عرفته في المدرسة فتى وسيم الطلعة، صبوح الوجه، حيي الطبع، هادئ النفس، فتوددت إليه واكتسبت صداقته
عرفت من خصاله العبوسة والخشونة والتجهم والغضب كما عرفت منها الطيبة والسلاسة والصدق والوفاء.
كان تارة عنيف الحركة حتى الجنون، وطوراً ساكناً كأنه غارق فيها!
عرف معلموه فيه الإقدام بدون تردد، والأحجام بغير سبب، وعرفوا فيه الاندفاع نحو تحقيق رغباته وإرضاء ميوله وبداوته، كما عرفوا فيه الانصراف عنها كأن ليس له رغبات ولا ميول وبداوات!
تسرعوا فسموه (المتناقض) ثم اعتدلوا فأطلقوا عليه أسم (ذي الحدين) الأقصى والأدنى.
كان انكبابه على الدرس، ودقته في المحافظة على الواجب يثيران إعجاب المعلمين به وغيرة رفاقه منه، كما كان توقفه عن الدرس، وإضرابه عن تلقيه بدون سبب، وانتفاضه على الواجب، وتمرده على العلم، وقيامه على النظام، مدعاة للدهشة والاستغراب.
كنا تلميذين متلازمين متجاورين، يفضي كل منا لصاحبه بطوية نفسه ودخيلة أمره، إلا أني كنت ألمح فيه حرصاً على دفن سر شاغل خطير يكتمه عني في أعماق نفسه تفضحه نظراته الحزينة الباكية الذابلة.
كان (ذو الحدين) خشناً في لعبه، بريئاً في تعبيره عن خواطره كالأطفال، صدوفاً عن المعاشرة، مستغرقاً في الوحدة والانفراد كالنساك، وكانت بسماته النادرة حلوة كالجمال الصامت في مظهر عروس ترملت بُعيد الزواج
ما كان أقرب نفسه إلى الرضا والطمأنينة والبشر عندما يكون في المدرسة بين دروسه وفروضه ورفاقه، وكم كان يفارقه مرح النفس وغبطة الروح عندما يعود إلى البيت إذ كان تلازمه فيه الوحشة والكآبة والحزن!!
كانت ثياب (ذو الحدين) تختلف عن ثياب وهندام التلاميذ، وكان لأمه شغف في إبراز وحيدها بثياب مخملية ليكون بين رفاقه - على حد تعبيرها - كالكوكب بين النجوم، ولعل ولع أمه به وعنايتها بملبسه واهتمامها ببزته هي التي نمت فيه خاصية التأنق والملاحظة والانتقاد، وصيرت لكلامه أداء فريداً ووقعاً خاصاً في النفوس ولكن أنى الخلاص لفتى مثله حسن البزة، صبوح الوجه، لامع الذهن، غريب الأطوار، عريق المحتد، صدوفاً عن المعاشرة، عزوفاً عن مخالطة الناس، أنى له الخلاص من مخالب فتيان تتوثب فيهم غرائز القوة البكر وإبراز قدرتها وسلطانها على الأقران، وتتمطى فيهم الغيرة الآكلة لفقدهم أكثر الصفات والمزايا المتوفرة لهذا الفتى الرفيق؟!!!
ولكن صاحبي كان يتخطى هذه البواعث الشائكة على قنطرة من تبين الفتوة وتعمل الكبرياء واصطناع الترفع عن الاختلاط بتلاميذ في غير ترتيبه! بذلك نمت فيه ملكة العنجهية والتسامي.
كانت ظاهرة الكبرياء عنده دخيلة على طبعه الرضي، غير أنه توسل بها لدرء عوارض طارئة لا شأن له في وجودها، فكان يداريها بالعطف الأخوي، والإحسان الإنساني، والشفقة التي كان يشمل بها كل محتاج من إخوانه التلاميذ، وما أكثر المعوزين في تلك المدرسة التي كانت تضم جميع أبناء العمال في ذلك الحي.
جاءني مرة بثغر باسم ووجهه متهلل متلألئ يقص علي خبر اعتزامه على الالتحاق ببعثة (الآباء البيض) ليتلقى العلم في مدرستهم (الصلاحية) في القدس ويقول: إن الآباء رضوا أن يلحقوه بها، وأنه دفع لهم مبلغاً من المال كان يدخره، وأن رئيس البعثة وعده بأن يصحبه معه وينتزعه من أهله إذا مانعوا، وأنه سيتعلم علوم القساوسة ويعود فيرغم جميع الناس على تقبيل يده باحترام، والاستماع إلى أقواله والإنصات إلى عضاته بخشوع!
لم يكن اهتمامي بالخبر ليوازي فضولي الحافز إلى معرفة العامل الذي جعل صاحبي يطرب للرحيل عن أهله كطرب عصفور في قفص يسقسق ويصفق بجناحيه، وأنت في الحقيقة لا تدري إذا كان طربه للطعام المقدم أو للانطلاق الموموق.
لم يكن الخبر هاماً في ذاته، إنما كانت الأهمية عندي في اكتشاف الدوافع التي جعلت هذا الفتى دائم التأرجح بين كفتي الفرحة القصوى والحزن الأقصى، فتوهمت الفرصة موانيه تدنيني من مكمن السر!!
رفيقي هذا الذي يحدثني عن سفره بطرب، وعن اعتزام رئيس البعثة انتزاعه من أهله بسهولة، هو وحيد لوالديه، محبوب منهما حتى العبادة.
ما الذي في نفسه منهم يا ترى من البيت ومن أبويه حتى يؤثر المدرسة والتلاميذ عليهم؟
ما الذي في نفسه منهم وهو يفزع إلى الآباء البيض هرباً من والديه مفضلاً الرحيل على البقاء معهما؟
لم يكن في وسعي تحويل الأمر آنذاك وقد كنت فتى أملك قوة اختزان الحوادث لا تعليلها، أدخر عوارض الأشياء لا أنقدها، أنظر إلى كليات المسائل لا جزئياتها، وهكذا صرفت برهة في استقبال خبر السفر كأنها كانت برهة الاستجمام لأعود بعدها إلى صاحبي بنفس قوية، وعزم قاطع، أصرف بهما ذهنه عن هذا الخاطر الطارئ المستحيل التحقيق.
داورت صاحبي بحجة معرفة بواعث هذا السفر المفاجئ، لمحت بالكلام إلى أمر حسبت أنه يكون بمثابة مفتاح للسر، فانقبض مكتئباً وأشاح بوجهه عني كأنه ندم على ما قال؛ لم يمهلني لأعتذر عن سوء تصرفي وتوضيح قصدي وانصرف، أسقط في يدي وأضاع الفضول الفرصة المواتية. . . . . . ولكني صممت على عمل شيء.
نجحت أولاً في إبلاغ والده خبر سفره سراً مع الآباء البيض وحاولت إقناع صاحبي بأني لم أكن واشياً نماماً بل كنت المحب صادق المودة، أوثر صداقته وأرعى اطراد تقدمنا معاً في مسالك الدراسة. . .
لم ينصت إلى أقوالي؛ غضب مني وبكى من والديه؛ قاطعني وانقطع عن الإيواء إلى البيت، وصار كمكوك الحائط ينصرف من بيت عمته الأرملة وليس فيه رفيق أو صديق، إلى المدرسة التي لم يبق له فيها سوى الوحدة والانفراد ورفقة الكتب وحفظ الدروس.
عبثاً حاولت استرضاءه واسترداد وداده. قطع الرأي على قطيعتي، وثبت على عناده، وهكذا صرنا صديقين متباعدين.
جزنا الامتحان سوية، انتقلنا معاً من مدرسة إلى أخرى، زودتنا الكلية البطريركية بشهادتها العليا، طوحت بنا الأقدار فألقت بواحدنا في مصر وبالثاني في أمريكا لا يعرف الواحد عن صاحبه شيئاً.
في شارع تتماوج فيه عشرات الألوف من نساء مستهترات وسيدات فضوليات من كل جنس متفرجات، يعج بأضعاف الآلاف برجال من كل سن وعمر وقطر ومصر، فيهم العابث المتهتك، وفيهم من هو غير متهتك ولا عابث.
في هذا الشارع الذي لا تهدأ فيه حركة، لا في الليل المنار بمصابيح أضواؤها الجمال والحسن والفتنة، ولا في النهار الذي ينزع فيه الإنسان الدرهم من بين فكي أخيه الإنسان لينفقها في الليل على مباذل المرأة.
في هذا الشارع المكتظ بخلائق كأنها في مهرجان؛ في هذا الشارع تطلق البسمات من الشفاه والغمزات من العيون، وترشق القلوب بسهام النظرات الساحرات؛ فيه يطلق الرجل أعنة الحياء وينضو ثياب الخجل؛ فيه تخلع المرأة العذار وتتشح بالفتنة والشهوة؛ فيه يرتجل الأكمة أبرع عبارات الإطراء الغزلي، وتفتن المرأة في ابتداع شباك الاصطياد؛ في هذا الشرع أنقذني خاتم في إصبع يدي اليسرى من إغراء حسناء لعوب من بائعات البدن؛ في هذا الشارع تصدم البريئات والبريئين من الفضوليين الأغراب بمن لا براءة عندهم ولا فضول، فيحسب المصطدمون والمصطدمين الانزلاق حرية، والاستهتار مدنية، والفجور طابع الأمة.
هذه سيدة قلقة تنتظر المتخلف عن الميعاد! هذا الرجل واقف مطمئن إلى لقاء من وعدته. هذا يعانق تلك، وهذه تقبل هذا قبلات مسكرات، وهذا غريب مشدود يرى ويبصر وكأنه لا يرى ولا يبصر.
في هذا الشارع البهيج الذي يجمع قلب باريس في قبضة الحياة سمعت من يذكر اسمي ولقبي بصوت أيقظ في حاسة غريبة مدفونة في الأعماق منذ أيام الحداثة، فاتجهت صوب رفيق المدرسة الذي لقيني هنا فعرفني، فناداني فاستجبت.
مشينا على غير هدى، تبادلنا ألف تحية وأشواق، يممنا مقهى أعرفه، ولما جلسنا في زاوية منفردة فيه تأملت صاحبي فإذا بالأعوام بدلت من ملامحه وتركت في وجهه بعض التغضن حول العينين، وثنيات واضحة في الجبين، وشعرات رمادية ظاهرة في السالفين، قرأت في نظراته معاني التوطد والثقة بالنفس، ولمحت فيها بقية من آثار الذبول والحزن. أخذنا نتكلم ونعيد تلاوة صحائف الماضي ونستعرض ذكريات المدرسة بلذة وفرح، ونسرد فصول رواية الحياة الكبرى بين مآسي المرآة وفواجع كسب المال.
أنبلج الصبح انطفأت مصابيح الكهرباء، تبدلت وجوه رواد القهوة وقد أورمها السهر وخنقتها الخمر بوجوه نضرة فياضة بقوة الراحة المستمدة من النوم تستقبل النهار لتستأنف الجهاد في ميادين العمل، بقيت وصاحبي وحدنا الجالسين الهانئين بذكر حوادث الماضي ثم افترقنا على موعد للتلاقي.
كان الليل يجمعني وصاحبي في باريس على مائدة طعام أو شراب، وكان لنا في كل جلسة جولة أو جولات في معترك الحياة، غير أن جلسة الليلة اختلفت عن سابقاتها في الجو الذي هيأه وجود كاهن شرقي أعرفه بصحبة سيدة في المطعم.
جال خاطر مفاجأ في ضميري فابتسمت، استطلعني صاحبي معنى الابتسامة فرغبت إليه أن يقرع بكأسه كأسي فنشرب النبيذ البكر على ذكر صداقتنا البكر!!
نظر إلى متعجباً وقال: هل من طارئ جديد؟
قلت: بلى قال: ما هو قلت: هل في وسعك الآن وقد طويت مرحلة من الشباب واكتملت رجولتك أن توضح لي أسباب حزنك في حداثتك ونفورك من والديك، وتوقك إلى البعد عنهما، وقطيعتك إياي وقد أفسدت عليك تدبير التحاقك بالآباء البيض؟
أبتسم صاحبي فذكرني بسمة العروس الأرملة وقال: أحسب وجود الكاهن في المطعم بثوبه الأسود الفضفاض ولحيته المسبلة على صدره هو الذي نبه ذهنك إلى هذا الموضوع.
قلت: هو ذاك
سكن صاحبي هادئاً كأنه يفيض ذهنه في قلبه، وأطبق أو كاد يطبق أجفانه كمن يقرأ سطور الضمير في سفر الغيب، وطفق يقول: اشكر لك هذا السؤال، لأن في الإجابة عليه تفريجاً عن كرب مستعص آن أوان البرء منه.
كانت عقدة نفسية عقدتها الحساسية المرهفة والشعور الوجداني فحللتها لوحدي على مهل. أُكرهتْ والدتي على الزواج من والدي الأرمل ولما يكن له من العمر تسعة عشر عاماً بعد، فكان جمالها، ووجاهة أهلها، وزواجها من فتى أرمل، علة جرحت كبرياءها بين أترابها الفتيات، وبثرة تنكأ النكد الأليم والنفور المتواصل ونزق الشباب، فكنت أستشعر أني الجسر الذي يربط قلبين متنافرين.
كنت ثمرة زواج أنضجتها عناصر الجسد ولم تشملها موجات الروح بوحدات من الحنان والعطف الوالدي إلا بمقدار ما كانت الوسيلة تمهد للغاية!!
ودت لو أكون الوسيلة لإقرار الغاية المثلى من الزواج، ألا أن الغاية كأنها تكونت للاتصال الوقتي الذي يعقبه النفور، فكنت أتمنى لو يتهدم الجسر فيبقى كل قلب على ضفة يشطرها عن أختها نهر الحياة!!
آثرت الصدوف عن مرآي زهرة نبتت عفواً في ارض رملية، وعزفت عن تربة لا حياة فيها ولا رجاء، فلذلك كنت أنكر نفسي وأشفق على الناس يلمّ بهم حزني، وأبكي لشقاء والدي.
كان يعرف والدي في حدة الإحساس والشعور المرهف فأستبدل أبوته لي بأخوة.
أقنعني، لما أبلغته أنت خبر اعتزامي على الالتحاق بالآباء البيض، بأن في ابتعادي عنه مهدمة عاجلاً لحياة تنهار من نفسها ببطء، ويتمنى أن لا أتعجل انهيارها فيبلغ القبر قبل أن أشب وأقوى، وقال دع البيت يحترق بنار هادئة ثم أعمل أنت على بناءه من مواد لا تقبل الاحتراق.
ثم قال لي: لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيئون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوات الدين الضيقة، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها، تغل العقول، وتضيق الأذهان، وتبلد طبيعة الرجولة في الإنسان، وأن الكهنوت صناعة يحترفها الكسالى والبلداء، وأن الرجل الذي يعارك الدهر ويظفر منه بسلاح من الخلق السامي ونبالة القصد، والذي ينصر الإنسانية بروح منبعث من فيض إنسانيته هو، لا من تعاليم تحورت فصيرت جماعات الإنسان عبيداً للأفراد من بني الإنسان.
رأيت دموعاً جالت في عيني صاحبي وتحدرت كالبرد على خديه، ولمحت صور نفسه تشرق وتتجلى في صفحة جبينه وتقاطيع وجهه، وتكور جفونه، وانقباضات حاجبيه وشفتيه.
تناولنا كأسينا فأفرغنا ما بقي فيهما، أترعناهما بالرحيق من جديد، زودت غليوني بالتبغ، وقبيل إشعاله سألت صاحبي: ماذا كان مصيرك لو ذهبت صحبة الآباء البيض وتعلمت تعاليمهم، وتلقحت بمبادئهم، ونذرت الطاعة والعفة والفقر مرضاة لله وطمعاً في الآخرة؟
لا، لا، قال صاحبي: هذا سؤال لي أطرحه عليك، هذا عبء ألقيته عن ضميري منذ اتجهت صوب المادة أعالج شؤونها معالجة عامل عقله في ساعديه وذهنه بين ساقيه، وقلبه في (كرشه)، أجب أنت يا صديقي على هذا السؤال لأني آليت منذ هجرت الأهل والوطن أن ألتزم الآلة فأكون مثلها، تحركها القوة الدافعة، يغذيها الحريص على بقاءها بالزيت والشحم!! قل، أجب، أشرح لأني أتوق إلى معرفة ذلك المصير، مصيري لو صرت كاهناً، لأنه كثيراً ما أقض هذا الخاطر مضجعي، وعكر راحتي، وسلب الرقاد من جفوني على كره مني.
أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان لأعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير رجل، ثم سمعت نفسي تناجيني وضميري يسارني فقلت:
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟ هل كانت تتبلد مشاعري، ويتحجر إحساسي وتتكور نظراتي، ولا تعود آرائي تدور إلا حول نقطة مجهولة في مصير مزعوم طمعاً في وهم ملفق؟
هل كنت أتعامى عن الدنيا وما فيها من بدائع صنعها الإنسان بقدرته فصيرها جنة لمن يطيب له النعيم في الجنات، وجهنم لمن يرتاح إلى الشقاء في الجحيم؟
هل كنت أنطوي على جوفي الخالي ورأسي القحل كما تنطوي الحية على نفسها في الرمال تتلمظ السم من أنيابها في انتظار حياة رغده في فصل الربيع الذي لا شك في إقباله بالخيرات
هل كنت أتوسد فراشاً محشواً بشوك الحرمان!، التحف الكبد أتقلب على جمرات من عذاب الجسد، ليس لي من مجير سوى حقنات الكافور تخمد إلى حين ثورة الأعصاب المتشنجة، والنفس المحمومة، والروح الحائر؟
هل تراني كنت أتوجه صوب السماء الصامتة أطلب الغوث من سكانها الصامتين؟
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟
هل كنت ألبس المسوح وأسكن الأديار النائية، أعد دقائق العمر بين السأم والملل، والرجاء والخيبة، والشكوك والريب، والاستسلام والخمود؟ هل كنت أعزف عن الدير ومساجينه، والزهد وقتلاه، وأطمئن إلى سكن المدن حيث الزلفى إلى الأغنياء، والسلطان على الفقراء، والراحة للجسد، والشبع للمعد؟
هل تراني كنت أنطوي مع من انطوى قبلي من الأغنياء، أو أتمرد وأأتمر فأصل ذروة العرش فأحمل صولجان، وألبس تاج أتدثر طيالسة القياصرة، وأترك الصليب الثقيل للمتجردين، وأرغم الضعفاء على طاعتي باسم الصليب المقدس؟
صمت قليلاً وكان صديقي يصغي إلي، تجرعت جرعة من الشراب هدأت بها نفسي مما ساورها وباعدت بها عني حمم التصورات والتخيلات وقد ازدحمت في الذهن وأخذت تتدفق كسوائل صهرها البركان لتصل إلى العقل الذي يوازن ويقارن ويفاضل وإذا بي أسالها من جديد أسئلة عالجها لويجي بيرانديللو من قبل، وهي:
(أية سيادة لنا على عواطفنا وأفكارنا وإرادتنا وشخصياتنا؟ ألسنا كلنا خاضعين لضروب التأثيرات النفسية والجسدية وأن ليس لنا وجود شخصي معين؟ ألسنا وجدنا لنكون تبعاً لأعمال الآخرين؟ ألسنا نلعب الدور الذي يفرضه علينا مجتمعنا وبيئتنا وضعتنا، وأننا ننتهي إلى حيث لا نعرف أين نحن، وأننا لا ندري ما إذا كانت شخصيتنا الحقيقية هي التي نحلم بها، وهي التي نحياها، أو هي التي تتظاهر بها أمام الناس)
أسمع يا صاحبي وأصغي إلي، أن إنساناً واحداً في هذا الوجود له السيادة المطلقة على الفكر والعاطفة والإرادة الشخصية، وأنه وحده غير الخاضع لتأثيرات النفس على الجسد، هو وحده المتمرد على البيئة والمجتمع والعرف والقانون، هو الفريد في هذا الوجود، له وجود شخصي معين يعرف البداية كما يعرف النهاية هو صاحب الرسالة، الرسالة التي يضعها الإنسان لأخيه الإنسان، رسالة غير منزلة على القلب، ولا مكتوبة على الحجر، ولا مبعوث بها مع رسول، إنما هي أناة المجاميع، وتوجعات العبيد، وعويل الإجراء، يصورها بالقلم ضمير إنسان مثلي ومثلك يشعر بالأنين والوجع والعويل أكثر مما يشعر بها أولئك الصادرة عنهم أنفسهم، ويحس بالظلم والجبروت والطغيان والقهر الصادرة عن أفراد أشرار يعبثون بالمجاميع، يلهون ويلغون في جسومهم وأبدانهم ودمائهم كما لو أنها نازلة فيه ومنصبة عليه، هذا الإنسان من القلائل الذين يحملون رسالة مساواة الإنسان بأخيه، هذا الرسول الذي تتمخض الإنسانية فتلده، لا يمكن مطلقاً أن تقيده قيود إكليريكية، أو علمانية، أو تغله سلاسل الملكية أو الإقطاعية، أو تعوقه البرجوازية أو الرأسمالية لأنه خلق في الأصل لأن يكون صاحب رسالة!!
شتان يا صاحبي بين رجل روحاني تطوح به الأقدار والمصادفات فتلقيه بين مخالب المادة فتكتنفه من كل جانب فتغرقه بين طيات لذاذاتها، وبين رجل موهوب لو اجتمعت عناصر الطبيعة، وأتمر الوجود على طمسه والطغيان على وجوده لسخر من الطبيعة والوجود وبرز كالظاهرة الكوكبية في أجواء الفضاء يلمع ويسطع بين عناصر الكون ليتمها بوجوده!!
شتان بين البارقة من الروح وإشعاعاتها كلها، في كل إنسان نسمة من هذا الروح. أما صاحب الرسالة فهو روح بذاته.
ستعود إلى أمريكا وأرجع أنا إلى مصر، وقد نتلاقى ثانيةً، وقد لا نتلاقى لا في هذا العالم ولا في العالم المجهول، وستبقى أنت كما كنت مجداً في تنظيم مشاريعك الاقتصادية تموه بها على نزعة النسمة من روحك التي أكسدها الاستغراب في المادة، وسأرجع أنا إلى مثل ما أنا كنت عليه في تصوير الجمال بالألفاظ المتناسقة إرضاء لنسمة الروح المصقولة باندماجي فيها، وستلد الأمهات الآلاف مثلك ومثلي، وسيكون لكل منهم اتجاهه الخاص. نعم، وقد تعوق اتجاهه بعض العوامل الخارجية وتعرقله في إظهار ما في وسع نسمة الروح إظهاره من رسالة، ولكنها لم تصده عن إتمامها على الوجه المقنن في خصائصها وعناصرها المقننة!!
كلنا أبناء الطبيعة الهوجاء، والقدر الأرعن، والمدبر العابث، كلنا صرعى الفوضى وضحايا التشتت، إنما الرسول الملهم هو الذي يستجمع من الهوج والرعن والعبث ألواناً زاهية يرسم فيها للحياة صوراً جميلة فاتنة مغرية تجتذب الجماعات المغمورة بالجهالة صوب الغاية من وجود الحياة!!
باخرتان: اتجهت الواحدة صوب الغرب تحمل رجلاً ينزف دمه في عبادة المال حيث أربابه هناك، وألقت الثانية مراسيها في ميناء شرقي تعيد إليه عابداً من عباد الحب والجمال والفن حيث آلهتها هنا!
حبيب الزحلاوي
مجلة الرسالة - العدد 135
بتاريخ: 03 - 02 - 1936
عرفت من خصاله العبوسة والخشونة والتجهم والغضب كما عرفت منها الطيبة والسلاسة والصدق والوفاء.
كان تارة عنيف الحركة حتى الجنون، وطوراً ساكناً كأنه غارق فيها!
عرف معلموه فيه الإقدام بدون تردد، والأحجام بغير سبب، وعرفوا فيه الاندفاع نحو تحقيق رغباته وإرضاء ميوله وبداوته، كما عرفوا فيه الانصراف عنها كأن ليس له رغبات ولا ميول وبداوات!
تسرعوا فسموه (المتناقض) ثم اعتدلوا فأطلقوا عليه أسم (ذي الحدين) الأقصى والأدنى.
كان انكبابه على الدرس، ودقته في المحافظة على الواجب يثيران إعجاب المعلمين به وغيرة رفاقه منه، كما كان توقفه عن الدرس، وإضرابه عن تلقيه بدون سبب، وانتفاضه على الواجب، وتمرده على العلم، وقيامه على النظام، مدعاة للدهشة والاستغراب.
كنا تلميذين متلازمين متجاورين، يفضي كل منا لصاحبه بطوية نفسه ودخيلة أمره، إلا أني كنت ألمح فيه حرصاً على دفن سر شاغل خطير يكتمه عني في أعماق نفسه تفضحه نظراته الحزينة الباكية الذابلة.
كان (ذو الحدين) خشناً في لعبه، بريئاً في تعبيره عن خواطره كالأطفال، صدوفاً عن المعاشرة، مستغرقاً في الوحدة والانفراد كالنساك، وكانت بسماته النادرة حلوة كالجمال الصامت في مظهر عروس ترملت بُعيد الزواج
ما كان أقرب نفسه إلى الرضا والطمأنينة والبشر عندما يكون في المدرسة بين دروسه وفروضه ورفاقه، وكم كان يفارقه مرح النفس وغبطة الروح عندما يعود إلى البيت إذ كان تلازمه فيه الوحشة والكآبة والحزن!!
كانت ثياب (ذو الحدين) تختلف عن ثياب وهندام التلاميذ، وكان لأمه شغف في إبراز وحيدها بثياب مخملية ليكون بين رفاقه - على حد تعبيرها - كالكوكب بين النجوم، ولعل ولع أمه به وعنايتها بملبسه واهتمامها ببزته هي التي نمت فيه خاصية التأنق والملاحظة والانتقاد، وصيرت لكلامه أداء فريداً ووقعاً خاصاً في النفوس ولكن أنى الخلاص لفتى مثله حسن البزة، صبوح الوجه، لامع الذهن، غريب الأطوار، عريق المحتد، صدوفاً عن المعاشرة، عزوفاً عن مخالطة الناس، أنى له الخلاص من مخالب فتيان تتوثب فيهم غرائز القوة البكر وإبراز قدرتها وسلطانها على الأقران، وتتمطى فيهم الغيرة الآكلة لفقدهم أكثر الصفات والمزايا المتوفرة لهذا الفتى الرفيق؟!!!
ولكن صاحبي كان يتخطى هذه البواعث الشائكة على قنطرة من تبين الفتوة وتعمل الكبرياء واصطناع الترفع عن الاختلاط بتلاميذ في غير ترتيبه! بذلك نمت فيه ملكة العنجهية والتسامي.
كانت ظاهرة الكبرياء عنده دخيلة على طبعه الرضي، غير أنه توسل بها لدرء عوارض طارئة لا شأن له في وجودها، فكان يداريها بالعطف الأخوي، والإحسان الإنساني، والشفقة التي كان يشمل بها كل محتاج من إخوانه التلاميذ، وما أكثر المعوزين في تلك المدرسة التي كانت تضم جميع أبناء العمال في ذلك الحي.
جاءني مرة بثغر باسم ووجهه متهلل متلألئ يقص علي خبر اعتزامه على الالتحاق ببعثة (الآباء البيض) ليتلقى العلم في مدرستهم (الصلاحية) في القدس ويقول: إن الآباء رضوا أن يلحقوه بها، وأنه دفع لهم مبلغاً من المال كان يدخره، وأن رئيس البعثة وعده بأن يصحبه معه وينتزعه من أهله إذا مانعوا، وأنه سيتعلم علوم القساوسة ويعود فيرغم جميع الناس على تقبيل يده باحترام، والاستماع إلى أقواله والإنصات إلى عضاته بخشوع!
لم يكن اهتمامي بالخبر ليوازي فضولي الحافز إلى معرفة العامل الذي جعل صاحبي يطرب للرحيل عن أهله كطرب عصفور في قفص يسقسق ويصفق بجناحيه، وأنت في الحقيقة لا تدري إذا كان طربه للطعام المقدم أو للانطلاق الموموق.
لم يكن الخبر هاماً في ذاته، إنما كانت الأهمية عندي في اكتشاف الدوافع التي جعلت هذا الفتى دائم التأرجح بين كفتي الفرحة القصوى والحزن الأقصى، فتوهمت الفرصة موانيه تدنيني من مكمن السر!!
رفيقي هذا الذي يحدثني عن سفره بطرب، وعن اعتزام رئيس البعثة انتزاعه من أهله بسهولة، هو وحيد لوالديه، محبوب منهما حتى العبادة.
ما الذي في نفسه منهم يا ترى من البيت ومن أبويه حتى يؤثر المدرسة والتلاميذ عليهم؟
ما الذي في نفسه منهم وهو يفزع إلى الآباء البيض هرباً من والديه مفضلاً الرحيل على البقاء معهما؟
لم يكن في وسعي تحويل الأمر آنذاك وقد كنت فتى أملك قوة اختزان الحوادث لا تعليلها، أدخر عوارض الأشياء لا أنقدها، أنظر إلى كليات المسائل لا جزئياتها، وهكذا صرفت برهة في استقبال خبر السفر كأنها كانت برهة الاستجمام لأعود بعدها إلى صاحبي بنفس قوية، وعزم قاطع، أصرف بهما ذهنه عن هذا الخاطر الطارئ المستحيل التحقيق.
داورت صاحبي بحجة معرفة بواعث هذا السفر المفاجئ، لمحت بالكلام إلى أمر حسبت أنه يكون بمثابة مفتاح للسر، فانقبض مكتئباً وأشاح بوجهه عني كأنه ندم على ما قال؛ لم يمهلني لأعتذر عن سوء تصرفي وتوضيح قصدي وانصرف، أسقط في يدي وأضاع الفضول الفرصة المواتية. . . . . . ولكني صممت على عمل شيء.
نجحت أولاً في إبلاغ والده خبر سفره سراً مع الآباء البيض وحاولت إقناع صاحبي بأني لم أكن واشياً نماماً بل كنت المحب صادق المودة، أوثر صداقته وأرعى اطراد تقدمنا معاً في مسالك الدراسة. . .
لم ينصت إلى أقوالي؛ غضب مني وبكى من والديه؛ قاطعني وانقطع عن الإيواء إلى البيت، وصار كمكوك الحائط ينصرف من بيت عمته الأرملة وليس فيه رفيق أو صديق، إلى المدرسة التي لم يبق له فيها سوى الوحدة والانفراد ورفقة الكتب وحفظ الدروس.
عبثاً حاولت استرضاءه واسترداد وداده. قطع الرأي على قطيعتي، وثبت على عناده، وهكذا صرنا صديقين متباعدين.
جزنا الامتحان سوية، انتقلنا معاً من مدرسة إلى أخرى، زودتنا الكلية البطريركية بشهادتها العليا، طوحت بنا الأقدار فألقت بواحدنا في مصر وبالثاني في أمريكا لا يعرف الواحد عن صاحبه شيئاً.
في شارع تتماوج فيه عشرات الألوف من نساء مستهترات وسيدات فضوليات من كل جنس متفرجات، يعج بأضعاف الآلاف برجال من كل سن وعمر وقطر ومصر، فيهم العابث المتهتك، وفيهم من هو غير متهتك ولا عابث.
في هذا الشارع الذي لا تهدأ فيه حركة، لا في الليل المنار بمصابيح أضواؤها الجمال والحسن والفتنة، ولا في النهار الذي ينزع فيه الإنسان الدرهم من بين فكي أخيه الإنسان لينفقها في الليل على مباذل المرأة.
في هذا الشارع المكتظ بخلائق كأنها في مهرجان؛ في هذا الشارع تطلق البسمات من الشفاه والغمزات من العيون، وترشق القلوب بسهام النظرات الساحرات؛ فيه يطلق الرجل أعنة الحياء وينضو ثياب الخجل؛ فيه تخلع المرأة العذار وتتشح بالفتنة والشهوة؛ فيه يرتجل الأكمة أبرع عبارات الإطراء الغزلي، وتفتن المرأة في ابتداع شباك الاصطياد؛ في هذا الشرع أنقذني خاتم في إصبع يدي اليسرى من إغراء حسناء لعوب من بائعات البدن؛ في هذا الشارع تصدم البريئات والبريئين من الفضوليين الأغراب بمن لا براءة عندهم ولا فضول، فيحسب المصطدمون والمصطدمين الانزلاق حرية، والاستهتار مدنية، والفجور طابع الأمة.
هذه سيدة قلقة تنتظر المتخلف عن الميعاد! هذا الرجل واقف مطمئن إلى لقاء من وعدته. هذا يعانق تلك، وهذه تقبل هذا قبلات مسكرات، وهذا غريب مشدود يرى ويبصر وكأنه لا يرى ولا يبصر.
في هذا الشارع البهيج الذي يجمع قلب باريس في قبضة الحياة سمعت من يذكر اسمي ولقبي بصوت أيقظ في حاسة غريبة مدفونة في الأعماق منذ أيام الحداثة، فاتجهت صوب رفيق المدرسة الذي لقيني هنا فعرفني، فناداني فاستجبت.
مشينا على غير هدى، تبادلنا ألف تحية وأشواق، يممنا مقهى أعرفه، ولما جلسنا في زاوية منفردة فيه تأملت صاحبي فإذا بالأعوام بدلت من ملامحه وتركت في وجهه بعض التغضن حول العينين، وثنيات واضحة في الجبين، وشعرات رمادية ظاهرة في السالفين، قرأت في نظراته معاني التوطد والثقة بالنفس، ولمحت فيها بقية من آثار الذبول والحزن. أخذنا نتكلم ونعيد تلاوة صحائف الماضي ونستعرض ذكريات المدرسة بلذة وفرح، ونسرد فصول رواية الحياة الكبرى بين مآسي المرآة وفواجع كسب المال.
أنبلج الصبح انطفأت مصابيح الكهرباء، تبدلت وجوه رواد القهوة وقد أورمها السهر وخنقتها الخمر بوجوه نضرة فياضة بقوة الراحة المستمدة من النوم تستقبل النهار لتستأنف الجهاد في ميادين العمل، بقيت وصاحبي وحدنا الجالسين الهانئين بذكر حوادث الماضي ثم افترقنا على موعد للتلاقي.
كان الليل يجمعني وصاحبي في باريس على مائدة طعام أو شراب، وكان لنا في كل جلسة جولة أو جولات في معترك الحياة، غير أن جلسة الليلة اختلفت عن سابقاتها في الجو الذي هيأه وجود كاهن شرقي أعرفه بصحبة سيدة في المطعم.
جال خاطر مفاجأ في ضميري فابتسمت، استطلعني صاحبي معنى الابتسامة فرغبت إليه أن يقرع بكأسه كأسي فنشرب النبيذ البكر على ذكر صداقتنا البكر!!
نظر إلى متعجباً وقال: هل من طارئ جديد؟
قلت: بلى قال: ما هو قلت: هل في وسعك الآن وقد طويت مرحلة من الشباب واكتملت رجولتك أن توضح لي أسباب حزنك في حداثتك ونفورك من والديك، وتوقك إلى البعد عنهما، وقطيعتك إياي وقد أفسدت عليك تدبير التحاقك بالآباء البيض؟
أبتسم صاحبي فذكرني بسمة العروس الأرملة وقال: أحسب وجود الكاهن في المطعم بثوبه الأسود الفضفاض ولحيته المسبلة على صدره هو الذي نبه ذهنك إلى هذا الموضوع.
قلت: هو ذاك
سكن صاحبي هادئاً كأنه يفيض ذهنه في قلبه، وأطبق أو كاد يطبق أجفانه كمن يقرأ سطور الضمير في سفر الغيب، وطفق يقول: اشكر لك هذا السؤال، لأن في الإجابة عليه تفريجاً عن كرب مستعص آن أوان البرء منه.
كانت عقدة نفسية عقدتها الحساسية المرهفة والشعور الوجداني فحللتها لوحدي على مهل. أُكرهتْ والدتي على الزواج من والدي الأرمل ولما يكن له من العمر تسعة عشر عاماً بعد، فكان جمالها، ووجاهة أهلها، وزواجها من فتى أرمل، علة جرحت كبرياءها بين أترابها الفتيات، وبثرة تنكأ النكد الأليم والنفور المتواصل ونزق الشباب، فكنت أستشعر أني الجسر الذي يربط قلبين متنافرين.
كنت ثمرة زواج أنضجتها عناصر الجسد ولم تشملها موجات الروح بوحدات من الحنان والعطف الوالدي إلا بمقدار ما كانت الوسيلة تمهد للغاية!!
ودت لو أكون الوسيلة لإقرار الغاية المثلى من الزواج، ألا أن الغاية كأنها تكونت للاتصال الوقتي الذي يعقبه النفور، فكنت أتمنى لو يتهدم الجسر فيبقى كل قلب على ضفة يشطرها عن أختها نهر الحياة!!
آثرت الصدوف عن مرآي زهرة نبتت عفواً في ارض رملية، وعزفت عن تربة لا حياة فيها ولا رجاء، فلذلك كنت أنكر نفسي وأشفق على الناس يلمّ بهم حزني، وأبكي لشقاء والدي.
كان يعرف والدي في حدة الإحساس والشعور المرهف فأستبدل أبوته لي بأخوة.
أقنعني، لما أبلغته أنت خبر اعتزامي على الالتحاق بالآباء البيض، بأن في ابتعادي عنه مهدمة عاجلاً لحياة تنهار من نفسها ببطء، ويتمنى أن لا أتعجل انهيارها فيبلغ القبر قبل أن أشب وأقوى، وقال دع البيت يحترق بنار هادئة ثم أعمل أنت على بناءه من مواد لا تقبل الاحتراق.
ثم قال لي: لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيئون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوات الدين الضيقة، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها، تغل العقول، وتضيق الأذهان، وتبلد طبيعة الرجولة في الإنسان، وأن الكهنوت صناعة يحترفها الكسالى والبلداء، وأن الرجل الذي يعارك الدهر ويظفر منه بسلاح من الخلق السامي ونبالة القصد، والذي ينصر الإنسانية بروح منبعث من فيض إنسانيته هو، لا من تعاليم تحورت فصيرت جماعات الإنسان عبيداً للأفراد من بني الإنسان.
رأيت دموعاً جالت في عيني صاحبي وتحدرت كالبرد على خديه، ولمحت صور نفسه تشرق وتتجلى في صفحة جبينه وتقاطيع وجهه، وتكور جفونه، وانقباضات حاجبيه وشفتيه.
تناولنا كأسينا فأفرغنا ما بقي فيهما، أترعناهما بالرحيق من جديد، زودت غليوني بالتبغ، وقبيل إشعاله سألت صاحبي: ماذا كان مصيرك لو ذهبت صحبة الآباء البيض وتعلمت تعاليمهم، وتلقحت بمبادئهم، ونذرت الطاعة والعفة والفقر مرضاة لله وطمعاً في الآخرة؟
لا، لا، قال صاحبي: هذا سؤال لي أطرحه عليك، هذا عبء ألقيته عن ضميري منذ اتجهت صوب المادة أعالج شؤونها معالجة عامل عقله في ساعديه وذهنه بين ساقيه، وقلبه في (كرشه)، أجب أنت يا صديقي على هذا السؤال لأني آليت منذ هجرت الأهل والوطن أن ألتزم الآلة فأكون مثلها، تحركها القوة الدافعة، يغذيها الحريص على بقاءها بالزيت والشحم!! قل، أجب، أشرح لأني أتوق إلى معرفة ذلك المصير، مصيري لو صرت كاهناً، لأنه كثيراً ما أقض هذا الخاطر مضجعي، وعكر راحتي، وسلب الرقاد من جفوني على كره مني.
أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان لأعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير رجل، ثم سمعت نفسي تناجيني وضميري يسارني فقلت:
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟ هل كانت تتبلد مشاعري، ويتحجر إحساسي وتتكور نظراتي، ولا تعود آرائي تدور إلا حول نقطة مجهولة في مصير مزعوم طمعاً في وهم ملفق؟
هل كنت أتعامى عن الدنيا وما فيها من بدائع صنعها الإنسان بقدرته فصيرها جنة لمن يطيب له النعيم في الجنات، وجهنم لمن يرتاح إلى الشقاء في الجحيم؟
هل كنت أنطوي على جوفي الخالي ورأسي القحل كما تنطوي الحية على نفسها في الرمال تتلمظ السم من أنيابها في انتظار حياة رغده في فصل الربيع الذي لا شك في إقباله بالخيرات
هل كنت أتوسد فراشاً محشواً بشوك الحرمان!، التحف الكبد أتقلب على جمرات من عذاب الجسد، ليس لي من مجير سوى حقنات الكافور تخمد إلى حين ثورة الأعصاب المتشنجة، والنفس المحمومة، والروح الحائر؟
هل تراني كنت أتوجه صوب السماء الصامتة أطلب الغوث من سكانها الصامتين؟
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟
هل كنت ألبس المسوح وأسكن الأديار النائية، أعد دقائق العمر بين السأم والملل، والرجاء والخيبة، والشكوك والريب، والاستسلام والخمود؟ هل كنت أعزف عن الدير ومساجينه، والزهد وقتلاه، وأطمئن إلى سكن المدن حيث الزلفى إلى الأغنياء، والسلطان على الفقراء، والراحة للجسد، والشبع للمعد؟
هل تراني كنت أنطوي مع من انطوى قبلي من الأغنياء، أو أتمرد وأأتمر فأصل ذروة العرش فأحمل صولجان، وألبس تاج أتدثر طيالسة القياصرة، وأترك الصليب الثقيل للمتجردين، وأرغم الضعفاء على طاعتي باسم الصليب المقدس؟
صمت قليلاً وكان صديقي يصغي إلي، تجرعت جرعة من الشراب هدأت بها نفسي مما ساورها وباعدت بها عني حمم التصورات والتخيلات وقد ازدحمت في الذهن وأخذت تتدفق كسوائل صهرها البركان لتصل إلى العقل الذي يوازن ويقارن ويفاضل وإذا بي أسالها من جديد أسئلة عالجها لويجي بيرانديللو من قبل، وهي:
(أية سيادة لنا على عواطفنا وأفكارنا وإرادتنا وشخصياتنا؟ ألسنا كلنا خاضعين لضروب التأثيرات النفسية والجسدية وأن ليس لنا وجود شخصي معين؟ ألسنا وجدنا لنكون تبعاً لأعمال الآخرين؟ ألسنا نلعب الدور الذي يفرضه علينا مجتمعنا وبيئتنا وضعتنا، وأننا ننتهي إلى حيث لا نعرف أين نحن، وأننا لا ندري ما إذا كانت شخصيتنا الحقيقية هي التي نحلم بها، وهي التي نحياها، أو هي التي تتظاهر بها أمام الناس)
أسمع يا صاحبي وأصغي إلي، أن إنساناً واحداً في هذا الوجود له السيادة المطلقة على الفكر والعاطفة والإرادة الشخصية، وأنه وحده غير الخاضع لتأثيرات النفس على الجسد، هو وحده المتمرد على البيئة والمجتمع والعرف والقانون، هو الفريد في هذا الوجود، له وجود شخصي معين يعرف البداية كما يعرف النهاية هو صاحب الرسالة، الرسالة التي يضعها الإنسان لأخيه الإنسان، رسالة غير منزلة على القلب، ولا مكتوبة على الحجر، ولا مبعوث بها مع رسول، إنما هي أناة المجاميع، وتوجعات العبيد، وعويل الإجراء، يصورها بالقلم ضمير إنسان مثلي ومثلك يشعر بالأنين والوجع والعويل أكثر مما يشعر بها أولئك الصادرة عنهم أنفسهم، ويحس بالظلم والجبروت والطغيان والقهر الصادرة عن أفراد أشرار يعبثون بالمجاميع، يلهون ويلغون في جسومهم وأبدانهم ودمائهم كما لو أنها نازلة فيه ومنصبة عليه، هذا الإنسان من القلائل الذين يحملون رسالة مساواة الإنسان بأخيه، هذا الرسول الذي تتمخض الإنسانية فتلده، لا يمكن مطلقاً أن تقيده قيود إكليريكية، أو علمانية، أو تغله سلاسل الملكية أو الإقطاعية، أو تعوقه البرجوازية أو الرأسمالية لأنه خلق في الأصل لأن يكون صاحب رسالة!!
شتان يا صاحبي بين رجل روحاني تطوح به الأقدار والمصادفات فتلقيه بين مخالب المادة فتكتنفه من كل جانب فتغرقه بين طيات لذاذاتها، وبين رجل موهوب لو اجتمعت عناصر الطبيعة، وأتمر الوجود على طمسه والطغيان على وجوده لسخر من الطبيعة والوجود وبرز كالظاهرة الكوكبية في أجواء الفضاء يلمع ويسطع بين عناصر الكون ليتمها بوجوده!!
شتان بين البارقة من الروح وإشعاعاتها كلها، في كل إنسان نسمة من هذا الروح. أما صاحب الرسالة فهو روح بذاته.
ستعود إلى أمريكا وأرجع أنا إلى مصر، وقد نتلاقى ثانيةً، وقد لا نتلاقى لا في هذا العالم ولا في العالم المجهول، وستبقى أنت كما كنت مجداً في تنظيم مشاريعك الاقتصادية تموه بها على نزعة النسمة من روحك التي أكسدها الاستغراب في المادة، وسأرجع أنا إلى مثل ما أنا كنت عليه في تصوير الجمال بالألفاظ المتناسقة إرضاء لنسمة الروح المصقولة باندماجي فيها، وستلد الأمهات الآلاف مثلك ومثلي، وسيكون لكل منهم اتجاهه الخاص. نعم، وقد تعوق اتجاهه بعض العوامل الخارجية وتعرقله في إظهار ما في وسع نسمة الروح إظهاره من رسالة، ولكنها لم تصده عن إتمامها على الوجه المقنن في خصائصها وعناصرها المقننة!!
كلنا أبناء الطبيعة الهوجاء، والقدر الأرعن، والمدبر العابث، كلنا صرعى الفوضى وضحايا التشتت، إنما الرسول الملهم هو الذي يستجمع من الهوج والرعن والعبث ألواناً زاهية يرسم فيها للحياة صوراً جميلة فاتنة مغرية تجتذب الجماعات المغمورة بالجهالة صوب الغاية من وجود الحياة!!
باخرتان: اتجهت الواحدة صوب الغرب تحمل رجلاً ينزف دمه في عبادة المال حيث أربابه هناك، وألقت الثانية مراسيها في ميناء شرقي تعيد إليه عابداً من عباد الحب والجمال والفن حيث آلهتها هنا!
حبيب الزحلاوي
مجلة الرسالة - العدد 135
بتاريخ: 03 - 02 - 1936