في الكتاب الصادر عن دار صفصافة بعنوان “المثقفون والجنس والثورة” للمترجم محمد عبد الفتاح السباعي الذي ترجمه عن الفرنسية للمؤلفة “لور كاتسارو”، تؤكد المؤلفة أن هذا الكتاب الذي يبلغ عدد صفحاته 159 صفحة، هو كتاب عن الثورة،
الثورة على كل شيء وأي شيء من الممكن أن يُقيد حرياتنا وحياتنا، فهو كتاب من أجل الثورة على قواعد المجتمع، وثورة على التقاليد المرعية، وثورة على المجتمع البرجوازي، وثورة على تقاليد الزواج، إنها الثورة الدائمة التي لا تنتهي من خلال تناول المؤلفة للعديد من النماذج الأدبية والفنية مثل “بلزاك”، و”بودلير”، و”سارتر”، و”ستندال”، وغيرهم من النماذج الفنية الذين كانوا في ثورة دائمة على كل شيء؛ ولذلك فالكتاب يحاول شرح موقفهم من الزواج، والجنس، والعزوبية، وتناول ظاهرة المثقف والعاهرة، التي كانت تُشكل ثنائيا أثار رعب المجتمع البرجوازي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
يتكون الكتاب من مقدمة المؤلف التي حرص فيها على شرح فلسفة المؤلفة التي قام عليها هذا الكتاب، وما هو الهدف من كتابته، ثم يليها خمسة فصول، فتتناول في الفصل الأول “بنات وأولاد” كيف أن ازدياد الدعارة، وارتفاع نسبة العزوبية هما ظاهرتين حضاريتين في المقام الأول، بمعنى أنهما ظاهرتين لا تنشآن إلا في المدن الكبرى، وربما كان السبب في ذلك أن المدن الكبرى دائما هي مكان الهجرة للجميع من أجل الحياة داخلها؛ ونظرا لأن الناس في المدن الكبرى لا يوجد بينهم الكثير من الروابط الوثيقة، أو أن معظمهم لا يعرفون بعضهم البعض، من هنا كان من السهل أن تنشأ الدعارة؛ نظرا لهذا الجهل لبعضهم، ولعل ما قاله “جوستاف فلوبير” في خطابه الذي كتبه لصديقه “إيرنست شوفالييه” ما يُدلل على نظرة الفنانين والكتاب لهذه المهنة فنراه يقول: (إن ما يبدو لي أجمل من باريس نفسها، هو ذلك الشارع الذي أعبره باستمرار، فحينما أصل كل صباح أشعر بقشعريرة تسري في أرجاء جسدي جرّاء السير على رصيف مُسفلت متشبع بأحذية عاهرات سرن عليه مرتديات فساتين بألوان صاخبة، ففي الوقت الذي تنعكس فيه أضواء مصابيح الغاز على الجليد، وتقرع السكاكين على الموائد الرخامية في المطاعم والحانات، أذهب أنا للتنزه سائرًا بهدوء، يحوطني دخان سيجاري، وأشاهد كل شيء من خلال النساء اللائي يعبرن أمامي)، فمنذ العصر الرومانسي والأعزب الثري يرتدي قناع المتألق، المتغنج، الأنيق، يعطي انطباعًا بأن لديه رفاهية وأوقات فراغ، وقدرة على تذوق الفنون، فضلا عن ثقافة رفيعة تميزه عن البرجوازي المتزوج ذي الكرش المنتفخ، والنظارات ذات العدسات السميكة، والذي يحب الهدوء الأسري، مفضلا البقاء في البيت معظم الوقت.
فالأعزب الثري هو شخص جمالي يكرس وقته للتأمل، ولاقتناء الجمال والبحث عنه، ذلك الجمال الذي يجب أن يكون مبالغًا فيه، ومقلقًا في الوقت ذاته، جمال لا تجسده فينوس إلهة الجمال عند الإغريق، ولا لوحات كلاسيكية، ولكنه يتجسد في فتيات الشوارع القابلات للاشتعال، كما أن الشاعر “بودلير” يؤكد في مقالته الشهيرة “رسام الحياة الحديثة” أن العاهرة تعرف كيف تصنع من جسدها مادة فنية مستفزة، وبربرية: مشيتها، وملابسها، وزينتها التي تكتسب طبيعة خاصة بنظرات عينيها، ويمنحها شغفًا مضاعفًا من الآخرين، فهي تمشي وتتزلج، وترقص، وتلتف بتنورتها المطرزة التي تُعد بمثابة قاعدة تمثال تمنحها الثقة والتوازن، وتوزع السهام الصادرة من نظرات عينيها من أسفل القبعة التي ترتديها، فهي تمثل بامتياز الهمجية في الحضارة، فصورتها تبرز على خلفية فيض من الألوان الصاخبة كالأحمر، والبرتقالي، والروز، والبنفسج، كما يتناول هذا الفصل العديد من الكتابات لمؤلفين فرنسيين حول الدعارة، وفتيات الليل، ورؤيتهم الجمالية لمثل هذا الأمر، وكيف كان المجتمع ينظر إليهن، ويحاول الهجوم على الكتاب الذين يقفون إلى جانبهن، هذا المجتمع المزدوج المعايير الذي تُدلل عليه المؤلفة في كتابها بأنه في القرن التاسع عشر كانت الفتاة العاهرة المسجلة على قوائم مديرية الأمن، إذا أرادت أن تتزوج فإنها تذهب للشرطة طلبًا لحذف اسمها، ولكن الشرطة لا تُبدي حماسة لفعل ذلك مثلما تفعل حين تسجلها على قوائمها، وهو ما أكدته فتاة الليل “إيستر فان جوسبيك” في شهادة نقلها “بلزاك” في كتابه “روائع ومآسي العاهرات”، حيث توضح: “أولئك الذين يسجلونك بكل سهولة على قوائم العار، يحذفونك منها بصعوبة بالغة”؛ ولعل المجتمع بالكامل كان ينظر إليها هكذا بالفعل، فهو قادر على قبولها كداعرة يحاول دائما أن ينتقدها على عهرها، لكنه غير قادر على قبولها كامرأة تركت هذه المهنة من أجل أن تكون سيدة متزوجة، ولديها أسرة، فتؤكد المؤلفة أنه (إذا كانت الدعارة يُنظر إليها على أنها رجس، فإن التخلي عنها وسلوك الطريق الملكي بالزواج، فيه كثير من الخطورة من وجهة نظر إدارة الشرطة، إذ يتفق “بارون دو شاتيليه” والمفتش “بيرو” على “أن فكرة تغلغل الفتيات العاهرات التائبات في منازلنا مصدر لكثير من القلق، فكيف نضمن أن عاهرة سابقة لن تنشر فسادها في بيوتنا، ناهيك عن أمراضها؟ فإذا كانت عاهرة أو حتى عاهرة سابقة يبدو عليها أنها تمارس حياة طبيعية، فكيف يمكن أن تشاركها امرأة عفيفة ذلك؟
بينما تتحدث المؤلفة في الفصل الثاني “مومسات..بوهيميون..ومنحطون” عن الفترة ما بين عامي 1830م، و 1840م، التي ظهرت فيها موسوعات أخلاقية مثل “الفرنسيون يرسمون أنفسهم”، وهي دراسات نفسية صغيرة الحجم، أو في هيئة قصص قصيرة مثل “مشاهد من حياة بوهيمي” لـ Henry Murger
التي تقدم نماذجا لأنماط شخصيات الحياة الباريسية، والنساء المنحلات يحتللن فيها مكانًا بارزًا، ومن جانبهم قدم شعراء مبتدئون ونحاتون وطلبة وأمراء البوهيمية ومتغنجون، وجهًا جديدًا للأعزب، مثل “جافارني”، و”جراند فيل”، و”مونيه”، وآخرون فنانو كاريكاتور يرصدون أدق تفاصيل الملابس والملامح والنظرات والهيئة العامة، التي تلخص سمات شخصية ما، وتؤكد المؤلفة على أنه رغم انتشار الأعمال الفنية المخصصة للدعارة في القرن التاسع عشر، فإن الشهادات المباشرة نادرة، فأصوات العاهرات دُفنت تحت وفرة الأعمال الأدبية التي خُصصت لهن، والعزوبية تحكي بطريقة أكثر ذاتية وأكثر حميمية، ولكن حتى كبار الكتاب العزاب مثل بودلير والأخيان جونكور، وأويوسمانس، ذهبوا بكامل وعيهم للحديث عن شطحات وأشياء ينبذها الجميع، طبقًا لشهادات معاصريهم، والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن دحضها هي الطريقة التي تم بها تخيل حياة العاهرات والعزاب، وطريقة تصويرهم، والحديث عنهم في خطب مطولة شهدتها الصالونات الأدبية، كما تؤكد المؤلفة أن رغبة الفنانين في أن يكونوا عزاب كان نابعة من رغبتهم في إحياء تراث الرهبان قديما، لكنها ليست مجرد عزوبية من أجل التحلي بأخلاق الترفع عن الأنثى، بل كانت الأنثى هي الدافع الأول والأخير لهم الذي يحرك حياتهم، ويوضح كتاب “فسيولوجيا الأعزب والفتاة العانس” الصادر عام 1842م، لـ Louis Couailhac
الذي يقدم، في وقت واحد، نظرة عامة متعاطفة مع البوهيمي، وآراء متحفظة إجمالا تجاه العزوبية، كما تؤكد المؤلفة أنه حينما
ظهر كتاب “حياة البوهيمية”، غضب “أويسمانس” كاتبًا عام 1876م “كل وسطاء بيع كريمات الشعر والخمور شعروا بزيادة رعبهم الوحشي من الكتاب والرسامين.. كان الجمهور مقتنعًا أن الكاتب كائن مختلف عن الآخرين.. ليس إلا واحد من الرعاع شعره مسبسب أو يرتدي برنيطة مدببة.. هو مجرد وغد لا يجيد سوى البكاء ناظرًا للنجوم، ويتقن خداع بواب البناية التي يقطن فيها ونادل المقهى الذي يجلس عليه كي لا يدفع ما عليه، ولكن تلك النتائج المستلخصة من الحياة البوهيمية، تُستخدم فقط للوصف دون بحث، أو تحليل، أو تصحيح، فالعزوبية والدعارة كان يتم اعتبارهما من أعمال الحياة الباريسية، وشيئان لا مفر منهما مثل إضاءة الشوارع بمصابيح الغاز حينما يحل الظلام.
و في عام 1976م أصدر “أويوسمانس” روايته الأولى في بروكسل، بوحي ذاتي، “مارتا.. حكاية فتاة”، والتي تم توقيفها على الحدود الفرنسية البلجيكية، وتمت مصادرة الكتاب سريعًا بتهمة التعدي على الأخلاق العامة، وفي العام التالي ظهرت رواية أخرى قابلة للاشتعال بعنوان “الفتاة إيلزا” لـ “إدموند جونكور” Edmond de Goncour، وهي مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين “جونكور” المرأة العاقلة “ماريا”، وفي عام 1880م أثارت رواية “نانا” لـ “إيميل زولا” ضجة كبيرة؛ إذ صنع “زولا” شيئاً استثنائيًّا في عالم طبيعاني تحكمه العزوبية، وهو ما يفسر لماذا كانت “نانا” الأقل حميمية، والأكثر استخدامًا للاستعارات البلاغية من كل رواياته التي خصصها لفتيات الهوى، وبينما ضاعف رسامو الكاريكاتور من رسوماتهم المعبرة عن كتابات “زولا” الطبيعية، مستوحين الكثير والكثير من شخصية “نانا”، كانت حكومة “جامبتا” تخطط لمصادرة العمل، وتحاول المؤلفة طوال هذا الفصل تتبع الكثير من الأعمال الفنية والأدبية سواء على مستوى الكتابة، أو الفن التشكيلي التي حاولت تناول العاهرات، وعلاقات الفنانين بهم، ومن ثم نظرة المجتمع إليهم.
في الفصل الثالث “موت بالتقسيط” تفتتحه المؤلفة بالحديث عن رواية “الغثيان” لفيلسوف الوجودية “جان بول سارتر”، وهي الرواية التعليمية المجردة التي وضعت أسس النظرية العبثية، وتوضح المؤلفة كيف أن هذه الرواية حظيت بشعبية كبيرة بعدما وضعت الحرب أوزارها؛ لأنها تتحدث عن يوميات أعزب، هذه العزوبية التي تُجسد موقفًا فلسفيًّا ضد التقاليد الإنسانية والمسيحية، وفي الوقت نفسه ثورة اجتماعية على الطبقة البرجوازية، إنه هنا لا يختلف جوهريًّا عما كان يفعله “فلوبير”، والأخوان “جونكور”، و”موباسون”؛ فالأعزب عند “سارتر”، كما في القرن التاسع عشر، هو ذلك المتمرد اللاجتماعي، رجل لا يعترف بوجوده أحد، وتتنزل عليه لعنات المجتمع البرجوازي الذي يدعو عليه السماء باستمرار، وهنا تتحدث عن أن الأعزب حينما يتقدم به العمر فإنه لا يجد من يُحيط به، وإذا تواجد أحد ما فإنهم يكونون قلائل جدا، حتى أن هذا الأعزب يكون في حالة موت دائمة، أو موت بالتقسيط، فتقول: (الأعزب الذي يظن أن هناك من يحيط به بالفعل هو مخدوع في حقيقة الأمر، وجسده مختوم بعملة لا قيمة لها، وبعد موته، فإن المقربين منه ليسوا حتى مضطرين لتمثيل كوميديا الحزن عليه)، بل هناك موقفا مشابها تخيله “بلزاك” في روايته “ابن العم بونس”، حيث مدبرة شئون المنزل السيدة “سيبو”، التي تحاول الاستيلاء على المجموعة الفنية الرائعة الخاصة بالفتى العجوز المشرف على الموت.. عزوبية “بونس” جعلت منه فريسة سهلة: “تلك الوحدة العميقة المظلمة، وذلك الألم البالغ الذي نال منه معنويًّا قبل أن يكون جسديًّا، وعدم جدوى الحياة بالنسبة له، كل ذلك يدفع أعزب، لا سيما إن كان ضعيفًا ساذجًا طيب القلب، إلى التعلق بالشخص الوحيد الذي يعتني به كما يتشبث الغريق بلوح خشب”، فبعد لحظات من موت “بونس”، ذكرها “بلزاك” بسرعة: “إنها السيدة “سوفاج” Sauvage اسم على مسمى
(Sauvage تعني المتوحشة).. بدم بارد جردته من ملابسه وفردت ذراعيه، ثم وضعته في غطاء بعدما طوته كورقه داخل مظروف أو كبضاعة اشترتها من أحد المحلات وعلبتها”.. هنا أيضًا ليس ضروريًّا تمثيل كوميديا الحزن، كما أنه لا داعي لاستكمال طقوس الحداد التي تصاحب الأموات في المعتاد، فبمجرد موت الأعزب يصبح شيئًا غير مرئي.. “مدام سوفاج” تسرع في خياطة كفن “بونس”؛ لإزاحة الجثة من الوجود، وهنا تحاول المؤلفة لفت الانتباه إلى خطورة العزوبية من خلال النظرة الاجتماعية التي تجعل المرء في نهايات حياته يموت موتا بطيئا، أو كما وصفته هي “الموت بالتقسيط”، حيث يجد المرء الأعزب نفسه وقد بات وحيدا تماما، لا يلتف إليه أحد، أو يهتم بشأنه، ودللت على هذا الأمر من خلال العديد من الأعمال الأدبية المهمة التي تناولت هذه الحالة.
في الفصل الرابع “إنفاق وتضحيات” تبدأه المؤلفة بالحديث عن كتاب “الجلد المسحور.. رواية فلسفية”، التي أعلن عنها “بلزاك” واصفا إياها هكذا مسلطًا الضوء على روايته.. وهي فلسفة من نوع خاص جدًّا، وبحداثة جذابة تجبر القارئ على التوقف في منتصف اعترافات «رافائيل دو فالينتان »، حيث يشرح الشاب كيف انتقل من حياة الدير والرهبان، التي كانت مخصصة بالكامل للدراسة والتأمل، إلى حياة العهر والانحلال ونوادي القمار، فهو يجسد تطرف العزوبية من الناحيتين: عفة رجل العلم، وإسراف وتبذير الشاب العربيد، ومن تطرف إلى نقيضه يخبرنا “بلزاك” أن “رافائيل” لم يتغير، حيث واصل البحث عن المطلق على فراش العاهرات؛ ليكتشف أن ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج ليس فيها متعة، ويؤكد هذا الفصل على أن حياة العهر، والجنس المجاني هي في حاجة ماسة إلى الكثير من الإنفاق، وليس المقصود بالإنفاق هنا هو إنفاق المال، أي الإنفاق المادي، بل هو أيضا الكثير من الإنفاق على المستوى الروحي، والحيوي من الإنسان ذاته، حتى أنه قد تخبو روحه في نهاية الأمر، وحاولت المؤلفة التدليل على هذه النظرة من خلال الدراسة التي صدرت في عام 1823م والتي أصدرها الطبيب “جوليان جوزيف فيري” وهي دراسة بعنوان “الطاقة الحيوية معتبرة في وظائفها الفسيولوجية”، وفيها كشف عن السر في طول العمر: الاعتدال، وحظيت نظرية الاحتفاظ بالطاقة الحيوية بشهرة كبيرة في عهد بلزاك، انطلاقًا من نظرية أن كل فرد يملك رأس مال محدودًا من الطاقة، ويؤكد الدكتور «فيري » أن التوفير في تلك الطاقة شيء ضروري لكي يتمكن الإنسان من العيش حتى عمر متقدم، وطبقًا لتلك النظرية أيضًا فإن الإفراط في ممارسة الجنس والطعام يؤدي لاستنفاد الطاقة الحيوية، ويحذر “فيري” قراءه: (الإفراط في الجنس هو أصل الموت المبكر.. فلا شيء يصيب بالوهن، ويستهلك العقل، ويثير الجهاز العصبي بأكمله، بقدر ما يفعله الجنس، حيث يستنفد ويثقل كاهل الرجال الذي يقومون بأعمال عقلية.. فالمرء يصبح مريضًا ويهضم الطعام بشكل سيئ، ويشعر بآلام في الأعصاب، ثم يسقط بسكتة دماغية جراء جماع مفاجئ أو بشكل لا تسمح به قواه)، وطبقًا لـ “رافائيل” فإن الفجور والانحلال يتطلبان تبذيرًا للطاقة بشكل يضاهي خطورة تبذير الطاقة في الفنون والعلم، بل وفي الحرب، وتحاول المؤلفة في هذا الفصل الحديث عن العديد من الروايات الأدبية التي تحدثت عن هذا اللون من ألوان الموت بالتقسيط بسبب الإفراط في الجنس.
وفي الفصل الخامس “عالم جديد من الحب” تفتتحه المؤلفة بالحديث عن الفكر البرجوازي في القرن التاسع عشر الذي كان يصنف العاهرات والعزاب في فئة المصابين بالجذام الأخلاقي، كما كانوا مرفوضين منبوذين مهمشين لدرجة أن مصيرهم كان محددًا بحتمية المرض والشقاء أو الموت المبكر، وكيف أن هذه النظرة الاجتماعية قد اختلفت فيما بعد، وهنا نرى اليوتوبي “الطوباوي” “شارل فورييه”، قلب رأسًا على عقب التعريفات المقبولة عن الحياة الطبيعية السوية، وعن الشر والضلال، فكل ما كان يعتبره القرن التاسع عشر عاديًّا سويًّا، كان “فورييه” يراه شرًّا وضلالًا، وكل ما كان شرًّا وضلا للمجتمع كان انتصارًا للطبيعة من وجهة نظر “فورييه”، والداعرون الذين اعتبرهم معاصروه مارقين، بالنسبة له ليسوا سوى أبرياء؛ لأنهم لم يفعلوا سوى اتباع ما أملته عليهم الطبيعة، وكل فلسفة “فورييه” يمكن تلخيصها في مقولته المأثورة: “لا توجد مشاعر مفرغة، لا يوجد سوى تطور فارغ”، بل ويؤكد “فورييه” على أنه في المجتمع المعاصر الذي منحه اسم “مجتمع الحضارة”، الذي يعتبره اسمًا مهينًا من وجهة نظره، فإن بيوت الدعارة هي الوحيدة التي تقدم إمكانية استمرار عزوبية مكرسة لمنح المتعة، فتلك الحالة التي يتسامح معها المجتمع بشرط وحيد، وهو أن تكون مؤقتة، تسعى اليوتوبيا لجعلها مستمرة إلى ما لا نهاية، فالمتعة عند “فورييه”، كما كان يردد دون كلل، هي مفتاح قبة أداء المجتمع، كما أن الدعارة والعزوبية، اللتان لا تنفصمان، تضمنان استدامة حالة جديدة للعالم تسمى هارموني Harmonie أي انسجام، وبعيدًا عن كونها ملعونة فإن تلك الحالة هي “شهادة ضمان الفضائل الاجتماعية الأكثر سموًّا”..
إنه انقلاب كامل على كل استراتيجيات الأيديولوجية البرجوازية التي تجعل من الدعارة والعزوبية مصدرًا للأمراض العضوية والاقتصادية والاجتماعية والعقلية، وأكد “فورييه” على أن الحضارة تعمل عكس الطبيعة والحس السليم، فإن العاهرات فقط في العالم المتحضر يمكنهن إعطاء مثال عن حياة العشق المثالية، وباستثناء المقايضة التي تحدث مع العاهرة (المال مقابل الجنس)، فإن الفساد الأخلاقي شيء كوني، ومن مظاهر ذلك بحسب “فورييه” :” أن الفتيات اللائي نعتقدهن أمينات محكوم عليهن بإخفاء رغباتهن الشهوانية لكي لا يتم وضعهن في مرتبة المومسات”، ونخلص من هذا الفصل إلى وجود نظرة جديدة إلى العلاقات الجنسية، وهي النظرة التي رسخها المجتمع الصناعي الجديد، والتطور الحضاري.
كتاب “عاهرات وعزاب” الذي ترجمه المؤلف تحت عنوان “المثقفون والجنس والثورة” هو كتاب ثقافي شيق، يحاول تتبع نظرة المجتمع باتجاه العلاقات الجنسية الحرة، وكيف تطورت هذه العلاقات، وما هي الفلسفة الكامنة خلف هذه العلاقات الحرة، والسبب في الثورة على تقاليد المجتمع البرجوازية، من خلال العديد من الأمثلة الفنية والثقافية المتعددة.
الثورة على كل شيء وأي شيء من الممكن أن يُقيد حرياتنا وحياتنا، فهو كتاب من أجل الثورة على قواعد المجتمع، وثورة على التقاليد المرعية، وثورة على المجتمع البرجوازي، وثورة على تقاليد الزواج، إنها الثورة الدائمة التي لا تنتهي من خلال تناول المؤلفة للعديد من النماذج الأدبية والفنية مثل “بلزاك”، و”بودلير”، و”سارتر”، و”ستندال”، وغيرهم من النماذج الفنية الذين كانوا في ثورة دائمة على كل شيء؛ ولذلك فالكتاب يحاول شرح موقفهم من الزواج، والجنس، والعزوبية، وتناول ظاهرة المثقف والعاهرة، التي كانت تُشكل ثنائيا أثار رعب المجتمع البرجوازي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
يتكون الكتاب من مقدمة المؤلف التي حرص فيها على شرح فلسفة المؤلفة التي قام عليها هذا الكتاب، وما هو الهدف من كتابته، ثم يليها خمسة فصول، فتتناول في الفصل الأول “بنات وأولاد” كيف أن ازدياد الدعارة، وارتفاع نسبة العزوبية هما ظاهرتين حضاريتين في المقام الأول، بمعنى أنهما ظاهرتين لا تنشآن إلا في المدن الكبرى، وربما كان السبب في ذلك أن المدن الكبرى دائما هي مكان الهجرة للجميع من أجل الحياة داخلها؛ ونظرا لأن الناس في المدن الكبرى لا يوجد بينهم الكثير من الروابط الوثيقة، أو أن معظمهم لا يعرفون بعضهم البعض، من هنا كان من السهل أن تنشأ الدعارة؛ نظرا لهذا الجهل لبعضهم، ولعل ما قاله “جوستاف فلوبير” في خطابه الذي كتبه لصديقه “إيرنست شوفالييه” ما يُدلل على نظرة الفنانين والكتاب لهذه المهنة فنراه يقول: (إن ما يبدو لي أجمل من باريس نفسها، هو ذلك الشارع الذي أعبره باستمرار، فحينما أصل كل صباح أشعر بقشعريرة تسري في أرجاء جسدي جرّاء السير على رصيف مُسفلت متشبع بأحذية عاهرات سرن عليه مرتديات فساتين بألوان صاخبة، ففي الوقت الذي تنعكس فيه أضواء مصابيح الغاز على الجليد، وتقرع السكاكين على الموائد الرخامية في المطاعم والحانات، أذهب أنا للتنزه سائرًا بهدوء، يحوطني دخان سيجاري، وأشاهد كل شيء من خلال النساء اللائي يعبرن أمامي)، فمنذ العصر الرومانسي والأعزب الثري يرتدي قناع المتألق، المتغنج، الأنيق، يعطي انطباعًا بأن لديه رفاهية وأوقات فراغ، وقدرة على تذوق الفنون، فضلا عن ثقافة رفيعة تميزه عن البرجوازي المتزوج ذي الكرش المنتفخ، والنظارات ذات العدسات السميكة، والذي يحب الهدوء الأسري، مفضلا البقاء في البيت معظم الوقت.
فالأعزب الثري هو شخص جمالي يكرس وقته للتأمل، ولاقتناء الجمال والبحث عنه، ذلك الجمال الذي يجب أن يكون مبالغًا فيه، ومقلقًا في الوقت ذاته، جمال لا تجسده فينوس إلهة الجمال عند الإغريق، ولا لوحات كلاسيكية، ولكنه يتجسد في فتيات الشوارع القابلات للاشتعال، كما أن الشاعر “بودلير” يؤكد في مقالته الشهيرة “رسام الحياة الحديثة” أن العاهرة تعرف كيف تصنع من جسدها مادة فنية مستفزة، وبربرية: مشيتها، وملابسها، وزينتها التي تكتسب طبيعة خاصة بنظرات عينيها، ويمنحها شغفًا مضاعفًا من الآخرين، فهي تمشي وتتزلج، وترقص، وتلتف بتنورتها المطرزة التي تُعد بمثابة قاعدة تمثال تمنحها الثقة والتوازن، وتوزع السهام الصادرة من نظرات عينيها من أسفل القبعة التي ترتديها، فهي تمثل بامتياز الهمجية في الحضارة، فصورتها تبرز على خلفية فيض من الألوان الصاخبة كالأحمر، والبرتقالي، والروز، والبنفسج، كما يتناول هذا الفصل العديد من الكتابات لمؤلفين فرنسيين حول الدعارة، وفتيات الليل، ورؤيتهم الجمالية لمثل هذا الأمر، وكيف كان المجتمع ينظر إليهن، ويحاول الهجوم على الكتاب الذين يقفون إلى جانبهن، هذا المجتمع المزدوج المعايير الذي تُدلل عليه المؤلفة في كتابها بأنه في القرن التاسع عشر كانت الفتاة العاهرة المسجلة على قوائم مديرية الأمن، إذا أرادت أن تتزوج فإنها تذهب للشرطة طلبًا لحذف اسمها، ولكن الشرطة لا تُبدي حماسة لفعل ذلك مثلما تفعل حين تسجلها على قوائمها، وهو ما أكدته فتاة الليل “إيستر فان جوسبيك” في شهادة نقلها “بلزاك” في كتابه “روائع ومآسي العاهرات”، حيث توضح: “أولئك الذين يسجلونك بكل سهولة على قوائم العار، يحذفونك منها بصعوبة بالغة”؛ ولعل المجتمع بالكامل كان ينظر إليها هكذا بالفعل، فهو قادر على قبولها كداعرة يحاول دائما أن ينتقدها على عهرها، لكنه غير قادر على قبولها كامرأة تركت هذه المهنة من أجل أن تكون سيدة متزوجة، ولديها أسرة، فتؤكد المؤلفة أنه (إذا كانت الدعارة يُنظر إليها على أنها رجس، فإن التخلي عنها وسلوك الطريق الملكي بالزواج، فيه كثير من الخطورة من وجهة نظر إدارة الشرطة، إذ يتفق “بارون دو شاتيليه” والمفتش “بيرو” على “أن فكرة تغلغل الفتيات العاهرات التائبات في منازلنا مصدر لكثير من القلق، فكيف نضمن أن عاهرة سابقة لن تنشر فسادها في بيوتنا، ناهيك عن أمراضها؟ فإذا كانت عاهرة أو حتى عاهرة سابقة يبدو عليها أنها تمارس حياة طبيعية، فكيف يمكن أن تشاركها امرأة عفيفة ذلك؟
بينما تتحدث المؤلفة في الفصل الثاني “مومسات..بوهيميون..ومنحطون” عن الفترة ما بين عامي 1830م، و 1840م، التي ظهرت فيها موسوعات أخلاقية مثل “الفرنسيون يرسمون أنفسهم”، وهي دراسات نفسية صغيرة الحجم، أو في هيئة قصص قصيرة مثل “مشاهد من حياة بوهيمي” لـ Henry Murger
التي تقدم نماذجا لأنماط شخصيات الحياة الباريسية، والنساء المنحلات يحتللن فيها مكانًا بارزًا، ومن جانبهم قدم شعراء مبتدئون ونحاتون وطلبة وأمراء البوهيمية ومتغنجون، وجهًا جديدًا للأعزب، مثل “جافارني”، و”جراند فيل”، و”مونيه”، وآخرون فنانو كاريكاتور يرصدون أدق تفاصيل الملابس والملامح والنظرات والهيئة العامة، التي تلخص سمات شخصية ما، وتؤكد المؤلفة على أنه رغم انتشار الأعمال الفنية المخصصة للدعارة في القرن التاسع عشر، فإن الشهادات المباشرة نادرة، فأصوات العاهرات دُفنت تحت وفرة الأعمال الأدبية التي خُصصت لهن، والعزوبية تحكي بطريقة أكثر ذاتية وأكثر حميمية، ولكن حتى كبار الكتاب العزاب مثل بودلير والأخيان جونكور، وأويوسمانس، ذهبوا بكامل وعيهم للحديث عن شطحات وأشياء ينبذها الجميع، طبقًا لشهادات معاصريهم، والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن دحضها هي الطريقة التي تم بها تخيل حياة العاهرات والعزاب، وطريقة تصويرهم، والحديث عنهم في خطب مطولة شهدتها الصالونات الأدبية، كما تؤكد المؤلفة أن رغبة الفنانين في أن يكونوا عزاب كان نابعة من رغبتهم في إحياء تراث الرهبان قديما، لكنها ليست مجرد عزوبية من أجل التحلي بأخلاق الترفع عن الأنثى، بل كانت الأنثى هي الدافع الأول والأخير لهم الذي يحرك حياتهم، ويوضح كتاب “فسيولوجيا الأعزب والفتاة العانس” الصادر عام 1842م، لـ Louis Couailhac
الذي يقدم، في وقت واحد، نظرة عامة متعاطفة مع البوهيمي، وآراء متحفظة إجمالا تجاه العزوبية، كما تؤكد المؤلفة أنه حينما
ظهر كتاب “حياة البوهيمية”، غضب “أويسمانس” كاتبًا عام 1876م “كل وسطاء بيع كريمات الشعر والخمور شعروا بزيادة رعبهم الوحشي من الكتاب والرسامين.. كان الجمهور مقتنعًا أن الكاتب كائن مختلف عن الآخرين.. ليس إلا واحد من الرعاع شعره مسبسب أو يرتدي برنيطة مدببة.. هو مجرد وغد لا يجيد سوى البكاء ناظرًا للنجوم، ويتقن خداع بواب البناية التي يقطن فيها ونادل المقهى الذي يجلس عليه كي لا يدفع ما عليه، ولكن تلك النتائج المستلخصة من الحياة البوهيمية، تُستخدم فقط للوصف دون بحث، أو تحليل، أو تصحيح، فالعزوبية والدعارة كان يتم اعتبارهما من أعمال الحياة الباريسية، وشيئان لا مفر منهما مثل إضاءة الشوارع بمصابيح الغاز حينما يحل الظلام.
و في عام 1976م أصدر “أويوسمانس” روايته الأولى في بروكسل، بوحي ذاتي، “مارتا.. حكاية فتاة”، والتي تم توقيفها على الحدود الفرنسية البلجيكية، وتمت مصادرة الكتاب سريعًا بتهمة التعدي على الأخلاق العامة، وفي العام التالي ظهرت رواية أخرى قابلة للاشتعال بعنوان “الفتاة إيلزا” لـ “إدموند جونكور” Edmond de Goncour، وهي مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين “جونكور” المرأة العاقلة “ماريا”، وفي عام 1880م أثارت رواية “نانا” لـ “إيميل زولا” ضجة كبيرة؛ إذ صنع “زولا” شيئاً استثنائيًّا في عالم طبيعاني تحكمه العزوبية، وهو ما يفسر لماذا كانت “نانا” الأقل حميمية، والأكثر استخدامًا للاستعارات البلاغية من كل رواياته التي خصصها لفتيات الهوى، وبينما ضاعف رسامو الكاريكاتور من رسوماتهم المعبرة عن كتابات “زولا” الطبيعية، مستوحين الكثير والكثير من شخصية “نانا”، كانت حكومة “جامبتا” تخطط لمصادرة العمل، وتحاول المؤلفة طوال هذا الفصل تتبع الكثير من الأعمال الفنية والأدبية سواء على مستوى الكتابة، أو الفن التشكيلي التي حاولت تناول العاهرات، وعلاقات الفنانين بهم، ومن ثم نظرة المجتمع إليهم.
في الفصل الثالث “موت بالتقسيط” تفتتحه المؤلفة بالحديث عن رواية “الغثيان” لفيلسوف الوجودية “جان بول سارتر”، وهي الرواية التعليمية المجردة التي وضعت أسس النظرية العبثية، وتوضح المؤلفة كيف أن هذه الرواية حظيت بشعبية كبيرة بعدما وضعت الحرب أوزارها؛ لأنها تتحدث عن يوميات أعزب، هذه العزوبية التي تُجسد موقفًا فلسفيًّا ضد التقاليد الإنسانية والمسيحية، وفي الوقت نفسه ثورة اجتماعية على الطبقة البرجوازية، إنه هنا لا يختلف جوهريًّا عما كان يفعله “فلوبير”، والأخوان “جونكور”، و”موباسون”؛ فالأعزب عند “سارتر”، كما في القرن التاسع عشر، هو ذلك المتمرد اللاجتماعي، رجل لا يعترف بوجوده أحد، وتتنزل عليه لعنات المجتمع البرجوازي الذي يدعو عليه السماء باستمرار، وهنا تتحدث عن أن الأعزب حينما يتقدم به العمر فإنه لا يجد من يُحيط به، وإذا تواجد أحد ما فإنهم يكونون قلائل جدا، حتى أن هذا الأعزب يكون في حالة موت دائمة، أو موت بالتقسيط، فتقول: (الأعزب الذي يظن أن هناك من يحيط به بالفعل هو مخدوع في حقيقة الأمر، وجسده مختوم بعملة لا قيمة لها، وبعد موته، فإن المقربين منه ليسوا حتى مضطرين لتمثيل كوميديا الحزن عليه)، بل هناك موقفا مشابها تخيله “بلزاك” في روايته “ابن العم بونس”، حيث مدبرة شئون المنزل السيدة “سيبو”، التي تحاول الاستيلاء على المجموعة الفنية الرائعة الخاصة بالفتى العجوز المشرف على الموت.. عزوبية “بونس” جعلت منه فريسة سهلة: “تلك الوحدة العميقة المظلمة، وذلك الألم البالغ الذي نال منه معنويًّا قبل أن يكون جسديًّا، وعدم جدوى الحياة بالنسبة له، كل ذلك يدفع أعزب، لا سيما إن كان ضعيفًا ساذجًا طيب القلب، إلى التعلق بالشخص الوحيد الذي يعتني به كما يتشبث الغريق بلوح خشب”، فبعد لحظات من موت “بونس”، ذكرها “بلزاك” بسرعة: “إنها السيدة “سوفاج” Sauvage اسم على مسمى
(Sauvage تعني المتوحشة).. بدم بارد جردته من ملابسه وفردت ذراعيه، ثم وضعته في غطاء بعدما طوته كورقه داخل مظروف أو كبضاعة اشترتها من أحد المحلات وعلبتها”.. هنا أيضًا ليس ضروريًّا تمثيل كوميديا الحزن، كما أنه لا داعي لاستكمال طقوس الحداد التي تصاحب الأموات في المعتاد، فبمجرد موت الأعزب يصبح شيئًا غير مرئي.. “مدام سوفاج” تسرع في خياطة كفن “بونس”؛ لإزاحة الجثة من الوجود، وهنا تحاول المؤلفة لفت الانتباه إلى خطورة العزوبية من خلال النظرة الاجتماعية التي تجعل المرء في نهايات حياته يموت موتا بطيئا، أو كما وصفته هي “الموت بالتقسيط”، حيث يجد المرء الأعزب نفسه وقد بات وحيدا تماما، لا يلتف إليه أحد، أو يهتم بشأنه، ودللت على هذا الأمر من خلال العديد من الأعمال الأدبية المهمة التي تناولت هذه الحالة.
في الفصل الرابع “إنفاق وتضحيات” تبدأه المؤلفة بالحديث عن كتاب “الجلد المسحور.. رواية فلسفية”، التي أعلن عنها “بلزاك” واصفا إياها هكذا مسلطًا الضوء على روايته.. وهي فلسفة من نوع خاص جدًّا، وبحداثة جذابة تجبر القارئ على التوقف في منتصف اعترافات «رافائيل دو فالينتان »، حيث يشرح الشاب كيف انتقل من حياة الدير والرهبان، التي كانت مخصصة بالكامل للدراسة والتأمل، إلى حياة العهر والانحلال ونوادي القمار، فهو يجسد تطرف العزوبية من الناحيتين: عفة رجل العلم، وإسراف وتبذير الشاب العربيد، ومن تطرف إلى نقيضه يخبرنا “بلزاك” أن “رافائيل” لم يتغير، حيث واصل البحث عن المطلق على فراش العاهرات؛ ليكتشف أن ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج ليس فيها متعة، ويؤكد هذا الفصل على أن حياة العهر، والجنس المجاني هي في حاجة ماسة إلى الكثير من الإنفاق، وليس المقصود بالإنفاق هنا هو إنفاق المال، أي الإنفاق المادي، بل هو أيضا الكثير من الإنفاق على المستوى الروحي، والحيوي من الإنسان ذاته، حتى أنه قد تخبو روحه في نهاية الأمر، وحاولت المؤلفة التدليل على هذه النظرة من خلال الدراسة التي صدرت في عام 1823م والتي أصدرها الطبيب “جوليان جوزيف فيري” وهي دراسة بعنوان “الطاقة الحيوية معتبرة في وظائفها الفسيولوجية”، وفيها كشف عن السر في طول العمر: الاعتدال، وحظيت نظرية الاحتفاظ بالطاقة الحيوية بشهرة كبيرة في عهد بلزاك، انطلاقًا من نظرية أن كل فرد يملك رأس مال محدودًا من الطاقة، ويؤكد الدكتور «فيري » أن التوفير في تلك الطاقة شيء ضروري لكي يتمكن الإنسان من العيش حتى عمر متقدم، وطبقًا لتلك النظرية أيضًا فإن الإفراط في ممارسة الجنس والطعام يؤدي لاستنفاد الطاقة الحيوية، ويحذر “فيري” قراءه: (الإفراط في الجنس هو أصل الموت المبكر.. فلا شيء يصيب بالوهن، ويستهلك العقل، ويثير الجهاز العصبي بأكمله، بقدر ما يفعله الجنس، حيث يستنفد ويثقل كاهل الرجال الذي يقومون بأعمال عقلية.. فالمرء يصبح مريضًا ويهضم الطعام بشكل سيئ، ويشعر بآلام في الأعصاب، ثم يسقط بسكتة دماغية جراء جماع مفاجئ أو بشكل لا تسمح به قواه)، وطبقًا لـ “رافائيل” فإن الفجور والانحلال يتطلبان تبذيرًا للطاقة بشكل يضاهي خطورة تبذير الطاقة في الفنون والعلم، بل وفي الحرب، وتحاول المؤلفة في هذا الفصل الحديث عن العديد من الروايات الأدبية التي تحدثت عن هذا اللون من ألوان الموت بالتقسيط بسبب الإفراط في الجنس.
وفي الفصل الخامس “عالم جديد من الحب” تفتتحه المؤلفة بالحديث عن الفكر البرجوازي في القرن التاسع عشر الذي كان يصنف العاهرات والعزاب في فئة المصابين بالجذام الأخلاقي، كما كانوا مرفوضين منبوذين مهمشين لدرجة أن مصيرهم كان محددًا بحتمية المرض والشقاء أو الموت المبكر، وكيف أن هذه النظرة الاجتماعية قد اختلفت فيما بعد، وهنا نرى اليوتوبي “الطوباوي” “شارل فورييه”، قلب رأسًا على عقب التعريفات المقبولة عن الحياة الطبيعية السوية، وعن الشر والضلال، فكل ما كان يعتبره القرن التاسع عشر عاديًّا سويًّا، كان “فورييه” يراه شرًّا وضلالًا، وكل ما كان شرًّا وضلا للمجتمع كان انتصارًا للطبيعة من وجهة نظر “فورييه”، والداعرون الذين اعتبرهم معاصروه مارقين، بالنسبة له ليسوا سوى أبرياء؛ لأنهم لم يفعلوا سوى اتباع ما أملته عليهم الطبيعة، وكل فلسفة “فورييه” يمكن تلخيصها في مقولته المأثورة: “لا توجد مشاعر مفرغة، لا يوجد سوى تطور فارغ”، بل ويؤكد “فورييه” على أنه في المجتمع المعاصر الذي منحه اسم “مجتمع الحضارة”، الذي يعتبره اسمًا مهينًا من وجهة نظره، فإن بيوت الدعارة هي الوحيدة التي تقدم إمكانية استمرار عزوبية مكرسة لمنح المتعة، فتلك الحالة التي يتسامح معها المجتمع بشرط وحيد، وهو أن تكون مؤقتة، تسعى اليوتوبيا لجعلها مستمرة إلى ما لا نهاية، فالمتعة عند “فورييه”، كما كان يردد دون كلل، هي مفتاح قبة أداء المجتمع، كما أن الدعارة والعزوبية، اللتان لا تنفصمان، تضمنان استدامة حالة جديدة للعالم تسمى هارموني Harmonie أي انسجام، وبعيدًا عن كونها ملعونة فإن تلك الحالة هي “شهادة ضمان الفضائل الاجتماعية الأكثر سموًّا”..
إنه انقلاب كامل على كل استراتيجيات الأيديولوجية البرجوازية التي تجعل من الدعارة والعزوبية مصدرًا للأمراض العضوية والاقتصادية والاجتماعية والعقلية، وأكد “فورييه” على أن الحضارة تعمل عكس الطبيعة والحس السليم، فإن العاهرات فقط في العالم المتحضر يمكنهن إعطاء مثال عن حياة العشق المثالية، وباستثناء المقايضة التي تحدث مع العاهرة (المال مقابل الجنس)، فإن الفساد الأخلاقي شيء كوني، ومن مظاهر ذلك بحسب “فورييه” :” أن الفتيات اللائي نعتقدهن أمينات محكوم عليهن بإخفاء رغباتهن الشهوانية لكي لا يتم وضعهن في مرتبة المومسات”، ونخلص من هذا الفصل إلى وجود نظرة جديدة إلى العلاقات الجنسية، وهي النظرة التي رسخها المجتمع الصناعي الجديد، والتطور الحضاري.
كتاب “عاهرات وعزاب” الذي ترجمه المؤلف تحت عنوان “المثقفون والجنس والثورة” هو كتاب ثقافي شيق، يحاول تتبع نظرة المجتمع باتجاه العلاقات الجنسية الحرة، وكيف تطورت هذه العلاقات، وما هي الفلسفة الكامنة خلف هذه العلاقات الحرة، والسبب في الثورة على تقاليد المجتمع البرجوازية، من خلال العديد من الأمثلة الفنية والثقافية المتعددة.