عندما يسكت المؤرخون ولاسيما كتاب الطبقات منهم عن علم من أعلام الفكر أو رائد من رواد المعرفة. فإن سكوتهم هذا لا يعني شيئا في حقيقة الواقع. وإن كان في بعض الأحيان ستارا كثيفا لابد للباحث من أشعة كاشفة قوية المفعول لتمزيقه..
وتاريخ الفكر والحضارة في الإسلام يشتمل على سلسلة طويلة ذات حلقات من الرواد والأعلام. ولكن الباحث المتعمق الذي يريد الربط المحكم بين هذه الحلقات يجد نفسه أحيانا أمام فراغ واسع بين حلقة وأخرى في سلسلتي الحضارة والفكر.
وليس لذلك من سبب سوى أن العناية كانت أولا وبالذات متجهة إلى تدوين تاريخ الدول والملوك وأهل الحظوة والوجاهة حتى إذا اتسعت الآفاق أمام المدونين تناولوا طبقات أهل المذاهب والرواة والحفاظ والنحاة والشعراء والقضاة.
على أن العناية كانت تلحق أحيانا الحكماء والأطباء والفلكيين وبعض رجال الفنون الأخرى.. فنجد من كتب في طبقاتهم وتراجمهم. لكن الشفوف والاعتبار كانا على الدوام في الجانب الآخر.
والسعيد المحظوظ من الأطباء والصيدليين والمهندسين والفلكيين والجوهريين والرحالين والجغرافيين.. هو الذي استطاع أن يكون إلى جانب مهارته في هذه الفنون قد عرف بالفقه أو الحديث أو اللغة أو الشعر ليتخذ كتاب الطبقات ذلك ذريعة لحشره في زمرة الفقهاء أو المحدثين أو أهل اللغة أو الشعراء..!
وأبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي الذي نحاول الحديث عنه اليوم. مع كتابه القيم "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" – أصدق من يمثل هذه الظاهرة التي أشرنا إليها آنفا.
فالذي بين أيدينا من آثار هذا الرجل يدل دلالة واضحة على أنه كان علما من الأعلام ورائدا من الرواد الذين ضربوا بسهم رابح في المعرفة التي جمعها صاحب "هدية العارفين" لمؤلفات التيفاشي(1) تدلنا على أن صاحبها كان موسوعي الثقافة حاول أن يقدم في عصره للباحثين دائرة معارف إسلامية تتناول عدة موضوعات لا تتيسر معرفتها إلا لذوي الاختصاص المتوفرين على خبرة واسعة بعد علوم وفنون..
ولكن ذلك كله لم يكن ليشفع لصاحبنا فيحتل مكانة مرموقة في كتاب من كتب الطبقات التي بين أيدينا.. فقد سكتت عنه سكوتا غريبا وتجاهلت وجوده حتى خيل لبعضهم أنه نكرة في النكرات..
ولولا أن تداركته عناية الله فانتسب في عصره إلى زمرة القضاة على المذهب المالكي لما حظي بهذه السطور التي جاد بها عليه ابن فرحون في كتابه :
"الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب"(2)
فبهذه الصفة وحدها نال عن ابن فرحون لقبين كبيرين هما : إمام وعلامة..!
ثم زاد فتكرم عليه بهذه العبارات :
"واشتغل بالأدب وعلوم الأوائل.. وكان فاضلا بارعا.. "له شعر حسن ونثر جيد.. ومصنفات عديدة في فنون..".
أما المراجع الأخرى –فيما نعلم- فقد وسعها ما وسع معاصريه فلم ينل منها إلا إشارات عابرة لا تطفئ غلة ولا تروي ظمأ.. وبهذا تظل ترجمة ابن فرحون التي بين أيدينا فريدة.. وأصلا .. لمن يحاول الكتابة عن التيفاشي من الباحثين.
والمتتبع لكتاب "كشف الظنون" يجد صاحبه يذكر مؤلفات التيفاشي ويذكر وفاته سنة 651هـ ثم ينسبه تارة إلى القاهرة فيقول : القاهري.. وتارة إلى قفصة فيقول : القفصي .. وتارة إلى تيفاش التي اشتهر بالنسبة إليها فلا يزيد على .. التيفاشي وهكذا.
وجاء صاحب معجم هدية العارفين فجمع قائمة كتب التيفاشي من كشف الظنون وقال في ترجمته :
"القاضي أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي القفصي الطبيب الأديب المتوفى سنة 651هـ إلخ(3)
وقد اطلعت أخيرا على أثرين مخطوطين من آثار التيفاشي وهما :
1) كتاب نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب.
2) كتاب أزهار الأفكار في جواهر الأحجار.
وموضوع الكتاب الأول وصف الحياة الجنسية في محاسنها ومباذلها وصفا مدققا. وشرح نعوت وأوصاف أهل العفة والطهارة.. وأصحاب الرذيلة والفاحشة والشذوذ مما يعد من أغرب الغرائب..! في تصوير المجتمع الإسلامي إذ ذاك..
والكتاب بخط شرقي في المكتبة العامة بالرباط(4) دخل إليها أخيرا.
أما موضوع الكتاب الثاني فهو وصف الأحجار الكريمة المعدنية منها والحيوانية وصفا مدققا يدل على أن المؤلف كان من مهرة الجوهريين وذوي الخبرة الواسعة والتجربة الطويلة في هذا الميدان.
وهذا الموضوع جدير منا بكل دراسة وبحث لاسيما وهو طريقنا إلى معرفة جانب كبير من الحضارة الإسلامية وهو الجانب الذي يتناول رصيد أهل اليسار وأهل السلطة من الثروة التي كانت إذ ذاك لا تعدو نفائس الأحجار مع الذهب والفضة..
كما أن دراسة هذا الموضوع تطلعنا على عدد كبير من الألفاظ العلمية والاصطلاحات الفنية التي كانت متداولة في تلك العصور.. وذلك يؤدي إلى تسهيل مهمة الهيئات والمجامع المهتمة بتعريب المصطلحات العلمية عن لغات أخرى.
لهذا ارتأيت أن أتحدث عن كتاب "أزهار الأفكار" مع الإلمام بالتعريف بصاحبه أبي العباس التيفاشي ومحاولة إثارة البحث عن شخصيته وآثاره.. ولعل في ذلك فائدة إن شاء الله.
ترجمة التيفاشي
هو أبو العباس، وأبو الفضل أحمد بن يوسف بن أحمد ابن أبي بكر بن حمدون بن حجاج بن ميمون بن سليمان بن سعد القيسي. ولاشك أن هذا النسب الطويل مع النسبة إلى قيس يدلنا على أن صاحبنا من عائلة ذات جاه وحسب ونسب شأن العائلات التي اشتهرت بالعلم والقضاء.
ويذكر المؤرخون أن الخليفة عبد المومن الموحدي لما دخل إفريقية عام الأخماس 555هـ مدحه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي بقصيدة كان مطلعها :
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المومن بن علي
فأمره الخليفة بالاقتصار على المطلع لأن فيه كل شيء ...!
فصاحب القصيدة هو عم والد صاحبنا كما يظهر من سلسلة النسب التي قدمنا.
وتيفاش التي تنتسب إليها العائلة يقول عنها ياقوت(6) "مدينة أزلية بإفريقية شامخة البناء، تسمى تيفاش الظالمة ذات عيون ومزارع كثيرة وهي في سفح جبل".
ولد سنة 580هـ- يقول ابن فرحون – بتيفاش.. ويظهر أن أسرته انتقلت إلى قفصة واستقرت بها ولذلك صارت تنسب إليها. ولا نستطيع أن نعرف عن نشأته وتربيته الأولى شيئا سوى أننا نعلم أنه طلب العلم بقفصة وانتقل منها إلى تونس ثم إلى القاهرة وهو صغير السن كما يقول ابن فرحون..(7)
فأخذ العلم عن الطبيب الشهير عبد اللطيف البغدادي.. ثم انتقل إلى دمشق فأخذ عن تاج الدين الكندي.. ورجع إلى وطنه ليتولى منصب القضاء في مدينته قفصة.
ويظهر أن ميل صاحبنا كان متجها إلى دراسة ما نسميه اليوم –العلوم- فطلب في بلاده وفي غيرها هذه –العلوم- وأخذ يستقصي فيها البحث والإطلاع والتجربة والتطبيق..
ولكن صاحب هذه –العلوم- في تلك العصور كان لابد أن يأخذ بنصيب وافر من الثقافة الدينية والأدبية ليكون في صف رجال العلم. ولينال حظه من الاعتبار.. وكذلك فعل التيفاشي. وكذلك فعل غيره من رجال الطب والصيدلة، والفيزياء والكيمياء..
ويترك منصب القضاء في قفصة ليلتحق مرة ثانية بالشرق فيطوف فيه ويزور أمصاره الكبرى في فارس، وأرمينية والعراق والشام وهو لا ينفك يبحث عن الأحجار الكريمة ويقتني ويجرب ويدرس ويتصل بأهل الفن. وقد أشار في مخطوطه الذي بين أيدينا إلى كثير من هذه الرحلات التي قام بها ودون بعض مشاهداته ومعلوماته واتصالاته في مخطوطه المذكور. تارة بالتفصيل وأخرى بالإيجاز..
وأخيرا يتخذ القاهرة وطنا وبها ألف كتابه "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" في تمام سنة 640هـ كما يقول في الباب الرابع عند كلامه على الزبرجد..
وفي القاهرة اتصل بالمؤرخ الأندلسي الرحالة أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد (610هـ 685هـ) اتصال مودة وإخاء وانتفاع. وقد أشار إلى ذلك ابن سعيد نفسه في كتابه –اختصار القدح المعلى- عند ترجمته لابن الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي(8) ومن كلام ابن سعيد نستفيد أن التيفاشي كان بالقاهرة قبل سنة 636هـ.. وهي السنة التي توفى فيها ابن عتبة.. ويمدح أبو العباس التيفاشي ابن سعيد ويعجب إعجابا كبيرا بكتاب –المغرب- فيقرظه بقطعة شعرية احتفظ لنا المقري بها أبو العباس المقري في نفح الطيب(9) كما احتفظ لنا المقري بما وجد مكتوبا على آخر جزء من كتاب المغرب من إجازة ابن سعيد للتيفاشي. حيث يحليه بهذه الحلية : -أجزت الشيخ القاضي الأجل أبا الفضل أحمد بن الشيخ القاضي أبي يعقوب التيفاشي-(10)
ويروي ابن سعيد عن صديقه التيفاشي مرتين في كتابه الغصون اليانعة من محاسن شعراء المائة السابعة ويستعمل كلمة غريبة في حقه وهي :
"وكان الفضل التيفاشي يذكر هذا الرجل –الشاعر التلعفري- ويزعم أنه استفاد من تصانيفه في ضروب الفلسفة(11)"
فكلمة –يزعم- من ابن سعيد هنا في حق التيفاشي لها اعتبارها الخاص.. ولعل الفرق بين الاتجاهين والمزاجين العلمي عند التيفاشي، والأدبي عند ابن سعيد هو الباعث عليها..
ولا أدع الحديث عن علاقة صاحبنا بابن سعيد دون أن أشير إلى أن الدكتور شوقي ضيف كتب ترجمة لابن سعيد في مقدمة تحقيقه لكتاب –المغرب- قال فيها :
"ويرجع من حجه –ابن سعيد- إلى تونس سنة 652هـ وينزل عند صديقه أبي العباس التيفاشي(12)".
ولم يذكر الدكتور مصدره في ذلك..! والمعروف أن التيفاشي توفي بالقاهرة سنة 651هـ كما في ترجمته عند ابن فرحون.. فكيف ينزل عليه ابن سعيد في تونس سنة 652هـ.!
وفي القاهرة أيضا اتصل صاحبنا بوالد ابن منظور صاحب (لسان العرب) الشيخ جلال الدين الخزرجي الإفريقي وقد حدثنا عن هذا الاتصال ودونه صاحب لسان العرب في مقدمة كتابه القيم –نثار الأزهار- المطبوع بالقسطنطينية سنة 1298هـ(13) الذي هو في الحقيقة اختصار وتهذيب لأحد كتب التيفاشي المسمى –فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب– المشتمل على نحو 40 جزءا.
يقول ابن منظور في مقدمة "نثار الأزهار" :
ورأيت الشيخ شرف الدين أحمد بن يوسف التيفاشي العبسي(14) في جملتهم "أصدقاء أبيه" وأنا في سن الطفولة لا أدري ما يقولون ولا أشاركهم فيما يقولونه غير أني كنت أسمعه يذكر للوالد كتابا صنفه أفنى فيه عمره، واستغرق درهه وأنه سماه "فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب".
ثم يمضي ابن منظور في حديثه الطويل عن أبي العباس التيفاشي باعتباره صديقا من أصدقاء والده، ومؤلفا لموسوعة كبرى يريد اختصارها وتهذيبها في كتابه نثار الأزهار..
وقد اتصل صاحبنا بعدد من رجال العلم والأدب والسياسة في عصر هو النصف الأول من القرن السابع الذي كان الشرق فيه زاخرا بعدة شخصيات وثقافات واتجاهات عرف التيفاشي كيف يستفيد منها ويدون مؤلفاته العظمى التي ضاع مع الأسف الشديد جلها ولم يبق منها بين أيدينا إلا نتفا مبعثرة هنا وهناك.. أجلها وأهمها هذا المخطط من كتاب :
أزهار الأفكار في جواهر الأحجار الذي سنلقي عليه بعض النظرات كما أرسلنا بعض الأشعة على مؤلفه فيما قدمناه من سطور..
أزهـار الأفكـار في جواهـر الأحجـار
يقول مؤلفه في مقدمته :
"هذا كتاب غريب الوضع.. عجيب الجمع عظيم النفع. ضمنته في (كذا) ذكر الأحجار الملوكية التي توجد في خزائن الملوك وذخائرهم. وفي ذخائر الرؤساء والوزراء مما لا يستغنى عن اقتنائه ملك كبير ولا وزير خطير، لما يشتمل عليه من عظيم منافع وعجائب الخواص ولم أشرك بها شيئا من الأحجار المتداولة في أيد العوام العارية عن الخواص الجسام والمنافع العظام".
ويذكر محتويات الكتاب وهي :
الباب الأول في الجوهر ومعادنه.
الباب الثاني في الياقوت.
الباب الثالث في الزمرد.
الباب الرابع في الزبرجد.
الباب الخامس في البلخش.
الباب السادس في البنفسج.
الباب السابع في البجادي.
الباب الثامن في الألماس.
الباب التاسع في عين الهر.
الباب العاشر في البازهر.
الباب الحادي عشر في الفيروزج.
الباب الثاني عشر في العقيق.
الباب الثالث عشر في الجزع.
الباب الرابع عشر في المغناطيس.
الباب الخامس عشر في السنباذج.
الباب السادس عشر في الدهنج.
الباب السابع عشر في اللازورد.
الباب الثامن عشر في المرجان.
الباب التاسع عشر في السبج.
الباب العشرون في الجسمت.
الباب الحادي والعشرون في الجماهان.
الباب الثاني والعشرون في البشم.
الباب الثالث والعشرون في اليشب.
الباب الرابع والعشرون في البلور.
الباب الخامس والعشرون في الطلق.
هذه الموضوعات التي شغل المؤلف نفسه بالبحث فيها وأما مناهجه في البحث فقد تناوله في هذه الكلمات:
"وسبيلنا أن نتكلم على كل واحد من هذه الأحجار المعدودة من خمسة وجوه :
- تكوينه في معدنه
- ذكر معدنه الذي يتكون فيه
- جيده ورديئه وخالصه ومغشوشه
- خواصه ومنافعه
- ذكر قيمته وثمنه في أوسط الأمور وأغلب الأحوال"
والمؤلف في كتابه هذا لا يكتفي بالدراسة التقريرية المبنية على سرد الحقائق جزافا. ولكنه يعمد إلى الدراسة التجريبية فيجرب بنفسه ويقيس ويستنبط ويقارن ويذكر الفروق الدقيقة بين جوهر وآخر في اللون والحجم والميوعة والجمود والصفاء والكدرة، والخفة والثقل وقابلية الانصهار وعدمها.. ومن أجل ذلك طاف في العواصم والجبال والصحارى ودخل الأسواق وخالط أهل الصناعات.. وصنع بيده أواني وأدوات من معادن شتى.. كل ذلك يدونه ويتحدث عنه حديث المطمئن إلى مقدرته ومهارته..
وقد حدثنا عن اللازورد وامتحانه وطريقة هذا الامتحان ثم قال في ختام كلامه :
"ولم أنقله من كتابه بل هو من جملة ما وقفت عليه بالتجربة من صحيح كتبنا في الأعمال الصناعية".
ويصف الزمرد وأنواعه فيقول :
"وأصناف الزمرد أربعة : الذبابي والريحاني والسلقي والصابوني. فالذبابي أخضر –مغلوق- اللون جدا، لا يشبه خضرته شيء أخضر من الألوان كلها. حسن الصبغ جيد المائية. وإنما قيل له الذبابي لشبه لونه بالخضرة التي تكون في الكبار من الذباب الربعي الموجود في البساتين. لا في صغاره الموجودة في البيوت. وهو أحسن ما يكون من الخضرة ببصيص..
"وأما بقية الأصناف المذكورة من الزمرد غير الذبابي فإنها نازلة مقصرة عن جميع الخواص الموجودة في الذبابي كالريحاني فإنه –مفتوح- اللون كلون ورق الريحان ودونه السلقي كلون السلق، ودونه الصابوني كلون الصابون ولا قيمة له يعتد بها، وأحسن أصنافه الذي يقرب إلى البياض مع كمدة، ويسمى –العربي وهو موجود في برية العرب في أرض الحجاز..".
هكذا يتتبع المؤلف مادته العلمية بالدرس والوصف والإيضاح. ويعطي الأوصاف الدقيقة لكل حجر أو معدن وذلك يدلنا على أن الرجل كان متمكنا من مادته عارفا بأسرارها سالكا بها طريق الإيضاح والبيان.
"ومما جربته واختبرته ووقفت عليه بالعمل أن حماض الأترج يحل الجوهر إلا أنه يحله خاثرا..".
ويقول عن قطعة من الزمرد حدثه عنها أمين السلطان قائلا : "واشتريت بقوص زمن الملك الكامل قدس الله روحه من رجل من التجار قصبة زمرد في المعدن المباح لبلده من نوع الزمرد الريحاني وكان وزنها اثني عشر مثقالا.
قال : وقد كنت اشتريتها من التجار غير مهذبة بأربعة وثلاثين درهما وحملتها إلى الملك الكامل وهو بدمشق وقومت بدمشق بثلاثين ألف درهم نقرة!!".
فهو اختصاصي في الجواهر لا يفتأ يحدثك عن اتصالاته برجال يهمه ما يهمهم، ويخبرك عما استفاده من خبرة وعلم بالموضوع الذي انقطع إليه وعاش من أجله، وإذ نقل من كتاب فهو لا ينقل إلا من كتب علمية يونانية مترجمة أو عربية موضوعة ألفها أساطين هذا الفن في عصره أو قبله بقليل.
فينقل عن ابن الجزار وأرسطو والفارابي وغيرهم ولكنه يناقش الجميع ويأخذ نتائجه من معلوماته وتجاربه الخاصة به.
وفي الكتاب طائفة من المشاهدات التي تثير إعجابنا بمظاهر الحضارة في ذلك العصر.. منها :
"ورأيت عند بعض ملوك إفريقية صورة ديك من البلور أهداه إليه بعض الأفرنجة. يحمل أربعة أرطال شرابا لا يخل من صورة الديك. ولا يخرم بشيء. حتى أظفاره. وجميعه مجوف. وشاهدت الشراب إذا صب فيه ويدخل في أظفار الصورة. واجتمع في عنق هذه الصورة وسخ. فطلب من يزيله فلم يقدر عليه للخطر المركب في إزالته. فطلب أحد الخراطين فطلب خمسين دينارا معدنية على إزالته. والتزم دركه فتلطف به وأحسن إليه حتى رضي. وأخذه. وأزال ما كان في عنقه بحيث لم يطلع عليه أحد. وأخرجه كأنه لم يكن به شيء"
"وأخبرني بعض أهل غزنة أنه رأى في قصر ملكها شهاب الدين الغرنوي أربع خواب للماء كل خابية تحمل روايتين من الماء من روايا البغال. والخوابي ومحاملها من البلور. والآتية التي تحمل رطلا إذا كانت صافية سالمة من التشعب تساوي ثلاثة دنانير مصرية أو نحو ذلك".
وعند حديثه عن البلور قال :
"وقد ظهر بهذا التاريخ (640هـ) معدن بالمغرب الأقصى بمدينة مراكش حاضرة المغرب. نقي اللون. إلا أنه فيه تشعثا. وكثر عندهم حتى فرش منه ملك المغرب مجلسا كبيرا..!".
هذه نظرات في مخطوط "أزهار الأفكار" لعلها تدلنا –إن كنا في حاجة إلى دليل- على هذا التراث العلمي الذي اشترك في تكوينه رجال وأجيال..
وقد قيل –وأظن ما زال يقال- أن ثقافة العرب وعلوم العرب كانت –أدبية- لا تعرف مجالا غير مجال النظم والنثر ولا تعنى بالدراسات التجريبية والعلمية. ومن هنا وقع إهمال وإغفال الناحية –العلمية- من الحضارة العربية في جهل مرة.! وعن تجاهل مرار..!
لكن هذا الجهل. وذلك التجاهل ليسا إلا بضاعة رخيصة عند بعض الذين يكلفون نفوسهم عناء البحث في مثل هذه الموضوعات.
وأخيرا أشير إلى أن كتاب "أزهار الأفكار" قد عرف في دائرة المستشرقين منذ أكثر من قرن ونصف فطبعه المستشرق الإيطالي الكونت أنطونيو ريزي بشيا –في إيطالية سنة 1818م، ثم أعيد طبعه مع ترجمته الإيطالية سنة 1906م وقد كان المستشرق الهولاندي S. F. Rau (راو) أول من طبعه في مدينة (أوتراخت) بهولندا سنة 1784م مع ترجمة لاتينية.
وكلتا الطبعتين الآن أندر من المخطوط فعسى أن تتاح لهذا الكتاب طبعة عربية متقنة كاملة معتمدة على أصوله الصحيحة.
(1) هدية العارفين ج 1 ص 94.
(2) انظر طبعة القاهرة ص 74- 75.
(3) ج 1 ص 94.
(4) تحت عدد ك 1533.
(6) الاستقصا ج 2 ص 145
(7) المعجم ج2 ص 66 وهي في هذا العصر من عمالة قسنطينة بالجزائر، وذكرها ابن حوقل في كتابه.
(8) اختصار القدح المعلى : بتحقيق إبراهيم الإبياري القاهرة 1959 ص 163- 164.
(9) انظر ج الأول ط الأزهرية ص 480.
(10) ج 1 ص 483.
(11) انظر ص 59 من الغصون اليانعة.
(12) انظر مقدمة المغرب ص 7
(13) انظر مقدمة الكتاب.
(14) تصحيف صواب القيسي.
* دعوة الحق
65 العدد
* منقول عن:
دعوة الحق - أبو العباس التيفاشي
وتاريخ الفكر والحضارة في الإسلام يشتمل على سلسلة طويلة ذات حلقات من الرواد والأعلام. ولكن الباحث المتعمق الذي يريد الربط المحكم بين هذه الحلقات يجد نفسه أحيانا أمام فراغ واسع بين حلقة وأخرى في سلسلتي الحضارة والفكر.
وليس لذلك من سبب سوى أن العناية كانت أولا وبالذات متجهة إلى تدوين تاريخ الدول والملوك وأهل الحظوة والوجاهة حتى إذا اتسعت الآفاق أمام المدونين تناولوا طبقات أهل المذاهب والرواة والحفاظ والنحاة والشعراء والقضاة.
على أن العناية كانت تلحق أحيانا الحكماء والأطباء والفلكيين وبعض رجال الفنون الأخرى.. فنجد من كتب في طبقاتهم وتراجمهم. لكن الشفوف والاعتبار كانا على الدوام في الجانب الآخر.
والسعيد المحظوظ من الأطباء والصيدليين والمهندسين والفلكيين والجوهريين والرحالين والجغرافيين.. هو الذي استطاع أن يكون إلى جانب مهارته في هذه الفنون قد عرف بالفقه أو الحديث أو اللغة أو الشعر ليتخذ كتاب الطبقات ذلك ذريعة لحشره في زمرة الفقهاء أو المحدثين أو أهل اللغة أو الشعراء..!
وأبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي الذي نحاول الحديث عنه اليوم. مع كتابه القيم "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" – أصدق من يمثل هذه الظاهرة التي أشرنا إليها آنفا.
فالذي بين أيدينا من آثار هذا الرجل يدل دلالة واضحة على أنه كان علما من الأعلام ورائدا من الرواد الذين ضربوا بسهم رابح في المعرفة التي جمعها صاحب "هدية العارفين" لمؤلفات التيفاشي(1) تدلنا على أن صاحبها كان موسوعي الثقافة حاول أن يقدم في عصره للباحثين دائرة معارف إسلامية تتناول عدة موضوعات لا تتيسر معرفتها إلا لذوي الاختصاص المتوفرين على خبرة واسعة بعد علوم وفنون..
ولكن ذلك كله لم يكن ليشفع لصاحبنا فيحتل مكانة مرموقة في كتاب من كتب الطبقات التي بين أيدينا.. فقد سكتت عنه سكوتا غريبا وتجاهلت وجوده حتى خيل لبعضهم أنه نكرة في النكرات..
ولولا أن تداركته عناية الله فانتسب في عصره إلى زمرة القضاة على المذهب المالكي لما حظي بهذه السطور التي جاد بها عليه ابن فرحون في كتابه :
"الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب"(2)
فبهذه الصفة وحدها نال عن ابن فرحون لقبين كبيرين هما : إمام وعلامة..!
ثم زاد فتكرم عليه بهذه العبارات :
"واشتغل بالأدب وعلوم الأوائل.. وكان فاضلا بارعا.. "له شعر حسن ونثر جيد.. ومصنفات عديدة في فنون..".
أما المراجع الأخرى –فيما نعلم- فقد وسعها ما وسع معاصريه فلم ينل منها إلا إشارات عابرة لا تطفئ غلة ولا تروي ظمأ.. وبهذا تظل ترجمة ابن فرحون التي بين أيدينا فريدة.. وأصلا .. لمن يحاول الكتابة عن التيفاشي من الباحثين.
والمتتبع لكتاب "كشف الظنون" يجد صاحبه يذكر مؤلفات التيفاشي ويذكر وفاته سنة 651هـ ثم ينسبه تارة إلى القاهرة فيقول : القاهري.. وتارة إلى قفصة فيقول : القفصي .. وتارة إلى تيفاش التي اشتهر بالنسبة إليها فلا يزيد على .. التيفاشي وهكذا.
وجاء صاحب معجم هدية العارفين فجمع قائمة كتب التيفاشي من كشف الظنون وقال في ترجمته :
"القاضي أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي القفصي الطبيب الأديب المتوفى سنة 651هـ إلخ(3)
وقد اطلعت أخيرا على أثرين مخطوطين من آثار التيفاشي وهما :
1) كتاب نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب.
2) كتاب أزهار الأفكار في جواهر الأحجار.
وموضوع الكتاب الأول وصف الحياة الجنسية في محاسنها ومباذلها وصفا مدققا. وشرح نعوت وأوصاف أهل العفة والطهارة.. وأصحاب الرذيلة والفاحشة والشذوذ مما يعد من أغرب الغرائب..! في تصوير المجتمع الإسلامي إذ ذاك..
والكتاب بخط شرقي في المكتبة العامة بالرباط(4) دخل إليها أخيرا.
أما موضوع الكتاب الثاني فهو وصف الأحجار الكريمة المعدنية منها والحيوانية وصفا مدققا يدل على أن المؤلف كان من مهرة الجوهريين وذوي الخبرة الواسعة والتجربة الطويلة في هذا الميدان.
وهذا الموضوع جدير منا بكل دراسة وبحث لاسيما وهو طريقنا إلى معرفة جانب كبير من الحضارة الإسلامية وهو الجانب الذي يتناول رصيد أهل اليسار وأهل السلطة من الثروة التي كانت إذ ذاك لا تعدو نفائس الأحجار مع الذهب والفضة..
كما أن دراسة هذا الموضوع تطلعنا على عدد كبير من الألفاظ العلمية والاصطلاحات الفنية التي كانت متداولة في تلك العصور.. وذلك يؤدي إلى تسهيل مهمة الهيئات والمجامع المهتمة بتعريب المصطلحات العلمية عن لغات أخرى.
لهذا ارتأيت أن أتحدث عن كتاب "أزهار الأفكار" مع الإلمام بالتعريف بصاحبه أبي العباس التيفاشي ومحاولة إثارة البحث عن شخصيته وآثاره.. ولعل في ذلك فائدة إن شاء الله.
ترجمة التيفاشي
هو أبو العباس، وأبو الفضل أحمد بن يوسف بن أحمد ابن أبي بكر بن حمدون بن حجاج بن ميمون بن سليمان بن سعد القيسي. ولاشك أن هذا النسب الطويل مع النسبة إلى قيس يدلنا على أن صاحبنا من عائلة ذات جاه وحسب ونسب شأن العائلات التي اشتهرت بالعلم والقضاء.
ويذكر المؤرخون أن الخليفة عبد المومن الموحدي لما دخل إفريقية عام الأخماس 555هـ مدحه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي بقصيدة كان مطلعها :
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المومن بن علي
فأمره الخليفة بالاقتصار على المطلع لأن فيه كل شيء ...!
فصاحب القصيدة هو عم والد صاحبنا كما يظهر من سلسلة النسب التي قدمنا.
وتيفاش التي تنتسب إليها العائلة يقول عنها ياقوت(6) "مدينة أزلية بإفريقية شامخة البناء، تسمى تيفاش الظالمة ذات عيون ومزارع كثيرة وهي في سفح جبل".
ولد سنة 580هـ- يقول ابن فرحون – بتيفاش.. ويظهر أن أسرته انتقلت إلى قفصة واستقرت بها ولذلك صارت تنسب إليها. ولا نستطيع أن نعرف عن نشأته وتربيته الأولى شيئا سوى أننا نعلم أنه طلب العلم بقفصة وانتقل منها إلى تونس ثم إلى القاهرة وهو صغير السن كما يقول ابن فرحون..(7)
فأخذ العلم عن الطبيب الشهير عبد اللطيف البغدادي.. ثم انتقل إلى دمشق فأخذ عن تاج الدين الكندي.. ورجع إلى وطنه ليتولى منصب القضاء في مدينته قفصة.
ويظهر أن ميل صاحبنا كان متجها إلى دراسة ما نسميه اليوم –العلوم- فطلب في بلاده وفي غيرها هذه –العلوم- وأخذ يستقصي فيها البحث والإطلاع والتجربة والتطبيق..
ولكن صاحب هذه –العلوم- في تلك العصور كان لابد أن يأخذ بنصيب وافر من الثقافة الدينية والأدبية ليكون في صف رجال العلم. ولينال حظه من الاعتبار.. وكذلك فعل التيفاشي. وكذلك فعل غيره من رجال الطب والصيدلة، والفيزياء والكيمياء..
ويترك منصب القضاء في قفصة ليلتحق مرة ثانية بالشرق فيطوف فيه ويزور أمصاره الكبرى في فارس، وأرمينية والعراق والشام وهو لا ينفك يبحث عن الأحجار الكريمة ويقتني ويجرب ويدرس ويتصل بأهل الفن. وقد أشار في مخطوطه الذي بين أيدينا إلى كثير من هذه الرحلات التي قام بها ودون بعض مشاهداته ومعلوماته واتصالاته في مخطوطه المذكور. تارة بالتفصيل وأخرى بالإيجاز..
وأخيرا يتخذ القاهرة وطنا وبها ألف كتابه "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" في تمام سنة 640هـ كما يقول في الباب الرابع عند كلامه على الزبرجد..
وفي القاهرة اتصل بالمؤرخ الأندلسي الرحالة أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد (610هـ 685هـ) اتصال مودة وإخاء وانتفاع. وقد أشار إلى ذلك ابن سعيد نفسه في كتابه –اختصار القدح المعلى- عند ترجمته لابن الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي(8) ومن كلام ابن سعيد نستفيد أن التيفاشي كان بالقاهرة قبل سنة 636هـ.. وهي السنة التي توفى فيها ابن عتبة.. ويمدح أبو العباس التيفاشي ابن سعيد ويعجب إعجابا كبيرا بكتاب –المغرب- فيقرظه بقطعة شعرية احتفظ لنا المقري بها أبو العباس المقري في نفح الطيب(9) كما احتفظ لنا المقري بما وجد مكتوبا على آخر جزء من كتاب المغرب من إجازة ابن سعيد للتيفاشي. حيث يحليه بهذه الحلية : -أجزت الشيخ القاضي الأجل أبا الفضل أحمد بن الشيخ القاضي أبي يعقوب التيفاشي-(10)
ويروي ابن سعيد عن صديقه التيفاشي مرتين في كتابه الغصون اليانعة من محاسن شعراء المائة السابعة ويستعمل كلمة غريبة في حقه وهي :
"وكان الفضل التيفاشي يذكر هذا الرجل –الشاعر التلعفري- ويزعم أنه استفاد من تصانيفه في ضروب الفلسفة(11)"
فكلمة –يزعم- من ابن سعيد هنا في حق التيفاشي لها اعتبارها الخاص.. ولعل الفرق بين الاتجاهين والمزاجين العلمي عند التيفاشي، والأدبي عند ابن سعيد هو الباعث عليها..
ولا أدع الحديث عن علاقة صاحبنا بابن سعيد دون أن أشير إلى أن الدكتور شوقي ضيف كتب ترجمة لابن سعيد في مقدمة تحقيقه لكتاب –المغرب- قال فيها :
"ويرجع من حجه –ابن سعيد- إلى تونس سنة 652هـ وينزل عند صديقه أبي العباس التيفاشي(12)".
ولم يذكر الدكتور مصدره في ذلك..! والمعروف أن التيفاشي توفي بالقاهرة سنة 651هـ كما في ترجمته عند ابن فرحون.. فكيف ينزل عليه ابن سعيد في تونس سنة 652هـ.!
وفي القاهرة أيضا اتصل صاحبنا بوالد ابن منظور صاحب (لسان العرب) الشيخ جلال الدين الخزرجي الإفريقي وقد حدثنا عن هذا الاتصال ودونه صاحب لسان العرب في مقدمة كتابه القيم –نثار الأزهار- المطبوع بالقسطنطينية سنة 1298هـ(13) الذي هو في الحقيقة اختصار وتهذيب لأحد كتب التيفاشي المسمى –فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب– المشتمل على نحو 40 جزءا.
يقول ابن منظور في مقدمة "نثار الأزهار" :
ورأيت الشيخ شرف الدين أحمد بن يوسف التيفاشي العبسي(14) في جملتهم "أصدقاء أبيه" وأنا في سن الطفولة لا أدري ما يقولون ولا أشاركهم فيما يقولونه غير أني كنت أسمعه يذكر للوالد كتابا صنفه أفنى فيه عمره، واستغرق درهه وأنه سماه "فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب".
ثم يمضي ابن منظور في حديثه الطويل عن أبي العباس التيفاشي باعتباره صديقا من أصدقاء والده، ومؤلفا لموسوعة كبرى يريد اختصارها وتهذيبها في كتابه نثار الأزهار..
وقد اتصل صاحبنا بعدد من رجال العلم والأدب والسياسة في عصر هو النصف الأول من القرن السابع الذي كان الشرق فيه زاخرا بعدة شخصيات وثقافات واتجاهات عرف التيفاشي كيف يستفيد منها ويدون مؤلفاته العظمى التي ضاع مع الأسف الشديد جلها ولم يبق منها بين أيدينا إلا نتفا مبعثرة هنا وهناك.. أجلها وأهمها هذا المخطط من كتاب :
أزهار الأفكار في جواهر الأحجار الذي سنلقي عليه بعض النظرات كما أرسلنا بعض الأشعة على مؤلفه فيما قدمناه من سطور..
أزهـار الأفكـار في جواهـر الأحجـار
يقول مؤلفه في مقدمته :
"هذا كتاب غريب الوضع.. عجيب الجمع عظيم النفع. ضمنته في (كذا) ذكر الأحجار الملوكية التي توجد في خزائن الملوك وذخائرهم. وفي ذخائر الرؤساء والوزراء مما لا يستغنى عن اقتنائه ملك كبير ولا وزير خطير، لما يشتمل عليه من عظيم منافع وعجائب الخواص ولم أشرك بها شيئا من الأحجار المتداولة في أيد العوام العارية عن الخواص الجسام والمنافع العظام".
ويذكر محتويات الكتاب وهي :
الباب الأول في الجوهر ومعادنه.
الباب الثاني في الياقوت.
الباب الثالث في الزمرد.
الباب الرابع في الزبرجد.
الباب الخامس في البلخش.
الباب السادس في البنفسج.
الباب السابع في البجادي.
الباب الثامن في الألماس.
الباب التاسع في عين الهر.
الباب العاشر في البازهر.
الباب الحادي عشر في الفيروزج.
الباب الثاني عشر في العقيق.
الباب الثالث عشر في الجزع.
الباب الرابع عشر في المغناطيس.
الباب الخامس عشر في السنباذج.
الباب السادس عشر في الدهنج.
الباب السابع عشر في اللازورد.
الباب الثامن عشر في المرجان.
الباب التاسع عشر في السبج.
الباب العشرون في الجسمت.
الباب الحادي والعشرون في الجماهان.
الباب الثاني والعشرون في البشم.
الباب الثالث والعشرون في اليشب.
الباب الرابع والعشرون في البلور.
الباب الخامس والعشرون في الطلق.
هذه الموضوعات التي شغل المؤلف نفسه بالبحث فيها وأما مناهجه في البحث فقد تناوله في هذه الكلمات:
"وسبيلنا أن نتكلم على كل واحد من هذه الأحجار المعدودة من خمسة وجوه :
- تكوينه في معدنه
- ذكر معدنه الذي يتكون فيه
- جيده ورديئه وخالصه ومغشوشه
- خواصه ومنافعه
- ذكر قيمته وثمنه في أوسط الأمور وأغلب الأحوال"
والمؤلف في كتابه هذا لا يكتفي بالدراسة التقريرية المبنية على سرد الحقائق جزافا. ولكنه يعمد إلى الدراسة التجريبية فيجرب بنفسه ويقيس ويستنبط ويقارن ويذكر الفروق الدقيقة بين جوهر وآخر في اللون والحجم والميوعة والجمود والصفاء والكدرة، والخفة والثقل وقابلية الانصهار وعدمها.. ومن أجل ذلك طاف في العواصم والجبال والصحارى ودخل الأسواق وخالط أهل الصناعات.. وصنع بيده أواني وأدوات من معادن شتى.. كل ذلك يدونه ويتحدث عنه حديث المطمئن إلى مقدرته ومهارته..
وقد حدثنا عن اللازورد وامتحانه وطريقة هذا الامتحان ثم قال في ختام كلامه :
"ولم أنقله من كتابه بل هو من جملة ما وقفت عليه بالتجربة من صحيح كتبنا في الأعمال الصناعية".
ويصف الزمرد وأنواعه فيقول :
"وأصناف الزمرد أربعة : الذبابي والريحاني والسلقي والصابوني. فالذبابي أخضر –مغلوق- اللون جدا، لا يشبه خضرته شيء أخضر من الألوان كلها. حسن الصبغ جيد المائية. وإنما قيل له الذبابي لشبه لونه بالخضرة التي تكون في الكبار من الذباب الربعي الموجود في البساتين. لا في صغاره الموجودة في البيوت. وهو أحسن ما يكون من الخضرة ببصيص..
"وأما بقية الأصناف المذكورة من الزمرد غير الذبابي فإنها نازلة مقصرة عن جميع الخواص الموجودة في الذبابي كالريحاني فإنه –مفتوح- اللون كلون ورق الريحان ودونه السلقي كلون السلق، ودونه الصابوني كلون الصابون ولا قيمة له يعتد بها، وأحسن أصنافه الذي يقرب إلى البياض مع كمدة، ويسمى –العربي وهو موجود في برية العرب في أرض الحجاز..".
هكذا يتتبع المؤلف مادته العلمية بالدرس والوصف والإيضاح. ويعطي الأوصاف الدقيقة لكل حجر أو معدن وذلك يدلنا على أن الرجل كان متمكنا من مادته عارفا بأسرارها سالكا بها طريق الإيضاح والبيان.
"ومما جربته واختبرته ووقفت عليه بالعمل أن حماض الأترج يحل الجوهر إلا أنه يحله خاثرا..".
ويقول عن قطعة من الزمرد حدثه عنها أمين السلطان قائلا : "واشتريت بقوص زمن الملك الكامل قدس الله روحه من رجل من التجار قصبة زمرد في المعدن المباح لبلده من نوع الزمرد الريحاني وكان وزنها اثني عشر مثقالا.
قال : وقد كنت اشتريتها من التجار غير مهذبة بأربعة وثلاثين درهما وحملتها إلى الملك الكامل وهو بدمشق وقومت بدمشق بثلاثين ألف درهم نقرة!!".
فهو اختصاصي في الجواهر لا يفتأ يحدثك عن اتصالاته برجال يهمه ما يهمهم، ويخبرك عما استفاده من خبرة وعلم بالموضوع الذي انقطع إليه وعاش من أجله، وإذ نقل من كتاب فهو لا ينقل إلا من كتب علمية يونانية مترجمة أو عربية موضوعة ألفها أساطين هذا الفن في عصره أو قبله بقليل.
فينقل عن ابن الجزار وأرسطو والفارابي وغيرهم ولكنه يناقش الجميع ويأخذ نتائجه من معلوماته وتجاربه الخاصة به.
وفي الكتاب طائفة من المشاهدات التي تثير إعجابنا بمظاهر الحضارة في ذلك العصر.. منها :
"ورأيت عند بعض ملوك إفريقية صورة ديك من البلور أهداه إليه بعض الأفرنجة. يحمل أربعة أرطال شرابا لا يخل من صورة الديك. ولا يخرم بشيء. حتى أظفاره. وجميعه مجوف. وشاهدت الشراب إذا صب فيه ويدخل في أظفار الصورة. واجتمع في عنق هذه الصورة وسخ. فطلب من يزيله فلم يقدر عليه للخطر المركب في إزالته. فطلب أحد الخراطين فطلب خمسين دينارا معدنية على إزالته. والتزم دركه فتلطف به وأحسن إليه حتى رضي. وأخذه. وأزال ما كان في عنقه بحيث لم يطلع عليه أحد. وأخرجه كأنه لم يكن به شيء"
"وأخبرني بعض أهل غزنة أنه رأى في قصر ملكها شهاب الدين الغرنوي أربع خواب للماء كل خابية تحمل روايتين من الماء من روايا البغال. والخوابي ومحاملها من البلور. والآتية التي تحمل رطلا إذا كانت صافية سالمة من التشعب تساوي ثلاثة دنانير مصرية أو نحو ذلك".
وعند حديثه عن البلور قال :
"وقد ظهر بهذا التاريخ (640هـ) معدن بالمغرب الأقصى بمدينة مراكش حاضرة المغرب. نقي اللون. إلا أنه فيه تشعثا. وكثر عندهم حتى فرش منه ملك المغرب مجلسا كبيرا..!".
هذه نظرات في مخطوط "أزهار الأفكار" لعلها تدلنا –إن كنا في حاجة إلى دليل- على هذا التراث العلمي الذي اشترك في تكوينه رجال وأجيال..
وقد قيل –وأظن ما زال يقال- أن ثقافة العرب وعلوم العرب كانت –أدبية- لا تعرف مجالا غير مجال النظم والنثر ولا تعنى بالدراسات التجريبية والعلمية. ومن هنا وقع إهمال وإغفال الناحية –العلمية- من الحضارة العربية في جهل مرة.! وعن تجاهل مرار..!
لكن هذا الجهل. وذلك التجاهل ليسا إلا بضاعة رخيصة عند بعض الذين يكلفون نفوسهم عناء البحث في مثل هذه الموضوعات.
وأخيرا أشير إلى أن كتاب "أزهار الأفكار" قد عرف في دائرة المستشرقين منذ أكثر من قرن ونصف فطبعه المستشرق الإيطالي الكونت أنطونيو ريزي بشيا –في إيطالية سنة 1818م، ثم أعيد طبعه مع ترجمته الإيطالية سنة 1906م وقد كان المستشرق الهولاندي S. F. Rau (راو) أول من طبعه في مدينة (أوتراخت) بهولندا سنة 1784م مع ترجمة لاتينية.
وكلتا الطبعتين الآن أندر من المخطوط فعسى أن تتاح لهذا الكتاب طبعة عربية متقنة كاملة معتمدة على أصوله الصحيحة.
(1) هدية العارفين ج 1 ص 94.
(2) انظر طبعة القاهرة ص 74- 75.
(3) ج 1 ص 94.
(4) تحت عدد ك 1533.
(6) الاستقصا ج 2 ص 145
(7) المعجم ج2 ص 66 وهي في هذا العصر من عمالة قسنطينة بالجزائر، وذكرها ابن حوقل في كتابه.
(8) اختصار القدح المعلى : بتحقيق إبراهيم الإبياري القاهرة 1959 ص 163- 164.
(9) انظر ج الأول ط الأزهرية ص 480.
(10) ج 1 ص 483.
(11) انظر ص 59 من الغصون اليانعة.
(12) انظر مقدمة المغرب ص 7
(13) انظر مقدمة الكتاب.
(14) تصحيف صواب القيسي.
* دعوة الحق
65 العدد
* منقول عن:
دعوة الحق - أبو العباس التيفاشي