منذ أخبروني بوفاته لم أقرأ لهُ الفاتحة, لم أستطع! أشعر أنَّه على قيد الحياة، كيف يمكن أن يموت من دون أن أشعر بذلك؟
و على الرَّغم من استلامها شهادةَ وفاةٍ رسميةٍ لابنها ما زالتْ تتوجهُ كل أسبوع إلى الشّرطةِ العسكرية للسؤال عنه, و على الرّغم من كونها لم تسمع إجابةً مختلفة غير أنَّها لم تقتنع, مازالت تقول: " كيف مات؟ أنا حاسستو عايشو مستحيل يموت و ما حس!".
***
تعلَّم الطَّريقَ إلى الشُّرطةِ العسكرية بدمشق قبل أن يتعلَّم الطَّريق إلى المدرسة, كانَ يرافقُ والدته كلَّ أسبوعٍ في سعيها نحو الوصول إلى معلومةٍ عن مصير زوجها المُعتقل منذ حوالي السَّبع سنوات!. في آخر زيارةٍ إلى مقرِ الشُّرطةِ العسكرية دخلتْ والدته للسؤال عن زوجها فيما ظلَّ هو في انتظارها خارجاً, انتظرها ساعاتٍ طويلة حتَّى تملَّكه خوفٌ تحول إلى نوبةٍ من البكاء جعلتْ الجميع ينسى همَّه و يجلس بجانبه محاولاً تهدئته, قالتْ له إحدى السَّيدات: " لماذا تبكي؟ جميعُ من يدخل للسؤال يتأخر هكذا, الازدحام في الدَّاخل هو السبب" ، توقف الطّفل لحظتها عن البكاء و قال برعب: " و ماذا لو لم تعد؟ والدي خرجَ ليشتري لي زجاجةَ حليب منذ سبع سنوات و لم يعد حتَّى الآن!.
***
اعتادتِ التوجه إلى الشُّرطةِ العسكرية كلَّ أسبوعٍ منذ تمَّ اعتقال والدها حتى اليوم. " كانَ والدي رجلاً مريضاً, لم يكن يفكر في تغيير شيءٍ في هذه البلاد, في الحقيقة كان قد يئس من التَّغيير منذ زمنٍ بعيد, خرجَ ليزور شقيقه في المشفى و لكنَّه لم يعد ، علمنا فيما بعد أنَّه محتجزٌ في سجن صيدنايا العسكري ". تعودُ في كلِّ مرةٍ و جيوبها خاليةٌ من بطاقةِ زيارةٍ له, و في كلِّ مرةٍ يجلدها الضابط هناك بجوابه البارد: " مالو اسم عنا " . اليوم خرجتْ بورقةٍ صفراء و هويةٍ شخصية قال لها : " توفى ". جلستْ على الرَّصيف تفكر: " هل ماتَ بهدوء؟ أعتقد أنَّه ارتاحَ الآن فهو لا يحتمل التَّعذيب.
***
من خلف القضبان رأتْ شقيقها للمرةِ الأولى منذ اعتقاله في العام 2013 بدا قادماً من الموت في الحقيقة تمَّ إخبارها فعلاً أنَّه ماتْ, صرخَ باسمها فرحاً و أردف قائلاً : "اشتقتلك كتير" ، في حين ظلت صامتة مختنقةً بدموعها, لم يكن يعلم أنَّها دفعتْ ثمن هذه الدَّقائق العشر مليون و نصف تقريباً و ليالٍ من البكاء و الخوف و كوابيسَ لا تنتهي, مدتْ يدها كثيراً علَّها تستطيع الوصول إلى وجهه ، و لكنَّ القضبان كثيرةٌ و قاسية و كانتِ المسافةُ بينهما أبعد مما تبدو.. في نهايةِ الزَّيارة نظر إليها الضَّابط الواقف بجانب شقيقها و قال: " تعالي ودعيه, هو ممنوع ها بس أبو رفيق غالي علينا", فتحَ طاقةً صغير في الباب الفاصلِ بينهما أطلَّ منه شقيقها بوجهه النَّاحل و عينيه الخائفتين, همس لها: " عم فكر فيكِ, لا تنسيني". غادرها مطأطأً رأسه خائفاً من الالتفاتِ لاستراقِ نظرةٍ أخيرةٍ لوجهها, بينما ظلَّتْ نظراتها تتبعه و قلبها يسير بجانبه في الممرات الضَّيقة المعتمة, يحتضنه و يهمس له: " عم فكر فيك.. ما رح أنساك".
***
مع دخولِ الصَّيف أفرغتْ حقائبه المليئة بثيابه الشَّتوية لاستبدالها, ما إن فتحتِ الحقيبة حتى انهمرتْ دموعها على ثيابه التي دأبت على غسيلها و وضعها في حقيبته بعناية من دون أن تنسى حشوها بالصَّابون. بعض الثَّياب اشترتها له بعد اعتقاله, لم تكن تريد أن يرتدي ثياباً قديمةً عند عودته, و بالعودة لتلك اللحظة فقد دخلتْ ابنتها لتجدها على أرضِ الغرفة غائبةً عن الوعي و ثيابه بجانبها, غسلتْ وجهها بالماءِ البارد و رجتها قائلةً: " إمي مشان الله خليني ضبلو أواعيه عندي, حاج تضلي تطالعيهن" .. مع نهايةِ الصَّيف دخلتْ غرفته و لكنَّها لم تجد ثيابهُ في أي مكان, جلستْ على حافةِ السَّرير و بكتْ و صدى صراخها يتردد في أرجاء الغرفة : " لك إيمتى رح ترجع, والله اشتقتلك يا إمي".
نيروز مناد
و على الرَّغم من استلامها شهادةَ وفاةٍ رسميةٍ لابنها ما زالتْ تتوجهُ كل أسبوع إلى الشّرطةِ العسكرية للسؤال عنه, و على الرّغم من كونها لم تسمع إجابةً مختلفة غير أنَّها لم تقتنع, مازالت تقول: " كيف مات؟ أنا حاسستو عايشو مستحيل يموت و ما حس!".
***
تعلَّم الطَّريقَ إلى الشُّرطةِ العسكرية بدمشق قبل أن يتعلَّم الطَّريق إلى المدرسة, كانَ يرافقُ والدته كلَّ أسبوعٍ في سعيها نحو الوصول إلى معلومةٍ عن مصير زوجها المُعتقل منذ حوالي السَّبع سنوات!. في آخر زيارةٍ إلى مقرِ الشُّرطةِ العسكرية دخلتْ والدته للسؤال عن زوجها فيما ظلَّ هو في انتظارها خارجاً, انتظرها ساعاتٍ طويلة حتَّى تملَّكه خوفٌ تحول إلى نوبةٍ من البكاء جعلتْ الجميع ينسى همَّه و يجلس بجانبه محاولاً تهدئته, قالتْ له إحدى السَّيدات: " لماذا تبكي؟ جميعُ من يدخل للسؤال يتأخر هكذا, الازدحام في الدَّاخل هو السبب" ، توقف الطّفل لحظتها عن البكاء و قال برعب: " و ماذا لو لم تعد؟ والدي خرجَ ليشتري لي زجاجةَ حليب منذ سبع سنوات و لم يعد حتَّى الآن!.
***
اعتادتِ التوجه إلى الشُّرطةِ العسكرية كلَّ أسبوعٍ منذ تمَّ اعتقال والدها حتى اليوم. " كانَ والدي رجلاً مريضاً, لم يكن يفكر في تغيير شيءٍ في هذه البلاد, في الحقيقة كان قد يئس من التَّغيير منذ زمنٍ بعيد, خرجَ ليزور شقيقه في المشفى و لكنَّه لم يعد ، علمنا فيما بعد أنَّه محتجزٌ في سجن صيدنايا العسكري ". تعودُ في كلِّ مرةٍ و جيوبها خاليةٌ من بطاقةِ زيارةٍ له, و في كلِّ مرةٍ يجلدها الضابط هناك بجوابه البارد: " مالو اسم عنا " . اليوم خرجتْ بورقةٍ صفراء و هويةٍ شخصية قال لها : " توفى ". جلستْ على الرَّصيف تفكر: " هل ماتَ بهدوء؟ أعتقد أنَّه ارتاحَ الآن فهو لا يحتمل التَّعذيب.
***
من خلف القضبان رأتْ شقيقها للمرةِ الأولى منذ اعتقاله في العام 2013 بدا قادماً من الموت في الحقيقة تمَّ إخبارها فعلاً أنَّه ماتْ, صرخَ باسمها فرحاً و أردف قائلاً : "اشتقتلك كتير" ، في حين ظلت صامتة مختنقةً بدموعها, لم يكن يعلم أنَّها دفعتْ ثمن هذه الدَّقائق العشر مليون و نصف تقريباً و ليالٍ من البكاء و الخوف و كوابيسَ لا تنتهي, مدتْ يدها كثيراً علَّها تستطيع الوصول إلى وجهه ، و لكنَّ القضبان كثيرةٌ و قاسية و كانتِ المسافةُ بينهما أبعد مما تبدو.. في نهايةِ الزَّيارة نظر إليها الضَّابط الواقف بجانب شقيقها و قال: " تعالي ودعيه, هو ممنوع ها بس أبو رفيق غالي علينا", فتحَ طاقةً صغير في الباب الفاصلِ بينهما أطلَّ منه شقيقها بوجهه النَّاحل و عينيه الخائفتين, همس لها: " عم فكر فيكِ, لا تنسيني". غادرها مطأطأً رأسه خائفاً من الالتفاتِ لاستراقِ نظرةٍ أخيرةٍ لوجهها, بينما ظلَّتْ نظراتها تتبعه و قلبها يسير بجانبه في الممرات الضَّيقة المعتمة, يحتضنه و يهمس له: " عم فكر فيك.. ما رح أنساك".
***
مع دخولِ الصَّيف أفرغتْ حقائبه المليئة بثيابه الشَّتوية لاستبدالها, ما إن فتحتِ الحقيبة حتى انهمرتْ دموعها على ثيابه التي دأبت على غسيلها و وضعها في حقيبته بعناية من دون أن تنسى حشوها بالصَّابون. بعض الثَّياب اشترتها له بعد اعتقاله, لم تكن تريد أن يرتدي ثياباً قديمةً عند عودته, و بالعودة لتلك اللحظة فقد دخلتْ ابنتها لتجدها على أرضِ الغرفة غائبةً عن الوعي و ثيابه بجانبها, غسلتْ وجهها بالماءِ البارد و رجتها قائلةً: " إمي مشان الله خليني ضبلو أواعيه عندي, حاج تضلي تطالعيهن" .. مع نهايةِ الصَّيف دخلتْ غرفته و لكنَّها لم تجد ثيابهُ في أي مكان, جلستْ على حافةِ السَّرير و بكتْ و صدى صراخها يتردد في أرجاء الغرفة : " لك إيمتى رح ترجع, والله اشتقتلك يا إمي".
نيروز مناد