نلج مكان الحفل مطأطئي الرأس وملقين السلام على صاحب اللِّيلَة 1. يرد علينا التحية ببشاشة محترسة. ما إن يرى صديقنا المصور الأمريكي كولن حتى يطلب منا بكل لباقة عدم التسجيل أو التصوير. نلبي الطلب لنرتمي في حضن أجواء قل نظيرها: اكتظاظ داخل غرف متواضعة، أصوات بدايات موسيقى غير مفهومة يتوسطها غناء نسائي حاد، اكتشفنا لاحقًا أنه صوت المسنّ سي خلوق، وجوه باكية حزينة وأخرى فرحة مرحبة بلقاء الأصدقاء: خليط مهول بين ميلانكوليا وغبطة. حتى رائحة المكان مركّبة. شعرنا أنّ تواجدنا قد أصاب الهدف، أثناء ظرف وجيز على بداية الرحلة، في قلب لِيلَةْ طريقة جيلالة المباركة.
لكن لنعد إلى الشرارات الأولى التي أوحت لنا بالقيام بالرحلة الميدانية: ما إن اتصلت بـ فؤاد صديق الطفولة أسأل عن أحواله، حتى أطلقنا العنان ليلاً بعد انشغالاتنا اليومية، هو كباحث بيولوجيا وعلوم البكتيريا بجامعة لينكون البريطانية، وأنا كموسيقي وطالب بقسم ماجستير موسيقى الشعوب بجامعة فايمر الألمانية؛ عبر سكايب لقراءات ونقاشات دامت عاماً ونيف. كلما توغلنا في تفاصيلها إلا واتضحت لنا جلياً محدودية التصنيف فأصبحنا ننتقل بسلاسة بين هوس فاغنر الهارموني ونظريات غرسيا لوركا عن ألاعيب دويندي، مروراً بنقد توماس كون وباول فايراباند للطريقة العلمية وانتحار كولترين البطولي على حافة الكمال.
لكن موضوعاً بعينه شغل الحيز الأكبر من اهتماماتنا: كيفية رد الاعتبار لثقافة إنسانية غارقة في القدم؛ سلكت درب التجريبية في تكوينها وتطورها، فأفرزت أطايب حرمها العقل الغربي العقلاني ونبذها بإصرار. وأقصد على سبيل المثال لا الحصر علوم الطب البديل والشامانية وفكر وفلسفة الأديان الطبيعية. حتى في مجالات الفن والموسيقى، لم تسلم إبداعات الشعوب غير الرأسمالية بشكل من الأشكال، من بطش أكاديمي تمثل في نعوت متعجرفة أسست لتراتبية فنية وموسيقية.
ولأن في الموسيقى خزان هائل لتلك الشفرات الثقافية المعقدة اجتماعياً ودينياً واقتصادياً، انكببنا على الاستماع لساعات طوال لمختلف أنماط الموسيقى المغربية التقليدية، مع دراسة كل ما توفر لدينا من مراجع ومقالات2، لينتهي بنا الأمر إلى قناعة محدودية البحث النظري عن بعد، وبالتالي ضرورة تنظيم رحلة ميدانية إلى المغرب يُتوخى من خلالها فهمٌ أعمق للموسيقى ودورها في المجتمع المغربي كمثال، وذلك على اعتبار أصولنا المغربية. اشتدت حيرتنا عندما باشرنا اختيار محطات الزيارة. لا يخفى على الباحثين والمهتمين أن التنوع الجغرافي والمناخي وكذا الديموغرافي (أصول أمازيغية، عربية، يهودية، أندلسية، إفريقية…) بالمغرب ينعكس مباشرة على الموسيقى ليفرز موزاييكا يؤجج “عذاب الاختيار”، كما يقول أصدقاؤنا الألمان. لذلك آثرنا تحديد عدد قليل من المحطات مع ترك الباب مفتوحاً للمفاجأة.
انطلقنا يوم ٢٣ دجنبر/كانون الأول العام الماضي من عاصمة منطقة حْمَرْ، مدينة اليوسفية الفوسفاطية جنوب غرب المملكة. دامت الرحلة ستة عشر يوماً، تعرفنا خلالها على أربع أنواع موسيقية مختلفة: جيلالة سيدي عيسى بإقليم سيدي بنور؛ عيطة أولاد بنعكيدة بآسفي؛ غناوة تمصلوحت ضواحي مراكش؛ وفرقة جاجوكة بقيادة بشير عطار بطنجة شمال المغرب. رافقنا أثناء الرحلة، أنا وفؤاد، المصور الأمريكي كولن ماكلين وكاميرا أسامة المحرزي، وكذا تقني الصوت مقران تغرمت.
إعلان
جيلالة والمجذوب | لقاء الإنس بالجان
لم يمر يومان على مجيئنا إلى مدينة اليوسفية، قضيناها في التنقيب على آثار الوصول إلى جيلالة، حتى أتيحت لنا فرصة ذهبية لحضور حضرة (أو ليلة) جيلالية ضواحي مدينة سيدي بنور مساء ٢٤ دجنبر/كانون الأول ٢٠١٦. في الطريق إلى مقصدنا احتدم فينا الانفعال لمّا حكى لنا فؤاد ما روت له جدته عن جيلالة ستينات القرن الماضي: رجال طويلو الشعر، يمتطون الجِمال، ويثيرون “حالة طوارئ” بمجرد بدئهم عزف القصب3. عادة ما تستقبلهم الساكنة على أطراف المدينة أو القرية بطرق مختلفة، فمنهم من يترنح ويرتمي بشكل انتحاري على كعاب الجمال لتحسس “البركة”، ومنهم من يجذب على نغمات الموسيقى المتسارعة فيغمى عليه. أما جدة فؤاد فقد كانت من أولئك الذين يحاولون استباق الجميع بإعطاء جيلالة بعض المال لكي يغربوا عن وجه القرية خوفاً من الرعب الذي قد يزرعه هؤلاء “الملاعين” في نفوس أطفالها. كيف يمكن لموسيقى بعينها أن تخزن كل هذه الحمولة السيكولوجية لدى الوعي الجمعي البدوي المغربي؟ وماذا تبقى من جلالة اليوم؟
بعد الأذكار والصلوات على رسول الله، يشرع جيلالة في آداء وَجْبَاتِهم4 حسب التسلسل الموضوعاتي الاعتيادي للحضرة. تزداد حرارة المكان مع توافد أكبر الأقرباء والجيران، وكذا بإدخال مجامر البخور والجاوي التي لا تبارك فقط لقاء الإنس بالجان، وإنما تضفي أيضاً لمسةً روحانية على البنادر بتسخينها. في ساحة الرقص والجذبة رجال ونساء لا تفصل بينهم وبين فرقة جيلالة إلا بعض السنتيمترات، أمر قد يطرح على الأقل سؤال الحرمة المكانية لهؤلاء الفنانين. إنهم ينشدون درب النشوة هائمين على وجوههم المغطاة بأثواب تختلف ألوانها باختلاف الولي الصالح أو الجن المذكور؛ مرنحين أجسامهم التي تتحرر شيئًا فشيئا مع تواتر صخب الموسيقى. تنفجر طفلة بكاءً حالما يصدح عازف البندير موسى بصوته الرهيب “وا الميمة!” (أماه!)، تعقبه شبه هتافات مرحبة بالوافد الجديد: الحاج وصل! يظهر رجل ضخم وقور، بجلباب بسيط أنيق، ملقياً التحية على الجماعة ليختار آخر ثغرة في الغرفة ويجلس جانبي. لا أتجرأ حتى على النظر إليه رغم احتراقي فضولاً لمعرفة ماهية هذا الكائن. يجلس هادئا خاشعاً مطأطئاً رأسه. إنّ ثباته الوجودي في قلب كل هذا الأجيج السمعي البصري يرعبني! يبدأ رويداً بتحسس الإيقاع بأنامله، ثم بالجزء العلوي لجسده. لعله ينتظرالطرح5 المناسب لـ ساكنه6. ينهض فجأةً فيتيح له الراقصون المساحة المناسبة لجسمه العتيد. يصيح: “الله الله” وفي نبرته دليلٌ واضح على فهمٍ تام لـ وجبة القصّاب محمد، قائد الفرقة، وكأن هذا الأخير يخاطبه بكلمات مشفرة لا يفهمها إلا الرجل الضخم. يتسارع الإيقاع، فينزع جلبابه ويلوح بيديه إلى الموسيقيين على غرار قائد أوركسترا، ثم يقبض على يديه بتشنج، ناظراً إلى الأعلى وكأنه عازم على تجاوز جسده. يا للصدمة. ينزع الحاج أمام الملأ ما تبقى من ثيابه مبقياً فقط على سرواله الفضفاض (قنضريسي بالمغربية) يصرخ باسماً منتشياً: “وا ضويو لي على مولاي التهامي!” (أنيروا مولاي التهامي!)، فيفهم جيلالة معنى الطلب ويشرعون في إعادة الوجبة الأخيرة. تزداد نشوة الرجل الضخم، فيضرب بيديه الصلبتين تارةً على صدره وكرشه، وأخرى على خديه، مسايرا الإيقاع.
كيف يعقل أن يتحول ذلك الحاج الوقور الهادئ إلى “وحش روحاني” منتش؛ باستطاعته خرق الضوابط المجتمعية والأخلاقية دون لوم أو قيد، بل ويصبح العنصر الأساسي لإنجاح الفرجة في الليلة؟ الآن تبدو لنا ساحة الرقص، على صغر مساحتها، وكأنها مجال عميق فسيح لتحرير الجسد والتصالح مع الذات. ينتهي الطرح، فيجلس الرجل منهكاً على الحصيرة قرب الموسيقيين. يُمد إليه الماء ومنشفة لمسح عرقه، ثم يُرش هو وكل الحاضرين بماء الزهر. يهمس أحد الحاضرين لصاحبه: “و- مجذوب واعر هذا أسّي!” (إنه لمجذوب جيد!). بعد استراحة قصيرة يقوم فيها سي خلوق، الجيلالي المسن، بالدعاء على نحو هو أقرب إلى الإلقاء المسرحي المغربي المعروف بـ الحلقة، يدعو بالخير والبركة للأمة الإسلامية أولا، ثم لكل من تصدق ببضع دراهم؛ تستأنف موسيقى وأعراف الحضرة بإعطاء الحاج المجذوب مجمر البخور فينتشي من جديد. تارة يخرّ راقصاً على ركبتيه، يكاد يلامس وجهه فحم المجمر الحامي، وتارةً يجذب على زجاج الكؤوس المكسرة عند دخول طرح أولاد خليفة.
تدنو الليلة من نهايتها، فيغلب الطابع الاحتفالي على الأجواء. نبدأ تدريجيا في التنقل الحذر من غرفة لأخرى للتعرف على الحاضرين. زغاريد النساء تتعالى من حين لآخر لترسم نوتة البهجة على الموسيقى المتواصلة منذ ساعات، وحتى الحاج المجذوب يبدأ أخيراً بالتحدث مع أحد المدعوين، كما لو تم إفراغ شحنات الكبت والضيم و”الحكرة” في ساحة الجذبة تلك. كيف لا وجيلالة تروي لسان حال طبقة الفلاحين والرعاة الصغار الذين مارس عليهم المخزن (لفظ يطلق على النظام السياسي في المغرب) على مر التاريخ شتى أنواع التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي؟
ودّعنا فرقة المعلم محمد ضاربين لهم موعداً لإحياء حضرة جيلالية بمدينة اليوسفية، يكون فيها التسجيل السمعي البصري مسموحا. صباحاً، لحظة اعتزامنا المغادرة، أصرّ”المقدم” عبد السلام الغياط، كبير العائلة، على دعوتنا لتناول وجبة الفطور مع أهل الدار. لبينا الدعوة مسرورين، ثم امتطينا السيارة على طريق العودة إلى اليوسفية منهكين شاردين، نتساءل مع بزوغ أولى شرارات شمس واعدة: من نحن كمغاربة؟
عن العيطة ودار سي عيسى | مأساة التراثين المادي واللامادي
تتقدم إليّ الشيخة بإبريق الماء الدافئ والصابون والمنشفة، فيُصمِت وقارها كل الأحاديث الدائرة بيننا وبين السي بوشعيب بنعكيدة. تقول لي بصوتها المألوف جداً: “زيد أيا وليدي غسل ايديك راه لغدا وجد!” (اغسل يديك يا بُنيّ فالغداء جاهز). لم أتخيل يوماً أن تخدمنا، وفي خدمة الضيف حفاوة، تلك السيدة التي طالما أطربت مسامعنا وشاهدنا فيديوهاتها بكل شغف إلى جانب ملكة العيطة، الشيخة فاطنة بنت الحسين. أحس بإحراج وخجل شديدين. تنتقل الشيخة لغسل يدي فؤاد فأتنفس الصعداء. يقول لي فؤاد حينها ممازحا: “محرج ها؟”. ترد بكل كاريزما: “ووليدي لوزراء وغسلوا لينا ادينا” (الوزراء أنفسهم نظفوا أيدينا). فننفجر ضاحكين. إنّنا للمرة الثانية خلال هذه الرحلة، في ضيافة الشيخة حفيظة الحسناوية وزوجها السي بوشعيب قائد مجموعة أولاد بنعكيدة للعيطة الحصباوية بمدينة آسفي يوم ٢٨ ديسمبر ٢٠١٦.
بعد فراغنا من وجبة الغداء اللذيذ الذي حرصت الشيخة بنفسها على طهيه، انطلق العنان من جديد لأحاديث مشوقة مطوّلة عن فن العيطة؛ كيف لا ونحن نحاور الآن أحد أهم مجموعات العيطة على الإطلاق؟ فأولاد بنعكيدة ثلاث إخوة تربوا في كنف العيطة الحصباوية (تسمى أيضاً العبدية) في بادية “أولاد زيد” بمنطقة عبدة. يحكي السي بوشعيب عن جده الذي كان هاوياً شغوفاً بهذا الفن، لكن في سرية تامة (ربما بسبب أيام السيبة القاسية): “ذات مرة خرج جدي للخلوة كعادته حاملاً وْتَارَهُ7، وبعد هنيهة اكتشف أن رجلاً يتطرّب لعزفه خلسةً، فكان أن كسر الآلة الموسيقية أمامه غضباً”. بعد بدايات “ولاد بنعكيدة” في حفلات ومواسم المملكة، سيسفر لقاؤهم بفاطنة بنت الحسين عن انفجار إبداعي قل نظيره: مسار احترافي دام أزيد من عشرين عاماً أعطى العشرات من الألبومات والجولات في الداخل والخارج (أوروبا، آسيا، العالم العربي).
يحكي لنا السي بوشعيب، من بين ما يحكي، وبدعابته المعهودة، قصة الفرقة مع موظفات إدارة الجوازات بمدينة افينيون الفرنسية: “كنا نريد فقط أن يعطونا الفيزا لإكمال جولتنا في فرنسا، فإذا بهم يصرّون على دعوتنا لإحياء حفل بمسرح المدينة. تستطرد الشيخة حفيظة ضاحكةً: “ها بدينا العلوة أوهما ينضو الغاوريات إجذبو بحال عيساوة!” (ما إن بدأنا قصيدة العلوة حتى نهضت الأوربيات يتجذبن مثل عيساوة). بعد انتهاء الحفل، فسرت الفرنسيات ذلك التصرف على أنه “لا إرادي”، وأن تلك الموسيقى كانت تحوي ولا شك بعداً روحانياً قوياً أثر فيهن. ما إنْ ينتهي الزوجان من سرد القصة، حتى يلتفت فؤاد إليّ بعينين جاحظتين قائلا: “وش سمعتي أسي؟” (أسمعتَ يا هذا؟). لـيقصفهما بعد ذلك بأسئلة طارئة حول الجذبة والروحانيات في العيطة، على اعتبار أن هذا النوع الموسيقي – خلافاً لجيلالة – فرجوي بالأساس. نكتشف من خلال قصصهما مصدومَين أن للعيطة أيضاً ماضٍ روحاني اندثر مع توالي الأزمنة. أهي لعنة روحانيات التي تطاردنا في هذه الرحلة؟ أم أن للأنواع الموسيقية التقليدية المغربية، جلها أو كلها، جذوراً روحانية راسخة؟ تقول الشيخة حفيظة : “لم يكن للعيطة فقط دور روحاني في المجتمع، بل وكانت أيضاً فكتور ساعي بريد تُمرَّر من خلال غنائها ألغاز وشفرات بين شيوخ العيطة والمتلقي، خاصةً ضد المستعمر الفرنسي أو لتوجيه رسائل إلى المخزن، كلغز “وهيا سيدي حمد… وهيا حرشة العيون…. ها هو هاهو!… وهيا! وهيا!“. فـ سيدي حمد وحرشة العيون هي كلمات لا يراد منها إلا التمويه، أما المعنى الحقيقي المراد من هذا البيت فهو “إن القاتل أو الجاني المحتمل متواجد هنا بين الجماعة”.
نهيم لساعات طوال في صالون بنعكيدة البهي، نسترجع معهم الزمن الذهبي لإرث شفوي ضخم وغني يهترئ شيئاً فشيئاً. “أتعلمون أنه كان لشيوخ وحرفيي العيطة لغة خاصة تسمى الغوس؟ يتابع السي بوشعيب دون انتظار الإجابة: فالكمان بالغوسي هي الزابوقة أوالقابوزة، أما الطعريجة فه يابجيقة”. أقاطعه: “ألديكم أيضاً تسميات خاصة للميازن (الإيقاعات) المستعملة في العيطة؟” يجيب: “طبعاً! هناك ميزان السوسي، والمثلوت والمصرف والعرج وأم الحاشية وسريسبة إلخ”. استحضرت حينها، في ذهني، نظريات العالم الموسيقي النمساوي ج. كوبيك8، المتخصص في موسيقى شعوب إفريقيا، حول محدودية بل وسخافة العمل بمفاهيم النظرية الموسيقية الغربية (التنويط على النظام الأوربي، مفاهيم الصولفيج والهرموني والميلودي والميترك…) لتحليل وفهم موسيقى إفريقيا، التي تكونت وتشكلت ولا شك على أساس مفاهيم ونظريات موسيقية خاصة بها9. يرد سي بوشعيب على هذا الطرح بذكائه المعهود: “لقد فكرنا في تلقين الشباب الصاعد أصول وقواعد العيطة دون اللجوء إلى الصولفيج، وأسسنا لذلك الغرض جمعية تخرج بحمد الله منها الفوج الأول رغم أن السلطات المحلية لا تساعد بما فيه الكفاية”. كيف يمكن أن ترفض الجهات المعنية طلباً كيفما كان نوعه من أجل تفعيل هذه الفكرة، خاصةً وأن مصدر المبادرة أناس ساهموا في كتابة تاريخ العيطة الحديث؟ إن إهمال الدولة المغربية للإرث الشفوي المغربي لا حدود له. تكمل الشيخة فكرة زوجها بعد صمته القصير: “احنا أوليدي بغينا غير ديك العيطة نعطيوها ليهم أمانة كِمَّا عطوها لينا جدودنا. حيت العيطة أمانة! العيطة دايرة بحال دوك الحيوط التاريخية: كاملة مكمولة مكتبدلش!”(ما نريده يا ولدي هو تسليم العيطة إليهم كأمانة، كما سلمها إلينا أجدادنا، لأن العيطة أمانة! إنها تشبه تلك الحيطان التاريخية! كاملة وتامة لا زيادة فيها ولا نقصان).
يا له من تشبيه رهيب أيقظ للتو مواجع ما رصدناه قبل يوم خلال زيارتنا لدار سي عيسى بن عمر، بين مدنتي آسفي وجمعة السحايم. كيف يعقل أن تهترئ أمام أنظار الجميع حيطان صرح عظيم كان رمز مجد العيطة وأنواع موسيقية أخرى إبان عصر القياد بالمغرب، أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين. روت ساكنة القرية المحيطة بأطلال القصر ما تواتر إلى مسامعهم عن ليالٍ موسيقية شبه أسطورية في حضرة القايد القوي. كان من الصعب علينا أن نصدق أن هذه الغرفة النتنة (بل المزبلة)، حيث تبدو آثارُ براز مختل عقلي على جدرانها، هي مثوى بن عمر الأخير، فاضطررنا لسؤال مرافقينا مرة أخرى. جاء التأكيد: “أجل، إنه قبر سي عيسى بن عمر! لما توفي، جيء به في صندوق من العاج من مدينة سلا إلى قصره ليدفن هنا!” عبثاً، ومن شدة حصرتنا، تخيلنا المكان وكأنه ألمبرا عيطاوي (قصر حمرا العيطة) دمر عمداً لتضيع فرصة وجوده إلى الأبد. أين هي الدولة من هذا كله؟ أين هم ورثة عيسى بن عمر؟ أجاب أحدهم: “لقد جاء المخزن مرة للتنقيب عن كنوزه وأمواله. أما ورثته، فرغم أن منهم مسؤولين سياسيين ومقربين من القصر، إلا أنهم كُثر، حوالي ٥٢ وريث”.
بقايا زليج (فسيفساء) تقليدي بقصر "دار سي عيسى بنعمر"
تضاربت الروايات حول شخص القايد من رجل متسلط جائر، سجن وعذّب الشاعرة خربوشة التي لم تكن شيخة أو مغنية حسب رواية سي بوشعيب بنعكيدة، إلى شخصية متزنة وقورة وعادلة لا تحكم إلا بما أنزل الله وما حكم القضاة. مع احتدام سخطنا على هذا الاهمال والظلم في حق جزء كبير من تاريخنا الحديث، وقعت أبصارنا على هذه الجملة المكتوبة على جدار مهترئ قرب جناح الحريم: “عجباً من هذا الزمان: الحمير تتسابق والخيل تتفرج”. حين خروجنا من أطلال دار سي عيسى، ألقينا نظرةً أخيرةً على قطع مبعثرة وأشلاء من تاريخنا في شكل فسيفساء نادرة تغطي جزءًا لا بأس به من مساحة القصر. فسيفساء شارك في إبداعها صناع من حاضرات فاس ومراكش والرباط، لندرك جازمين أن مأساة الثقافة الشعبية المغربية لا تنحصر في فقدانها التدريجي لبعدها اللامادي الشفوي فقط، بل وتتعداها أيضاً إلى ضياع مستمر لإرثها المادي. فما العمل؟
- سبتمبر/أيلول 20, 2017
لكن لنعد إلى الشرارات الأولى التي أوحت لنا بالقيام بالرحلة الميدانية: ما إن اتصلت بـ فؤاد صديق الطفولة أسأل عن أحواله، حتى أطلقنا العنان ليلاً بعد انشغالاتنا اليومية، هو كباحث بيولوجيا وعلوم البكتيريا بجامعة لينكون البريطانية، وأنا كموسيقي وطالب بقسم ماجستير موسيقى الشعوب بجامعة فايمر الألمانية؛ عبر سكايب لقراءات ونقاشات دامت عاماً ونيف. كلما توغلنا في تفاصيلها إلا واتضحت لنا جلياً محدودية التصنيف فأصبحنا ننتقل بسلاسة بين هوس فاغنر الهارموني ونظريات غرسيا لوركا عن ألاعيب دويندي، مروراً بنقد توماس كون وباول فايراباند للطريقة العلمية وانتحار كولترين البطولي على حافة الكمال.
لكن موضوعاً بعينه شغل الحيز الأكبر من اهتماماتنا: كيفية رد الاعتبار لثقافة إنسانية غارقة في القدم؛ سلكت درب التجريبية في تكوينها وتطورها، فأفرزت أطايب حرمها العقل الغربي العقلاني ونبذها بإصرار. وأقصد على سبيل المثال لا الحصر علوم الطب البديل والشامانية وفكر وفلسفة الأديان الطبيعية. حتى في مجالات الفن والموسيقى، لم تسلم إبداعات الشعوب غير الرأسمالية بشكل من الأشكال، من بطش أكاديمي تمثل في نعوت متعجرفة أسست لتراتبية فنية وموسيقية.
ولأن في الموسيقى خزان هائل لتلك الشفرات الثقافية المعقدة اجتماعياً ودينياً واقتصادياً، انكببنا على الاستماع لساعات طوال لمختلف أنماط الموسيقى المغربية التقليدية، مع دراسة كل ما توفر لدينا من مراجع ومقالات2، لينتهي بنا الأمر إلى قناعة محدودية البحث النظري عن بعد، وبالتالي ضرورة تنظيم رحلة ميدانية إلى المغرب يُتوخى من خلالها فهمٌ أعمق للموسيقى ودورها في المجتمع المغربي كمثال، وذلك على اعتبار أصولنا المغربية. اشتدت حيرتنا عندما باشرنا اختيار محطات الزيارة. لا يخفى على الباحثين والمهتمين أن التنوع الجغرافي والمناخي وكذا الديموغرافي (أصول أمازيغية، عربية، يهودية، أندلسية، إفريقية…) بالمغرب ينعكس مباشرة على الموسيقى ليفرز موزاييكا يؤجج “عذاب الاختيار”، كما يقول أصدقاؤنا الألمان. لذلك آثرنا تحديد عدد قليل من المحطات مع ترك الباب مفتوحاً للمفاجأة.
انطلقنا يوم ٢٣ دجنبر/كانون الأول العام الماضي من عاصمة منطقة حْمَرْ، مدينة اليوسفية الفوسفاطية جنوب غرب المملكة. دامت الرحلة ستة عشر يوماً، تعرفنا خلالها على أربع أنواع موسيقية مختلفة: جيلالة سيدي عيسى بإقليم سيدي بنور؛ عيطة أولاد بنعكيدة بآسفي؛ غناوة تمصلوحت ضواحي مراكش؛ وفرقة جاجوكة بقيادة بشير عطار بطنجة شمال المغرب. رافقنا أثناء الرحلة، أنا وفؤاد، المصور الأمريكي كولن ماكلين وكاميرا أسامة المحرزي، وكذا تقني الصوت مقران تغرمت.
إعلان
جيلالة والمجذوب | لقاء الإنس بالجان
لم يمر يومان على مجيئنا إلى مدينة اليوسفية، قضيناها في التنقيب على آثار الوصول إلى جيلالة، حتى أتيحت لنا فرصة ذهبية لحضور حضرة (أو ليلة) جيلالية ضواحي مدينة سيدي بنور مساء ٢٤ دجنبر/كانون الأول ٢٠١٦. في الطريق إلى مقصدنا احتدم فينا الانفعال لمّا حكى لنا فؤاد ما روت له جدته عن جيلالة ستينات القرن الماضي: رجال طويلو الشعر، يمتطون الجِمال، ويثيرون “حالة طوارئ” بمجرد بدئهم عزف القصب3. عادة ما تستقبلهم الساكنة على أطراف المدينة أو القرية بطرق مختلفة، فمنهم من يترنح ويرتمي بشكل انتحاري على كعاب الجمال لتحسس “البركة”، ومنهم من يجذب على نغمات الموسيقى المتسارعة فيغمى عليه. أما جدة فؤاد فقد كانت من أولئك الذين يحاولون استباق الجميع بإعطاء جيلالة بعض المال لكي يغربوا عن وجه القرية خوفاً من الرعب الذي قد يزرعه هؤلاء “الملاعين” في نفوس أطفالها. كيف يمكن لموسيقى بعينها أن تخزن كل هذه الحمولة السيكولوجية لدى الوعي الجمعي البدوي المغربي؟ وماذا تبقى من جلالة اليوم؟
بعد الأذكار والصلوات على رسول الله، يشرع جيلالة في آداء وَجْبَاتِهم4 حسب التسلسل الموضوعاتي الاعتيادي للحضرة. تزداد حرارة المكان مع توافد أكبر الأقرباء والجيران، وكذا بإدخال مجامر البخور والجاوي التي لا تبارك فقط لقاء الإنس بالجان، وإنما تضفي أيضاً لمسةً روحانية على البنادر بتسخينها. في ساحة الرقص والجذبة رجال ونساء لا تفصل بينهم وبين فرقة جيلالة إلا بعض السنتيمترات، أمر قد يطرح على الأقل سؤال الحرمة المكانية لهؤلاء الفنانين. إنهم ينشدون درب النشوة هائمين على وجوههم المغطاة بأثواب تختلف ألوانها باختلاف الولي الصالح أو الجن المذكور؛ مرنحين أجسامهم التي تتحرر شيئًا فشيئا مع تواتر صخب الموسيقى. تنفجر طفلة بكاءً حالما يصدح عازف البندير موسى بصوته الرهيب “وا الميمة!” (أماه!)، تعقبه شبه هتافات مرحبة بالوافد الجديد: الحاج وصل! يظهر رجل ضخم وقور، بجلباب بسيط أنيق، ملقياً التحية على الجماعة ليختار آخر ثغرة في الغرفة ويجلس جانبي. لا أتجرأ حتى على النظر إليه رغم احتراقي فضولاً لمعرفة ماهية هذا الكائن. يجلس هادئا خاشعاً مطأطئاً رأسه. إنّ ثباته الوجودي في قلب كل هذا الأجيج السمعي البصري يرعبني! يبدأ رويداً بتحسس الإيقاع بأنامله، ثم بالجزء العلوي لجسده. لعله ينتظرالطرح5 المناسب لـ ساكنه6. ينهض فجأةً فيتيح له الراقصون المساحة المناسبة لجسمه العتيد. يصيح: “الله الله” وفي نبرته دليلٌ واضح على فهمٍ تام لـ وجبة القصّاب محمد، قائد الفرقة، وكأن هذا الأخير يخاطبه بكلمات مشفرة لا يفهمها إلا الرجل الضخم. يتسارع الإيقاع، فينزع جلبابه ويلوح بيديه إلى الموسيقيين على غرار قائد أوركسترا، ثم يقبض على يديه بتشنج، ناظراً إلى الأعلى وكأنه عازم على تجاوز جسده. يا للصدمة. ينزع الحاج أمام الملأ ما تبقى من ثيابه مبقياً فقط على سرواله الفضفاض (قنضريسي بالمغربية) يصرخ باسماً منتشياً: “وا ضويو لي على مولاي التهامي!” (أنيروا مولاي التهامي!)، فيفهم جيلالة معنى الطلب ويشرعون في إعادة الوجبة الأخيرة. تزداد نشوة الرجل الضخم، فيضرب بيديه الصلبتين تارةً على صدره وكرشه، وأخرى على خديه، مسايرا الإيقاع.
كيف يعقل أن يتحول ذلك الحاج الوقور الهادئ إلى “وحش روحاني” منتش؛ باستطاعته خرق الضوابط المجتمعية والأخلاقية دون لوم أو قيد، بل ويصبح العنصر الأساسي لإنجاح الفرجة في الليلة؟ الآن تبدو لنا ساحة الرقص، على صغر مساحتها، وكأنها مجال عميق فسيح لتحرير الجسد والتصالح مع الذات. ينتهي الطرح، فيجلس الرجل منهكاً على الحصيرة قرب الموسيقيين. يُمد إليه الماء ومنشفة لمسح عرقه، ثم يُرش هو وكل الحاضرين بماء الزهر. يهمس أحد الحاضرين لصاحبه: “و- مجذوب واعر هذا أسّي!” (إنه لمجذوب جيد!). بعد استراحة قصيرة يقوم فيها سي خلوق، الجيلالي المسن، بالدعاء على نحو هو أقرب إلى الإلقاء المسرحي المغربي المعروف بـ الحلقة، يدعو بالخير والبركة للأمة الإسلامية أولا، ثم لكل من تصدق ببضع دراهم؛ تستأنف موسيقى وأعراف الحضرة بإعطاء الحاج المجذوب مجمر البخور فينتشي من جديد. تارة يخرّ راقصاً على ركبتيه، يكاد يلامس وجهه فحم المجمر الحامي، وتارةً يجذب على زجاج الكؤوس المكسرة عند دخول طرح أولاد خليفة.
تدنو الليلة من نهايتها، فيغلب الطابع الاحتفالي على الأجواء. نبدأ تدريجيا في التنقل الحذر من غرفة لأخرى للتعرف على الحاضرين. زغاريد النساء تتعالى من حين لآخر لترسم نوتة البهجة على الموسيقى المتواصلة منذ ساعات، وحتى الحاج المجذوب يبدأ أخيراً بالتحدث مع أحد المدعوين، كما لو تم إفراغ شحنات الكبت والضيم و”الحكرة” في ساحة الجذبة تلك. كيف لا وجيلالة تروي لسان حال طبقة الفلاحين والرعاة الصغار الذين مارس عليهم المخزن (لفظ يطلق على النظام السياسي في المغرب) على مر التاريخ شتى أنواع التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي؟
ودّعنا فرقة المعلم محمد ضاربين لهم موعداً لإحياء حضرة جيلالية بمدينة اليوسفية، يكون فيها التسجيل السمعي البصري مسموحا. صباحاً، لحظة اعتزامنا المغادرة، أصرّ”المقدم” عبد السلام الغياط، كبير العائلة، على دعوتنا لتناول وجبة الفطور مع أهل الدار. لبينا الدعوة مسرورين، ثم امتطينا السيارة على طريق العودة إلى اليوسفية منهكين شاردين، نتساءل مع بزوغ أولى شرارات شمس واعدة: من نحن كمغاربة؟
عن العيطة ودار سي عيسى | مأساة التراثين المادي واللامادي
تتقدم إليّ الشيخة بإبريق الماء الدافئ والصابون والمنشفة، فيُصمِت وقارها كل الأحاديث الدائرة بيننا وبين السي بوشعيب بنعكيدة. تقول لي بصوتها المألوف جداً: “زيد أيا وليدي غسل ايديك راه لغدا وجد!” (اغسل يديك يا بُنيّ فالغداء جاهز). لم أتخيل يوماً أن تخدمنا، وفي خدمة الضيف حفاوة، تلك السيدة التي طالما أطربت مسامعنا وشاهدنا فيديوهاتها بكل شغف إلى جانب ملكة العيطة، الشيخة فاطنة بنت الحسين. أحس بإحراج وخجل شديدين. تنتقل الشيخة لغسل يدي فؤاد فأتنفس الصعداء. يقول لي فؤاد حينها ممازحا: “محرج ها؟”. ترد بكل كاريزما: “ووليدي لوزراء وغسلوا لينا ادينا” (الوزراء أنفسهم نظفوا أيدينا). فننفجر ضاحكين. إنّنا للمرة الثانية خلال هذه الرحلة، في ضيافة الشيخة حفيظة الحسناوية وزوجها السي بوشعيب قائد مجموعة أولاد بنعكيدة للعيطة الحصباوية بمدينة آسفي يوم ٢٨ ديسمبر ٢٠١٦.
بعد فراغنا من وجبة الغداء اللذيذ الذي حرصت الشيخة بنفسها على طهيه، انطلق العنان من جديد لأحاديث مشوقة مطوّلة عن فن العيطة؛ كيف لا ونحن نحاور الآن أحد أهم مجموعات العيطة على الإطلاق؟ فأولاد بنعكيدة ثلاث إخوة تربوا في كنف العيطة الحصباوية (تسمى أيضاً العبدية) في بادية “أولاد زيد” بمنطقة عبدة. يحكي السي بوشعيب عن جده الذي كان هاوياً شغوفاً بهذا الفن، لكن في سرية تامة (ربما بسبب أيام السيبة القاسية): “ذات مرة خرج جدي للخلوة كعادته حاملاً وْتَارَهُ7، وبعد هنيهة اكتشف أن رجلاً يتطرّب لعزفه خلسةً، فكان أن كسر الآلة الموسيقية أمامه غضباً”. بعد بدايات “ولاد بنعكيدة” في حفلات ومواسم المملكة، سيسفر لقاؤهم بفاطنة بنت الحسين عن انفجار إبداعي قل نظيره: مسار احترافي دام أزيد من عشرين عاماً أعطى العشرات من الألبومات والجولات في الداخل والخارج (أوروبا، آسيا، العالم العربي).
يحكي لنا السي بوشعيب، من بين ما يحكي، وبدعابته المعهودة، قصة الفرقة مع موظفات إدارة الجوازات بمدينة افينيون الفرنسية: “كنا نريد فقط أن يعطونا الفيزا لإكمال جولتنا في فرنسا، فإذا بهم يصرّون على دعوتنا لإحياء حفل بمسرح المدينة. تستطرد الشيخة حفيظة ضاحكةً: “ها بدينا العلوة أوهما ينضو الغاوريات إجذبو بحال عيساوة!” (ما إن بدأنا قصيدة العلوة حتى نهضت الأوربيات يتجذبن مثل عيساوة). بعد انتهاء الحفل، فسرت الفرنسيات ذلك التصرف على أنه “لا إرادي”، وأن تلك الموسيقى كانت تحوي ولا شك بعداً روحانياً قوياً أثر فيهن. ما إنْ ينتهي الزوجان من سرد القصة، حتى يلتفت فؤاد إليّ بعينين جاحظتين قائلا: “وش سمعتي أسي؟” (أسمعتَ يا هذا؟). لـيقصفهما بعد ذلك بأسئلة طارئة حول الجذبة والروحانيات في العيطة، على اعتبار أن هذا النوع الموسيقي – خلافاً لجيلالة – فرجوي بالأساس. نكتشف من خلال قصصهما مصدومَين أن للعيطة أيضاً ماضٍ روحاني اندثر مع توالي الأزمنة. أهي لعنة روحانيات التي تطاردنا في هذه الرحلة؟ أم أن للأنواع الموسيقية التقليدية المغربية، جلها أو كلها، جذوراً روحانية راسخة؟ تقول الشيخة حفيظة : “لم يكن للعيطة فقط دور روحاني في المجتمع، بل وكانت أيضاً فكتور ساعي بريد تُمرَّر من خلال غنائها ألغاز وشفرات بين شيوخ العيطة والمتلقي، خاصةً ضد المستعمر الفرنسي أو لتوجيه رسائل إلى المخزن، كلغز “وهيا سيدي حمد… وهيا حرشة العيون…. ها هو هاهو!… وهيا! وهيا!“. فـ سيدي حمد وحرشة العيون هي كلمات لا يراد منها إلا التمويه، أما المعنى الحقيقي المراد من هذا البيت فهو “إن القاتل أو الجاني المحتمل متواجد هنا بين الجماعة”.
نهيم لساعات طوال في صالون بنعكيدة البهي، نسترجع معهم الزمن الذهبي لإرث شفوي ضخم وغني يهترئ شيئاً فشيئاً. “أتعلمون أنه كان لشيوخ وحرفيي العيطة لغة خاصة تسمى الغوس؟ يتابع السي بوشعيب دون انتظار الإجابة: فالكمان بالغوسي هي الزابوقة أوالقابوزة، أما الطعريجة فه يابجيقة”. أقاطعه: “ألديكم أيضاً تسميات خاصة للميازن (الإيقاعات) المستعملة في العيطة؟” يجيب: “طبعاً! هناك ميزان السوسي، والمثلوت والمصرف والعرج وأم الحاشية وسريسبة إلخ”. استحضرت حينها، في ذهني، نظريات العالم الموسيقي النمساوي ج. كوبيك8، المتخصص في موسيقى شعوب إفريقيا، حول محدودية بل وسخافة العمل بمفاهيم النظرية الموسيقية الغربية (التنويط على النظام الأوربي، مفاهيم الصولفيج والهرموني والميلودي والميترك…) لتحليل وفهم موسيقى إفريقيا، التي تكونت وتشكلت ولا شك على أساس مفاهيم ونظريات موسيقية خاصة بها9. يرد سي بوشعيب على هذا الطرح بذكائه المعهود: “لقد فكرنا في تلقين الشباب الصاعد أصول وقواعد العيطة دون اللجوء إلى الصولفيج، وأسسنا لذلك الغرض جمعية تخرج بحمد الله منها الفوج الأول رغم أن السلطات المحلية لا تساعد بما فيه الكفاية”. كيف يمكن أن ترفض الجهات المعنية طلباً كيفما كان نوعه من أجل تفعيل هذه الفكرة، خاصةً وأن مصدر المبادرة أناس ساهموا في كتابة تاريخ العيطة الحديث؟ إن إهمال الدولة المغربية للإرث الشفوي المغربي لا حدود له. تكمل الشيخة فكرة زوجها بعد صمته القصير: “احنا أوليدي بغينا غير ديك العيطة نعطيوها ليهم أمانة كِمَّا عطوها لينا جدودنا. حيت العيطة أمانة! العيطة دايرة بحال دوك الحيوط التاريخية: كاملة مكمولة مكتبدلش!”(ما نريده يا ولدي هو تسليم العيطة إليهم كأمانة، كما سلمها إلينا أجدادنا، لأن العيطة أمانة! إنها تشبه تلك الحيطان التاريخية! كاملة وتامة لا زيادة فيها ولا نقصان).
يا له من تشبيه رهيب أيقظ للتو مواجع ما رصدناه قبل يوم خلال زيارتنا لدار سي عيسى بن عمر، بين مدنتي آسفي وجمعة السحايم. كيف يعقل أن تهترئ أمام أنظار الجميع حيطان صرح عظيم كان رمز مجد العيطة وأنواع موسيقية أخرى إبان عصر القياد بالمغرب، أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين. روت ساكنة القرية المحيطة بأطلال القصر ما تواتر إلى مسامعهم عن ليالٍ موسيقية شبه أسطورية في حضرة القايد القوي. كان من الصعب علينا أن نصدق أن هذه الغرفة النتنة (بل المزبلة)، حيث تبدو آثارُ براز مختل عقلي على جدرانها، هي مثوى بن عمر الأخير، فاضطررنا لسؤال مرافقينا مرة أخرى. جاء التأكيد: “أجل، إنه قبر سي عيسى بن عمر! لما توفي، جيء به في صندوق من العاج من مدينة سلا إلى قصره ليدفن هنا!” عبثاً، ومن شدة حصرتنا، تخيلنا المكان وكأنه ألمبرا عيطاوي (قصر حمرا العيطة) دمر عمداً لتضيع فرصة وجوده إلى الأبد. أين هي الدولة من هذا كله؟ أين هم ورثة عيسى بن عمر؟ أجاب أحدهم: “لقد جاء المخزن مرة للتنقيب عن كنوزه وأمواله. أما ورثته، فرغم أن منهم مسؤولين سياسيين ومقربين من القصر، إلا أنهم كُثر، حوالي ٥٢ وريث”.
بقايا زليج (فسيفساء) تقليدي بقصر "دار سي عيسى بنعمر"
تضاربت الروايات حول شخص القايد من رجل متسلط جائر، سجن وعذّب الشاعرة خربوشة التي لم تكن شيخة أو مغنية حسب رواية سي بوشعيب بنعكيدة، إلى شخصية متزنة وقورة وعادلة لا تحكم إلا بما أنزل الله وما حكم القضاة. مع احتدام سخطنا على هذا الاهمال والظلم في حق جزء كبير من تاريخنا الحديث، وقعت أبصارنا على هذه الجملة المكتوبة على جدار مهترئ قرب جناح الحريم: “عجباً من هذا الزمان: الحمير تتسابق والخيل تتفرج”. حين خروجنا من أطلال دار سي عيسى، ألقينا نظرةً أخيرةً على قطع مبعثرة وأشلاء من تاريخنا في شكل فسيفساء نادرة تغطي جزءًا لا بأس به من مساحة القصر. فسيفساء شارك في إبداعها صناع من حاضرات فاس ومراكش والرباط، لندرك جازمين أن مأساة الثقافة الشعبية المغربية لا تنحصر في فقدانها التدريجي لبعدها اللامادي الشفوي فقط، بل وتتعداها أيضاً إلى ضياع مستمر لإرثها المادي. فما العمل؟
- سبتمبر/أيلول 20, 2017