هاتفني صديقي هذا الصباح مهنئا اياي على الاهتمام بموضوع علم الجهل بعد نشر مقالة الأستاذ سعيد هادف. وأضاف أن ذلك ليس غريبا على مساري الذي بدأته في طلب( العلم) منذ قرابة 50 سنة وربما سيؤول ذلك المسار الآن إلى أن افضل علم هو أ (علم الجهل). فواقعنا بعد نصف قرن ينحدر يوما عن يوم ولم يعد التعليم يسمح للمتعلمين غالبا باكتساب معرفة أو منطق في التحليل بل مكن الكثير منهم من تحصيل الشهادات دون معرفة وجعلهم عرضة للتوظيف وأهلهم للاستعمال في حملات التعبئة والتضليل. أغلبهم لم يحصل المعرفة بل اكتسب نوعا جديدا من الجهل. كيف نشأ هذا الجهل؟ وكيف استشرى؟ وما شروط انتشاره؟ وكيف نجهل ما نجهل ؟ ولماذا؟
ثم عرج صديقي على موضوع توظيف الجهل في السياسة وكيف أنه أجدى من توظيف العلم. وعاد بنا الحديث إلى محاضرة للمرحوم الدكتور عبد الله شريط مر عليها أكثر من ثلاثين سنة أورد فيها قصة عن توظيف الجهل في الحرب بين على ومعاوية في موقعة صفين. فقد كان جيش علي مكونا في الاصل من كبار الصحابة والقراء وحفظة القران ( أي نخبة ذلك الزمان) أما جيش معاوية فكان يغلب عليه عامة الناس رغم وجود كثير من الصحابة والأعيان.
والقصة كما يرويها المسعودي في مروج الذهب متحدثا عن براعة معاوية:
(..وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة (موطن انصار علي) دخل على بعير له إلى دمشق (موطن انصار معاوية) في حالة منصرفهم عن صفين (حيث كانت الموقعة) فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله! إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه،، وبره، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ عليا إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل،) ويعلق المسعودي بعد ذلك ( وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة، ينشأ عليها الصغير؟ ويهلك عليها الكبير.)
الواقع أن ما فعله معاوية هو استغلال الجهل المتفشي واستعماله محرضا ومنوما في نفس الوقت. ومصدر قوة ونفوذ على العامة وقوة ردع للخاصة.
وفي العصر الحديث ما يزال الحكام يستغلون حال الغالبية لتكريس الوضع القائم أو لتقويض محاولات التغيير أو لمحاربة المعارضين. ومما يشبه ذلك في وقتنا أيضا هو تصوير أي حركة احتجاجية ضد الحكم بأنها محاولة لزعزعة الاستقرار وأنها من صنع أيادي خارجية أو أنها تمثل خطرا على الأمة.
يشبه ذلك من يستغل اتباع الطرق والزوايا واتباع فرق كرة القدم واتباع الشيوخ والدعاة والمفتين على الهوى وتجييش الجمهور عبر القنوات الليلية و نشر الإشاعات بوسائل الإعلام وعبر شبكات التواصل الاجتماعي.
شكر لك صديقي على المكالمة وعلى التذكير بأحد قراء الفكر القديم والحديث. حقا إن علم الجهل يذكرنا بجهلنا وينبهنا إلى غفلتنا.
هندسة الجهل في التاريخ الإسلامي: أقاتلك برجال لا يفرقون بين الناقة والجمل
ثم عرج صديقي على موضوع توظيف الجهل في السياسة وكيف أنه أجدى من توظيف العلم. وعاد بنا الحديث إلى محاضرة للمرحوم الدكتور عبد الله شريط مر عليها أكثر من ثلاثين سنة أورد فيها قصة عن توظيف الجهل في الحرب بين على ومعاوية في موقعة صفين. فقد كان جيش علي مكونا في الاصل من كبار الصحابة والقراء وحفظة القران ( أي نخبة ذلك الزمان) أما جيش معاوية فكان يغلب عليه عامة الناس رغم وجود كثير من الصحابة والأعيان.
والقصة كما يرويها المسعودي في مروج الذهب متحدثا عن براعة معاوية:
(..وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة (موطن انصار علي) دخل على بعير له إلى دمشق (موطن انصار معاوية) في حالة منصرفهم عن صفين (حيث كانت الموقعة) فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله! إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه،، وبره، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ عليا إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل،) ويعلق المسعودي بعد ذلك ( وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة، ينشأ عليها الصغير؟ ويهلك عليها الكبير.)
الواقع أن ما فعله معاوية هو استغلال الجهل المتفشي واستعماله محرضا ومنوما في نفس الوقت. ومصدر قوة ونفوذ على العامة وقوة ردع للخاصة.
وفي العصر الحديث ما يزال الحكام يستغلون حال الغالبية لتكريس الوضع القائم أو لتقويض محاولات التغيير أو لمحاربة المعارضين. ومما يشبه ذلك في وقتنا أيضا هو تصوير أي حركة احتجاجية ضد الحكم بأنها محاولة لزعزعة الاستقرار وأنها من صنع أيادي خارجية أو أنها تمثل خطرا على الأمة.
يشبه ذلك من يستغل اتباع الطرق والزوايا واتباع فرق كرة القدم واتباع الشيوخ والدعاة والمفتين على الهوى وتجييش الجمهور عبر القنوات الليلية و نشر الإشاعات بوسائل الإعلام وعبر شبكات التواصل الاجتماعي.
شكر لك صديقي على المكالمة وعلى التذكير بأحد قراء الفكر القديم والحديث. حقا إن علم الجهل يذكرنا بجهلنا وينبهنا إلى غفلتنا.
هندسة الجهل في التاريخ الإسلامي: أقاتلك برجال لا يفرقون بين الناقة والجمل