يوماً واحداً ورحلنا مجدين حتى وافينا الدسكرة فأقمنا بها ثلاثة أيام ثم رحلنا قاصدين لا نلوي على شيء حتى صرنا إلى حلوان فأقمنا بها يومين.
وسرنا منها إلى قرميسين فأقمنا بها يومين ثم رحلنا فسرنا حتى وصلنا إلى همذان فأقمنا بها ثلاثة أيام.
ثم سرنا حتى قدمنا ساوة فأقمنا بها يومين ومنها إلى الري فأقمنا بها أحد عشر يوماً ننتظر أحمد ابن علي أخا صعلوك لأنه كان بخوار الري. ثم رحلنا إلى خوار الري فأقمنا بها ثلاثة أيام ثم رحلنا إلى سمنان ثم منها إلى الدامغان صادفنا بها ابن قارن من قبل الداعي فتنكرنا في القافلة وسرنا مجدين حتى قدمنا نيسابور وقد قتل ليلى بن نعمان فأصبنا بها حمويه كوسا صاحب جيش خراسان.
ثم رحلنا إلى سرخس ثم منها إلى مرو ثم منها إلى قشمهان وهي طرف مفازة آمل فأقمنا بها ثلاثة أيام نريح الجمال لدخول المفازة. ثم قطعنا المفازة إلى آمل ثم عبرنا جيحون وصرنا إلى آفرير رباط طاهر بن علي.
ثم رحلنا إلى بيكند ثم دخلنا بخارى وصرنا إلى الجيهاني وهو كاتب أمير خراسان وهو يدعى بخراسان الشيخ العميد فتقدم بأخذ دار لنا وأقام لنا رجلاً يقضي حوائجنا ويزيح عللنا في كل ما نريد فأقمنا أياماً.
ثم استأذن لنا على نصر بن أحمد فدخلنا إليه وهو غلام أمرد فسلمنا عليه بالإمرة وأمرنا بالجلوس فكان أول ما بدأنا به أن قال: كيف خلفتم مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وسلامته في نفسه وفتيانه وأوليائه فقلنا: بخير قال: زاده الله خيراً.
ثم قرئ الكتاب عليه بتسلم أرثخشمثين من الفضل بن موسى النصراني وكيل ابن الفرات وتسليمها إلى أحمد بن موسى الخوارزمي وإنفاذنا والكتاب إلى صاحبه بخوارزم بترك العرض لنا والكتاب بباب الترك ببذرقتنا وترك العرض لنا.
فقال: وأين أحمد بن موسى فقلنا: خلفناه بمدينة السلام ليخرج خلفنا لخمسة أيام فقال: سمعاً وطاعة لما أمر به مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. قال: واتصل الخبر بالفضل بن موسى النصراني وكيل ابن الفرات فأعمل الحيلة في أمر أحمد بن موسى وكتب إلى عمال المعاون بطريق خراسان من جند سرخس إلى بيكند: أن أذكوا العيون على أحمد بن موسى الخوارزمي في الخانات والمراصد وهو رجل من صفته ونعته فمن ظفر به فليعتقله إلى أن يرد عليه كتابنا بالمسألة فأخذ بمرو وأعتقل.
وأقمنا نحن ببخارا ثمانية وعشرين يوماً وقد كان الفضل بن موسى أيضاً واطأ عبد الله بن باشتو وغيره من أصحابنا يقولون: إن أقمنا هجم الشتاء وفاتنا الدخول وأحمد بن موسى إذا وافانا لحق بنا.
قال: ورأيت الدراهم ببخارا ألواناً شتى منها دراهم يقال لها الغطريفية: وهي نحاس وشبه وصفر يؤخذ منها عدد بلا وزن مئة منها بدرهم فضة وإذا شروطهم في مهور نسائهم: تزوج فلان ابن فلان فلانة بنت فلان على كذا وكذا ألف درهم غطريفية وكذلك أيضاً شراء عقارهم وشراء عبيدهم لا يذكرون غيرها من الدراهم ولهم دراهم أخر صفر وحده أربعون منها بدانق ولهم أيضاً دراهم صفر يقال لها السمرقندية ستة منها بدانق.
فلما سمعت كلام عبد الله بن باشتو وكلام غيره يحذرونني من هجوم الشتاء رحلنا من بخارا راجعين إلى النهر فتكارينا سفينة إلى خوارزم والمسافة إليها من الموضع الذي اكترينا منه السفينة أكثر من مئتي فرسخ فكنا نسير بعض النهار ولا يستوي لنا سيره كله من البرد وشدته إلى أن قدمنا خوارزم فدخلنا على أميرها محمد ابن عراق خوارزم شاه فأكرمنا وقربنا وأنزلنا داراً فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضرنا وناظرنا في الدخول إلى بلد الترك وقال: لا آذن لكم في ذلك ولا يحل إلي ترككم تغررون بدمائكم وأنا أعلم أنها حيلة أوقعها هذا الغلام يعني تكين لأنه كان عندنا حداداً وقد وقف على بيع الحديد ببلد الكفار وهو الذي غر نذيرا وحمله على كلام أمير المؤمنين وإيصال كتاب ملك الصقالبة إليه والأمير الأجل يعني أمير خراسان كان أحق بإقامة الدعوة لأمير المؤمنين في ذلك البلد لو وجد محيصاً ومن بعد فبينكم وبين هذا البلد الذي تذكرون ألف قبيلة من الكفار وهذا تمويه على السلطان وقد نصحتكم.
ولا بد من الكتاب إلى الأمير الأجل حتى يراجع السلطان أيده الله في المكاتبة وتقيمون أنتم إلى وقت يعود الجواب فانصرفنا عنه ذلك اليوم ثم عاودناه ولم نزل نرفق به ونقول: هذا أمر أمير المؤمنين وكتابه فما وجه المراجعة فيه حتى أذن لنا فانحدرنا من خوارزم إلى الجرجانية وبينها وبين خوارزم في الماء خمسون فرسخاً.
ورأيت دراهم خوارزم مزيفة ورصاصاً وزيوفاً وصفراً ويسمون الدرهم طازجة ووزنه أربعة دوانيق ونصف والصيرفي منهم يبيع الكعاب والدوامات والدراهم. وهم أوحش الناس كلاماً وطبعاً كلامهم أشبه شيء بصياح الزرازير وبها قرية على يوم يقال لها أردكو أهلها يقال لهم الكردلية كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دبر كل صلاة. فأقمنا بالجرجانية أياماً وجمد نهر جيحون من أوله إلى آخره وكان سمك الجمد سبعة عشر شبراً وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطرق وهو ثابت لا يتخلخل فأقام على ذلك ثلاثة أشهر.
فرأينا بلداً ما ظننا إلا أن باباً من الزمهرير قد فتح علينا منه ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة وإذا أتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد بره قال له: تعال إلي حتى نتحدث فإن عندي ناراً طيبة هذا إذا بالغ في بره وصلته إلا أن الله تعالى قد لطف بهم في الحطب أرخصه عليهم: حمل عجلة من حطب الطاغ بدرهمين من دراهمهم تكون زهاء ثلاثة آلاف رطل.
ورسم سؤالهم أن لا يقف السائل على الباب بل يدخل إلى دار الواحد منهم فيقعد ساعة عند ناره يصطلي ثم يقول: بكند يعني الخبز فإن أعطوه شيئاً أخذ وإلا خرج.
وتطاول مقامنا بالجرجانية وذلك أنا أقمنا بها أياماً من رجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وكان طول مقامنا من جهة البرد وشدته ولقد بلغني أن رجلين ساقا اثني عشر جملاً ليحملاً عليها حطباً من بعض الغياض فنسيا أن يأخذا معهما قداحة وحراقة وأنهما باتا بغير نار فأصبحا والجمال موتى لشدة البرد. ولقد رأيت لهواء بردها بأن السوق بها والشوارع لتخلو حتى يطوف الإنسان أكثر الشوارع والأسواق فلا يجد أحداً ولا يستقبله إنسان ولقد كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار.
ولقد كنت أنام في بيت جوف بيت وفيه قبة لبود تركية وأنا مدثر بالأكسية والفرى فربما التصق خدي على المخدة ولقد رأيت الجباب بها تكسي البوستينات من جلود الغنم لئلا تتشقق وتنكسر فلا يغني ذلك شيئاً.
ولقد رأيت الأرض تنشق فيها أودية عظام لشدة البرد وأن الشجرة العظيمة العادية لتنفلق بنصفين لذلك فلما انتصف شوال من سنة تسع وثلاثمئة أخذ الزمان في التغير وانحل نهر جيحون وأخذنا نحن فيما نحتاج إليه من آلة السفر واشترينا الجمال التركية واستعملنا السفر من جلود الجمال لعبور الأنهار التي نحتاج أن نعبرها في بلد الترك وتزودنا الخبز والجاورس والنمكسوذ لثلاثة أشهر.
وأمرنا من كنا نأنس به من أهل البلد بالاستظهار في الثياب والاستكثار منها وهولوا علينا الأمر وعظموا القصة فلما شاهدنا ذلك كان أضعاف ما وصف لنا فكان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة وبرنس لا تبدو منه إلا عيناه وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب وتأخر عنا الفقيه والمعلم والغلمان الذين خرجوا معنا من مدينة السلام فزعا من الدخول إلى ذلك البلد وسرت أنا والرسول وسلف له والغلامان تكين وبارس.
فلما كان في اليوم الذي عزمنا فيه على المسير قلت: لهم يا قوم معكم غلام الملك وقد وقف على أمركم كله ومعكم كتب السلطان ولا أشك أن فيها ذكر توجيه أربعة آلاف دينار المسيبية له وتصيرون إلى ملك أعجمي فيطالبكم بذلك فقالوا: لا تخش من هذا فإنه غير مطالب لنا فحذرتهم وقلت: أنا أعلم أنه يطالبكم فلم يقبلوا. واستدف أمر القافلة واكترينا دليلاً يقال له قلواس من أهل الجرجانية ثم توكلنا على الله عز وجل وفوضنا أمرنا إليه ورحلنا من الجرجانية يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمئة فنزلنا رباطاً يقال له زمجان وهو بباب الترك ثم رحلنا من الغد فنزلنا منزلاً يقال له جيت وجاءنا الثلج حتى مشت الجمال إلى ركبها فيه فأقمنا بهذا المنزل يومين.
ثم أوغلنا في بلد الترك لا نلوي على شيء ولا يلقانا أحد في برية قفر بغير جبل فسرنا فيها عشرة أيام ولقد لقينا من الضر والجهد والبرد الشديد وتواصل الثلوج الذي كان برد خوارزم عنده مثل أيام الصيف ونسينا كل ما مر بنا وأشرفنا على تلف الأنفس.
ولقد أصابنا في بعض الأيام برد شديد وكان تكين يسايرني وإلى جانبه رجل من الأتراك يكلمه بالتركية فضحك تكين وقال: إن هذا التركي يقول: لك أي شيء يريد ربنا منا هو ذا يقتلنا بالبرد ولو علمنا ما يريد لرفعناه إليه فقلت له: قل له يريد منكم أن تقولوا لا إله إلا الله فضحك وقال: لو علمنا لفعلنا ثم صرنا بعد ذلك إلى موضع فيه من حطب الطاغ شيء عظيم فنزلناه وأوقدت القافلة واصطلوا ونزعوا ثيابهم وشرورها.
ثم رحلنا فما زلنا نسير في كل ليلة من نصف الليل إلى وقت العصر أو إلى الظهر بأشد سير يكون وأعظمه ثم ننزل فلما سرنا خمس عشرة ليلة وصلنا إلى جبل عظيم كثير الحجارة وفيه عيون تنجرف عبره وبالحفرة تستقر الماء.
فلما قطعناه أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية وإذا هم بادية لهم بيوت شعر يحلون ويرتحلون ترى منهم الأبيات في كل مكان ومثلها في مكان آخر على عمل البادية وتنقلهم وإذا هم في شقاء وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل ولا يعبدون شيئاً بل يسمون كبراءهم أرباباً فإذا استشار أحدهم ريئسه في شيء قال له: يا رب إيش أعمل في كذا وكذا وأمرهم شورى بينهم غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنقض ما قد أجمعوا عليه.
وسمعتهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله تقرباً بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين لا اعتقاداً لذلك وإذا ظلم أحد منهم أو جرى عليه أمر يكرهه رفع رأسه إلى السماء وقال: بير تنكري وهو بالتركية الله الواحد لأن بير بالتركية واحد وتنكري: الله بلغة الترك. ولا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك وليس بينهم وبين الماء عمل خاصة في الشتاء ولا يستتر نساؤهم من رجالهم ولا من غيرهم كذلك لا تستر المرأة شيئاً من بدنها عن أحد من الناس.
ولقد نزلنا يوماً على رجل منهم فجلسنا وامرأة الرجل معنا فبينا هي تحدثنا إذ كشفت فرجها وحكته ونحن ننظر إليها فسترنا وجوهنا وقلنا: أستغفر الله فضحك زوجها وقال للترجمان: قل لهم تكشفه بحضرتكم فترونه وتصونه فلا يوصل إليه هو خير من أن تغطيه وتمكن منه وليس يعرفون الزنا ومن ظهروا منه على شيء من فعله شقوه بنصفين وذلك أنهم يجمعون بين أغصان شجرتين ثم يشدونه بالأغصان ويرسلون الشجرتين فينشق الذي شد إليهما.
وقال بعضهم وسمعني أقرا قرآناً فاستحسن القرآن وأقبل يقول للترجمان قل له: لا تسكت وقال لي هذا الرجل يوماً على لسان الترجمان: قل لهذا العربي: ألربنا عز وجل امرأة فاستعظمت ذلك وسبحت الله واستغفرته فسبح واستغفر كما فعلت وكذلك رسم التركي كلما سمع المسلم يسبح ويهلل قال مثله. ورسوم تزويجهم وهو أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه: إما ابنته أو أخته أو بعض من يملك أمره على كذا وكذا ثوب خوارزمي فإذا وافقه حملها إليه وربما كان المهر جمالاً أو دواب أو غير ذلك وليس يصل الواحد إلى امرأته حتى يوفي الصداق الذي قد وافق وليها عليه فإذا وفاه إياه جاء غير محتشم حتى يدخل إلى المنزل الذي هي فيه فيأخذها بحضرة أبيها وأمها وإخوتها فلا يمنعونه من ذلك.
وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد تزوج الأكبر من ولده بامرأته إذا لم تكن أمه ولا يقدر أحد من التجار ولا غيرهم أن يغتسل من جنابة بحضرتهم إلا ليلا من حيث لا يرونه وذلك أنهم يغضبون ويقولون: هذا يريد أن يسحرنا لأنه قد تفرس في الماء ويغرمونه مالا.
ولا يقدر أحد من المسلمين أن يجتاز ببلدهم حتى يجعل له منهم صديقاً ينزل عليه ويحمل له من بلد الإسلام ثوباً ولامرأته مقنعة وشيئاً من فلفل وجاورس وزبيب وجوز فإذا قدم على صديقه ضرب له قبة وحمل إليه من الغنم على قدره حتى يتولى المسلم ذبحها لأن الترك لا يذبحون وإنما يضرب الواحد منهم رأس الشاة حتى تموت.
وإذا أراد الرجل منهم الرحيل وقد قام عليه شيء من جماله ودوابه أو احتاج إلى مال ترك ما قد قام عند صديقه التركي وأخذ من جماله ودوابه وماله حاجته ورحل فإذا عاد من الوجه الذي يقصده قضاه ماله ورد إليه جماله ودوابه.
وكذلك لو اجتاز بالتركي إنسان لا يعرفه ثم قال: أنا ضيفك وأنا أريد من جمالك ودوابك ودراهمك دفع إليه ما يريد فإن مات التاجر في وجهه ذلك وعادت القافلة لقيهم التركي وقال أين ضيفي فإن قالوا: مات حط القافلة ثم جاء إلى أنبل تاجر يراه فيهم فحل متاعه وهو ينظر فأخذ من دراهمه مثل ماله عند ذلك التاجر بغير زيادة حبة وكذلك يأخذ من دوابه وجماله وقال: ذلك ابن عمك وأنت أحق من غرم عنه وإن فر فعل أيضاً ذلك الفعل وقال له ذلك مسلم مثلك خذ أنت منه وإن لم يوافق المسلم ضيفه في الجادة سأل عن بلاده: أين هو فإذا أرشد إليه سار في طلبه مسيرة أيام حتى يصير إليه ويرفع ماله عنده وكذلك ما يهديه له.
وهذه أيضاً سبيل التركي إذا دخل الجرجانية سأل عن ضيفه فنزل عليه حتى يرتحل ومتى مات التركي عند صديقه المسلم واجتازت القافلة وفيها صديقه قتلوه وقالوا: أنت قتلته بحبسك إياه ولو لم تحبسه لما مات وكذلك إن سقاه نبيذا فتردى من حائط قتلوه به فإن لم يكن في القافلة عمدوا إلى أجل من فيها فقتلوه.
وأمر اللواط عندهم عظيم جداً ولقد نزل على حي كوذركين وهو خليفة ملك الترك رجل من أهل خوارزم فأقام عند ضيف له مدة في ابتياع غنم وكان للتركي ابن أمرد فلم يزل الخوارزمي يداريه ويراوده عن نفسه حتى طاوعه على ما أراد وجاء التركي فوجدهما في بنيانهما فرفع التركي ذلك إلى كوذركي فقال له: اجمع الترك فجمعهم فلما اجتمعوا قال للتركي: بالحق تحب أن أحكم أم بالباطل قال: بالحق قال: أحضر ابنك فأحضره فقال: يجب عليه وعلى التاجر أن يقتلا جميعاً فامتعض التركي من ذلك وقال: لا أسلم ابني فقال: فيفتدي التاجر نفسه ففعل ودفع للتركي غنماً للفعل بابنه ودفع إلى كوذركين أربعمئة شاة لما رفع عنه وارتحل عن بلد الترك فأول من لقينا من ملوكهم ورؤسائهم ينال الصغير وقد كان أسلم فقيل له: إن أسلمت لم ترؤسنا فرجع عن إسلامه فلما وصلنا إلى الموضع الذي هو فيه قال: لا أترككم تجوزون لأن هذا شيء ما سمعنا به قط ولا ظننا أنه يكون فرفقنا به إلى أن رضي بخفتان جرجاني يساوي عشرة دراهم وشقة باي باف وأقراص خبز وكف زبيب ومئة جوزة فلما دفعنا هذا إليه سجد لنا وهذا رسمهم إذا أكرم الرجل الرجل سجد له وقال: لولا أن بيوتي نائية عن الطريق لحملت إليكم غنما وبرا وانصرف عنا وارتحلنا.
فلما كان من غد لقينا رجل واحد من الأتراك دميم الخلقة رث الثياب قميء المنظر خسيس المخبر وقد أخذنا مطر شديد فقال: قفوا فوقفت القافلة بأسرها وهي نحو ثلاثة آلاف دابة وخمسة آلاف رجل ثم قال: ليس يجوز منكم أحد فوقفنا طاعة لأمره فقلنا له: نحن أصدقاء كوذركين فأقبل يضحك ويقول: من كوذركين أنا أخرى على لحية كوذركين ثم قال: بكند يعني الخبز بلغة خوارزم فدفعت إليه أقراصاً فأخذها وقال مروا قد رحمتكم. قال: وإذا مرض الرجل منهم وكان له جوارٍ وعبيد خدموه ولم يقربه أحد من أهل بيته ويضربون له خيمة ناحية من البيوت فلا يزال فيها إلى أن يموت أو يبرأ وإن كان عبداً أو فقيراً رموا به في الصحراء وارتحلوا عنه.
وإذا مات الرجل منهم حفروا له حفيرة كبيرة كهيئة البيت وعمدوا إليه فألبسوه قرطقة ومنطقته وقوسه وجعلوا في يده قدحاً من خشب فيه نبيذ وتركوا بين يديه إناء من خشب فيه نبيذ وجاءوا بكل ماله فجعلوه معه في ذلك البيت ثم أجلسوه فيه فسقفوا البيت عليه وجعلوا فوقه مثل القبة من الطين وعمدوا إلى دوابه على قدر كثرتها فقتلوا منها مئة رأس إلى مئتي رأس إلى رأس واحد وأكلوا لحومها إلا الرأس والقوائم والجلد والذنب فإنهم يصلبون ذلك على الخشب وقالوا: هذه دوابه يركبها إلى الجنة فإن كان قتل إنساناً وكان شجاعاً نحتوا صوراً من خشب على عدد من قتل وجعلوها على قبره وقالوا: هؤلاء غلمانه يخدمونه في الجنة.
وربما تغافلوا على قتل الدواب يوماً أو يومين فيحثهم شيخ من كبارهم فيقول: رأيت فلاناً يعني الميت في النوم فقال لي: هو ذا تراني وقد سبقني أصحابي وشققت رجلاي من أتباعي لهم ولست ألحقهم وقد بقيت وحدي فعندها يعمدون إلى دوابه فيقتلوها ويصلبونها عند قبره فإذا كان بعد يوم أو يومين جاءهم ذلك الشيخ وقال: قد رأيت فلاناً وقال: عرف أهلي وأصحابي أني قد لحقت من تقدمني واسترحت من التعب.
قال: والترك كلهم ينتفون لحاهم إلا أسبلتهم وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه وعليه البوستين فإذا رآه إنسان من بعد لم يشك أنه تيس.
وملك الترك الغزية يقال له يبغو وهو اسم الأمير وكل من ملك هذه القبيلة فبهذا الاسم يسمى ويقال لخليفته كوذركين وكذا كل من يخلف رئيساً منهم يقال له: كوذركين ثم نزلنا بعد ارتحالنا من ناحية هؤلاء بصاحب جيشهم ويقال له: أترك بن القطغان فضرب لنا قباباً تركية وأنزلنا فيها وإذا له ضبنة وحاشية وبيوت كبيرة وساق إلينا غنماً وقاد دواب لنذبح الغنم ونركب الدواب ودعا هو جماعة من أهل بيته وبني عمه فقتل لهم غنماً كثيرة وكنا قد أهدينا إليه هدية من ثياب وزبيب وجوز وفلفل وجاورس فرأيت امرأته وقد كانت امرأة أبيه وقد أخذت لحماً ولبناً وشيئاً مما أتحفناه به وخرجت من البيوت إلى الصحراء فحفرت حفيرة ودفنت الذي كان معها فيها وتكلمت بكلام فقلت للترجمان: ما تقول قال: تقول هذه هدية للقطغان أبي الترك أهداها له العرب فلما كان في الليل دخلت أنا والترجمان إليه وهو في قبته جالس ومعنا كتاب نذير الحرمي إليه يأمره فيه بالإسلام ويحضه عليه ووجه إليه خمسين ديناراً فيها عدة دنانير مسيبية وثلاثة مثاقيل مسك وجلود أديم وثياب مروية وقطعنا له منها قرطقين وخف أديم وثوب ديباج وخمسة أثواب حرير فدفعنا إليه هديته ودفعنا إلى امرأته مقنعة وخاتما.
وقرأت عليه الكتاب فقال للترجمان: لست أقول لكم شيئاً حتى ترجعوا وأكتب إلى السلطان بما أنا عازم عليه ونزع الديباجة التي كانت عليه ليلبس الخلع التي ذكرنا فرأيت القرطق الذي تحتها وقد تقطع وسخاً لأن رسومهم أن لا ينزع الواحد منهم الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعاً وإذا هو قد نتف لحيته كلها وسباله فبقي كالخادم ورأيت الترك يذكرون أنه أفرسهم.
ولقد رأيت يوماً وهو يسايرنا على فرسه إذ مرت وزة طائرة فأوتر قوسه وحرك دابته تحتها ثم رماها فإذا هو قد أنزلها.
فلما كان في بعض الأيام وجه خلف القواد الذين يلونه وهم: طرخان وينال وابن أخيهما وإيلغز وكان طرخان أنبلهم وأجلهم وكان أعرج أعمى أشل فقال لهم: إن هؤلاء رسل ملك العرب إلى صهري ألمش بن شلكي ولم يخير لي أن أطلقهم إلا عن مشورتكم فقال طرخان: هذا شيء ما رأيناه قط ولا سمعنا به ولا اجتاز بنا رسول سلطان مذ كنا نحن وآباؤنا وما أظن إلا أن السلطان قد أعمل الحيلة ووجه هؤلاء إلى الخزر ليستجيش بهم علينا والوجه أن يقطع هؤلاء الرسل نصفين نصفين ونأخذ ما معهم.
وقال آخر منهم: لا بل نأخذ ما معهم ونتركهم عراة يرجعون من حيث جاءوا وقال آخر: لا ولكن لنا عند ملك الخزر أسراء فنبعث بهؤلاء نفادي بهم أولئك فما زالوا يتراجعون بينهم هذه الأشياء سبعة أيام ونحن في حالة الموت حتى أجمع رأيهم على أن يخلوا سبيلنا ونمضي فخلعنا على طرخان خفتاناً مروياً وشقتين باي باف وعلى أصحابه كل واحد قرطقاً وكذلك على ينال ودفعنا إليهم فلفلاً وجاورس وأقراصاً من خبز وانصرفوا عنا.
ورحلنا حتى صرنا إلى نهر يغندي فأخرج الناس سفرهم وهي من جلود الجمال فبسطوها وأخذوا بالأثاث من الجمال التركية لأنها مدورة فجعلوها في جوفها حتى تمتد ثم حشوها بالثياب والمتاع فإذا امتلأت جلس في كل سفرة جماعة من خمسة وستة وأربعة وأقل وأكثر ويأخذون بأيديهم خشب الخدنك فيجعلونه كالمجاديف ولا يزالون يجدفون والماء يحملها وهي تدور حتى نعبر فأما الدواب والجمال فإنه يصاح بها فتعبر سباحة ولا بد أن تعبر جماعة من المقاتلة ومعهم السلاح قبل أن يعبر شيء من القافلة ليكونوا طليعة للناس خيفة من الباشغرد أن يكبسوا الناس وهم يعبرون.
فعبرنا يغندي على هذه الصفة التي ذكرنا ثم عبرنا بعد ذلك نهراً يقال له جام في السفر أيضاً ثم عبرنا جاخش ثم أذل ثم أردن ثم وارش ثم أختي ثم وتبا وهذه كلها أنهار كبار.
ثم صرنا بعد ذلك إلى البنجاك وإذا هم نزول على ماء شبيه بالبحر غير جار وإذا هم سمر شديدو السمرة وإذا هم محلقوا اللحى فقراء خلاف الغزية لأني رأيت من الغزية من يملك عشرة آلاف دابة ومئة ألف رأس من الغنم وأكثر ما ترعى من الغنم ما بين الثلج تبحث بأظلافها تطلب الحشيش فإذا لم تجده قضمت الثلج فسمنت غاية السمن فإذا كان الصيف وأكلت الحشيش هزلت فنزلنا على البجناك يوما واحداً ثم ارتحلنا فنزلنا على نهر جيخ وهو أكبر نهر رأيناه وأعظمه وأشده جرية ولقد رأيت سفرةً انقلبت فيه فغرق من كان فيها وذهبت رجال كثير من الناس وغرقت عدة جمال ودواب ولم نعبره إلا بجهد. ثم سرنا أياماً وعبرنا نهر جاخا ثم بعده نهر أرخز ثم باجاغ ثم سمور ثم كنال ثم نهر سوخ ثم نهر كنجلو.
ووقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد فحذرناهم أشد الحذر وذلك أنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداماً على القتل يلقى الرجل الرجل فيفرز هامته ويأخذها ويتركه وهم يحلقون لحاهم ويأكلون القمل يتتبع الواحد منهم درز قرطقة فيقرض القمل بأسنانه ولقد كان معنا منهم واحد قد أسلم وكان يخدمنا فرأيته وجد قملة في ثوبه فقصعها بظفره ثم لحسها وقال لما رآني: جيد.
وكل واحد منهم ينحت خشبة على قدر الإحليل ويعلقها عليه فإذا أراد سفراً أو لقاء عدو قبلها وسجد لها وقال: يا رب افعل بي كذا وكذا فقلت للترجمان: سل بعضهم ما حجتهم في هذا ولم جعله ربه قال: لأني خرجت من مثله فلست أعرف لنفسي خالقاً غيره.
ومنهم من يزعم أن له أثني عشر ربا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب وللريح رب وللشجر رب وللناس رب وللدواب رب وللماء رب ولليل رب وللنهار رب وللموت رب وللأرض رب والرب الذي في السماء أكبرهم إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضى كل واحد منهم بما يعمل شريكه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات وطائفة تعبد السمك وطائفة تعبد الكراكي فعرفوني أنهم كانوا يحاربون قوماً من أعدائهم فهزموهم وأن الكراكي صاحت وراءهم ففزعوا وانهزموا بعدها هزموا فعبدوا الكراكي لذلك وقالوا: هذه ربنا وهذه فعالاته هزم أعدائنا فهم يعبدونها لذلك.
قال: وسرنا من بلد هؤلاء فعبرنا نهر جرمشان ثم نهر أورن ثم نهر أورم ثم نهر بياناخ ثم نهر وتيغ ثم نهر نياسنه ثم نهر جاوشيز وبين النهر والنهر مما ذكرنا اليومان والثلاثة والأربعة وأقل من ذلك وأكثر.
الصقالبة
فلما كنا من ملك الصقالبة وهو الذي قصدنا له على مسيرة يوم وليلة وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده وإخوته وأولاده فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجاوزس وساروا معنا فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو بنفسه فلما رآنا نزل فخر ساجداً شكراً لله جل وعز وكان في كمه دراهم فنثرها علينا ونصب لنا قباباً فنزلناها.
وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة عشر وثلاثمئة فكانت المسافة من الجرجانية إلى بلده سبعين يوماً فأقمنا يوم الأحد ويوم الأثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء في القباب التي ضربت لنا حتى جمع الملوك والقواد وأهل بلده ليسمعوا قراءة الكتاب فلما كان يوم الخميس واجتمعوا نشرنا المطردين اللذين كانا معنا وأسرجنا الدابة بالسرج الموجه إليه وألبسناه السواد وعممناه وأخرجت كتاب الخليفة وقلت له: لا يجوز أ نجلس والكتاب يقرأ فقام على قدميه هو ومن حضر من وجوه أهل مملكته وهو رجل بدين بطين جداً وبدأت فقرأت صدر الكتاب فلما بلغت منه سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو قلت: رد على أمير المؤمنين السلام فرد وردوا جميعاً بأسرهم ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفاً حرفاً فلما استتممنا قراءته كبروا تكبيرة ارتجت لها الأرض.
ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس وهو قائم ثم أمرته بالجلوس فجلس عند قراءة كتاب نذير الحرمي فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له ولامرأته فلم أزل أعرض عليه وعليها شيئاً شيئاً حتى فرغنا من ذلك ثم خلعت على امرأته بحضرة الناس وكانت جالسة إلى جنبه وهذه سنتهم وزيهم فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم وانصرفنا.
فلما كان بعد ساعة وجه إلينا فدخلنا إليه وهو في قبته والملوك عن يمينه وأمرنا أن نجلس عن يساره وإذا أولاده جلوس بين يديه وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي فدعا بالمائدة فقدمت وعليه اللحم المشوي وحده فابتدأ هو فأخذ سكيناً وقطع لقمة وأكلها وثانية وثالثة ثم احتز قطعة دفعها إلى سوسن الرسول فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يديه وكذلك الرسم لا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة فساعة يتناولها قد جاءته مائدة ثم ناولني فجاءتني مائدة ثم قطع قطعة وناولها الملك الذي عن يمينه فجاءته مائدة ثم ناول الملك الثاني فجاءته مائدة ثم ناول الملك الرابع فجاءته مائدة ثم ناول أولاده فجاءتهم الموائد وأكلنا كل واحد من مائدته لا يشركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئا فإذا فرغ من الطعام حمل كل واحد منهم ما بقي على مائدته إلى منزله فلما أكلنا دعا بشراب العسل وهم يسمونه السجو ليومه وليلته فشرب قدحاً ثم قام قائماً فقال: هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وقام الملوك الأربعة وأولاده لقيامه وقمنا نحن أيضاً حتى إذا فعل ذلك ثلاث مرات ثم انصرفنا من عنده.
وقد كان يخطب له على منبره قبل قدومي: اللهم وأصلح الملك يلطوار ملك بلغار فقلت أنا له: إن الله هو الملك ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره جل وعز وهذا مولاك أمير المؤمنين قد رضي لنفسه أن يقال على منابره في الشرق والغرب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين وكذا من كان قبله من آبائه الخلفاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "فقال لي: فكيف يجوز أن يخطب لي قلت: باسمك واسم أبيك قال: إن أبي كان كافراً ولا أحب أن أذكر اسمه على المنبر وأنا أيضا فما أحب أن يذكر اسمي إذ كان الذي سماني به كافراً ولكن ما اسم مولاي أمير المؤمنين فقلت: جعفر قال: فيجوز أن أتسمى باسمه قلت: نعم قال: قد جعلت اسمي جعفرا واسم أبي عبد الله فتقدم إلى الخطيب بذلك ففعلت فكان يخطب له: اللهم وأصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين
ولما كان بعد قراءة الكتاب وإيصال الهدايا بثلاثة أيام بعث إلي وقد كان بلغه أمر الأربعة آلاف دينار وما كان من حيلة النصراني في تأخيرها وكان خبرها في الكتاب فلما دخلت إليه أمرني بالجلوس فجلست ورمى إلي كتاب أمير المؤمنين فقال: من جاء بهذا الكتاب قلت: أنا ثم رمى إلي كتاب الوزير فقال: وهذا أيضا قلت: أنا قال: فالمال الذي ذكر فيهما ما فعل به قلت: تعذر جمعه وضاق الوقت وخشينا فوت الدخول فتركناه ليلحق بنا فقال: إنما جئتم بأجمعكم وأنفق عليكم مولاي ما أنفق لحمل هذا المال إلي حتى أبني به حصناً يمنعني من اليهود الذين قد استعبدوني فأما الهدية فغلامي قد كان يحسن أن يجيء بها قلت: هو كذلك إلا أنا قد اجتهدنا فقال للترجمان: قل له أنا لا أعرف هؤلاء إنما أعرفك أنت وذلك أن هؤلاء قوم عجم ولو علم الأستاذ أيده الله أنهم يبلغون ما تبلغ ما بعث بك حتى تحفظ علي وتقرأ كتابي وتسمع جوابي ولست أطالب غيرك بدرهم فاخرج من المال فهو أصلح لك فانصرفت من بين يديه مذعوراً مغموماً وكان رجلاً له منظر وهيبة بدين عريض كأنما يتكلم من خابية فخرجت من عنده وجمعت أصحابي وعرفتهم ما جرى بيني وبينه وقلت: لهم من هذا حذرت.
وكان مؤذنه يثني الإقامة إذا أذن فقلت له: إن مولاك أمير المؤمنين يفرد في داره الإقامة فقال للمؤذن: اقبل ما يقوله لك ولا تخالفه فأقام المؤذن على ذلك أياماً وهو يسألني عن المال ويناظرني فيه وأنا أويسه منه وأحتج فيه فلما يئس منه تقدم إلى المؤذن أن يثني الإقامة ففعل وأراد بذلك أن يجعله طريقا إلى مناظرتي فلما سمعت تثنيته للإقامة نهيته وصحت عليه فعرف الملك فأحضرني وأحضر أصحابي فلما اجتمعنا قال الترجمان: قل له يعنيني ما يقول في مؤذنين افرد أحدهما وثنى الآخر ثم صلى كل واحد منهما بقوم أتجوز الصلاة أم لا قلت: الصلاة جائزة فقال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع قال: قل له فما يقول في رجل دفع إلى قوم مالا لا قوام ضعفى محاصرين مستعبدين فخانوه فقلت: هذا لا يجوز وهؤلاء قوم سوء قال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع فقال للترجمان: قل له: تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشاً كان يقدر علي قلت: لا قال: فأمير خراسان قلت: لا قال: أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار قلت: بلى قال: قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإني لخائف من مولاي أمير المؤمنين وذلك أني أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو علي فأهلك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة وأنتم تأكلون خبزه وتلبسون ثيابه وترونه في كل وقت خنتموه في مقدار رسالة بعثكم بها إلي إلى قوم ضعفى وخنتم المسلمين لا أقبل منكم أمر ديني حتى يجيئني من ينصح لي فيما يقول فإذا جاءني إنسان بهذه الصورة قبلت منه فألجمنا وما أحرنا جواباً وانصرفنا من عنده.
قال: فكان بعد هذا القول يؤثرني ويقربني ويباعد أصحابي ويسميني أبا بكر الصديق.
ورأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها كثرةً من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرت احمراراً شديداً وسمعت في الجو أصواتاً شديدة وهمهمة عالية فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه وإذا فيه أمثال الناس والدواب وإذا في أيدي الأشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواب وسلاحاً فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة ففزعنا من ذلك وأقبلنا على التضرع والدعاء وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا. قال: وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة فتختلطان جميعاً ساعة ثم تفترقان فما زال الأمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا فسألنا الملك عن ذلك فزعم أن أجداده كانوا يقولون: إن هؤلاء من مؤمني الجن وكفارهم وهم يقتتلون في كل عشية وأنهم ما عدموا هذا مذ كانوا في كل ليلة.
قال: ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قد وقع إلى تلك الناحية قبتي لنتحدث فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع ونحن ننتظر أذان العتمة فإذا بالأذان فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر فقلت للمؤذن :أي شيء أذنت قال: أذان الفجر قلت: فالعشاء الآخرة قال: نصليها مع المغرب قلت: فالليل قال: كما ترى وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول وذكر أنه منذ شهر ما نام خوفا أن تفوته صلاة الغداة وذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج.
قال: ورأيت النهار عندهم طويلاً جداً وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عدداً يسيراً ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكباً متفرقة وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتةً وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجل الرجل فيه من أكثر من غلوة سهم.
قال: ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر وحدثني الملك أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوم يقال لهم ويسو الليل عندهم أقل من ساعة قال: ورأيت البلد عند طلوع الشمس يحمره كل شيء فيه من الأرض والجبال وكل شيء ينظر الإنسان إليه حين تطلع الشمس كأنها غمامة كبرى فلا تزال الحمرة كذلك حتى تتكبد السماء وعرفني أهل البلد أنه إذا كان الشتاء عاد الليل في طول النهار وعاد النهار في قصر الليل حتى إن الرجل منا ليخرج إلى موضع يقال له إتل بيننا وبينه أقل من مسيرة فرسخ وقت طلوع الفجر فلا يبلغه إلى العتمة إلى وقت طلوع الكواكب كلها حتى تطبق السماء فما برحنا من البلد حتى امتد الليل وقصر النهار.
ورأيتهم يتبركون بعواء الكلاب جداً ويفرحون به ويقولون: سنة خصب وبركة وسلامة.
ورأيت الحيات عندهم كثيرة حتى إن الغصن من الشجرة لتلتف عليه العشرة منها والأكثر ولا يقتلونها ولا تؤذيهم حتى لقد رأيت في بعض المواضع شجرة طويلة يكون طولها أكثر من مئة ذراع وقد سقطت وإذا بدنها عظيم جداً فوقفت أنظر إليه إذ تحرك فراعني ذلك وتأملته فإذا عليه حية قريبة منه في الغلظ والطول فلما رأتني سقطت عنه وغابت بين الشجر فجئت فزعاً فحدثت الملك ومن كان في مجلسه فلم يكترثوا لذلك وقال: لا تجزع فليس تؤذيك ونزلنا مع الملك منزلاً فدخلت أنا وأصحابي تكين وسوسن وبارس ومعنا رجل من أصحاب الملك بين الشجر فرأينا عوداً صغيراً أخضر كرقة المغزل وأطول فيه عرق أخضر على رأس العرق ورقة عريضة مبسوطة على الأرض مفروش عليها مثل النابت فيها حب ولا يشك من يأكله أنه رمان أمليسي فأكلنا منه فإذا به من اللذة أمر عظيم فما زلنا نتبعه ونأكله.
ورأيت لهم تفاحاً أخضر شديد الخضرة وأشد حموضةً من خل الخمر وتأكله الجواري فيسمن عليه ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق لقد رأيت منه غياضاً تكون الغيضة أربعين فرسخاً في مثلها ورأيت لهم شجراً لا أدري ما هو مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ورؤوسه كرؤوس النخل له خوص دقاق إلا أنه مجتمع يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه فيثقبونه ويجعلون تحته إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل إن أكثر الإنسان منه أسكره كما يسكر الخمر.
وأكثر أكلهم الجاورس ولحم الدابة على أن الحنطة والشعير كثير وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه ليس للملك فيه حق غير أنهم يؤدون إليه في كل سنة من كل بيت جلد سمور وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان فغنمت كان له معهم حصة ولا بد لكل من يعترس أو يدعو دعوة من زله للملك على قدر الوليمة وساخرخ من نبيذ العسل وحنطة ردية لأن أرضهم سوداء منتنة.
وليس لهم مواضع يجمعون فيها طعامهم ولكنهم يحفرون في الأرض آباراً ويجعلون الطعام فيها فليس يمضي عليه إلا أيام يسيرة حتى يتغير ويريح فلا ينتفع به وليس لهم زيت ولا شيرج ولا دهن بتةً وإنما يقيمون مقام هذه الأدهان دهن السمك فكل شيء يستعملونه فيه يكون زفراً ويعملون من الشعير حساء يحسونه الجواري والغلمان وربما طبخوا الشعير باللحم فأكل الموالي اللحم وأطعموا الجواري الشعير إلا أن يكون رأس تيس فيطعم من اللحم.
وكلهم يلبسون القلانس فإذا ركب الملك ركب وحده بغير غلام ولا أحد يكون معه فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فجعلها تحت إبطه فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم إلى رؤوسهم وكذلك كل من يدخل إلى الملك من صغير وكبير حتى أولاده وإخوته ساعة ينظرون إليه قد أخذوا قلانسهم فجعلوها تحت آباطهم ثم أوموا إليه برؤوسهم وجلسوا ثم قاموا حتى يأمرهم بالجلوس وكل من يجلس بين يديه فإنما يجلس باركا ولا يخرج قلنسوته ولا يظهرها حتى يخرج من بين يديه فيلبسها عند ذلك.
وكلهم في قباب إلا أن قبة الملك كبيرة جداً تسع ألف نفس وأكثر مفروشة بالفرش الأرمني وله في وسطها سرير مغشى بالديباج الرومي.
ومن رسومهم أنه إذا ولد لابن الرجل مولود أخذه جده دون أبيه وقال: أنا أحق به من أبيه في حضنه حتى يصير رجلاً وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده فعرفت الملك أن هذا غير جائز وعرفته كيف المواريث حتى فهمها.
وما رأيت أكثر من الصواعق في بلدهم وإذا وقعت الصاعقة على بيت لم يقربوه ويتركونه على حالته وجميع من فيه من رجل ومال وغير ذلك حتى يتلفه الزمان ويقولون: هذا بيت مغضوب عليهم.
وإذا قتل الرجل منهم الرجل عمداً أقادوه به وإذا قتله خطأً صنعوا له صندوقاً من خشب الخدنك وجعلوه في جوفه وسمروه عليه وجعلوا معه ثلاثة أرغفة وكوز ماء ونصبوا له ثلاث خشبات مثل الشبائح وعلقوه بينها وقالوا: نجعله بين السماء والأرض يصيبه المطر والشمس لعل الله أن يرحمه فلا يزال معلقا حتى يبليه الزمان وتهب به الرياح.
وإذا رأوا إنساناً له حركة ومعرفة بالأشياء قالوا: هذا حقه أن يخدم ربنا فأخذوه وجعلوا في عنقه حبلاً وعلقوه في شجرة حتى يتقع.
ولقد حدثني ترجمان الملك أن سندياً سقط إلى ذلك البلد فأقام عند الملك برهة من الزمان يخدمه وكان خفيفاً فهماً فأراد جماعة منهم الخروج معهم فنهاه عن ذلك فاستأذن السندي الملك في الخروج معهم فنهاه عن ذلك وألح عليه حتى أذن له فخرج معهم في سفينة فرأوه حركاً كيساً فتآمروا بينهم وقالوا هذا يصلح لخدمة ربنا فنوجه به إليه واجتازوا في طريقهم بغيضة فأخرجوه إليها و جعلوا في عنقه حبلاً وشدوه في رأس شجرة عالية وتركوه ومضوا.
وإذا كانوا يسيرون في طريق فأراد أحدهم البول فبال وعليه سلاحه انتهبوه وأخذوا سلاحه وثيابه وجميع ما معه وهذا رسم لهم ومن خط عنه سلاحه وجعله ناحية وبال لم يعرضوا له وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض ولا يزنون بوجه ولا سبب ومن زنا منهم كائناً من كان ضربوا له أربع سكك وشدوا يديه ورجليه إليها وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً ثم يعلق كل قطعة منه ومنها على شجرة وما زلت اجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني وفي غياضهم عسل كثير في مساكن النحل يعرفونها فيخرجون لطلب ذلك فربما وقع عليهم قوما من أعدائهم فقتلوهم وفيهم تجار كثير يخرجون إلى أرض الترك فيجلبون الغنم وإلى بلد يقال له ويسو فيجلبون السمور والثعلب الأسود.
ورأينا فيهم أهل بيت يكونون خمسة الآف نفس من امرأة ورجل قد أسلموا كلهم يعرفون بالبرنجار وقد بنوا لهم مسجداً من خشب يصلون فيه ولا يعرفون القراءة فعلمت جماعة ما يصلون به.
ولقد اسلم على يدي رجل يقال له طالوت فأسميته عبد الله فقال: أريد أن تسميني باسمك محمداً ففعلت وأسلمت امرأته وأمه وأولاده فسموا كلهم محمداً وعلمته الحمد لله و قل هو الله أحد فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة.
وكنا لما وافينا الملك وجدناه نازلاً على ماء يقال له خلجة وهي ثلاث بحيرات منها اثنتان كبيرتان وواحدة صغيرة إلا أنه ليس في جميعها شيء يلحق غوره وبين هذا الموضع وبين نهر لهم عظيم يصب إلى بلاد الخزر يقال له نهر إتل نحو الفرسخ وعلى هذا النهر موضع سوق تقوم في كل مديدة ويباع فيها المتاع الكثير النفيس.
وكان تكين حدثني أن في بلد الملك رجلاً عظيم الخلق جداً فلما صرت إلى البلد سألت الملك عنه فقال: نعم قد كان في بلدنا ومات ولم يكن من أهل البلد ولا من الناس أيضاً وكان من خبره أن قوماً من التجار خرجوا إلى نهر إتل وهو نهر بيننا وبينه يوم واحد كما يخرجون وهذا النهر قد مد وطغى ماؤه فلم أشعر يوماً إلا وقد وافاني جماعة من التجار فقالوا: أيها الملك قد قفا على الماء رجل إن كان من أمة تقرب منا فلا مقام لنا في هذه الديار وليس لنا غير التحويل.
فركبت معهم حتى صرت إلى النهر فإذا أنا بالرجل وإذا هو بذراعي اثنا عشر ذراعاً وإذا له رأس كأكبر ما يكون من القدور وأنف أكثر من شبر وعينان عظيمتان وأصابع تكون أكثر من شبر شبر فراعني أمره وداخلني ما داخل القوم من الفزع وأقبلنا نكلمه ولا يكلمنا بل ينظر إلينا فحملته إلى مكاني وكتبت إلى أهل ويسو وهم منا على ثلاثة أشهر أسألهم عنه فكتبوا إلي يعرفونني أن هذا الرجل من يأجوج ومأجوج وهم منا على ثلاثة أشهر عراة يحول بيننا وبينهم البحر لأنهم على شطه وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً يخرج الله عز وجل لهم كل يوم سمكة من البحر فيجيء الواحد منهم ومعه المدية فيجز منها قدر ما يكفيه ويكفي عياله فإن أخذ فوق ما يقنعه اشتكى بطنه وكذلك عياله يشتكون بطونهم وربما مات وماتوا بأسرهم فإذا أخذوا منها حاجتهم انقلبت ووقعت في البحر فهم في كل يوم على ذلك.
وبيننا وبينهم البحر من جانب والجبال محيطة بهم من جوانب أخر والسد أيضاً قد حال بينهم وبين الباب الذي كانوا يخرجون منه فإذا أراد الله عز وجل أن يخرجهم إلى العمارات سبب لهم فتح السد ونضب البحر وانقطع عنهم السمك.
قال: فسألته عن الرجل فقال: أقام عندي مدة فلم يكن ينظر إليه صبي إلا مات ولا حامل إلا طرحت حملها وكان إن تمكن من إنسان عصره بيديه حتى يقتله فلما رأيت ذلك علقته في شجرة عالية حتى مات إن أردت أن تنظر إلى عظامه ورأسه مضيت معك حتى تنظر إليها فقلت: أنا والله أحب ذاك فركب معي إلى غيضة كبيرة فيها شجرُ عظام فتقدمني إلى شجرة سقطت عظامه ورأسه تحتها فرأيت رأسه مثل القفير الكبير وإذا أضلاعه أكبر من عراجين النخل وكذلك عظام ساقيه وذراعيه فتعجبت منه وأنصرفت.
قال: وارتحل الملك من الماء الذي يسمى خلجة إلى نهر يقال له جاوشيز فأقام به شهرين ثم أراد الرحيل فبعث إلى قوم يقال لهم سواز يأمرهم بالرحيل معه فأبوا عليه وافترقوا فرقتين فرقة مع ختنه وكان قد تملك عليهم واسمه ويرغ فبعث إليهم الملك وقال: إن الله عز وجل قد من علي بالإسلام وبدولة أمير المؤمنين فأنا عبده وهذه الأمة قد قلدتني فمن خالفني لقيته بالسيف وكانت الفرقة الأخرى مع ملك من قبيلة يعرف بملك اسكل وكان في طاعته إلا أنه لم يكن داخلاً في الإسلام فلما وجه إليهم هذه الرسالة خافوا ناحيته فرحلوا بأجمعهم معه إلى نهر جاوشيز وهو نهر قليل العرض يكون عرضه خمسة أذرع وماؤه إلى السرة وفيه مواضع إلى الترقوة وأكثره قامة وحوله شجر كثير من الشجر الخدنك وغيره وبالقرب منه صحراء واسعة يذكرون أن بها حيواناً دون الجمل في الكبر وفوق الثور رأسه رأس جمل وذنبه ذنب ثور وبدنه بدن بغل وحوافره مثل أظلاف الثور له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير كلما أرتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح فمنه ما يكون طوله خمسة أذرع إلى ثلاثة أذرع إلى أكثر وأقل يرتعي ورق الشجر جيد الخضرة إذا رأى الفارس قصده فإن كان تحته جواد أمن منه بجهد وإن لحقه أخذه من ظهر دابته بقرنه ثم زج به في الهواء واستقبله بقرنه فلا يزال كذلك حتى يقتله.
ولا يعرض للدابة بوجه ولا سبب وهم يطلبونه في الصحراء والغياض حتى يقتلوه وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي يكون بينها ويجتمع لذلك عدة من الرماة بالسهام المسمومة فإذا توسطهم رموه حتى يثخنوه ويقتلوه.
ولقد رأيت عند الملك ثلاث طيفوريات كبار تشبه الجزع اليماني عرفني أنها معمولة من أصل قرن هذا الحيوان وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن.
قال: وما رأيت منهم إنساناً يحمر بل أكثرهم معلول وربما يموت أكثرهم بالقولنج حتى إنه ليكون بالطفل الرضيع منهم وإذا مات المسلم عندهم أو زوج المرأة الخوارزميه غسلوه غسل المسلمين ثم حملوه على عجلة تجره وبين يديه مطرد حتى يصيروا به إلى المكان الذي يدفنونه فيه فإذا صار إليه أخذوه عن العجلة وجعلوه على الأرض ثم خطوا حوله خطاً ونحوه ثم حفروا داخل ذلك الخط قبره وجعلوا له لحداً ودفنوه وكذلك يفعلون بموتاهم.
ولا تبكي النساء على الميت بل الرجال منهم يبكون عليه يجيئون في اليوم الذي مات فيقفون على باب قبته فيضجون بأقبح بكاء يكون وأوحشه.
هؤلاء للأحرار فإذا انقضى بكاؤهم وافى العبيد ومعهم جلود مضفورة فلا يزالون يبكون ويضربون جنوبهم وما ظهر من أبدانهم بتلك السيور حتى تصير في أجسادهم مثل ضرب السوط ولا بد من أن ينصبوا بباب قبته مطرداً ويحضروا سلاحه فيجعلونها حول قبره ولا يقطعون البكاء سنتين.
فإذا انقضت السنتان حطوا المطرد وأخذوا من شعورهم ودعا أقرباء الميت دعوة يعرف بها خروجهم من الحزن وإن كانت له زوجة تزوجت هذا إذا كان من الرؤساء فأما العامة فيفعلون بعض هذا بموتاهم.
وعلى ملك الصقالبة ضريبة يؤديها إلى ملك الخزر من كل بيت في مملكته جلد سمور وإذا قدمت السفينة من بلد الخزر إلى بلد الصقالبة ركب الملك فأحصى ما فيها وأخذ من جميع العشر وإذا قدم الروس أو غيرهم من سائر الأجناس برقيق فللملك أن يختار من كل عشرة أرؤس رأساً.
وابن ملك الصقالبة رهينة عند ملك الخزر وقد كان اتصل بملك الخزر عن ابنة ملك الصقالبة جمال فوجه يخطبها فاحتج عليه ورده فبعث وأخذها غصباً وهو يهودي وهي مسلمة فماتت عنده فوجه يطلب بنتاً له أخرى فساعة اتصل ذلك بملك الصقالبة بادر فزوجها لملك اسكل وهو من تحت يده خيفة أن يغتصبه إياها كما فعل بأختها وإنما دعا ملك الصقالبة أن يكاتب السلطان ويسأله أن يبني له حصناً خوفاً من ملك الخزر.
قال: وسألته يوما فقلت له: مملكتك واسعة وأموالك جمة وخراجك كثير فلم سألت السلطان أن يبني حصناً بمال من عنده لا مقدار له فقال رأيت دولة الإسلام مقبلة وأموالهم يؤخذ من حلها فالتمست ذلك لهذه العلة ولو أني أردت أن أبني حصناً من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذر ذلك علي وإنما تبركت بمال أمير المؤمنين فسألته ذلك.
الروسية
قال: ورأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إتل فلم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل شقرُ حمر لا يلبسون القراطق ولا الخفاتين ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه ويخرج إحدى يديه منه ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه جميع ما ذكرنا. وسيوفهم صفائح مشطبة أفرنجية ومن حد ظفر الواحد منهم إلى عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك.
وكل امرأة منهم فعلى ثديها حقة مشدودة إما من حديد وإما من فضة وإما من نحاس وإما من ذهب على قدر مال زوجها ومقداره وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضاً وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقاً وإن ملك عشرين ألفاً صاغ لها طوقين وكذلك كل عشرة آلاف يزداد طوقاً لامرأته فربما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة.
وأجل الحلي عندهم الخزر الأخضر من الخزف الذي يكون على السفن يبالغون فيه ويشترون الخرزة بدرهم وينظمونه عقودا لنسائهم.
وهم أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيديهم من الطعام بل هم كالحمير الضالة يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بإتل وهو نهر كبير ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب.
ويجتمع في البيت الواحد العشرة والعشرون والأقل والأكثر ولكل واحد سرير يجلس عليه ومعهم الجواري الروقة للتجار فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يفضي أربه.
ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يمتخط ويبصق فيها ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت وكل واحد منهم يمتخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الإنسان وحولها صور صغار وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها ثم يقول لها: يا رب قد جئت من بلد بعيد ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً ومن السمور كذا وكذا جلداً حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته ثم يقول: وجئتك بهذه الهدية ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة ويقول: أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول ثم ينصرف.
فإن تعسر عليه بيعه وطالت أيامه عاد بهدية ثانية وثالثة فإن تعذر ما يريد حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هدية وسألها الشفاعة وقال: هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه فلا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها ويستشفع بها ويتضرع بين يديها فربما تسهل له البيع فباع فيقول: قد قضى ربي حاجتي وأحتاج أن أكافيه فيعمد ما أريد ولا يخالفني فيما أقول ثم ينصرف إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك فيقول: الذي فعله قد رضي ربي عني وأكل هديتي.
وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحية عنهم وطرحوه فيها وجعلوا معه شيئاً من الخبز والماء ولا يقربونه ولا يكلمونه بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفاً أو مملوكاً فإن برئ وقام رجع إليهم وإن مات أحرقوه فإن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير.
وإذا أصابوا سارقاً أو لصاً جاءوا به إلى شجرة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقاً وعلقوه فيها ويبقى معلقاً حتى يتقطع من المكث بالرياح والأمطار.
وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أموراً أقلها الحرق فكنت أحب أن أقف على ذلك حتى بلغني موت رجل منهم جليل فجعلوه في قبره وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها.
وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة ويجعلونه فيها ويحرقونها والغني يجمعون ماله ويجعلونه ثلاثة أثلاث: فثلث لأهله وثلث يقطعون له به ثياباً وثلث ينبذون به نبيذاً يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها وتحرق مع مولاها.
وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلاً ونهاراً وربما مات الواحد منهم والقدح في يده وإذا مات الرئيس منهم قال أهله لجواريه وغلمانه: من منكم يموت معه فيقول بعضهم: أنا فإذا قال ذلك فقد وجب عليه لا يستوي له أن يرجع أبدا ولو أراد ذلك ما ترك وأكثر من يفعل هذا الجواري.
فلما مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قالوا لجواريه: من يموت معه فقالت إحداهن: أنا فوكلوا بها جاريتين تحفظانها وتكونان معها حيث سلكت حتى إنها ربما غسلتا رجليها بأيديهما وأخذوا في شأنه وقطع الثياب له وإصلاح ما يحتاج إليه والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة.
فلما كان اليوم الذي يحرق فيه هو والجارية حضرت إلى النهر الذي فيه سفينته فإذا هي قد أخرجت وجعل لها أربعة أركان من خشب الخدنك وغيره وجعل أيضاً حولها مثل الأنابير الكبار من الخشب ثم مدت حتى جعلت على ذلك الخشب وأقبلوا يذهبون ويجيئون ويتكلمون بكلام لا أفهم وهو بعد في قبره لم يخرجوه ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة وغشوه بالمضربات الديباج الرومي والمساند الديباج الرومي ثم جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا وهي وليت خياطته وإصلاحه وهي تقتل الجواري ورأيتها جوان بيرة ضخمة مكفهرة.
فلما وافوا قبره نحوا التراب عن الخشب ونحوا الخشب واستخرجوه في الإزار الذي مات فيه فرأيته قد اسود لبرد البلد وقد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذاً وفاكهة وطنبوراً فأخرجوا جميع ذلك فإذا هو لم ينتن ولم يتغير منه شيء غير لونه.
فألبسوه سراويل ورانا وخفاً وقرطقاً وخفتان ديباج له أزرار ذهب وجعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمورية وحملوه حتى أدخلوه القبة التي على السفينة وأجلسوه على المضربة وأسندوه بالمساند وجاءوا بالنبيذ والفاكهة والريحان فجعلوه معه.
وجاءوا بخبز ولحم وبصل فطرحوه بين يديه وجاءوا بكلب فقطعوه نصفين وألقوه في السفينة ثم جاءوا بجميع سلاحه فجعلوه إلى جانبه ثم أخذوا دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيف وألقوا لحمهما في السفينة.
ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضا وألقوهما فيها ثم أحضروا ديكاً ودجاجة فقتلوهما وطرحوهما فيها.
والجارية التي تريد أن تقتل ذاهبة وجائية تدخل قبةً قبةً من قبابهم فيجامعها صاحب القبة ويقول لها: قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك.
فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجليها على أكف الرجال وأشرفت على ذلك الملبن وتكلمت بكلام لها فأنزلوها ثم أصعدوها ثانية ففعلت كفعلها في المرة الأولى ثم أنزلوها وأصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين ثم دفعوا إليها دجاجة فقطعت رأسها ورمت به وأخذوا الدجاجة فألقوها في السفينة.
فسألت الترجمان عن فعلها فقال: قالت في أول مرة أصعدوها: هو ذا أرى أبي وأمي وقالت في الثانية: هو ذا أرى جميع قرابتي الموتى قعوداً وقالت في المرة الثالثة: هو ذا أرى مولاي قاعداً في الجنة والجنة حسنة خضراء ومعه الرجال والغلمان وهو يدعوني فاذهبوا بي إليه.
فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها ودفعتهما إلى المرأة التي تسمى ملك الموت وهي التي تقتلها ونزعت خلخالين كانا عليها ودفعتهما إلى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها وهما ابنتا المرأة المعروفة بملك الموت.
ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب ودفعوا إليها قدحاً نبيذاً فغنت عليه وشربته فقال لي الترجمان: إنها تودع صواحباتها بذلك ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته وطولت الغناء والعجوز تستحثها على شربه والدخول إلى القبة التي فيها مولاها فرأيتها وقد تبلدت وأرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها وبين السفينة فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة ودخلت معها.
وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري ولا يطلبن الموت مع مواليهن ثم دخل إلى القبة ستة رجال فجامعوا بأسرهم الجارية ثم أضجعوها إلى جانب مولاها وأمسك اثنان رجليها واثنان يديها وجعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلاً مخالفاً ودفعته إلى اثنين ليجذباه وأقبلت ومعها خنجر عريض النصل فأقبلت تدخله بين أضلاعها موضعاً موضعاً وتخرجه والرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت.
ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت فأخذ خشبة وأشعلها بالنار ثم مشى القهقرى نحو قفاه إلى السفينة ووجهه إلى الناس والخشبة المشعلة في يده الواحدة ويده الأخرى على باب استه وهو عريان حتى أحرق الخشب المعبأ الذي تحت السفينة من بعدما وضعوا الجارية التي قتلوها في جنب مولاها.
ثم وافى الناس بالخشب والحطب ومع كل واحد خشبة قد ألهب رأسها فيلقيها في ذلك الخشب فتأخذ النار في الحطب ثم في السفينة ثم في القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها ثم هبت ريح عظيمة هائلة فاشتد لهب النار واضطرم تسعرها وكان إلى جانبي رجل من الروسية فسمعته يكلم الترجمان الذي معي فسألته عما قال له فقال: إنه يقول: أنتم يا معاشر العرب حمقى.
فقلت: لم ذلك قال: إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب وتأكله التراب والهوام والدود ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته.
ثم ضحك ضحكاً مفرطاً فسألت عن ذلك فقال: من محبة ربه له قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعة فما مضت على الحقيقة ساعة حتى صارت السفينة والحطب والجارية والمولى رماداً مدداً
ثم بنوا على موضع السفينة وكانوا قد أخرجوها من النهر شبيها بالتل المدور ونصبوا في وسطه خشبة كبيرة خدنك وكتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا.
قال: ومن رسم ملك الروس أن يكون معه في قصره أربعمئة رجل من صناديد أصحابه وأهل الثقة عنده فهم يموتون بموته ويقتلون دونه ومع كل واحد منهم جارية تخدمه وتغسل رأسه وتصنع له ما يأكل ويشرب وجارية أخرى يطؤها وهؤلاء الأربعمئة يجلسون تحت سريره وسريره عظيم مرصع بنفيس الجوهر ويجلس معه على السرير أربعون جارية لفراشه وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه الذين ذكرنا.
ولا ينزل عن سريره فإذا أراد قضاء حاجة قضاها في طشت وإذا أراد الركوب قدموا دابته إلى السرير فركبها منه وإذا أراد النزول قدم دابته حتى يكون نزوله عليه وله خليفة يسوس الجيوش ويواقع الأعداء ويخلفه في رعيته.
الخزر
فأما ملك الخزر واسمه خاقان فإنه لا يظهر إلا في كل أربعة أشهر متنزهاً ويقال له خاقان الكبير ويقال لخليفته خاقان به وهو الذي يقود الجيوش ويسوسها ويدبر أمر المملكة ويقوم بها ويظهر ويغزو وله تذعن الملوك الذين يصاقبونه ويدخل في كل يوم إلى خاقان الأكبر متواضعاً يظهر الأخبات والسكينة ولا يدخل عليه إلا حافياً وبيده حطب فإذا سلم عليه أوقد بين يديه ذلك الحطب فإذا فرغ من الوقود جلس مع الملك على سريره عم يمينه ويخلفه رجل يقال له كندر خاقان ويخلف هذا أيضاً رجل يقال له جاوشيغر.
ورسم الملك الأكبر أن لا يجلس للناس ولا يكلمهم ولا يدخل عليه أحد غير من ذكرنا.
الولايات في الحل والعقد والعقوبات وتدبير المملكة على خليفته خاقان به.
ورسم الملك الأكبر إذا مات أن يبنى له دار كبيرة فيها عشرون بيتاً ويحفر له في كل بيت منها قبر وتكسر الحجارة حتى تصير مثل الكحل وتفرش فيه وتطرح النورة فوق ذلك وتحت الدار نهر والنهر نهر كبير يجري ويجعلون القبر فوق ذلك النهر ويقولون: حتى لا يصل إليه شيطان ولا إنسان ولا دود ولا هوام.
وإذا دفن ضربت أعناق الذين يدفنونه حتى لا يدرى أين قبره من تلك البيوت ويسمى قبره الجنة ويقولون: قد دخل الجنة وتفرش البيوت كلها بالديباج المنسوج بالذهب.
ورسم ملك الخزر أن يكون له خمس وعشرون امرأة كل امرأة منهن ابنة ملك من الملوك الذين يحاذونه يأخذها طوعاً أو كرهاً وله من الجواري السراري لفراشه ستون ما منهن إلا فائقة الجمال وكل واحدة من الحرائر والسراري في قصر مفرد لها قبة مغشاة بالساج وحول كل قبة مضرب ولكل واحدة منهم خادم يحجبها فإذا أراد أن يطأ بعضهن بعث إلى الخادم الذي يحجبها فيوافي بها في أسرع من لمح البصر حتى يجعلها في فراشه. ويقف الخادم على باب قبة الملك فإذا وطئها أخذ بيدها وانصرف ولم يتركها بعد ذلك لحظة واحدة.
وإذا ركب هذا الملك الكبير ركب سائر الجيوش لركوبه ويكون بينه وبين المواكب ميل فلا يراه أحد من رعيته إلا خر لوجهه ساجداً له لا يرفع رأسه حتى يجوزه.
ومدة ملكهم أربعون سنة إذا جاوزها يوماً واحداً قتلته الرعية وخاصته وقالوا: هذا قد نقص عقله واضطرب رأيه. وإذا بعث سرية لم تول الدبر بوجهٍ ولا سبب فإن انهزمت قتل كل من ينصرف إليه منها فأما القواد وخليفته فمتى انهزموا أحضرهم وأحضر نساءهم وأولادهم فوهبهم بحضرتهم لغيرهم وهم ينظرون وكذلك دوابهم ومتاعهم وسلاحهم ودورهم وربما قطع كل واحد منهم قطعتين وصلبهم وربما علقهم بأعناقهم في الشجر وربما جعلهم إذا أحسن إليهم ساسة.
ولملك الخزر مدينة عظيمة على النهر إتل وهي جانبان في أحد الجانبين المسلمون وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه وعلى المسلمين رجل من غلمان الملك يقال له خز وهو مسلم وأحكام المسلمين المقيمين في بلد الخزر والمختلفين إليهم في التجارات مردودة إلى ذلك الغلام المسلم لا ينظر في أمورهم ولا يقضي بينهم غيره.