مصطفى عبيد - أماكن روايات نجيب محفوظ اختفت اليوم

[SIZE=6] في ذكرى رحيله الثانية عشرة في 30 آب 2006[/SIZE]
صدقت نبوءة نجيب محفوظ ونجح الزمن في تغيير مدينته
في ذكرى رحيل نجيب محفوظ، بقيت سيرته واختفت أماكن رواياته.


تقف القاهرة بأشهر حوانيتها وشوارعها شاهدة على أزمنة وأحقاب غيرت وجه التاريخ. تبقى حكايات الأديب نجيب محفوظ في رواياته عن جمال البلاد والعباد في العاصمة القديمة أجمل الأوصاف وأدقها. بعد مرور نحو نصف قرن على تلك الحكايات تغير الحال، ولم يعد من أماكن محفوظ التي خلدها في رواياته الكثيرة.

تغيرت الأماكن والملامح والسمات الإنسانية الحاكمة لتتأكد فلسفة نجيب محفوظ، الذي تحل في 30 أغسطس الحالي ذكرى رحيله الثانية عشرة، من أن “الزمان والمكان لا ثبات لهما”.

كتب الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل في الآداب في إحدى رواياته “إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل، كلما تقدم قضاءه، بالخلائق، ويُنفّذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير والتبديل، لأنه ملهاته الوحيدة التي يستعين بها على ملل الخلود، فمنها ما يبلى، ومنها ما يتجدد، ومنها ما يموت ومنها ما يحيا، ومنها ما يبتسم شبابه، ومنها ما يرد إلى أرذل العمر، ومنها ما يهتف للجمال والعرفان، ومنها ما يتأوه لدبيب اليأس والفناء”.

صدقت كلمات محفوظ، وانعكست جمله على أبرز الأماكن التي تناولتها رواياته، واشتهرت بسبب تواجده الدائم فيها. لم تعد بين القصرين، ومنطقة خان الخليلي والحسين، كما وصفتها رواياته. داست عجلات الزمن على أماكن محفوظ، وبدلتها وغيرتها مثلما غيرت سلوك الناس وعاداتهم وتقاليدهم وتوجهاتهم الحياتية وعصفت بكثير من أفكارهم.

تجولت “العرب” في أهم أماكن أديب نوبل باحثة عن آثار صور رسمها، وبقايا وقائع شهدها، وسمات أناس عايشهم، حاولت قراءة ما تغير ومتابعة ما تبدل لتكتشف أن ثمة رتوشا بسيطة هي الباقية لتؤكد أن التغيير فعل كوني دائم.

الأماكن الأكثر شيوعا لدى جمهور ومحبي نجيب محفوظ، هي تلك التي شهدت أحداث رواياته الأولى “خان الخليلي”، و”زقاق المدق”، فضلا عن ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، وهي جميعا أسماء شوارع وأزقة تقع في حي الجمالية بوسط القاهرة، حيث كان يعيش محفوظ.

في حديث شهير له ذكره الكاتب جمال الغيطاني، في كتابه “نجيب محفوظ يتذكر” قال: “إن حي الجمالية ظل يأسره مدة طويلة، وحتى بعد أن غادره، لم يتمكن من فك قيود أسره. في تصوره هناك خيوط سحر غير مرئية كانت تربطه بالحي العتيق”.

على بعد عشرات الأمتار من ضريح الإمام الحسين، عاش الأديب المولود في ديسمبر عام 1911 حياة تقليدية وسط طبقات شعبية متنوعة، وكان شاهدا على تطور المجتمع المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين ومستقرئا حكايات الحواري والأزقة ليرسم شخصية البشر في واحدة من أقدم عواصم العالم العربي.

بين المقاهي

تبدأ الجولة من مقهى الفيشاوي، المكان الأشهر الذي اختلى فيه محفوظ للكتابة والقراءة، وقضى أيامه للكتابة ومجالسة الناس والتحاور معهم والاستماع لحكاياتهم. في أول شارع خان الخليلي من ناحية جامع الحسين، يدلف السائحون إلى المقهى، الذي يقع على اليسار في ممر ضيق ينفتح من خلاله على آخر مواز له.

يبدو المقهى الكبير مميزا بآرائك خشبية تتزين مساندها بالمشربيات، ومرايا كبيرة بتيجان خشبية مبهرة، بينما زُينت الجدران بصور فوتوغرافية ولوحات فنية تُظهر أزمنة فاتت من بينها صور لنجيب محفوظ وهو جالس على المقهى.

يحكي عبدالرحمن أحمد، أحد العاملين في المقهى ممن عاصروا جلسات محفوظ في الستينات من القرن الماضي، كيف كان الأديب الراحل يجلس في أحد الأركان على يمين الداخل، من العاشرة صباحا وحتى الثانية ظهرا، يكتب ويقرأ في هدوء.

قال أحمد لـ”العرب”: “كان الأستاذ نجيب يشرب قهوة دون سكر في فنجان، ثُم يطلب بعده كوبا من الكركدية الساخن، ويُدخن بين ذلك سجائر عِدة، وكان قليل الكلام معنا”.

وأكد أن الأديب الكبير استمع لكثير من حكايات رواياته على هذا المقهى، وبعض الناس في المنطقة تعرف جيدا شخصيات شديدة الشبه بعائلة أحمد عبدالجواد في الثلاثية.

لا تعود شهرة المقهى فقط لأهمية جالسه، لكنها تعود إلى أكثر من مئتي عام، بعد أن أنشأه أحد أعيان بلدة “فيشة” بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، ويدعى علي فهمي الفيشاوي، وتوارث المقهى أبناء العائلة الذين رفضوا عروضا عديدة لبيعه.

وأشار أحمد إلى أن محفوظ انقطع عن المقهى سنوات طويلة، قبل أن يعود في زيارات متقطعة في سنواته الأخيرة، بعد فوزه بجائزة نوبل، وكان بصحبته دائما الكاتب الراحل جمال الغيطاني.

على بعد خطوات من مقهى الفيشاوي، ثُمة مقهى حاول استثمار جلسات محفوظ في الفيشاوي، وهو مقهى لؤلؤة الحسين، فوضع صورا كبيرة وعديدة للأديب على الواجهة في محاولة لإيهام المارة والسياح بأن المقهى كان محلا لارتياد الأديب.

أوضح أحد العاملين في المقهى الجديد، وهو شاب في العشرينات من عمره، رفض ذكر اسمه، علم أنّ نجيب محفوظ أديب عالمي، له الكثير من المعجبين من كافة دول العالم، غير أنه لم يقرأ له شيئا.

أضاف العامل أن محفوظ كان يجلس بين “المقهيين”، ويفاضل بينهما أحيانا، فكلاهما يشبه الآخر إلى حد كبير، وكان يميل إلى المقاهي الهادئة التي تجيد صناعة القهوة، وهو ما وجده في مقهى اللؤلؤة.

يؤكد الخروج من ممر الفيشاوي إلى خان الخليلي، أن تغيرات عديدة مرت على الشارع الذي حاول الأديب الكبير رسمه في رواية له حملت الاسم ذاته، وصدرت سنة 1946.

حي خان الخليلي الذي يعود إلى سنوات الحكم المملوكي لمصر، وأنشأه أمير يدعي جركس الخليلي فوق مقابر الفاطميين، يتكون من شارع واحد طويل، ويتسم بضيق حاناته وأفرعه بسبب معروضات المحلات السياحية على الجانبين، والتي تتنوع بين ورق البردي والتماثيل الصغيرة والتحف الفرعونية وبعض المنتجات التراثية، مثل المفروشات المزينة برسوم فرعونية والعقود المصنوعة من الخرز، وبذات الرقص الشرقي، إلى جانب نوعيات غريبة من العطور والبخور والشموع والأراجيل.

لا يوجد أثر لضجيج الحرفيين، الذي ذكره محفوظ في الرواية من الخان سوى شارع تجاري وسياحي جذاب، بلا صناعة ولا حرفة. اختفى وصف روايات محفوظ عن دكاكين الخطاط والساعاتي وصانع السجاد التي تحدث عنها محفوظ في الأربعينات من القرن الماضي، والباقي هو المشربيات المميزة لنوافذ بنايات الشارع وتمثل سمة غالبة على معظم بنايات حي الجمالية القديمة.

مازالت المقاهي الصغيرة جدا باقية، غير أن أثاثها وديكورها ونظم تعاملها مع الرواد تغيرت تماما، مثلما تضاعفت أسعارها آلاف المرات.

في حضرة الثلاثية

يفضي السير في خان الخليلي، عكس اتجاه مسجد الحسين، إلى الشارع الأطول والأجمل، شارع المعز، العامر بمحلات الصاغة، كما كانت تشير ثلاثية الأديب العالمي، والتي صدرت أولى أجزائها سنة 1956 بعنوان “بين القصرين”، ثُم صدر الجزء الثاني سنة 1957 بعنوان “قصر الشوق”، ثم الثالث في العام نفسه بعنوان “السكرية”.

تحكي الثلاثية قصة عائلة مصرية تقودها شخصية حازمة وقوية هو التاجر الثري السيد أحمد عبدالجواد، في ظل ثورة عام 1919 وما أعقبها من خلال ثلاثة أجيال تعايشت مع تحولات المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.

تظهر في نهاية الشارع قبة نجم الدين أيوب، على اليسار، وفي الناحية المقابلة مسجد السلطان برقوق والذي كان أحد المعالم التي تطل عليها أمينة زوجة أحمد عبدالجواد في رواية “بين القصرين”.

كان التغير الأهم أن الشارع في زمن الرواية كان عامرا بالسكان لكنه تحول إلى شارع تجاري ومزار سياحي حيث هجر معظم السكان الشارع للاستفادة من عروض البيع مرتفعة الأسعار للأغراض التجارية.

لم يبق من الثلاثية سوى لافتة مطموسة، مازالت تحمل اسم سوق بين القصرين، كما حكى عنه محفوظ، غير أنها تُفضي إلى ممر شبه مهجور، عكس ما حكى الأديب عن سوق لا يخلو من خطوات المارة وأصوات الباعة في الحوانيت ودكاكين العطارة في الزمن الملكي.

لا يعرف الكثير من قاطني الشارع، خاصة من الشباب أن الاسم الحقيقي له ليس شارع المعز وإنما بين القصرين، ويخلط البعض بين موضع بين القصرين الحقيقي وبين شارع المشهد الحسيني الذي يسمونه أيضا بين القصرين.

يحكي نبيل سليم، تاجر تحف، ولد في هذا الشارع عام 1955، أن بين القصرين يرجع لوجود قصرين كبيرين أنشأهما القائد الفاطمي جوهر الصقلي عندما أقام مدينة القاهرة، لنساء الأسرة الحاكمة، وكان أحدهما يسمي القصر الشرقي الكبير، والآخر يسمى القصر الغربي الكبير، ومن هنا جاء اسم الشارع.

يكشف أحمد البنا، موظف على المعاش، لـ”العرب” أن رياح التغيير لم تقتصر على أسماء وتضاريس الشوارع والأزقة، إنما امتدت إلى عادات الناس وسلوكهم، وأن زمان نجيب محفوظ لن يتكرر.

يشير البنا إلى أن عادات احترام الكبير والخوف من رب الأسرة، مثلما كان أفراد عائلة أحمد عبدالجواد، يهابونه اندثرت إلى غير رجعة، وأن شخصية والده كانت قريبة الشبه ببطل الثلاثية الأول (عبدالجواد) الذي عرف بالحزم والشدة في تربية أبنائه.

يحفل الانحراف يميناً عبر شارع طويل بكثير من الآثار الإسلامية المتنوعة، ويُفضي بعد دقائق قليلة إلى قصر الشوق، حيث عاش الجيل الثاني من عائلة أحمد عبدالجواد.

تغير الشارع تغيرا تاما وصار شبه مهجور قاصرا على أبنية متهالكة بنيت معظمها خلال الستينات من القرن الماضي. ولا توجد أشجار جميز وتوت وفل، كما حكت الرواية يوما، ولم يعد هناك من وصف الرواية سوى اسم الشارع الذي يتصدر لافتة زرقاء أول الطريق وأخرى باللون نفسه في منتصفه.

ما تبقى من قصر الشوق، لا يتعدى بناية مهجورة، يقول سكان الشارع ترجع إلى العشرينات من القرن الماضي، ويعتقد السكان أن تلك البناية هي قصر الأميرة شوق، والتي سمي الشارع على اسمها، وهو ما لم تتحقق “العرب” من صحته.

يستغرق الانطلاق إلى الجزء الثالث من الثلاثية وقتا أطول، وتقع السكرية في الامتداد الشمالي لشارع المعز، ما يستدعي عبور شارع الأزهر والمرور بشوارع الغورية والخيامية، كي يقطع الطريق سبيل محمد علي باشا على اليسار، ثُم مسجد المؤيد شيخ على اليمين، وباب زويلة في النهاية.

قبل أمتار قليلة من البوابة تشدو السكرية على اليسار، حيث يحمل مدخلها الحجري المعقود لافتة مكتوب عليها “عطفة الحمام” ويظهر بعدها زقاق ضيق يضم مباني بعضها أثري، والبعض الآخر حديث لكنه متهالك.

على اليمين تظهر لافتة تشير إلى أن المبنى الأول في الشارع، هو سبيل نفيسة البيضاء، وهي سيدة ثرية عاشت في عصر المماليك وتزوجت مراد بك حاكم مصر، وشهدت غزو بونابرت للقاهرة وزمنا من عهد الوالي محمد علي باشا.

ما يثير الانتباه أن الكثير من صور نجيب محفوظ في الأماكن التي حكى عنها تلاشت تماما فلم تعد هُناك سيدات بملاءات سوداء يغطين وجوههن ببراقع بيضاء، ولم تعد هناك طرابيش حمراء تغطي رؤوس المارة من الرجال. اختفي مشهد السقاء الذي يدور في الشوارع والأزقة حاملا قراب الماء النقي.



الثلاثاء 2018/08/28 - السنة 41 العدد 11091

* عن جريدة العرب اللندنية
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى