بِرحيله اظْلَم الطريق أمامى، وفقدت روحى قدرتها على الاتزان والبصيرة. هذا الأرق المتواصل قادنى إلى اكتشاف بسيط، ومذهل: إننى أملك القدرة على بعثه مرة أخرى. كل ما أحتاجه الآن هو اللعب بلوحة مفاتيح الحاسب الآلى. هو لم يستخدم التكنولوجيا فى أيامه الأخيرة إلا نادرًا ودون براعة، كان شغوفًا بنموذج الإنسان البرَّى الحُرّ فى كل زمان، هذا الشخص النادر الذى لا تسجن خطواته وكلامه أسلاك معدنية، لكنه لم يحافظ عليه حتى النهاية؛ لأنه اضطر للطيران بواسطة تلك الأسلاك والشاشات بعد أن أعجزته قدماه عن الحركة، ولسانه عن النطق السليم للمعانى. بمحاولات قليلة نجحت أخيرًا بامتلاك حسابه الفيسبوكى المُهمَل، صندوق رسائله لم يكن به أكثر من دعابات مع أصدقائه، وبناته الثلاث، ونصائح، ومشاورات تبرز فراسته، وروحه الحلوة، وردود مقتضبة من ابنه الوحيد على مشاوير تخص العائلة، طلبات الصداقة المُعلقة قبلتها كلها.
الذين رأوا تعليقاته فى البداية على منشوراتهم اعتقدوا أن الأمر مجرد مُزحة، وأن أحد محبيه استغل صورته الشخصية لحسابه الجديد، لكنهم حين طالعوا صُوره التى نشرها تباعًا على حائطه، وطريقة ردوده التى ألفوها ظنوا أن ابنه هو من تقمص دوره بعد وفاته لأزمة طارئة. ولأن الحقيقة لم تكن واحدة من ظنونهم فقد بدأ الكابوس الذى توقعته مبكرًا فى صورة رسائل متوالية تبدأ تقريبًا بنفس البدايات، وتنتهى بنفس النهايات: "من أنت بالضبط؟". "ألا تعرف أننا يمكن أن نقاضيك حين نعرفك". "ستندم ندم العمر يا ابن .....". "ألا تخجل من السطو على الحساب الإليكترونى لرجل متوفَى؟!". "ألا تعرف أيها النذل أنك جعلتنا نشك فى كل أصدقائنا، وأقاربنا".
لم أعبأ بذلك. لطالما قابلته حيًّا بعد وفاته فى نفس الشوارع التى كان يمشى فيها كثيرًا، فإذا ما تقاربت خطواتنا ذاب فى النور، ولطالما سمعت رنة صوته فى أذنى فى أوقات كثيرة، فإذا ما التفت أو فتحت عيني اختفى.
أَمَّنت الحساب الإليكترونى بأرقام هاتفى. صرت أدخل إليه من أماكن، وأجهزة مختلفة؛ كى تفشل خططهم لتتبعى. ذخيرة صوره التى أملكها، وأسلوبه الذى تشربته منه حتى أتقنته أعادت شبح وجوده أمامهم شيئًا فشيئا. تلقيت ردود الفعل بابتسامة دون أن أتورط ولو لمرة واحدة فى رد عصبى. كانت اللهجة تتخفف بعد حين من الغضب، والسب إلى الاستفسار، والرجاء حتى جاءنى الهجوم العاطفى الأول من بناته الثلاث..
"بابا، الحمد لله انك بيننا، فلم ترحل عنى أبدًا. أيًا من تكون، فأنا أحس بك تحتوينا مرة أخرى".
"هل يتحقق اليوم الذى أراك فيه رؤية العين، وألمسك فتذوب كل همومى".
"بابا حبيبى، لدى حكايات كثيرة سأحكيها لك، نتقابل فى الحلم، لكننى أشتاق لوجودك فى الحقيقة. كلمنى أرجوك".
ابنه طلب منى بهدوء، وتَعقُّل أن أكشف عن نفسى، و"يا دار ما دخلك شر".
ربما جهزوا فخًّا ناعمًا، وربما احتاجوا إلى وجوده أصلًا مثلما احتجته، لكننى لم أستطع التضحية بالفرصة. صرت أشارك الناس أفراحهم، وأوجاعهم على حوائط حساباتهم الافتراضية بواسطته إلى أن تخففت لهجة الأغلبية إلى السؤال عن الصحة، والحال، وتمرير النكات دون انتظار الرد.. وحين أحسست أن فرضية وجوده فى الحياة مرة أخرى قد صارت مقبولة من الجميع ابتدأت رسائلي اليومية معه تطير بيننا ذهابًا، وإيابًا.
الذين رأوا تعليقاته فى البداية على منشوراتهم اعتقدوا أن الأمر مجرد مُزحة، وأن أحد محبيه استغل صورته الشخصية لحسابه الجديد، لكنهم حين طالعوا صُوره التى نشرها تباعًا على حائطه، وطريقة ردوده التى ألفوها ظنوا أن ابنه هو من تقمص دوره بعد وفاته لأزمة طارئة. ولأن الحقيقة لم تكن واحدة من ظنونهم فقد بدأ الكابوس الذى توقعته مبكرًا فى صورة رسائل متوالية تبدأ تقريبًا بنفس البدايات، وتنتهى بنفس النهايات: "من أنت بالضبط؟". "ألا تعرف أننا يمكن أن نقاضيك حين نعرفك". "ستندم ندم العمر يا ابن .....". "ألا تخجل من السطو على الحساب الإليكترونى لرجل متوفَى؟!". "ألا تعرف أيها النذل أنك جعلتنا نشك فى كل أصدقائنا، وأقاربنا".
لم أعبأ بذلك. لطالما قابلته حيًّا بعد وفاته فى نفس الشوارع التى كان يمشى فيها كثيرًا، فإذا ما تقاربت خطواتنا ذاب فى النور، ولطالما سمعت رنة صوته فى أذنى فى أوقات كثيرة، فإذا ما التفت أو فتحت عيني اختفى.
أَمَّنت الحساب الإليكترونى بأرقام هاتفى. صرت أدخل إليه من أماكن، وأجهزة مختلفة؛ كى تفشل خططهم لتتبعى. ذخيرة صوره التى أملكها، وأسلوبه الذى تشربته منه حتى أتقنته أعادت شبح وجوده أمامهم شيئًا فشيئا. تلقيت ردود الفعل بابتسامة دون أن أتورط ولو لمرة واحدة فى رد عصبى. كانت اللهجة تتخفف بعد حين من الغضب، والسب إلى الاستفسار، والرجاء حتى جاءنى الهجوم العاطفى الأول من بناته الثلاث..
"بابا، الحمد لله انك بيننا، فلم ترحل عنى أبدًا. أيًا من تكون، فأنا أحس بك تحتوينا مرة أخرى".
"هل يتحقق اليوم الذى أراك فيه رؤية العين، وألمسك فتذوب كل همومى".
"بابا حبيبى، لدى حكايات كثيرة سأحكيها لك، نتقابل فى الحلم، لكننى أشتاق لوجودك فى الحقيقة. كلمنى أرجوك".
ابنه طلب منى بهدوء، وتَعقُّل أن أكشف عن نفسى، و"يا دار ما دخلك شر".
ربما جهزوا فخًّا ناعمًا، وربما احتاجوا إلى وجوده أصلًا مثلما احتجته، لكننى لم أستطع التضحية بالفرصة. صرت أشارك الناس أفراحهم، وأوجاعهم على حوائط حساباتهم الافتراضية بواسطته إلى أن تخففت لهجة الأغلبية إلى السؤال عن الصحة، والحال، وتمرير النكات دون انتظار الرد.. وحين أحسست أن فرضية وجوده فى الحياة مرة أخرى قد صارت مقبولة من الجميع ابتدأت رسائلي اليومية معه تطير بيننا ذهابًا، وإيابًا.