دريني خشبة - علي محمود طه.. شاعر الفن والجمال

لقد افتتحت فصولي هذه عن علي محمود طه بأنه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. ولقد كنت أعنى ما أقول حينما افتتحت فصولي هذه بهذا الكلام. كنت أعني أن أقول إن الشاعر علي محمود طه هو شاعر بحتري يقول شعراً فيقع في فؤاد مصر الحديثة شدواً ويقع فيه غناء. . . إن الديباجة البحترية في الشعر العربي هي أصلح الديباجات للغناء. إن كل كلمة من كلماتها موزونة ومقدورة ومجودة. . ألم يقولوا إن البحتري أراد أن يشعر فغنى؟ لماذا قالوا هذا الذي قالوه؟ إنهم قالوه لما نقوله اليوم في شاعرنا المصري الرقيق. لقد زعم بروكلمان الألماني في كتابه (تاريخ التأليف العربي) أن علي محمود طه يدين للرومانتيك الفرنسي في القرن التاسع عشر - وهو الاتجاه الخيالي الفني والقمي والعقلي - وأنه انتفع في اطراد بما تأثر به في خلق فن قوي في ديوانه. ونحن لا يعز علينا أن يتأثر شعراؤنا بالمذاخب الأدبية التي تغمر الشرق أو الغرب، ففي هذا التأثر دليل من الحيوية والاتصال بركب الحياة والاستجابة للعالم الخارجي، ولكن الذي يعز علينا هو هذا التجريد من الأصالة الذي يرمينا به مؤرخو الآداب الأجانب مهما مدحونا بعد ذلك وأثنوا على شاعرية شعرائنا وأدب أدبائنا. إن علي محمود طه وغير علي محمود طه من الشعراء المصريين إن كانوا قد تأثروا بالمذاهب الأدبية الخارجية إلا أنهم لا يدينون لهذه المذاهب بتلك الأصالة التي هي جزء من الطبع المصري الشاعر، والتي تجري بكل مقوماتها في الجبلة المصرية مذ عرفت مصر الفنون والعلوم والآداب، وقد عرفتها قبل غيرها من الأمم. . . إن النزعة الرومانتيكية التي ينزع إليها أكثر شعرائنا، بل شعراء العالم العربي الأماثل ليست بضاعة واردة، بل هي طبيعة هؤلاء الشعراء التي طبعهم الله عليها، كما طبع عليها شعوب البحر المتوسط في الشرق والغرب والشمال والجنوب، هذه الشعوب التي رزقها الله تلك الأمزجة الرومانتيكية المرهفة المولعة بالغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير والبلاغة البيانية وسائر الفنون التي تفتقر إلى هذا المزاج الرومانتيكي. ولقد حولت بعض الأسباب الدينية شعوب العالم العربي، ومعظمها من شعوب البحر المتوسط، عن النحت والتصوير قروناً طوالاً؛ فانصرفت طاقة هذه الشعوب الوجدانية كلها إلى الفنون الأخرى وفي مقدمتها الشعر فأنت فيه بالمعجز والمطرب كما يقولون، وخرجت القصائد من قرائح الشعراء المصريين والشاميين والعراقيين راقصة معجبة في العصر الحديث، كما كانت تخرج من قبل في الشرق العربي وفي المغرب الأندلسي والمغرب الأقصى راقصة معجبة، والمزاج الرومانتيكي بجميع مقوماته مزاج أصيل في جبلة شعوب البحر المتوسط، تلك الشعوب التي اخترعت أديانها قديماً من الخيال الخالص، والتي وضعت أصول فنونها على أسس وجدانية تشبه الشعر إن لم تكن الشعر المجسم نفسه. ومن الناحية القومية، فالوطنيات التي نشأت على شواطئ هذا البحر هي من أقدم الوطنيات في التاريخ أن لم تكن أقدمها جميعاً. ولقد كانت الوطنية تمتزج بالدين في مصر القديمة وعند اليونان والرومان، وأسطورة البقرة هاتور والإله حابي إله النيل هي أسطورة مشهورة. وإذا كان لعلي محمود طه شعر قومي فلجميع الشعراء المصريين أشعار قومية، بل نستطيع أن نقرر أن أكثر من نصف الشعر العربي الحديث قد قيل في مناسبات قومية. وواجبنا عند ما نقرر هذا ذكر شاعر قوميتنا الأول المغفور له حافظ إبراهيم الذي كان ولا يزال له قرناء في الوطنية في جميع الأقطار العربية

وعندي أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، الغناء الجميل الذي توزن له الألفاظ وتستجاد البحور وتسترق القوافي. ولو لم يعن الأستاذ عبد الوهاب أغنية الجندول لغناها غيره من مطربي العصر الحاضر أو من مطربي العصور المقبلة، وليست الجندول وحدها هي الجديرة بغناء عبد الوهاب، بل إن من نظمه ما يوشك أن يغنى نفسه. فما بال مطربينا نائمين عن هذا الكنز الثمين؟ إن من الأمية أن يهمل مطربونا غناء قطع علي محمود طه الخالدة: بحيرة كومو؛ خمرة الرين، أغنية ليالي النيل، كأس الخيام، وكلها في ليالي الملاح التائه؛ وقبلة، والنشيد، وميلاد شاعر وهي في الملاح التائه؛ وليالي كليوبطرة، وسارية الفجر، وأغنية الحب، وخمرة الشاعر، وزهراتي، وراقصة الحانة، والشاعر، وعاشقة، والكرمة الأولى، وحلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد، وعام جديد، وكلها في مجموعته (خمر وزهر) فأي شاعر يملك هذه الثروة من المنظومات الغنائية الساحرة يجهله المغنون في وطنه كما يجهل المغنون في مصر علي محمود طه برغم ما لفتهم إليه المطرب الفنان محمد عبد الوهاب؟

ومع هذه المنظومات الكثيرة التي اخترناها هنا من مختلف دواوينه، فإن قصائده الباقية تكاد تغنى نفسها كما قدمنا. إنها قصائد غر نسمع لشجوها جرساً يخرج من صميم أبياتها فيترقرق في سمعك كرنين الذهب. ولعل الذي يكسبها هذه الميزة هي تلك الشاعرية الصادقة التي تتجلى فيها جميعاً، والتي يظنها القارئ تناقضاً في شخصية علي محمود طه، أو تناقضاً في آرائه ومعتقداته، إذ كيف تعلل ما جاء في قصيدته (الله والشاعر) مثلا، أو في ثنايا (أشباح وأرواح) من تمرد على الله وعلى البصيرة، وضرب في صحراء العقل الشاك، وهذا الإيمان العجيب الذي يبهرك نوره في قصائد (حلم ليلة الهجرة، وليلة عيد الميلاد، وعلام جديد)

إنك تقرأ من منظومته الرائعة (الله والشاعر) هذه الأبيات يخاطب بها الله:

أمنذري أنت بيوم الحسابْ؟ ... ولأيمي أنت على ما جرى؟
رحماك ما يرضيك هذا العذابْ ... لطَيع لم يعص ما قُدِّرا!
ما كنت إلا مقلما رُكِّبتْ ... غرائزي، ما شئت لا ما أشاءْ
فلتجزها اليوم بما قدَّمتْ ... وإن تكن مما جنته براءْ
تشككت نفسي بما تنتهي ... إليه دنياها وماذا تكون
مضت فما آبت بما تشتهي ... من حيرة الفكر وهجس الظنون

فتشعر أن أبا العلاء والخيام يختبئان في هذه النفس الحائرة لكنه سرعان ما يرد إليك الطمأنينة إذ يخبرك أنه شاعر، وأن صناعة هي رد الطمأنينة إلى القلوب الشاكية، ومسح الدموع عن العيون الباكية!

ها أنذا أرفع آلامه ... إلى سماء المنقذ الأعظم
أنا الذي ترسل أنغامه ... قيثارة القلب وناي الفم!
من عبراتي صغت هذا المقالْ ... ومن لهيب الروح هذه القلم
ملأت منه صفحات الليالْ ... فضُمّنت كل معاني الألم أنا الذي قدَّسْت أحزانه ... الشاعر الباكي شقاء البشر
فجرَّت بالرحمة ألحانه ... فاملأ بها يا رب قلب القدر

ولو تفضل القارئ فرجع إلى بقية المنظومة في (الملاح التائه) لاطمأن على هذا الفؤاد الحيران، ولعرف أن حبة قبس من الإيمان، فإن لم يجد مصداق ذلك فليقرأ حلم ليلة الهجرة، وعام جديد، وعيد ميلاد، ليشهد كيف تصدق شاعرية علي محمود طه في كل ما تتغنى به من فصول تلك الحياة. إن ميزة شاعريته الصدق في كل ما تقول، فهي كالروح الذي يتدفق في الجسم الحي، وهي لا تتدفق حكمة كما كانت تتدفق شاعرية المتنبي، ولا فلسفة وتشاؤماً كشاعرية أبي العلاء والخيام ولا وصفاً للطبيعة واندماجاً فيها كشاعرية ذي الرمة مثلاً لكنها تتدفق غناء كشاعرية البحتري. ولقد عددنا بعض منظومات علي محمود طه الغنائية الرائعة، ونرجو ألا يحكم أحد علينا بالمغالاة قبل أن يرجع إلى دواوين الشاعر ليراجع هذا المنظومات البديعة، وليجيل فكره في هذا الذي نقوله، ليره بعد ذلك أننا غير غالين ولا مبالغين في شاعرية علي محمود طه التي تترقرق سحراً كما غناء. . . حتى في منظومات الألم والأسى. . . أجل. . . إنها تترقرق سحراً وغناء حتى منظومات الألم والأسى. . ومن ذا الذي يقرأ منظومته (الموسيقية العمياء في ليالي الملاح التائة، ولا يسمع إلى ألحان الأنين المكبو يخفق بها قلبه كما تضج بها روحه؟ اسمع أيها القارئ:

إذا ما طاف بالأرض ... شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أنّت الريحُ ... وجاش البرق بالومض
إذا ما فتح الفجر ... عيون النرجس الغضّ
بكيت لزهرة تبكي ... بدمع غير مرقض

أقرأها يا صديقي القارئ الشاعر في ليالي الملاح التائه، واقرأ الأغنيات التي أومأت إليها لتصدق أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، ولتصدق أن علي محمود طه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. . .

(يتبع)

دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 553
بتاريخ: 07 - 02 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى