علي لفته سعيد - رحلة الجزائر (1-7)

الحلقة الأولى:
ما قبل السفر إلى الجزائر

لم يكن السفر إلى الجزائر سهلاً، هكذا كان الأمر. لكنه لم يكن صعبًا كما يتوقع الكثيرون ممن يضعون المسببات والأسباب التي، في حقيقتها المجردة، ليست عقبات حقيقية. لذا، كانت الخطوات الأولى، التي يمكن أن تُعد المفتاح الأول للحصول على تأشيرة الدخول، قد بدأت قبل أربعة أشهر من السفر وربما أكثر.
راسلتُ عددًا من دور النشر الجزائرية بهدف طبع بعض نتاجي الأدبي تحت ما يُطلق عليه التوزيع الداخلي. كانت سعادتي كبيرة حين وجدتُ أن اسمي سبقني إلى هذه الدور، من خلال اطلاعهم على صفحتي وما أنشره فيها من مقالات وتقارير صحفية، فضلاً عن مقالات تخص الأدباء الجزائريين. إضافةً إلى ما كتبه النقاد في الجزائر عن نتاجي الروائي والشعري، ومنهم الناقد الجزائري حمام محمد الذي أصدر كتابًا عن روايتي (اللذة والألم في الرواية العربية: رواية البدلة البيضاء للسيد الرئيس أنموذجًا)، والذي طبعته دار العوسجي.
لكنني لم أبدأ بمراسلة هذه الدار أولاً، بل راسلت دار إيلياء للنشر، وكانت البداية الحقيقية التي ساهمت في توسيع دائرة الحلم بزيارة الجزائر. بدأ الحديث مع إدارة موقع الدار، ولم أكن أعرف مع من أتحدث، لكنني وجدتُ استجابة حقيقية. وصلتُ إلى مدير الدار، الدكتور عدالة، ثم إلى الدكتور بغداد. ومن هنا، بدأت الخطوة الأولى. وافقوا على طباعة ثلاثة كتب لي: (باب الدروازة- فهم اللعبة- الأدب الغاضب). تفاجأتُ بإرسالهم عقود الطباعة للتوقيع، وبدأ العمل على تصميم الأغلفة. أخبروني أن الكتب ستكون حاضرة في معرض الجزائر الدولي للكتاب، الذي يطلقون عليه اسم صالون الكتاب.
حينها، قدحت في ذهني فكرة: أن أكون حاضرًا في المعرض، ونقيم حفل توقيع. تفاجأتُ بأن الوعد تحقق فعلاً. قلت لهم إنه تحقيق حلم. أرسلوا لي الدعوة خلال ثلاثة أيام فقط، على ما أتذكر. طلبتُ منهم أن يكون معي الصديق الناقد حيدر جمعة العابدي، فوافقوا بشرط أن يتم طباعة كتاب له حتى تتوفر شروط الدعوة. أرسلنا لهم كتابًا للعابدي، وبدأت رحلة الذهاب إلى السفارة والحصول على الموافقات.
كانت السفارة واحدة من مفاتيح السفر. وبالرغم من كثرة سفري، لم أجد سفارة تستقبل المواطنين بهذه الروح المرحبة والوجوه المبتسمة. وضعوا أمامنا الأوراق المطلوبة، وطلبوا تعبئتها، بما في ذلك الدعوة ورقم هوية صاحب الدار، التي أرسلها لنا الدكتور عدالة مشكورًا لتأكيد أن الدعوة مقدمة من شخصية معنوية معروفة، لها رقم بطاقة وطني.
الأمر المهم في الحصول على التأشيرة كان أن رسوم التأشيرة تُدفع فقط بعد الحصول عليها، خلافًا لبعض السفارات التي تستحصل المبلغ مع تقديم الطلب، ولا تُعيده سواء حصلت على التأشيرة أم لم تحصل.
ومما زاد الأمر تسهيلًا، كان تدخل صديق عراقي-جزائري بطلب مقابلة مع السفير الجزائري في بغداد. كان السفير مرحبًا، واستمر اللقاء لأكثر من ساعة ونصف، تحدثنا خلالها عن عمق العلاقات بين العراق والجزائر وأوجه التشابه بينهما (سيحين الحديث عن المتشابهات لاحقًا).
خلال هذا اللقاء، انفتحت البوابة الثانية. ربما كانت المرة الأولى التي أقابل فيها سفيرًا داخل سفارته، خارج إطار عملي الصحفي الذي كنت ألتقي خلاله بالسفراء عند زيارتهم إلى كربلاء. في تلك المقابلة، أُبلغت بضرورة إيصال الدعوة إلى وزارة الثقافة الجزائرية لتسهيل عملية التحري والقبول، وهو ما حصل. واصل الدكتور بغداد، بناءً على طلب الدكتور عدالة، العمل على تسهيل المهمة.
لم أكن أعرف ملامح أيٍّ منهما، ولم يكن بيننا سوى رسائل عبر الماسنجر والواتساب، لكن القلوب تفتحت على أزهار من المحبة، يفوح عطرها بالتواصل.
في تلك الأثناء، وقبل الحصول على الموافقة، تم الاتفاق مع دار أدليس. كانت المراسلة عبر الفيسبوك، حيث عرضتُ لهم نتاجي وأخبرتهم بنيتي زيارة الجزائر وحضور المعرض. وافقوا على طباعة أربع روايات.( حب عتيق- قلق عتيق- السقشخي- ستاريكس)
عند زيارتي لجناحهم في المعرض، تفاجأتُ بأن صاحب الدار شاب طموح، كثير الحركة، يعرف ماذا يفعل. وكان الأمر ذاته مع دار العوسجي، التي طبعت لي ثلاثة كتب (البدلة البيضاء للسيد الرئيس- الصورة الثالثة - الفكرة وفاعلية الحكاية) صاحبة الدار كانت أكثر ترحيبًا بالأمر. وقد ارسلت الكتب الى الفندق الذي سكنت فيه في العاصمة الجزائر.
كما راسلتُ صاحبة دار العوض، وهي شاعرة لم أكن أعلم أنها صاحبة دار نشر، وتدعى الصديقة سوسن محمود. عندما علمت بالأمر، وافقت على طباعة روايتي (تاريخ المرايا).
كان كل شيء يسير بهدوء الجمال الجزائري، حتى شعرت بالخجل من الرد على هذا الكم من الجمال الذي حظيت به من قبل الدور الأربعة. ربما كنت أكثر أديبٍ عرضت كتبه في المعرض، حيث أُضيف إلى ذلك عرض بعض الدور العربية لما طُبع لي من كتب وشاركت في المعرض. ومنها دار الامير في فرنسا التي شاركت في رواية ( سفينة اسماعيل)
يتبع...

***

2- الحلقة الثانية: المطر والشاعر المتمرّد

حصلنا على الفيزا أنا وصديقي الناقد العابدي، لكن موعد السفر لم يتحدّد بسبب الطيران وتوقّف بعض الشركات، وأسباب أخرى شخصية ليس مجال ذكرها الآن. تحدّد اليوم أخيرًا، وهو الأحد العاشر من لشهر تشرين الثاني، لتكون العودة يوم الخامس عشر منه، وهي أقصر فترة سفر في كلّ سفراتي التي لم تقل عن أسبوع.
على العموم، وصلنا المطار للسفر إلى إسطنبول بعد أن تغيّرت رحلتي من مطار الدوحة بسبب تأجيل الرحلة ولم يخبرني صاحب الشركة بذلك. هناك في البوابة الاولى للدخول الى مطار بغداد، التقينا بشاعرٍ كان مدعوًا هو الآخر ضمن ضيوف المهرجان، كما أوضح في كتاباته عن السفر (لم يذكرنا أنا وزميلي العابدي). كانت رحلة جميلة بين ثلاثة مطارات حتى وصلنا إلى مطار هواري بومدين قبل انتصاف الليل.
وضعنا أمتعتنا على عربتين واتجهنا إلى باب المغادرة. كل أبواب المطارات في العالم تكون متاحة للمسافرين لاستقبالهم من قبل أقاربهم أو معارفهم، إلا مطار بغداد، حيث يكون في الأسفل، ولا تجد من يستقبلك إلا سائقي سيارات الأجرة، مما يحوله إلى ما يشبه "كراج العلاوي"، وكأنه صُمم ليكون كذلك.
في مطار هواري بومدين، كانت المساحة واسعة والمستقبلون يقفون خلف مصدات حديدية. أمام تعب السفر بين ثلاثة مطارات وقلّة وقت الترانزيت في مطار إسطنبول، حيث لا تعرف البوابة التي يجب أن تذهب إليها ولا أحد يدلك من العاملين في المطار، فقد اعتمدنا على الشاشة التي تتحرك بسرعة. وفترة الترانزيت كانت ساعة ونصف، وصلنا إلى البوابة قبل انتهاء الوقت بقليل. وفي هذه الفترة، كان تدخين السجائر أمرًا لا بد منه للصديقين العابدي والشاعر.
من بين مئات الأصوات المتداخلة، كنت أسأل وأنا أخرج من البوابة: كيف لي أن أتعرف على الصديق الذي قال إنه سيستقبلنا، ولن يستقبلنا أحد غيره؟ حتى أني أخبرت دار النشر والدكتور عدالة وبغداد أن صديقًا تعهد باستقبالنا، خاصة بعد أن انفرط عقدنا وعدنا اثنين في الطريق.
لكن صوتًا تحدث باللغة العربية، بمخارج حروف من يلقي القصيدة، وبنبرة من يريد أن يجعل حمامة الفرح تحلق فوق رؤوسنا، صاح: "أيها العراقي علي لفتة سعيد!" كانت الساعة قد انتصف فيها الليل في العاصمة الجزائرية، وانتصف الفرح وحلقت الراحة في نفوسنا. كان صديقنا الشاعر صادق سلمانية، الذي كان صديقي عبر الفيسبوك، ومنذ لحظتها وهو يريد أن يفعل ما يجعلنا في فرح وراحة، ويقول جملته: "أنا في خدمتكم وخدمة العراق العظيم."
لا ينفك يردد الجملة التي لا تجعلنا أنا وصديقي العابدي نتحدث. "أنتم أهل الكرم." كان يحمل أمتعتنا بيده رغم أنه يكبرني بثلاث سنوات، لكن عوده كان قويًا، لا يقول: "تعبت،" ولا يردد سوى الفرح، ويعبر عن فرحه بأننا معه. كان رجلًا ممتلئًا طيبة، وشاعرًا متمردًا على الحياة. لديه سيارة من نوع "مرسيدس" قديمة، حتى أنه حوّر زجاج النافذة من اليدوي إلى الآلي عبر لصق زر على "يدّة" الباب، ويقول: "هذه السيارة في خدمة الأصدقاء."
شعرنا منذ اللحظة الأولى أننا بين أهلنا، حيث نجد الترحاب في كل مكان. أخذنا إلى شقة لصديق له لنبيت فيها. بدأ المطر ينهمر، ودرجات الحرارة تأخذ في الانخفاض.
بتنا حتى الصباح، ثم أخذنا في جولة صباحية على الفنادق. لكن الأجمل في ذلك اليوم (الاثنين) أنه أخذ امرأة عراقية من دارها إلى المطار متبرعًا بإيصالها، ضمن ما يقول دائمًا: "إن سيارته في خدمة العراقيين."
أما نافذة الشقة في الدور الرابع، التي تطل على البحر، فكان المطر أشبه بأغنية رقيقة. كنت أسمعه يغني: "يا جزائر!" فتتراقص الأشجار على نغم الصبا، فيما كان الهدوء يغلف الشوارع، والريح الهادئة تغازل أمواج البحر، فتهدينا اطمئنانًا عجيبًا.
طلبنا من الشاعر الصادق أن يأخذنا إلى المدينة والبحث عن فندق مناسب يكون وسط المدينة، قريبًا من معرض الكتاب. حمل حقائبنا وأنزلها إلى السيارة، كما حملها ليلة الأمس من السيارة إلى الطابق الرابع بخفة شاب في العشرين.
وهو ما فعله بعد أن أسكننا في فندق السلطان بأربعة نجوم. كان فندقًا رائعًا، قد أنشد فيه الشاعر الصادق قصيدة، ليودعنا ويعود لنا بعد ساعتين ليقلنا إلى المعرض، ولكن عبر الترامواي.

***

الحلقة الثالثة: الترامواي وخبز العباس

في ليلةِ الوصول، لم يأخذنا مُضيفُنا الشاعر إلى الشقّةِ مباشرةً، بل اصطحبنا في جولةٍ مسائيةٍ بعد انتصافِ الليل، وراح يشرحُ لنا كلَّ شيءٍ يراه. لم يُلقِ بالًا لتعبِ السفر، وكأنّه يعرفُ أنَّنا في توقٍ لمعرفةِ المدينة، حيث ذهب التعبُ بابتسامته وطريقةِ كلامه التي يتبادلُها معنا باللغةِ العربيةِ الفُصحى، وهو الأمرُ الذي أثارَ بعضَ الناس الذين نصادفُهم على قلتِهم، حيثُ المدينةُ تنامُ مُبكّرًا أو يأوي الناسُ إلى بيوتِهم مُبكّرين بعد تعبِ النهار، مثلما هو أثرُ السنواتِ العشرِ التي مرّت على الجزائر في مواجهةِ الإرهاب، حيث لا يخلو حديثٌ من الاستذكار مع أيِّ شخصٍ نصادفُه في المدينة.
في تلكَ الجولةِ، مررنا على أماكنَ مُضيئةٍ، أبرزُها نصبُ الشهيدِ الذي يقعُ على قمّةِ جبلٍ وحيثُ يراهُ الجميعُ كأنَّ الأرضَ تدورُ حوله، مثلما مررنا على أكبرِ جامعٍ في شمالِ إفريقيا، حيثُ المنارةُ العاليةُ التي تدورُ حولها المدينةُ وتكونُ ظاهرةً في المشهدِ أنَّى توجهتِ الطُرُقُ، وهو الأمرُ الذي بدا لنا واضحًا في النهار.
حينَ خرجنا من الفندقِ للذهابِ إلى معرضِ الكتاب، أو صالونِ الكتاب كما يُطلَقُ عليه في الجزائر، كانت الشمسُ نعسانةً وهي تختفي خلفَ غيومٍ بيضاءَ ترقصُ في سمتِ السماءِ، وثمّةَ نوارسُ تحطُّ على أسطحِ البناياتِ كما كنّا نراها من نافذةِ الفندق، وهي تستريحُ من تعبِ التحليقِ فوق أمواجِ البحرِ التي تتلاطمُ كلّما هبّت ريح.
صعدنا التراماوي، وهو ذاتُه في تركيا وتونس، لكنَّه لم يكن موجودًا في العراق، ربما كان في بغداد كما قيل واندثرَ، كما اندثرت الكثيرُ من المعالمِ التي يعشقُ المسؤولون الجددُ عبرَ التاريخِ محوها وآثارَ من سبقهم. كانت حركتُه جميلةً وهو يتلوّى في الطُرُقات، وصديقُنا الصادق يشرحُ لنا المعالم. كانَ همُّه أن نعرفَ كلَّ شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في المدينة. وبالتأكيد لم أحفظْ شيئًا، ولا أستطيعُ التدوينَ، فالوقوفُ في التراماوي يمنحني شعورَ الاهتزازِ داخلَ العربةِ كأنّي أسبحُ في فضاءِ مُتحرّك. جبالٌ وأبنيةٌ وتاريخٌ يتحرّك. وجوهٌ صامتةٌ وأخرى مبتسمةٌ كأنّي في بغداد، ينظرونَ لنا ونحنُ نتحدّثُ باللغةِ العربية، وصوتُ الصادق نبرتُه عاليةٌ فيُثيرُ الانتباه، فيُسارعُ إلى القولِ: "ضيوفُنا من العراق." فتنشرحُ الأسارير.
ما أعجبني هي حريةُ المرأةِ في الجزائر؛ حريةٌ ليست مُنفلتةً وليست مُقيّدة، حريةُ الحركةِ والحديثِ والخروجِ والعملِ مقابلَ الالتزامِ في المظهر. وجوهُ النسوةِ جميلاتٌ كما هي وجوهُ النساءِ في العراق. وحينَ نزلنا في محطةِ معرضِ الكتاب، وجدتُ الكثيرَ من النساءِ، وخاصةً الشابات، وهنّ يدخلنَ أسرابًا وكواكبَ إلى المدخلِ، حيثُ البوابةُ الكبيرةُ التي تنزلُ فيها إلى منحدرٍ يُفضي بكَ إلى ما يُشبهُ الغابة. وتذكّرتُ غاباتِ الموصل، أبنيةً وشواخصَ عديدةً لتدلفَ يسارًا إلى منطقةِ الصالون.
أشارَ لنا صديقُنا إلى شجرةِ رُمّانٍ أمامَ بنايةٍ لدائرةٍ حكوميةٍ قبلَ الوصولِ إلى مبنى الصالون. قال: "هذهِ الشجرةُ لا يأكلُ منها الجزائريونَ لأنَّها بطعمٍ مُرّ." وقال: "أنتم تسمونهُ طعمًا حامضًا." وذهبَ ليقتطعَ رُمّانتين وأكلنا فوجدنا طعمَها لذيذًا جدًا، وفعلها في المرّةِ الثانيةِ حينَ عدنا إلى المعرض. كان الصادقُ يجعلُنا نتحرّرُ من خجلِنا. هو يقسّمُ لنا الرُمّانَ لنأكلَ، وهو الذي يُنادي على أيِّ صديقٍ بصوتٍ عالٍ. كان حقًّا مُتمرّدًا على كلِّ شيءٍ، حتى إنَّه يرتدي (سترةً) بنصفِ كم، ويلقي الشعر. وما أنْ يُصادفَهُ أحدٌ يعرفُهُ حتى يبدأُ العناقَ ويبدأُ التعريفَ بضيفيهِ من العراق.
كانَ في داخلي هاتفٌ يقول: لندخلْ إلى المعرضِ، إلى الأجنحةِ التي تضمُّ كتبي الصادرةَ عن دورِ نشرٍ جزائريةٍ وعربيةٍ، إلى معرفةِ الوجوهِ التي كنتُ أتحدّثُ معها عبرَ الماسنجر أو الواتساب، لمعرفةِ أيّ الأسماءِ تعرفني. كانت البنايةُ كبيرةً من ثلاثِ طبقات، ودورُ النشرِ في القاعةِ السفلى هي كبيرةٌ جدًا قُسّمت إلى عدةِ أجنحةٍ ABCD. دخلنا مثلَ مَن يريدُ التنبؤَ بما يحصل، وثمّةَ ريحٌ مُنعشةٌ تضربُ وجوهَنا فتُرطّبُ ما نزلَ من قطراتِ عرقٍ لارتدائنا بدلةً أنيقةً وربطةَ عنق.
كان الازدحامُ شديدًا ونظراتُنا مُعلّقةً على عناوينِ الدورِ وأرقامِ الأجنحة. رنَّ هاتفي. كان الصديق ياسين قعودة، مدير دار "أدليس"، يسألُني أينَ أنا الآن، فأخبرتُهُ بمكاني، فقال: "تعالْ مباشرةً."
من بينِ الزحامِ المُنظّم، حيثُ لا يوجدُ ما يُعكّرُ المزاج، سمعتُ فتاتينِ تردّدان "الهوسة" العراقيةَ بطريقةٍ مُحبّبةٍ: "لا تِمادى نخبزك خبزَ العباس!" قلتُ لصديقي العابدي: "ربما عرفنَ أنَّنا عراقيّان، وربما هو حظُّ هذهِ الأهزوجةِ أنْ تنتشرَ في كلِّ بقاعِ العالم."

***

4- الحلقة الرابعة~: الكتب ودور النشر والطفل الكبير

الازدحام شديد في معرض الكتاب، والشوق أن أصل إلى واحدةٍ من دور النشر التي أصدرت كتبي يشتعل أوراه كلما تقدمنا خطوات أخرى. الفرح بالتأكيد ليس صغيرًا، ولا أُخفي تلك الرغبة الجامحة لإمساك الكتب. اثنا عشر كتابًا ليس بالشيء الهيِّن الذي لا يجعل الروح تتماهى مع الفرح. الأكتاف تضرب بالأكتاف، والمسير الهادئ الذي يجعلنا لا نخالف أيَّ شيء، ولا نقع في المحظور، هو الخجل العراقي الذي يكون مسيطرًا على كلّ حركة، وكأن رواد المعرض أو الصالون يعرفون أننا عراقيون. رغم أن الملامح واحدة، لا يتم الانتباه لنا إلا إذا تحدَّثنا، فتختلف اللهجة.
كان الوصول الأوّل إلى دار إيلياء. قرأنا اليافطة في أعلى الجناح، ووجدنا شخصًا يدير الفعالية. كنت أعرف أن الدكتور عدالة يرأس مؤتمرًا في إسطنبول في ذلك الوقت الذي وصلنا فيه إلى الجزائر، وقد أخبرني بذلك، وللتأكيد على صدقه أرسل لي ورقة السفر وحجز الطائرة. رحَّب الشاب الذي بدا عليه الورع، وراح يرينا كتبي الثلاثة وكتاب الصديق الناقد العابدي. كنت فرحًا جدًّا، بكل تأكيد. وكنت أسأل عن الدكتور بغداد مدير الدار في العاصمة، وأخبروني أنه في الجامعة. كان الشاب قليل الحركة، ولأن مواعيد السفر تغيَّرت بسبب منع الطيران وسلوك شركة السفر في العراق التي تسبّبت بتغيير الموعد إلى يومين آخرين، جعل ذلك من جلسة التوقيع التي كان مقررًا لها يوم السبت أن تُلغى بعد وصولنا إلى المعرض يوم الاثنين.
خرجنا من جناح دار إيلياء لنبحث عن جناح دار أدليس، كان بذات الخط الأفقي للدار في نهاية البناية التي تفضي إلى ساحةٍ عريضةٍ تنتهي بسُلَّم الخروج من قاعات المعرض. هناك وجدنا الازدحام شديدًا. المستطيل الذي لا يتجاوز طوله خمسة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار على ما أعتقد، كان مليئًا بالحركة والروّاد والأدباء والمتفرّجين. لم يكن أحدٌ يعرفنا، لكني لمحت السيد يسين، وحين قلت: السلام عليكم، حتى رفع رأسه، وضع كتابًا كان بين يديه على منضدة الكتب، ورفع صوته: أهلًا بالأديب العراقي علي لفتة سعيد.
تلك كانت لحظةٌ مفعمةٌ بالفرح. وكانت عيناي تتجوّلان بين عناوين الكتب. لمحت ثلاثة منها: حب عتيق، وستاريكس، والسقشخي. لم أجد قلق عتيق. أخبرني مدير الدار أنها نفدت خلال الأيام الأربعة الماضية. لا أُخفي حقيقة الشك في داخلي، قلت: لست من الأسماء المعروفة جدًّا لكي تنفد النسخ المطبوعة، لكن النسخ الأخرى موجودة. وثمة أدباء شباب كانت بيدهم نسخٌ من رواياتي، وثمة من نادى باسمي ليُبدي معرفته عبر صداقات الفيسبوك. ولهذا سجَّل صاحب الدار فيديو في اليوم التالي يؤكّد فيها أن نسخًا من روايتي قلق عتيق والسقشخي قد نفدتا، وهنالك نسخ قليلة من روايتي حب عتيق وستاريكس.
كيف لي أن أصف الفرح في داخلي؟ ربما صرت طفلًا وأنا أسمع بين الحين والآخر اسمي يتردّد بين ألسن البعض من الروّاد. كانت برودة تشرين الثاني قد تحوَّلت إلى دفءٍ عجيب، بل إلى حالةٍ من التعرّق، مثلما كانت أجواء الفرح في المعرض والمطالبة بتوقيع هذه الرواية أو تلك. رغم أن حفلة التوقيع قد تم تأجيلها أيضًا لأنها كانت يوم الأحد في دار أدليس.
لكن الأمر الذي جعلني أعيش فرحًا عاشه معي صديقي العابدي، ونحن نجلس معًا أمام منضدة دائرية وضع عليها الشاب كتبنا، والتقطنا الصور ضمن جناح إيلياء، وفي ذهني أين أجد الدار الثالثة، دار العوض التي طبعت لي روايتي تاريخ المرايا. حتى رن الهاتف، وكانت الشاعرة سوسن محمود نوري تهاتفني وتسألني عن مكاني وتعلمني بعنوان مكانها في قسم (B)، لنُتَوِّج الرحلة إلى الجناح، حيث أجد روايتي ضمن رفوف الكتب العديدة لأدباء جزائريين وعرب.
في جناح العوض. كانت الشاعرة سوسن منشرحةً وفرحة بوصولنا. حدّثتنا عن الشعر والطباعة، وتحدّثنا عن أهمية اللقاءات الثقافية بين أدباء الوطن العربي. تحدّثنا عن المعرض وعن الجزائر. كانت بوجهها البشوش تمنح الجلسة الكثير من المرح والراحة. لكن هاتف الشاعر الصادق قد رنّ.. يريد أن يذهب بنا إلى البحر، بعد أن نتناول الغداء في مطعمٍ يقدّم الأكلات الجزائرية.

***

5- الحلقة الخامسة: البحر والشخشوخة والشاي الأسود

انطلق بنا الشاعر الصادق في شوارع المدينة. الظهيرة لا تُحسَب على ظهيرات العراق. الروح تنبعث من مسامات الأشجار، فتتحوّل الظهيرة إلى ربيعٍ محبّبٍ بالنسبة لمن قدم من لهيب الصيف وبرد الشتاء ورعده، وضيق الحرية التي تعاند في البقاء وسط حشد الصعوبات التي تواجه الفرد في الحياة. تلك الحياة التي تتصارع فيها الأفكار، فلا أحد يعرف مصدرها، فتتناثر الآهات من حلوق الأميين الذين يسارعون بالتضحية بالحياة من أجل وهم الأفكار.
الشعوب تبني العقول، وفي بلدنا السياسة تُعطّل العقول وتجعل نسب الأميّة تتصاعد بشكلٍ مخيف. فالحرية في الجزائر ليست عُريًا، كما يعتقد الكثيرون، بل التزامًا بالحياة ذاتها. حتى إننا لم نرَ ملامح لحريةٍ فاشلة أو حرية فارغة أو منفوخة سرعان ما تنفجر مع أول ضربة دبوس، كما يُقال. ويبدو أن الأمر محسوب، بعد المتغيرات التي حصلت في بعض البلدان العربية، بما فيها العراق.
كل شيءٍ هادئ في المدينة، لا صخب ولا زعيق منبّهات السيارات ولا صوتٌ مرتفع. ربما هو المشهد الذي صادفنا، أو ربما المشهد الذي نتحدث عنه هو ما كان معنا بتجربة.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف. خرجنا من المعرض بعد أن التقينا بالأديبة الجزائرية نور النعيمي. الصديقة التي التقيتُ بها في مهرجان "نور تونس" قبل أكثر من عام، وشاركنا في جلسة نقدية عن الأدب العربي. جاءت من مسافات بعيدة لتلتقي بنا في المعرض. كانت دار "إيلياء" مكان اللقاء. تحدّثنا عن الأدب وعن الأخوة. كانت أديبة رائعة تسكب الكلام بطريقة الصدق الذي يعرف المراوغة. عبّرت عن إعجابها بكتابي النقدي الذي قرأت عنه في تونس: الأدب الغاضب وتحولات النص.
أخبرتها أنه تحوّل إلى كتابٍ أصدرته دار "إيلياء" مشكورة، كما أصدرته قبله مؤسسة "أبجد" في العراق، ودار "العندليب" السودانية. تحدّثنا وتعرّفت على الصديق العابدي. أخذ الوقت منّا وطرًا قبل أن نذهب إلى دارٍ أخرى. ودّعنا بعضنا على أمل اللقاء مجددًا.
الهدوء في الشوارع البعيدة عن مركز المدينة يمنح فرصة للتأمّل. أنظر إلى صديقنا الشاعر، ونتنابز أنا والعابدي عن طيبة هذا الرجل الذي يعبر عن تمرّده بالشعر، وعن خدمته بالحمد، وعن انتمائه بالوطن. قال له العابدي: "أريد أكلة جزائرية، نريد أن نجرب الطعام." لم أكن معارضًا، لكني لم أوافق أيضًا. فالعمر له بعض الخوف؛ ربما أتناول طعامًا فيه من الحرارة ما يشعل لهيب المعدة.
دخلنا إلى مطعم ديكوره تراثي. بُسط منسوجة معلّقة على الجدران، والكراسي عبارة عن "تكيّة" مربّعة بلا مساند. الهدوء يُعبّر عن هدوء المدينة والناس. كانت فتاة شابّة وجميلة تمسك دفترًا صغيرًا لتدوّن الطلبات. قال العابدي: "أريد أكلة الشخشوخة." تبيّن أن الصديقة النعيمي أخبرته بها.
قلت له: "لا أعرف أكلة الشخشوخة... اطلب واحدة لك وأنا سأتناول الدجاج المشوي، ونتقاسم." ما دامت أكلة الكسكسي لم نطلبها. كانت الأكلة طيبة مثل أكلة التشريب لدينا، لكنها كانت ذات طعمٍ حارّ المذاق، فابتعدتُ عنها.
تناولنا الغداء. المشكلة الرئيسة في الجزائر أننا لا نجد في المقاهي الكثيرة، أو مقاهي الأرصفة، من يقدّم الشاي الأسود، أو ما يُطلقون عليه الشاي الأحمر. لذا علينا أن نبقى حتى العودة إلى الفندق لنعدّ الشاي الذي جلبته من العراق.
قال الصادق: "سنذهب إلى البحر، وهناك تنسى الحاجة إلى الشاي. أعرف أن العراقيين يحبّون الشاي بعد الأكل."
أخذنا الطريق في متعرّجات الطرق. شوارع ضيّقة غير واسعة، لكن لا ازدحام. لأن كلًّا يشير في مسراه واتجاهه، أو كما نسميه "سايده". أمام البحر وقفت.. كان الشارع أعلى منه بنحو خمسة أمتار..
نزلنا سلمًا. كان الناس يتماوجون على الرمل. وكان هناك من يجلس على الصخر وهناك من يصطاد السمك الصغير الذي يسمونه (الحوت). موج البحر يضرب الصخوؤ التي جعلت سياجًا يتلقى ضربات الموج حتى لا يؤذي الناس.. تحولنا إلى أطفال صغار. بعمر الأحفاد نريد الفرح. لا رقيب علينا ولا ممنوع. فالطفولة أن تعيش بلا حدود. وأن تتظافر المحبة مع الحرية، ربما الحدية الزائدة وفرط التقاليد تأتي من الصحراء ومن غياب البحر. قلتها مرة وأنا أزور تونس والإسكندرية في مصر. إن الهدوء في الشعوب يتبع البحر. والعصبية فيها يتبع الصحراء. ونحن أهدأ من مدن الصحراء قليلًا كان الريف يعشش في الثنايا. اقترح علي صديقي العابدي أن أقرأ قصيدة ويسجلها فيديويًا.. أنا الذي لا أحفظ عناوين كتبي من أين أتي بالذاكرة لأقرأ، وجدتها فرصة. بعد أن قرأ الشاعر الصادق قصيدة وسجلتها له فيديويًا. هو يمتلك ذاكرة شاعر عمودي. وأنا أمتلك ذاكرة كاتب أراد النسيان منذ الطفولة حتى لا يتذكر العذاب. تذكرت أن لي نصًا قصيرًا نشرته على متصفحي.. وقفت على صخرة سوداء وألقيت القصيدة. ثم جلسنا في مكان آخر وراح العابدي يسجل لي طفولتي.. ولأني لا أحفظ فقد كان الغناء عبثيًا لكنه جميل. شعرت أن الدنيا جميلة وأن الجزائر تمنحني صفة الهرب من عقال الممنوعات والحرام والعيب. لذا لعبنا حتى غربت الشمس وتذكرت
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
لكن هو الاختناق الذي ربما شعر به السياب وهو يكتب القصيدة كردة فعل على غياب الاحتضان في بلدٍ تحوّل إلى عسس وسلاح ومنابر

***

6- الحلقة السادسة: لقاءات وحوارات

الأجمل في السفر أن تلتقي بأناس بينكم معرفة ومودة وإبداع. رغم أن الكثير من أصدقائي هم من خارج العاصمة، وهو ما عرفته منهم، بما فيهم الروائي عز الدين جلاوجي، وكذلك الناقدة الدكتورة غزلان هاشمي التي كتبت مقدمة كتابي (فهم اللعبة...)، وأيضًا سمير قسيمي، وصديقي نور الدين مبخوتي، الذي التقينا في مهرجان نور تونس في تونس، الذي كان قد كتب لي ليوفر لي أجواء السفر، وغيرهم الكثير. فيما حدد الدكتور حمام محمد مجيئه إلى العاصمة في اليوم الأخير لزيارتي.
كان الدخول إلى المعرض يشبه الدخول إلى مغارة مليئة بالناس من كل لون وشكل وجنسية. وبين الدخول من أجواء باردة تغمرها الغيوم في السماء وبين أن تتلمس الخطوات لعل أحدًا ما تعرفه وتلتقيه.. هاتفتني السيدة حياة قاصدي، وهي مديرة دار الأمير التي نشرت لي رواية الصورة الثالثة المترجمة إلى الفرنسية ورواية سفينة إسماعيل. فرحت حقًا. إنها تنتظر اللقاء في دار مسكياني. ويا ليت أن تعرف المكان. وعليك أن تعرف القواطع ومن ثم البحث عن الدار. هناك التقينا. سلمنا على بعضنا وأخذنا صورًا في دار مسكيلاني مع السيدة حياة ومديرة الدار التي ستصدر روايتي الجديدة (سؤال النار) التي اكتمل تصميم غلافها أمس.
خرجنا لنعود إلى دار أدليس، حيث جلسة حفل التوقيع مع البيع. تحلق حولي شاب أسمر معرفًا بنفسه ويعرفني بأنه يعرفني، وأن اسمه علي أيضًا. هو قاص شاب طموح علي ميموني، وثلاثة فتيات—نسيت الأسماء حقيقة. ودار حوار عن الرواية وكيفية كتابتها، وطلبت مني إحداهن أن أعطي بعض أسرار الكتابة. قطع النقاش صوت شاب يضع على عينيه نظارة طبية، يقف أمامي وينادي: "هل أنت الأديب العراقي علي لفتة سعيد؟" وقفت لأردّ التحية. عرّفني بنفسه أنه ابن صلاب، صاحب دار الماهر التي نشرت لي رواية مثلث الموت عام 2019، لتكون أول دار جزائرية تصدر لي كتابًا وتعرفني بالقراء الجزائريين. أخذني الشاب إلى جناح الدار وسجل لي سلامًا لوالده.
رغم الازدحام الشديد، يكون الترقب مفيدًا، وثمة اعتقاد أن من بين الجموع ثمة واحدًا على الأقل سيعرفني. وهو ما حصل. نادت امرأة بشكل فرح، تعبر عن سعادتها: "الأستاذ العراقي علي لفتة سعيد!" وقفت مرتبكًا لأن أيدينا كانت فيها بقايا رمان قطعه لنا مضيفنا. وقفت لأردّ التحية. قالت: "أنا تركية"، وهي تكتب اسمها في الفيسبوك (تر-كية). ولأني أعاني النسيان، تذكرت بمجهود عقلي، وأخذت تعرفنا بمن حولها. قالت: "أنا صحفية." أجرت معي حوارًا سريعًا عن رأيي بمعرض الكتاب وزيارتي له كعراقي، وقالت إنها سترسل أسئلة بعد انتهاء المعرض ليكون حوارًا واسعًا.
لم تنتهِ اللقاءات. في المساء اتصل بي الشاعر توفيق ومان. أخبرته بمكان سكني. قال: "سأمر عليك صباحًا." وهو ما حصل. رن الهاتف قبل انتصاف النهار وقال: "أنا في صالة الفندق." التقينا وتبادلنا الأحاديث الشيقة.. كان الرجل مليئًا بحب بلده. حدثنا عن الإرهاب والمعرض وكيفية إعادته. وعن علاقته بالعراق وأدباء العراق، وخاصة الشعراء الشعبيين، كونه يترأس صالونًا أو جمعية في هذا الاتجاه. أخذنا لنجلس على قارعة الرصيف لمقهى شعبي. هناك استمر الحديث معنا أنا والعابدي.. ثم ودعنا لنذهب إلى المعرض.
في اليوم الأخير
هاتفنا الدكتور محمد حمام من أنه قادم إلى المعرض. حملنا المضيف الصادق بسيارته المرسيدس، بعد أن أودعنا الحقائب في أمانات الفندق لأننا سنغادر بعد العشاء إلى المطار. التقينا مثلما يلتقي إخوة. الناقد الذي كتب عني وكتبت عنه، لكنه زاد من كتابته لأنه ألّف كتابًا عن روايتي لي، عنونه (اللذة والألم في الرواية العربية: رواية البدلة البيضاء للسيد الرئيس أنموذجًا). هناك، في جناح إحدى الدور، التقينا. مثلما التقيت بقناة فضائية أجرت معي حوارًا صغيرًا عن الغلاف في الرواية.. وأجرى الدكتور معي ومع العابدي حوارًا، قال إنه سيبثّه على طلبته في الكلية، عن مبدع عربي له اهتمامات ثقافية عديدة. كان لقاءً مفعمًا جدًا وروحيًا.
لكن الأجمل في كل هذه اللقاءات هو ما فعله الدكتور بغداد. هاتفنا، وقال: "هيئوا أنفسكم لأضيفكم على وجبة عشاء." وهو ما حصل. جاء بعد الثامنة مساءً. بعد الترحيب وتقديم الاعتذار، من أنه لم يتفرغ لضيافتنا قبل هذا الوقت. قلت له: "أنا أعرف أن الأمر لن يكون ميسّرًا في أيام إقامة المهرجانات والمعارض." كان دمث الأخلاق. في فندق "سوفيتال" الذي كان مخصصًا لوفود المعرض من المدعوين الرسميين.
على العشاء. جاء أديب يرتدي الملابس الجزائرية وسلم. ووجه سؤاله: "أليس أنت الأديب علي لفتة سعيد؟" يا لذاكرتي نسيت اسمه حتى الآن وأنا أدون. وهو صديق على الفيسبوك. لكن المشكلة أن الأغلب في الجزائر والمغرب العربي يكتبون أسماءهم بالحروف الفرنسية، فتتيه علينا نحن أمييّ اللغات في المشرق العربي وخاصة في العراق. ليقيم لنا جلسة في إحدى صالات الفندق الواسعة. تستمر لأكثر من ساعة. وكان الدكتور بغداد، رغم تعبه، أراد لنا أن نكون في جوّ المعرض وضيوفه. ليعيدنا إلى الفندق تحت زخات مطر تبلل الزجاجة الأمامية للسيارة، وهو يردد: "قدومكم خير، جلب المطر معه."

***

7- الحلقة السابعة: المترو و(المعدومين) وهدايا الأحفاد

كُنّا قد قرّرنا، أنا وصديقي العابدي، أن يكون يوم الأربعاء جولةً حرّةً في العاصمة، أن نكون وحدنا نجوب المدينة حيث يمكن لنا ذلك، فقد تعرّفنا على الشوارع وأخذنا المعلومات من مُضيفنا الصادق سليمانية. كانت محطة الترام على بُعد مئة خطوة أو مئتين من الفندق.
خرجتُ بملابس غير رسمية: بنطلون كاوبوي وقميص شتوي، وصعدنا في (فاركون) الترام. أعجبتني كلمة (فاركون) التي يعرفها العراقيّون. قال لنا مُضيفنا إنّ علينا أن ننزل في آخر محطة يُطلق عليها (المعدومين)، حيث أخبرنا أنّ كلمة المعدومين تعود إلى أنّ الاستعمار الفرنسي أعدم عائلةً كاملةً في تلك المنطقة ليبقى الاسم مُخلّدًا في تاريخ الجزائر. ثم ننزل تحت الأرض ونصعد المترو وننزل في منطقة الخليفة أو هكذا.
ولأنّنا لا نحفظ الاتجاهات، حين نزلنا في منطقة شبه جبلية، كان أمامنا جبلٌ أخضر، والناس تُسرع إلى النزول إلى محطة المترو. كان هناك أُناسٌ يجلسون في الحدائق يتلذّذون بمشهد الشمس الساطعة في ذلك اليوم. حقيقةً، لم نكن نلوي على شيء سوى أن نشتري هدايا لعوائلنا. أخبرونا أنّ هناك سوقًا وبأسعار مناسبة.
لكن المترو لم نعرف كيف يتجه في النهايات؛ ليس في العراق مترو، وأينما ذهبنا في سفرنا السابق، كان هناك دائمًا من يقود حركاتنا من أهل البلد. صادف أن وجدنا امرأةً فارعة الطول أو فتاةً تُمسك بجهاز الموبايل وهي تمشي بهدوء باتجاه سُلّم النزول إلى المترو. سألناها عن منطقة الأسواق، وقلنا نريد منطقة خليفة بوخالفة ميسوني، وعرفناها أننا من العراق. تهلّل وجهها وقالت لنا: "أنا ذاهبةٌ إلى ذات المكان."
هذه الموافقة جعلتنا نشعر بالاطمئنان من أنّنا لن نتيه، وأنّ علينا أن نستغل هذا الاطمئنان لتجوّل البصر في تفاصيل الأماكن. كُنّا نسمع صوت المترو مثل موسيقى هائمة تأتي بصدى الأرض وتجاويفها. وأثار السؤال في نفسي: لماذا لم تعمل الحكومات العراقية السابقة عبر تاريخها العتيد الممتد على زمن الحروب والحصار والطغاة على إنشاء مترو في بغداد على الأقل، يتجوّل تحت المدينة ويفتح بينها وبين الفضاء أبوابًا من الضوء؟ ولماذا لا يوجد ترام وهو فوق الأرض كما هو في تركيا وتونس ومصر وربما دول أخرى؟ وهي دول كانت تحت سيطرة العثمانيين كما كُنّا نحن؟
لم أجد الجواب الذي يدور في رأسي من سنوات سوى أننا شعبٌ لا نمتلك رجالًا يقودون البلاد بصورة صحيحة، وأنّ بعض الأمور تختلف عن الشعوب الأخرى، ليس مجال ذكرها الآن.
كانت الفتاة الفارعة الطول تلتفت كل حين لترى أين صرنا. ونحن نجول بأبصارنا إلى نظافة المكان في المترو وهدوئه، ذهبت إلى شباك التذاكر. ذهب خلفها العبادي، وهو أمين صندوق السفرة، باعتباره موظفًا في أحد المصارف، لذا لم أعرف كيف تصرّف العملة وكم هي تتراوح بين لفظة الآلاف والملايين. فلا أُتعب نفسي في التفكير المالي.
مدّ العابدي يده وفيها عملات معدنية. ضحك صاحب الشباك ومدّ يده من تحت قوسٍ فارغ في الزجاجة العازلة بين الاثنين. سحب الرجل عملةً واحدة وأرجع عملةً أقل حجمًا، ولم نعرف كم. لم نشعر أنّه يستغل الأمر، وهو ما يحصل مع كل عملية دفع في الترام أو المترو، حيث كان شعور الاطمئنان بالثقة يتزايد معنا كغرباء في بلد يمكن أن يعرفوا أنّنا من خارجه ما أن نتكلّم مع بعضنا، حيث تلتفت الرقاب نحونا.
صعدنا في عربة (فاركون) المترو، وأمسكنا بأعمدة موضوعة في وسط العربة، ننظر إلى الوجوه الهادئة والناس التي تقف بالقرب من بعضها: نساء ورجال وأطفال وشيوخ. لا شيء يمكن رؤيته من زجاج العربة، لأنّها عبارة عن جدران تحت الأرض، ولكن نراها جدرانًا مُنحنيةً على شكل قوس. كانت ثمة إذاعة داخلية تحدّد مكان المحطة القادمة ليتهيّأ النازل ليكون قرب الباب، فما بين الوقوف والانطلاق بضعة ثوانٍ. لم نكن عابئين بالمحطة، لأنّ الفتاة لم تزل واقفة. وأخيرًا أشارت لنا بالتهيّؤ. ومثل تلميذين صغيرين امتثلنا لحركة يدها لنقف بالقرب من الباب.
نزلت، ونزلنا، نتبع الخطوات. أشارت لنا أن نذهب بهذا الاتجاه؛ ثمة سوقٌ طويل سنجد فيها مآربنا من البضائع. سرنا متطلّعين إلى الأمام، ودخلنا شارعًا ضيقًا لنجد أنفسنا وسط سوقٍ طويل كأنّه سوق الشورجة أو أي سوق مكتظ بالمُتسوّقين. دخلنا العديد من المحال، وكان في داخلنا خوفٌ من أن يُعرف أنّنا غرباء، فتكون الأسعار أعلى.
لكن الأسعار كانت مُثبّتة على البضائع، والحق أنّه ما إن يعرفوا أنّنا عراقيان حتى ينخفض السعر. اشترينا الهدايا، كلٌّ لعائلته. رنّ الهاتف، المتصل مضيفنا الصادق، يسأل أين نحن. كانت الساعة تقارب الثالثة ظهرًا. أخبرناه بمكاننا، فقال: "انتظرا، سآتي خلفكما."
لم تمضِ نصف ساعة حتى هاتفنا الرجل من جديد. اتفقنا على مكان الانتظار والجلوس في حديقة صغيرة أشبه بفسحة لراحة الناس من تعب التجوّل. ففي السوق، كل شيء يُباع داخل المحال أو على الأرصفة، كأنّنا في إحدى المدن العراقية. التقطنا صورًا تحت شجرةٍ عملاقة كان المشهد تحتها نصف مضاء ونصفها ظلال.
جاء إلينا بوجهٍ بشوش وخطواتٍ لم يمنع الشيب من تحريكها بمهارة رياضي يتهادى على الحركة. ثم مضينا من جديد إلى داخل السوق لشراء حقيبة سفرٍ للعابدي، الذي تكسّرت حقيبته أثناء نقلها في المطارات. بعدها أخذنا إلى مكان آخر، متنقّلين في المترو كأنّنا نتنقل على جناح من الحركة التي تتهادى مع برودة بدأت بالقدوم مع ساعات العصر المُهيّأة لاستقبال الغروب.


***
==============
1- الحلقة الأولى: ما قبل السفر إلى الجزائر
2- الحلقة الثانية: المطر والشاعر المتمرّد
3- الحلقة الثالثة: الترامواي وخبز العباس
4- الحلقة الرابعة: الكتب ودور النشر والطفل الكبير
5- الحلقة الخامسة: البحر والشخشوخة والشاي الأسود
6- الحلقة السادسة: لقاءات وحوارات
7- الحلقة السابعة: المترو و(المعدومين) وهدايا الأحفاد

--

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى