() عندما عرفت كيف أخطو على الجليد وفي جيبي ضمانات ضرورية أوصاني بها رجال الهجرة، حجلت مثل غراب أحوّل على طرقات مزججة حتى تعثرت على أعتاب مكتبة المدينة العامة. وبعد أن علمني باب الدخول بشئ من اللف و الدوران كيف أترك الزمهرير ورائي وأنا أشيد برشاقته الكاملة في استخدام تقنية شبيهة بتقنية الساقية، اذا بي في أجواء صمت وبهرة وانكار كامل لما يدور في الخارج من عصف وضعضعة. سألت نفسي كيف لا يهادن الجليد كل هذا البهاء ودفء المعرفة يوسع لنفسه، هكذا، مكانا ينفي عنه البرودة والبياض!
() قدرت أن أرسل بصري المنخلع في كل أحداب المكان. أبهية فخيمة وأقبية عليمة! مصاعد مجبولة على رقة الحلول حتى لا يصح وصف استخدامها بالركوب! فأنت حينا واقف على مستوى الصحائف و حينا آخر عيناك ترفان لعناوين أثيرة في الروايات اللطائف! أمشاج من المسموع و المقروء و....المحسوس!!
() صاعد بين نظم الترقيم وإحالاتها أومأت بالتحية لمحفوظ و مينا و صالح و للافارقة الافذاذ.... يا سنغور!، ليباغتني محمود محمد مدني و هو يدق
بطوربيده (2) أوتاد حكاية سحرية في فضاء أم درمان، يقول ما قاله الخليل قبله: أن أم درمان هي جغرافيا الروح! وليتني ما تمليت عندهما فكرة الروح في الجغرافيا و لا نزلت من علايل أبروف أوذكرت مقرن النيلين فلقد ترنحت و أنا أطوّف بصري على الوجوه التي أكسبتها غربتها عني أمنة من فردية سميكة عصية على من يهتبل المقاربات مثلي فحرت كيف و أنّى لي أن أجلو لنفسي صورة لمدينتي الجديدة و أم درمان قد أخذت مكانها هنا وفي متن البهاء؟
() ترنحت على الممرات الكثيفة و بي شئ من رهب يدق على أبواب قلبي.
كان الادعى لترنحي دون شك هو أنني وجدت ما هو خاطر على بالي! لم يكن لالتماع الجديد أو نصاعة البهاء دخل بما حدث، ومن ثم سقطت!!
لبرهة خيل لي أنني استمتعت بمرأى جسدي مطروحا على أرض البهو الكبير الذي كنت أتخبط محاولا اجتياز فكرة ما عربدت فوق أديمه. كنت مثلي مثل تلك المراجع الضخمة التي يسقط بها رواد المكتبة أو هم يطرحونها أرضا على ظن التمكن من محتوياتها. كنت مثل نص صرعه التأويل يحوم حوله صوت صافرة الاسعاف المكتوم، القادم عبر الزجاج السميك، المشرئبة خلفه وعود الصقيع.
() قال الطبيب: يحدث، يحدث. نرى عشرات القادمين الجدد أمثالك. الجدير أن الاعراض التي يصفونها لا تنطبق على ما هو موثق، في معظم الحالات!
سألت نفسي أية حالات؟ وإمتثلت لرصد طبي رائع وبلغة سلسة وفي لحظة وقعت عينه على عيني فخطر ببالي ولأول مرة منذ نقلي اليه في سيارة الاسعاف أن هذا الحديث، في حياديته المريحة، ليس حديث طبيب الى مريض والطبيب نفسه أحس بنفس الشئ، فيما يبدو، لكنه استطاع أن يزيد من نسبة اللون الرمادي في شواطئ عينيه الدقيقة مما يساعده في التحرك في اطار الاعراض بالصرامة المطلوبة من طبيب فقال ان ما حدث لي سببه اختلال في كيمياء دمي! اندهشت نوعا فكندا، في هذا، لم تختلف عن مصر لأن الطبيب المصري كان قد قال ان عندي شوية أملاح على سبيل تبسيط الحالة.
فسألت هذا محاولا تسوية المسألة بين كندا ومصر:
- يعني عندي أملاح؟ ?Salts
لكن سؤالي رغم سلامته لغة، لم يبدو مساهمة مقدرة مني في الارتقاء بلغة التشخيص لأنهم هنا، لابد، قد تجاوزوا الاملاح إلى مفهوم الكيمياء الأضخم!
فعدت أسأل الطبيب:
- ما العلاج إذن؟
و يبدو أن إذن هذه قد أذنت له بفتح صفحة جديدة في ما كان يدونه فكتب قليلا ثم نظر الي مليا بعينين غاب عنهما ذلك الرمادي ليحل محله أزرق ملغز
و قال لي: عليك بالراحة الكاملة ريثما تكتمل فحوص الدم. خذ الآن....هذا! وسحب منضدة متحركة لها صوت الكتروني يحاكي نوح النساء الخافت في عزاء ميت و بها أصناف من الصحف والمجلات. نظرت اليه مستطلعا فانتفضت الممرضة التي انضمت الينا على أثر النوح الالكتروني وجذبت بخفة احدى المجلات مفتوحة على صفحة داخلية ومدتها لي. ثم إنتبهت لذلك وقبل أن تعدلها بحيث أراها من غلافها لمحت شيئا فصرخت كالملدوغ: انتظري!
تدخل الطبيب، وهو يقوم من مجلسه، قائلا في صرامة: استرخ! استرخ يا سيد! ثم خرج وحفيف حذائه يذكرني بالجليد المتربص خلف الابواب الذكية.
() وقفت الممرضة وقفة اكلينيكية حائرة تنتظر ما أريد دون أن تغير صفحة المجلة، فقرأت بصوت مسموع والمجلة بين يديها:
رؤى لا تطرف لها عين! نعي.
ابتسمت الممرضة ابتسامة شفاهية محدودة ثم رددت نصيحة الطبيب الذي وصلني هواء بارد سمح به خروجه.
قلت لها: بلى سأسترخي و لكن ليس بقراءة نعي، أليس كذلك؟
تأسفت برقة فسألتها: من هو على أي حال؟ المتوفى؟ و كان قد أثارني عنوان المقال.
ردت باهتمام مفاجئ وصوت هامس: ستانلي كوبريك. مخرج سنمائي مات قبل أن يعرض فيلمه الاخير "عيون مغلقة لآخرها"(3) صرخت بألم و بالعربية هذه المرة:
- يا خي! ستانلي كوبريك مات؟ ثم أطرقت حزينا ومعتملا بأشياء أخر.
ذهلت الممرضة، لا تطرف لها عين، بينما سقطت جفوني أنا مغلقة علي آخرها وانحلت أعضائي وأنا لا أصدق سهولة ارتدادي الى تلك الحالة المعرّفة با ختلال الكيمياء أو شوية الاملاح، حاليا! وتراءى لي شبح الاغماء. انتابتني حالة نوح كتلك التي أبدتها تلك المنضدة اللعينة فرحت أردد عبارة حافظ
الاثيرة: قال ليك..ستانلي كوبريك!!
() بغتة عادت الحياة الى جسد الممرضة فبدت بتكسرات حركتها داخل ردائها الابيض الضيق كأنها قادرة على أن تهش ذلك الحزن الذي رك عليّ وتدفعه عبر ذلك الباب الذي خرج منه الطبيب قائلة له: أخرج، هكذا يا حزن فنحن في كندا!
ولكن لا! حزني لم يكن عميقا فحسب، بل كان ذا مناخ استدعائي يجعلني أسأل أطياف الذاكرة هل علم حافظ بموت صاحبه هذا؟ أم عليّ أن أتصل به أول ما أغادر وعكة الكيمياء المزعومة هذه؟ يجعلني أسأل عن مشهد أو آخر، هل هو كما هو أم أنا لست كذلك؟
تحوّل حزني الى إعتمال سيربك مقاصد هذا الفريق الطبي وربما سيحدث تحوّلا جذريا في مسار علاجهم لي.
() وتماما كما توقعت!
دخل الطبيب، بعد أن استدعته الممرضة هامسة همسا لا علاقة له بفكرة النجدة والنفيرعبر رقائق شفافة. دخل و أرسل لها نظرات ذبذبية قصيرة كدت أسمع لها صليلا، ثم تحدثا برطانة أعجزتني وأوردا اسم المخرج غير مرة لكنه أفصح في قوله باستحالة تفاعلي مع ما قرأت في تلك المجلة والتفت يسألني و قد غيّر لون عينيه مرة أخرى: هل أنت حزين؟
ولم أشأ أن أنكر لا سيما وجسدي صار مدلوقا على الكرسي الوثير بفعل الحالة التي أحدثها خبر الوفاة والجهاد الخاسر الذي تكبدته النفس في استدعاء أصداء ذلك الخبر على نفوس ومشاهد بعيدة يصعب التأكد من وجودها، هنا والآن!
عاد الطبيب يسألني: لماذا أنت حزين؟ هل تعرف هذا الرجل؟ وأشار الى صورة المخرج!
كانت المجلة قد أحتلت موقعا مرموقا فوق المنضدة اياها فادركت إن هذا الاّ تصعيد من الممرضة لن تحس غرابته الاّ اذا قدر لها أن تعرف كيف أنظرأنا لمسألة موت المخرج. أضاف كل هذا غموضا أثيرا للامر ولاول مرة قام السؤال: هل كنت أريد لاحتفالية الصدمة الثقافية أن تقطع شوطا كهذا؟ أم أن وفاة المخرج أمر هام فعلا؟ دعني أفحص الوقائع!
() أذهلتني مكتبة المدينة فعلا. و لكن الدوار أتاني من ناحية حضور أم درمان في قلبها بعد أن ظننت أنه خبا، فسقطت مغشيا على أشواقي. ثم مات ذلك المخرج و هذا أمر سأتهكم من أي محاولة سيقوم بها الطبيب لسبر أغواره. لكن الطبيب، كمان، لن يقبل أي حكاية من شأنها أن تقلل من أهمية الصدمة الثقافية التي قرر أن يؤسس عليها علاجه لحالتي منذ عودته الاخيرة، العاصفة، الى الغرفة وكنت قد لاحظت، في ما مضى من حوارنا، أنه يلتف على هذه الفرضية بالحديث عن الخلل الكيميائي وما إليه مما اربك لون عينيه، ولذلك، وياللدهشة، فلقد توصلت أنا المريض لما سيفعله الطبيب!
فسألته: لماذا إذن تعطيني حقنة مهدئة؟ لماذا التغييب؟
لاح في تلك الشواطئ الزرقاء المرمدة من عينيه لائح استنكار وخرجت من فيه كلمات كأنها صممت لتدخل أنفه، فقال: هذا ما تحتاجه الآن!
ثم شرع في اجرإت خبرتها قبل الآن و ما كنت لأقاوم. لا شكة الابرة ولا ذلك الدفق الوريدي الصاعد، فلقد تكورت عندي حاجة مسيسة لاطفاء مماحكات هذا الواقع التعيس!
كان لابد أن..
.... أفسح مهابط الذاكرة
لأزيز
يقترب...
ويقترب.....
.ويق ترب!
فافتح لي يا زمان!
"السهام الشالت أزيزها معاها
لحقتها صاقعات من لحون ضاريات
وشوف كمان القعقعات
وأسمع الصليل
وأرتال من حشرجات مبهمات!"
مفعول المهدئ يقوى على برد السراديب
(2)
مفعول المهدئ
يفتح كوة على
أم درمان
في ستينيات قرن فات!
ندإت الضحايا،
ارتطام الدفوف،
ثم!
ها هي ذي
أبواق تعزز خطو المنايا،
و المنايا قادمات.
() الوغى يعبر بيتنا!
يعبرنا، عبر ثقوب في الكرتونة المثبتة على النافذة، لم تفلح أعقاب السجائر التي حشرتها أمي أن تمنع عبوره الهادر. كانت تعالج الامر علاجها البائس
ذاك ثم تركض للدفء تحت بطانيتها الشائلة من رائحة دخان الطلح القوية. وفي لحظات، وكالقدر الاكيد، كانت الموسيقى تترك موضوعها لتعزف الاجزاء الاكثر زعيقا هنا في وسط غرفتنا الكابية ثم تنقشع مثل زخة مطر أهوج فوق اناء صدئ.
وكانت أمي تبحلق في الظلام كأنها تنتظر- مثلي- مشهدا بعينه سيشرق على عرش حجرتنا ثم لا تلبث أن تدرك سيجارتها قبل أن يسقط رمادها الذي تطاول وانثنى عائدا في ناره البرتقالية.
أمد يدي في الظلام لألمسها بعد طول تردد، فتستجيب! لم يحدث أن اعترضت ولا حتى في اليوم الأول. لكنها قالت لي يوما بالنهار ان لا أفعل ذلك مع غيرها ولذا كنت آخذها فيذهب بي دخانها الى مشهد جديد.
() لم يكن هنالك ما هو أحب الىّ من الهروع الى البيت واستعادة مشاهد الأفلام التي أراها في دار السينما القريبة. كانت الموسيقى من دار السينما تمتطي رياح الشتاء بحثا عن نظائرها البصرية في ذاكرتي فأستعيد الفيلم على خيوط بطانيتي النافرة. وكانت متعة هذه الهواية الشتوية تتعاظم باضطراد عدد مرات مشاهدتي الحقيقية للفيلم حيث يستدعي الصوت صورته، التي عمل له، من ذاكرتي أنا! لقد شاهدت فيلم العظماء السبعة فعليا أكثر من خمس مرات
وفي البيت، على طريقتي، أكثر من مرة لم أقبل فيها أي تشويش. فقط كنت ألحق باقي السيجارة قبل أن تشفطه أمي وأهرب من أسئلتها الواهنة. كنت أراه ضربا من المشاهدة المجانية الممتعة بينما رآه صديقي استمناءا بصريا! فأفزعني التعبير وما كنت، بعد، بلغت "ذلك" الحلم!
() - قال ليك.. استانلي كوبريك!
قال لي وهو يتطلع في الوجوه باحثا عن أصحابه في الزحام.
لم أفهم ما قاله فسألته: تعني كيرك دوجلاس، الممثل؟ أم من هذا الذي ذكرته؟
قال ونظره لما يزل يتنقل بعيدا عني مما أتاح لي فرصة التأكد من أنه – جادا- يلقي عليّ معلومة جديدة
- كوبريك المخرج!
سألته: كيف عرفت؟ فبدا كأنني أتشكك في معرفته وألقى هو اجابته على عجل ملحقا لها بقراره المفاجئ:
- في آخر الفيلم يكتبون اسماءهم. أسمع، ارجع أنت البيت. سندخل الدور الثاني. يللا!
أندهش قليلا لعدم مناكفتي له في هذا القرار لكنني حقيقة فضلت الرجوع الى البيت وسريعا. فأولا هو قد كذب عليّ لانهم لن يدخلوا الدور الثاني بل سيذهبون للسهر في الجنينة حول أحاديث معقدة وكنت أنا حاضرا طرفا من حديثه لصديقه، ولم يكن حديثهما مشفّرا الاّ قليلا بعبارات يأخذونها من الكتب الشائكة. ثانيا حيرني أنه أضاف اسما جديدا مرتبطا بالفيلم الذي يعرض حاليا وباعزاز واضح له ولمن أسماه محرر العبيد، سبارتاكوس.
() فكرت وأنا أتحاشى الأزقة المظلمة، رغم أنها الأقصر، وفكرت وأنا أغتبط لأنوار السيارات التي تنير طريقي بين حين وآخر من أين عرف اسم المخرج ومن قال إنه مخرج عظيم؟ انه يقول " قال ليك..." عبارة يقصد بها التفخيم.
كانت لهفتي لبلوغ عتبة البيت تقلع بي من خوف غريب ومفاجئ الى فرح، الى وثبة ناقصة، الى احتباس وشيك لانفاسي ثم الى هروب جبان عبر دهليز موحش طويل يقذف بي الى حضن البيت وأمانه.
والآن وقد ألصقت سريري بسريرها وانسحبت داخل بطانيتي، أستطيع أن أقلب الامر على أوجهه. أن أكشف الاسرار.
() - تعشيت؟
جاءني صوتها واهنا وكنت أظنها نامت، فقررت أن أسمعها تنفسا منتظما كي تعفيني من الحديث، وسؤالها في مثل هذه الحالة، لو تجاهلته لدقائق لأعقبه شخير مكدود يفتح أمامي تلك الخلوة التي أنشدها. الخلوة المحضورة بالرؤى. لكن فيلم هذه الليلة أثار فيّ تساؤلات مربرة وانتقل بي من كونه فيلم الى ذلك الشريط البني اللامع ذي الثقوب في جنبيه الذي كنا نحس بفداحة أن تجرفه الرياح عبر ميدان الخليفة فنركض وراءه متسائلين أي فيلم يكون فيه؟ أي ممثل؟ فينتهرنا مدرس الجمباظ واقفا بالشورت والنظارة السوداء: بس خلاص يا شطار!
أوغلت أمي في نومها و أصوات "اسبارتاكوس" من طعان وصليل وقعقعات تترى دون أن يخرج لملاقاتها معادل بصري من سراديب ذاكرتي وإن خرج، فثمة شخص ليس من الفيلم في شئ، أقول، شخص في ثياب أفرنجية يتجول تحت السيوف غير آبه لصليلها!
وجدتني اتقلب هكذا لا أدري أي صفحة يأتيني فيها النوم، تتفلت مني الرؤى نحو زوايا غامضة لكنها ناضحة بمعان جديدة مستغلقة.
() وخفتت الاصوات، بعثرها اشتداد الريح. أدركت من همهمات نائية ونداءات غائرة متداخلة أن حشد المشاهدين قد غادر دار العرض. لكنه لن يعود، بل هو مع اصدقائه القادمين من دور عرض أخرى، من العرضة، بانت وحي البوستة في برنامج أعرف بعض أسراره من بعيد، مسرحه تلك النجائل المسوّرة بنبات التمر هندي المشذّب بعناية من قبل البلدية وكانت هذه النجائل تفصل شطرى شارع العرضة وتشكّل منتزها غريب الوجه والتكوين.
هنالك كانوا يتبادلون الآراء والكتب أو خلاصتها وأغلبهم اذا عرفوا موضوع الكتاب شفاهةّ تحدثوا عنه حديث العارف المتمحص. هذه الكتب لم تكن في نظري الآ مصدر قلق وتوترات فهي إما ثمار محرمة أو هي نادرة ومتنازع على ملكيتها، يأتي الناس للسؤال عليها كسؤالهم عن طفل تائه ورغم كل هذا، فالواحد من هذه الكتب تراه قابعا على التربيزة فتحس له هيبة، بغض النظر عن حجم الفائدة التي يمكن أن تجنيها اذا أنت تجشمت فك رموزه، و المعرفة بهذه الكتب المتحركة عبر نجائل وحدائق أم درمان وحواريها بعد العاشرة مساء، تضعك في مرتبة متميّزة أوهكذا قالوا ولكن حافظ لم ير أميّز من مرتبة سربره فكان يضع الكتب تحتها، كلما سحبتها أمي، ظنا، أن مكانها الأرفف مع كتب والدي الصفراء، أسرع هو يعيدها تحت مرتبته مجنبا لنا كارثة أصطفاف التفاسير والسيّر النبوية مع أعمال ماركس وسارتر! وحالة حشر الكتب هذه كانت، أصلا، عند والدي، يجعل بها الأوراد أقرب ما تكون اليه، تحت المرتبة، حتى تداخل لون صفحاتها الصفر مع مكونات نسيج مرتبته المبتلة بفضل هوايته في بخ الماء على جسمه!
() خاطرآخر، يتعلق بقصة الكتب، أشرق علىّ فأرسل جفنيّ ينفتحان على سعتيهما. أزحت عني غطائي محاذرا ألاّ يحيد عنقريبي عن "كوز" وضع
تحت رجله لقصر فيها. وتحسست طريقي خارجا من الغرفة.
كانت ليلة داجية خرجت لها النجمات كلها ودنا بعضها يسمعنني لغطا، لكن انفلات ذلك المذنب من خلفها جعلني أركض فزعا لادخل الغرفة الأخرى محتبس النفاس!
وكان سريره في تلك الغرفة، التي أغاظني إتخاذه لها غرفة له بعد أن كانت مهملة، عنقريبا(3) ذو أرجل سمينة ملفوفة ومطلية بالجملكة عليه مرتبة قديمة، ثقيلة الوزن، عليها خرائط من ماء لكونه يتلكأ في إدخالها من الحوش في الليالي المطيرة، مستمتعا بأحدى هواياته: معاقرة الرذاذ!
الخاطر الذي هلّ عليّ وأرسلني، كمن يمشي في نومه، كان يقوم على فرضية أن الحل لأي معضلة يكون دائما هناك وما على المرء الاّ أن يقوم يشوف حكايته! وأسرار هذا التحول الواضح في كلامه واهتماماته، أسرار هذه المعرفة اليقينية عن ثورية سبارتكوس وثورية المخرج الذي أختار أن يمجده، لابد أنها ترقد هنا، تحت هذه المرتبة، وفي كتاب ما.
() وقفت فوق المرتبة أستجمع قواي وأصرف عن ذهني المخاوف بأن شيئا آخر ينتظرني تحت المرتبة من قبيل الثعابين والعقارب. أمني نفسي بمرأي كتب في طبعات بيروتيه على ورق حائل اللون، خشن وبأغلفة مصقولة ملوّنه، لها نفس تلك الرائحة الأثيرة التي كنت أشمها من كتب والدي الصفراء.
لدهشتي، لم يكن تحت المرتبة أي كتب! لكأنها إنقلبت ثعابين وأسرعت تختبئ في أركان الغرفة. كانت هنالك قصاصات بها أسماء وعناوين وهذه الورقة
المنزوعة من مجلة وعليها قائمة باسماء ممثلين ومخرجين أمريكيين يقدمهم السطر الأول من الورقة على أنهم يساريين. لم يكن من بينهم، قال ليك، ستانلي كوبريك!! لماذا هو ليس بينهم وأين ذهبت الكتب؟
عدت الى مرقدي أدخر أسئلتي ليوم جديد .
(3)
أتاوا 1999
أيقظتني الممرضة بتحية الصباح وقالت: يمكنك الذهاب ا
وكانت هي معي!
ولم يك هنالك جليد على الطرقات!
لم أمكث بالمستشفى حتى الربيع، طبعا، كلها ساعات حدث فيها انسحاب الجليد وما أدراني؟
لعلها طبيعة الأشياء هنا!
وكانت هي واجمة، تسألني وقد بدا لها أني بخير: هل أنت بخير؟ هنالك خبر هام!
وطبعا كنت بخير. كانت هناك نشوة انقشاع الجليد واندحار ذ لك الطبيب الذي لم ير ما رأيت و لاسمع الاّ ما لم أسمع فأخلى سبيلي تقديرأ منه لبلاء حسن أبليته في موضوعة الصدمة الثقافية وعكسها. أما نتائج فحص كيمياء دمي فقد اتفقنا أنّ له أن يقرأها على ضوء أي علم آخر عدا الطب!
قلت لها معتقدا أنني أنقل لها أهم ما حدث: طبعا بخير. ولكن هل تعرفين؟ لقد مات شخص مهم!
توقفت هي كأنما لتخفي نحيبا أنكرته دواخلي.
قلت لها: مات شخص مهم جدا والله!
سألتني وقد طغت الدهشة على إرتعاشها: من؟
لوهلة تبينت وهم انقشاع الجليد فأسرعت أستدفئ بالقول: واحد صاحب حافظ أخي، مخرج سنمائي! لابد أن أكتب لحافظ!
قاطعتني:
- تعيش انت!
تجاوزت عبارتها لمدالق دمعها فاذا بها أخاديد تلوى عبرها رجع سؤالي:
- حافظ؟
أومأت لدمعها. تصدعت، وإنداح منها سائل الاحزان.
قلت: يا الهي... متى حدث هذا؟
قالت: اتصلوا ليلة الامس... .
حط نظري فوق صندوق بريد منتصب يقاوم هامه الجليد. تذكرت أنني طلبت من الممرضة أن تعطينى نسخة من مقال التأبين ذاك و لكنني نسيت أن آخذها. عدت أسألها والنفس تدرأ عن نفسها وطأ الفراق:
- هل أنت متأكدة؟ حافظ؟ لقد كان معي ليلة الامس؟.
بكيت وأنا أحكي لها ليلة معراجه تلك ويزداد إحساسي بما حولي من عصف وضعضعة.
كان الجليد باهرا
وكنت أنت حاضرا
وكانت الرؤى كذلك
وليس بعد الآن ما أبثه اليك،
ليس بعد الآن،
سدت المسالك!
حتى الردى سبقتني اليه، تعرفه
وإن يقال عنك هالك. (5)
كتبت في أتاوا 1999ـ2003
حاشية:
(1) العنوان إقتباس وترجمة لعنوان مقال بالانجليزية (Unblinking Visions) في تأبين المخرج السينمائي ستانلي كوبريك.
(2) إشارة إلى رواية "جابر الطوربيد" لمحمود محمد مدني.
(3) Eyes Wide Shut آخر أفلام المخرج المشار إليه أعلاه
(4) سرير.
(5) أبيات كتبتها في نعي شقيقي حافظ مدثر.
* sudan4all