بسم الله الرحمن الرحيم
بالله نستعين، وإياه نستهدي، وعليه نتوكل.
إنّ لكل نوعٍ من العلم أهلاً يقصدونه ويُؤْثرونه، وأصناف العلم لا تُحصى، منها الجزلُ ومنها السَّخيف. وإذا كان موضع الحديث على أنّه مُضحكٌ ومُلهٍ، وداخلٌ في باب حدّ المزج، فأُبدلت السَّخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وُضع على أن يَسُرَّ النفوس يكرُبُها ويغُمّها.
ومن كان صاحب علم ممرَّناً موقَّحا، إلف تفكير وتنقيب ودراسة، وحلف تبيُّن، وكان ذلك عادةً له، لم يضره النَّظرُ في كلِّ فنٍّ من الجدّ والهزل؛ ليخرج بذلك من شكل إلى شكل. فإنَّ الأسماع قد تملُّ الأصوات المطربة، والأوتار الفصيحة، والأغانيَّ الحسنة، إذا طال ذلك عليها.
وقد رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: " إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل مخافة أن أحمل عليها من الحقّ ما يُملُّها " .
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كلِّ شيءٍ أحسنه " .
ورُوي عن الشَّعبي أنه قال: " إنّ القلوب تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة " .
وبعض من يُظهر النسك والتقشُّفإذاذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع.
ولو علم أنَّ عبد الله بن عباسٍ أنشد في المسجد الحرام وهو مُحرمٌ:
وهُنَّ يمشين بنا هميسا ... إنْ تصدُقِ الطَّيْرُ ننكْ لميسا
فقيل له: إنَّ هذا من الرَّفث! فقال: إنما الرَّفث ما كان عند النساء.
وقول عليٍّ رضوان الله عليه ودخل على بعض أهل البصرة، ولم يكن في حسبه بذاك، فقال: من في هذه البيوت؟ فقال: عقائل من عقائل العرب. فقال: " من يَطُلْ أيرُ أبيه ينتطْق به " .
فعلى عليٍّ في التَّنزُّه يُعَوَّل.
وقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه لبُديل بن ورقاء يوم الحُديبية، وقد تهدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عضضت ببظْر اللات، أنحنُ نخذُله؟! " .
وقول حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه: " وأنت يا ابن مقطِّعة البُظور ممن يكثِّر علينا! " .
وحديثٌ مرفوع: " من عذيري من ابن أمِّ سباع مقطَّعة البُظور " .
ولو تتبَّعت هذا وشبهه وجدته كثيرا.
وإنما وُُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألاّ يُلفظ بها ما كان لأوّلِ كونها معنىً، ولكان في التَّحريم والصَّون للُغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منها.
وقد أصاب كلَّ الصَّواب من قال: " لكلِّ مقامٍ مقال " .
ولو كان ممّن يتصوَّف ويتقشَّف، علم قول امرأة رفاعة القّرظيّ تَجْبَهه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محتشمة: إنّي تزوّجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنّما معه مثل هُدبة الثَّواب، وكنت عند رفاعة فطلَّقني - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على التبسُّم حتى قضتْ كلامها - فقال: " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتَّى تذوقي من عُسيلته ويذوق من عُسيلتك " . ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها لعلم أنّه على سبيل التَّصنُّع والرِّياء.
ولو سمعوا حديث ابن حازمٍ حين زعم أنَّه يُقيم ذكره ويصعد السُّلَّم وامرأته متعلقة بذكره حتَّى يصعد.
وحديث ابن أخي أبي الزِّناد إذْ يقول لعمِّه: أنْخَرُ عند الجماع؟ قال: يا بُنيَّ إذا خلوت فاصنع ما أحببت. قال: يا عمِّ، أتنخرُ أنت؟ قال: يا بنيّ، لو رأيت عمَّك يجامع لظننت أنّه لا يؤمن بالله العظيم!.
وهذان من ألفاظ المُجان.
ورُوي عن بعض الصَّالحين من التابعين رحمه الله، أنه كان يقول في دعائه: اللهمَّ قوِّ ذكري على نكاح ما أحللت لي.
ونحن لم نقصد في ذكرنا هذه الأخبار الردَّ على من أنكر هذهذ الأمور، ولكنَّا لما ذكرنا اختصام الشِّتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضَّأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللاَّطة والزُّناة، وذكرنا ما نقل حُمَّال الآثار وروتْه الرُّواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان في بعض البطالات، فأردنا أن نقدِّم الحُجَّة لمذهبنا في صدر كتابنا هذا.
ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتغ ويُردي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدُّنيا برحمته.
قال (صاحب الغلمان): إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية إذا وُصفت بكمال الحسن قيل: كأنَّها غلام، ووصيفةٌ غلامية.
قال الشاعر يصف جارية:
لها قدُّ الغلام وعارضاه ... وتفتير المبتَّلة اللَّعوبِ
وقال:
فطِبْ لحديثٍ من نديم موافقٍ ... وساقيةٍ بَيْنَ المُراهقِ والحُلْمِ
إذا هي قامت والسُّداسيَّ طالها ... وبين النَّحيف الجسم والحسن الجسم
وقال والبة بن الحُباب:
وميراثيَّة تمشي اختيالاً ... من التكريه قاتلة الكلام
لها زيُّ الغلام ولم أقسْها ... إليه ولم أُقصِّر بالغلامِ
وقال عُكاشة:
مطمومة الشَّعْر في قُمصٍ مزرَّرةٍ ... في زيّ ذي ذكرٍ سيماهُ سيماها
وأكثر من قول الشاعر قول الله عزّ وجلّ: " يطوف عليهمْ غلمانٌ لهمْ كأنهم لؤلؤ مكنونٌ " وقال تبارك وتعالى: " يطوف عليهم ولْدانٌٌ مُخلَّدون. بأكوابٍ وأباريق " . فوصفهم في غير موضعٍ من كتابه، وشوَّق إليهم أوْلياءه.
قال (صاحب الجواري): قد ذكر الله جلَّ اسمه الحور العين أكثر مما ذكر الولدان، فما حجَّتك في هذا إلا كحجَّتنا عليك.
ومما صان الله به النِّساء أنَّه جعل في جميع الأحكام شاهدين: منها الإشراك بالله، وقتل النَّفْس التي حرم الله تعالى؛ وجعل الشهادة على المرأة إذا رُميت بالزِّنى أربعةً مجتمعين غير مفترقين في موضعٍ، يشهدون أنَّهم رأوه مثل الميل في المُكحُلة. وهذا شيءٌ عسير؛ لما إراد الله من إغماض هذا الحد إذ جعل فيه الشَّدخ بالحجارة.
وإنما خلق الله الرِّجال بالنساء.
وريح الجارية أطيب، وثيابها أعطر، ومشيتها أحسن، ونغْمتها أرق، والقلوب إليها أمْيل. ومتى أردتها من قُدَّامٍ أو خَلْفٍ من حيث يحسن ويحلّ وجدت ذلك كما قال الشاعر:
وصيفةٌ كالغلامِ تصلح لل ... أمرين كالغُصن في تثنِّيها
أكملها اللهُ ثم قال لها ... لما استتمَّت في حُسنها: إيها
قال: ونظر بعض الحاجِّ إلى جاريةٍ كأنها دمية في محراب، قد أبْدت عن ذراعٍ كأنه جُمارة، وهي تكلَّمُ بالرَّفث، فقال: يا هذه، تكلَّمين بمثل هذا وأنت حاجَّة! قالت: لست حاجّة، وإنما يحجُّ الجمل، ألست تراني جالسةً وهو يمشي! قال: ويحك، لم أر مثلك فمن أنت؟ قالت: أنا من اللواتي وصفهنَّ الشَّاعر فقال:
ودَقّت وجَلَّت واسبكرّت وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنَّتِ
قال (صاحب الغلمان): إنّ أحداً لا يدخل الجنّة إلا أمرد، كما جاء في الحديث: " إن أهل الجنّة يدخلونها جُرْداً مكحَّلين " . والنِّساء إلى المُرْدِ أمْيل، وله أشهى، كما قال الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأً ... فقد الشَّباب وقد يصلْن الأمردا
وقال امرؤ القيس:
فيا رُبَّ يومٍ قد أروحُ مرجَّلاً ... حبيباً إلى البيض الأوانسِ أملسا
أراهن لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال عَلْقمة بن عبدة:
فإنْ تسألوني بالنِّساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخُ الشَّباب عندهنَّ عجيبُ
قال (صاحب الجواري): فإن الحديث قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " حُبِّبت إليَّ النِّساء والطِّيب، وجعل قُرَّة عيني في الصلاة " . ولم يأت للغلمان مثل هذه الفضيلة. وقد فُتن بالنساء الأنبياء عليهم السلام، منهم داود، ويُوسف، عليهما السلام.
قال (صاحب الغلمان): لو لم يكن من بليّة النساء إلاّ أنّ الزِّنى لا يكون إلاّ بهنّ، وقد جاء في ذلك من التغليظ ما لم يأتِ في غيره في الكتاب نصّاً، وفي الروايات الصحيحة. قال الله تبارك وتعالى: " ولا تقْربوا الزِّنى إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً " ، وقال: " ولا يزْنون ومنْ يفعلْ ذلك يًلْقَ أثاماً. يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهاناً " ، وقال: " الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ " . وقد جعل بينهما إذا لم يكن شهودٌ التلاعن والفرقة في عاجل الدُّنيا، إلى ما أعدَّ للكاذب منهما من اللَّعن والغضب في الآخرة.
قال (صاحب الجواري): ما جعل الله من الحدّ على الزَّاني إلاّ ما جعل على اللَّوطيّ مثله. وقد رُوي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؟، أنّه أُتي بلُطيٍّ، فأُصعد المئذنة ثم رُمي منكِّساً على رأسه، وقال: " هكذا يُرمى به في نار جهنَّم " .
وحُدِّث عن أبي بكر، رضي الله عنه، أنّه أُتي بلوطيٍّ فعرقب عليه حائطاً.
وحديث أبي بكر أيضاً رضي الله عنه، أنَّ خالد بن الوليد كتب إليه في قومٍ لاطُوا فأمر بإحراقهم.
وأحرقهم هشام بن عبد الملك، وأحرقهم خالد بن عبد الله بأمر هشام.
وفي الحديث مجاهد أنَّ الذي يعمل عمل قوم لُوطٍ لو اغتسل بكلِّ قطرةٍ من السَّماء وكلِّ قطرة في الأرض لم يزلْ نجساً.
وحديث الزُّهريّ: " اللُّوطيّ يُرجم، أُحصن أو لم يُحصنْ؛ سُنّةٌ ماضيةٌ " .
ورُوي عن الحكم بن عُتَيْبَة أن عليّاً رحمه الله رجم لوطيّاً وقال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذَّكرين يلعب أحدهما بالآخر " .
وحديث أنسٍ قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤنَّثين من الرجال، والمذكَّرات من النساء " .
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنَّثاً من المدينة يقال له " هيتٌ " وسمعه يقول لأمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا فتحتم الطَّائف فعليك بادية بنت غيْلان، فإنها هيفاءُ شموع، إذا قامت تثنَّت، وإذا تكلَّمت تغنَّتْ، تُقبل بأربعٍ وتُدبرُ بثمانٍ، وبين رجليها كالإناء المكفوء، فزوِّجيها عُمر ابنك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تغلغلت في النظر يا عدوَّ الله، وما ظننتك من ذوي الإربة! " . فنفاه عن المدينة.
قال (صاحب الغلمان): من عيوب المرأة أنّ الرجل إذا صاحبها شيَّبتْ رأسه، وسهَّكت ريحه، وسوَّدت لونه، وكثر بوله. وهنَّ مصايد إبليس وحبائل الشيطان، يُتعبن الغنيَّ، ويكلِّفن الفقير ما لا يجد. وكم من رجلٍ تاجرٍ مستورٍ قد فلَّسته امرأته حتَّى هام على وجهه، أو جلس في بيته، أو أقامته من سوقه ومعاشه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النِّساء " .
قال (صاحب الجواري): قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تزوَّجوا فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأمم " .
وجاء عنه: " إذا قضيتُم غزوكم فالكيْس الكيْس " . يعني النكاح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مسكينٌ رجلٌ لا زوجة له. مسكينةٌ مسكينةٌ امرأةٌ لا بعل لها " .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: " تزوّجوا والتمسوا الولد؛ فإنَّهم ثمراتُ القلوب. وإيّاكم والعُجُز العُقر " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل عصره نساء، وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام قبله.
وقد أنبأك الله عزّ وجلّ بخير داود عليه السلام في القرآن، وما روي أنه كان لسليمان عليه السلام.
وقد تزوج ابن مسعودٍ في مرضه الذي مات فيه.
وقال مُعاذ: زوِّجوني لا ألقى الله تعالى وأنا عزب.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأُجْهد نفسي في النِّكاح حتّى يُخرج الله منيّ نسمةً تسبِّحه.
وروي أنه قال: عليكم بالأبكار الشَّواب؛ فإنهنَّ أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً.
والحديث في هذا أكثر من أن نأتي عليه.
قال (صاحب الغلمان):إن من عيوب الجواري أنَّ الرجل إذا اشترى الوصيفة إلى أن يستبرئها محرَّمٌ عليه أن يستمتع بشيءٍ منها قبل ذلك والوصيف لا يحتاج إلى ذلك. وقد قال الشاعر:
فديتك إنمّا اخترناك عَمْداً ... لأنك لا تحيض ولا تبيض
وقد جاء في الحديث أنَّ الزِّنى فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرِّزق من السماء. وأمّا اللواتي في الآخرة فالحساب، والعذاب، ودخول النار.
وروي عن مجاهدٍ، قال: إنَّ لأهل النار صرخةً من ريح الزُّناة.
وقالوا: إن أهل النار ليتأذَّون بريح الزُّناة.
قال (صاحب الجواري): لم نسمع بعاشقٍ قتله حبُّ غلام. ونحن نعدُّ من الشعراء خاصةً الإسلاميِّين جماعةً، منهم جميل بن مَعمَر قتله حبُّ بُثينة، وكثيِّر قتله حبُّ عزّة، وعروة قتله حبُّ عفراء، ومجنون بني عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلتْه لُبْنى، وعبد الله بن عجلان قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلتْه جُمْل. هؤلاء من أحصينا، ومن لم نذكر أكثر.
قال (صاحب الغلمان): لو نظر كثيِّر وجميلٌ وعروة، ومن سميِّت من نظرائهم، إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشتُرى بالمال العظيم فراهة وشطاطاً ونقاء لون، وحُسن اعتدالٍ، وجودة قدٍّ وقوام، لنبذوا بُثينة وعزّة وعفْراء من حالقٍ، وتركوهُنَّ بمزجر الكلاب. ولكنك احتججت علينا بأعرابٍ أجلافٍ جُفاة، غُذُوا بالبؤس والشَّقاء ونشؤوا فيه، لا يعرفون من رفاعة العيش ولذَّات الدنيا شيئاً، إنّما يسكنون القفار، وينفرون من الناس كنفور الوحش، ويقتاتون القنافذ والضِّباب، وينقُفُون الحنظل، وإذا بلغ أحدهم جُهده بكى على الدِّمنة ونعت المرأة، ويشبّهها بالبقرة والظَّبية، والمرأة أحسن منهما. نعم حتَّى يشبِّهها بالحيّة، ويسِّميها شوهاء وجرباء، مخافة العين عليها بزعمه.
فأمّا الأدباء والظرفاء فقد قالوا في الغلمان فأحسنوا، ووصفوهم فأجادوا، وقدّموهم على الجواري، في الجدّ منهم والهزل.
وقال الشاعر يصف الغلام:
شبيهٌ بالقضيب وبالكثيب ... غريبُ الحسن في قدٍّ غريبِ
براه الله بدراً فوق غصنٍ ... ونيط بحقوه دعص الكثيبِ
أغنُّ تولَّدُ الشَّهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوبِ
وما اكتحلت به عينٌ ففاتت ... مسلَّمة الضَّمير من الذُّنوبِ
شغلت به الهوى ونزعْت عنه ... ولم أدنس به دنس المُريبِ
وقال آخر:
كلفتُ بظبيٍ له ... سوالفُ أُدمانْه
قضيبٌ على رَمْلةٍ ... على شُعبتيْ بانه
له لحظ وحشيّةٍ ... وألفاظُ إنسانه
وقال أبو نواس:
سَقْيا لغير العلياء والسَّند ... وغير أطلال ميَّ بالجردِ
ويا صبيب السَّحاب إن كنت قد ... جُدت اللِّوى مرةً فلا تعدِ
لا تسقينْ بلدةً إذا عُدَّت ال ... بلدان كانت زيادة الكبدِ
إنْ أتحرزْ من الغراب بها ... يكن مفرِّى منه إلى الصُّردِ
بحيثث لا تجلب الفجاجُ إلى ... أذنيك إلاَّ تصايح النَّقدِ
أحسن عندي من انكبابك بال ... فهْر مُلحّاً به على وتدِ
وقوفُ ريحانةٍ على أُذْنٍ ... وسير كأس إلى فمٍ بيدِ
يسقيكها من بني العباد رشاً ... منتسبٌ عيدُه إلى الأحدِ
إذا بنى الماء فوقها حبباً ... صلَّب فوق الجبين بالزَّبدِ
أشرب من كفِّه الشمول ومن ... فيه رُضاباً يجري على بردِ
فذاك خيرٌ من البكاء على ال ... رَّبع وأنمى في الرُّوح والجسدِ
قال (صاحب الجواري): فقد قال أبو نواسٍ الحكميُّ شاعركم أيضاً:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الورد من حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ في حلْقِِ شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخدِّ
فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ
تسقيك من عينها سحراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ
لي نشوتان وللنَّدمان واحدةٌ ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداءُ
صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّته سرَّاءُ
من كفِّ ذات حرٍ في ذي ذكر ... لها مُحبّان: لوطيٌّ وزنّاءُ
قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فظلَّ من وجهها في البيت لألاءُ
فأرسلتْ من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذها بالعين إغفاءُ
في فتيةٍ زُهُرٍ ذلَّ الزمان لهم ... فما يصيبهم إلاَّ بما شاءوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تكون بها هندٌ وأسماءُ
قال صاحب الغلمان.....وقال النظام:
بان بك الشَّكل والنَّظيرُ ... وجلَّ عن وصفك الضَّميرُ
فليس يُخطيك في امتحانٍ ... صغيرُ أمرٍ ولا كبيرُ
خُلقت من مثل لا عيانٍ ... جسماً على أنّه منيرُ
فأنت عند المجسِّ نارٌ ... وأنت عند اللِّحاظ نورُ
وقال أبو هشامٍ الخرَّاز:
يا من تعدَّى العباد من شبهه ... لمَّا قصُرن الصِّفات عن كُنُههِ
ويا غزالاً يسبي بلحظته ... مكتحلاً راح أو على مرههِ
يجعل قتل النُّفوس نزهته ... يوشك يُفني النُّفوس في نُزههِ
لبَّيك داعٍ دعا فقلتُ له ... والقلب في كربه وفي ولههِ
هذا فؤادي أتاك مبتدعاً ... طوعاً ولم يأتكمْ على كُرُههِ
يشرهُ منكم إلى مواصلةٍ ... يا بُوس قلبٍ يذوبُ من شرههِ
فالآن قل للخيال يطرقُ منْ ... أعيا عليه وصالُ منتبههِ
وقال الحكميّ:
رسْمُ الكرى بين الجفون مُحيلُ ... عفَّى عليه بُكاً عليك طويلُ
يا ناظراً ما أقلعتْ نظراته ... حتّى تشحَّط بينهنَّ قتيلُ
أحللت من قلبي هواك محلَّة ... ما حلَّها المشروب والمأكولُ
وقال أيضاً:
لي حبيبٌ كلَّما زاد في ... جفوته لي كان أشْهى
هو وجهٌ كلُّه في كلِّ ما ... نظرتْ عيناك منه كان وجها
وكذا الدُّرّة لا يدري الفتى ... أيُّها من أيِّها في العين أبهى
وقال أيضاً:
أفنيت فيك معاني الشكوى ... وصفاتِ ما ألقى من البلوى
قلَّبتُ آفاق الكلام فما ... أبصرتني أغفلت عن معنى
وأعُدُّ ما لا أشتكي غبناً ... فأعود فيه مرّةً أخرى
فلو أنَّ ما أشكو إلى بشرٍ ... لأراحني ظنِّي من الشَّكوى
لكنّني أشكو إلى حجرٍ ... تنبو المعاول عنه بل أقْسى
فهذا وشبهه من الشعر كثير.
وإذا جئت إلى أصحاب الهزْل كقول بعضهم ممَّن ذمَّ النساء:
هذه الخمر فاشرب ... واسقني يا ابن مصعبِ
اسقنيها وغنِّني: ... من لقبٍ معذَّبِ
طمعتْ فيّ طَفْلةٌ ... ربَّ راج مجنَّبِ
قلت لمّا رأيتها ... أسفرتْ لي: تنقَّبي
لست والله مُدخلاً ... إصبعي جُحْرَ عقربِ
وقال آخر:
لا أبتغي بالمُرد مطمومةً ... ولا أبيع الظّبي بالأرنبِ
لا أُدخل الجُحْرَ يدي طائعاً ... أخشى من الحيَّة واالعقربِ
وقال آخر:
ليس لي في الحرِّ حاجة ... نيكه عندي سماجة
ما ينيك الرَّ إلاّ ... كلُّ ذي فقرٍ وحاجة
فإذا نكتم فنيكوا ... أمرداً في لون عاجة
وقال يوسف لقْوه:
ما يساوي نيكُ أنثى ... عند أيري بعرتينِ
إنّما نيك الجواري ... حلُّ ديْنٍ بعد دينِ
ليس للأير حياةٌ ... غير ريح الخُصيتينِ
وهو الذي يقول:
وعلى اللُّواط فلا تلُمنْ كاتباً ... إنّ اللِّواطِ سجيَّةٌ في الكاتبِ
ولقد يتُوب من المحارم كلِّها، ... وعن الخُصى ما عاش ليس بتائبِ
وقال الحكميّ:
للطمةٌ يلطمني أمردٌ ... تأخذ منّي العين والفكَّا
أطيب من تُفاحةٍ في يدي ... معضوضةٍ قد ملئتْ مسْكا
وقال آخر:
إنْ تزن محصنةٌ تُرجم علانيةً ... وإن يلُطْ عزبٌ لا يرجم العزبُ
وقال آخر:
أيسر ما فيه من مفاضلةٍ ... أمْنُكَ من طمثه ومن حبلهِ
وهذا قليلٌ من كثير ما قالوا، فقد قالت الشعراء في الغلام في الجدّ والهزل فأحسنوا، كما قالت الشعراء في الغزل والنَّسيب، ولا يضير المحسن منهم أقديماً كان أو محدثاً.
قال (صاحب الجواري): أمّا أنت فحيث اجتهدت واحتفلت جئت بالحكميّ، والرَّقاشيّ، ووالبة، ونظرائهم من الفُسَّاق والمرغوب عن مذهبهم، الذين نبغوا في آخر الزمان، سُقّاطٌ عند أهل المروءات، أوضاعٌ عند أهل الفضل؛ لأنّهم وإن أسهبوا في وصف الغلمان، فإنما يمدحون اللِّواط ويشيدون بذكره.
وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى في قوم لوطٍ، وما عجَّل لهم من الخزي والقذف بالحجارة، إلى ما أعدَّ لهم من العذاب الأليم. فمن أسوأُ حالاً ممن مدح ما ذمَّه الله، وحسَّن ما قبَّح! وأين قول من سمَّيت من قول الأوائل في الغزل والنَّسيب والنساء! وهل كان البكاء والتشبيب والعويل إلا فيهنَّ وعليهنّ، ومن أجلهنّ! وهل ذمَّت العرب الشَّيب مع الخصال المحمودة التي فيه إلا لكراهتهنَّ له. قال شاعر الشعراء من الأوّلين والآخرين، امرؤ القيس:
أراهُنَّ لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال علقمة بن عبدة الفحل، وكان نظير امرؤ القيس في عصره:
إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمْنه ... وشرخ الشَّباب عندهُنّ عجيبُ
وما قالت القدماء في النسيب أكثر من أن نأتي عليه. وأين قول من ذكرت في صفات الغلمان من قول امرؤ القيس في التشبيب حيث يقول:
وما ذرفتْ عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ
أغرَّك منّي أنَّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلب يفعلِ
وقول الأعشى:
لو أسندتْ ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُنقل إلى قابرِ
حتّى يقولُ الناس مما رأوا ... يا عجبّاً للقاتل الناشرِ
وقال جرير:
إنّ الذين غدوْا بلبِّك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزالُ معينا
غيَّضْنَ من عبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وقال جميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتله قبلي
وقال القُطاميّ:
يقتُلننا بحديثٍ ليس يعلمُه ... من يتَّقين ولا مكنونه بادي
فهنّ ينبذن من قولٍ يُصبْن به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي
فهؤلاء القدماء في الجاهلية والإسلام، فأين قول من احتججت به من قولهم!.
ولا نعلم أحداً قال في الغلام ما قال الحكميّ وهو من المحدثين. وأين يقع قوله من قول الأوائل الذين شبَّبوا بالنساء! فدعْ عنك الرَّقاشيّ ووالبة والخرَّاز ومن أشبههم؛ فليست لك علينا حجّة في الشعراء.
وأُخرى: ليس من قال الشعر بقريحته وطبعه واستغنى بنفسه، كمن احتاج إلى غيره يطردُ شعره، ويحتذي مثاله، ولا يبلُغ معشاره.
قال (صاحب الغلمان): ظلمت في المناظرة ولم تُنصف في الحجَّة؛ لأن لم ندفع فضل الأوائل من الشعراء، إنّما قلنا إنهم كانوا أعراباً أجلافاً جُفاةً، لا يعرفون رقيق العيش ولا لذَّات الدنيا؛ لأنَّ أحدهم إذا اجتهد عند نفسه شبَّه المرأة بالبقرة، والظبية، والحيّة. فإنْ وصفها بالاعتدال في الخلقة شبّهها بالقضيب، وشبَّه ساقها بالبَرْدية؛لأنّهم مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها.
وقد نعلم أنّ الجارية الفائقة الحُسن أحسنُ من البقرة، وأحسنُ من الظَّبية، وأحسن من كلِّ شيءٍ شُبِّهَتْ به.
وكذلك قولهم: كأنَّها القمر؛ وكأنّها الشمس؛ فالشَّمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروبٌ من الحُسن الغريب، والتركيب العجيب. ومن يشكُّ أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظَّبي والبقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت!.
وهذه أشياءُ يشترك فيها الغلمان والجواري، والحجَّة عليك مثلُ الحجّة لك في هذه الصفات.
وأمّا احتجاجُك علينا بالقرآن والآثار والفقهاء، فقد قرأنا مثل ما قرأت، وسمعْنا من الآثار مثل ما سمعت. فإن كنت إلى سرور الدُّنيا تذهب، ولذّاتها تريد، فالقول قولنا. كما قال الشاعر:
ما العيش إلاَّ في جنون الصِّبا ... فإنْ تولَّى فزمانُ المُدامْ
كأساً إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردَّى برداء الغلامْ
وإن كنت إلى التقشُّف والتزهيد في اللَّذَّات تعمد فترك جميع الشَّهوات من النساء وغيرهنّ أفضل. فإنْ أنصفت فأْتنا بمثل حجّتنا. فأمّا أن تتلو علينا القرآن وتأتينا بأحاديث ألَّفتها فهذا منك انقطاع. ومثلنا ومثلك في ذلك مثل بصريٍّ وكوفيٍّ تفاخرا بعدد أشراف أهل البصرة وأشراف أهل الكوفة، فقال البصريّ للكوفيّ:
هات في أربع قبائل الكوفة مثل أربعة رجالٍ بالبصرة في أربع قبائل: في تميم الكوفة مثل الأحنف، وفي بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع، وفي قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، وفي أزد الكوفة مثل المهلب.
فقال الكوفيّ: مخنف بن سُليم من أزد السَّراة، وهم أشرف من أزد عُمان.
فقال البصريّ: إنا لم نكن في شرف القبائل وفرق ما بينهما، فإنما ذكرنا المهلب بنفسه، وما علمت أن أحداً يبلغ من جهله أن يفخر بمخنف بن سليم فيفضّله على المهلب. وأخْمل رجل من ولد المهلّب أشهر في الولايات وفي الفرسان وفي الناس من مخنف. والمهلّب رجلٌ ليس له بالعراق نظيرٌ يقاومه، ومناقبه وأيّامه وفتُوحُه أكثر وأشهر من أن يجوز لنا أن نجعله إزاء مخْنف. وما زالوا يقولون: " بصرة المهلّب " . ولو لم يكن للمهلّب إلاَّ أنه ولد يزيد بن المهلّب كان كافيا. ونحن إذا قلنا: ليس في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، قال قائل: فزارة أشرف من باهلة. قلنا: ليس هذه معارضة؛ فإنّما المعارضة أن تذكر أسماء بن خارجة ثم تقول ونقول، فنذكر فتوح قتيبة العظام، والشَّهامة والنفس الأبية، والشَّجاعة والحزم والرأي، والوفاء، وشرف الولاية، ونذكر سُودد أسماء، وجوده ونواله. فأمّا أن نتخطّى أنفسهما إلى قبائلهما كما تخطَّيت بدن المهلَّب وبدن مخنف إلى أزْدِ عمان وأزدِ السَّراة، فهذا ليس من معارضة العلماء.
وكذلك إذا ذكرنا عُبّاد البصرة وزُهّادها ونُسَّاكها فقلنا: لنا مثل عامر بن عبد قيس، وهرم بن حيَّان، وصلة بن أشْيم. قلت: فعُبَّاد الكوفة: أُويسٌ القرنيّ، والرَّبيع بن خُثيم، والأسود بن يزيد النَّخعي. وهذا جواب.
فأمّا أن تذكر طيب الدُّنيا والتمتُّع من لذّاتها وصفات محاسنها، وتذكر ظرفاءها وأربابها، وتجيئنا بأحاديث الزهّاد والفقهاء، فقد انقطع الحجاج بيننا وبينك.
وقد قلنا في صدر كتابنا: إن الكلام إذا وُضع على المزْح والهزل، ثم أخرجته عن ذلك إلى غيره من الجدّ، تغيّر معناه وبطل.
وقد رُوي أنَّ معاوية سأل عمرو بن العاص يوماً - وعنده شبابٌ من قريش - فقال له: يا أبا عبد الله، ما اللذّة؟ فقال: مُر شباب قريشٍ فليقوموا. فلما قاموا قال: " إسقاط المروءة " .
قال الشاعر في مثل ذلك:
من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللّذةِ الجسور
وقال الحكميّ:
تجاسرت فكاشفةُ ... ك لمّا غُلب الصَّبرُ
وما أحسن في مثل ... ك أن ينهْتك السِّتْرُ
قال (صاحب الجواري): فنحن نترك ما أنكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يُحصِّله المعقول ويدركه الحسُّ والوجدان، دالاً على أنَّ الاستمتاع بالجارية أكثر وأطول مدّة؛ لأنه أقل ما يكون التمتُّع بها أربعون عاماً، وليس تجد في الغلام معنىً إلاَّ وجدته في الجارية وأضعافه. فإن أردت التفخيذ فأردافٌ وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام. وإن أردت العناق فالثُّديُّ النواهد، وذلك معدومٌ في الغلام. وإن أردت طيب المأتى فناهيك، ولا تجد ذلك عند الغلام. فإن أتوه في محاشِّه حدث هناك من الطَّفاسة والقذر ما يكدِّر كلَّ عيش، وينغص كلَّ لذّة.
وفي الجارية من نعمة البشرة ولدونة المفاصل، ولطافة الكفَّين والقدمين، ولين الأعطاف، والتثنِّي وقلّة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصالٍ لا تحصى، كما قال الشاعر:
يصف جودة القدّ وحُسن الخرط، ويفرق بين المجدولة والسمينة.
وقولهم " مجدولة " يريدون جودة العصب وقلّة الاسترخاء، ولذلك قالوا: خُمصانة وسيفانة، وكأنها جانٌّ، وكأنَّها جدْل عنان، وكأنَّها قضيب خيزران. والتثني في مشية الجارية أحسن ما فيها، وذلك في الغلام عيبٌ؛ لأنه بنسب إلى التخنيث والتأنيث وقد وصفت الشعراء المجدولة في أشعارها، فقال بعضهم:
لها قسمةٌ من خوط بانٍ ومن نقاً ... ومن رشأ الأقواز جيدٌ ومَذْرِفُ
وقال آخر:
مجدولة الأعلى كثيبٌ نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها
وقال آخر:
ومجدولةٍ جدل العنان إذا مشتْ ... ينوء بخصريها ثقالُ الرَّوادف
وقال الأحوص:
من المدمجات اللحم جَدْلاً كأنّها ... عنان صناعٍ أنعمت أن تخوَّدا
وقالوا في ذلك أكثر من ان نأتي عليه.
والغلام أكثر ما تبقي بهجته ونقاء خدّيه عشرة أعوام، إلى أن تتَّصل لحيته ويخرج من حدّ المرودة، ثم هو وقاخٌ طوراً ينتف لحيته، وتارة يهْلُبُها ليستدعي شهوة الرِّجال. وقد أغنى الله الجارية عن ذلك، لما وهب لها من الجمال الفائق، والحسن الرائق.
فإن قلت: إنّ من النساء من يتحسَّن ويستر عيبه بخضاب الشعر وغيره، كما قال الشاعر:
عجوزٌ ترجَّى أن تكون فتيَّةً ... وقد لحب الجنبان واحدوْدبَ الظُّهرُ
تدسُّ إلى العطّار ميرة أهلها ... ولن يصلح العطّارُ ما أفسد الدَّهرُ
قلنا: قد يفعل ذلك بعض النساء إذا شُيِّبتْ وليس كالغلام، لعموم هَلْب اللِّحى في الغلمان.
وذكرت الخصْيان وحُسن قدودهم، ونعمة أبشارهم، والتلذُّذ بهم، وأنَّ ذلك شيءٌ لا تعرفه الأوائل، فألجأْتنا إلى نصف ما في الخصيان وإن لم يكن لذلك معنىً في كتابنا، إذ كنّا إنمّا نقول في الجواري والغلمان.
والخصيُّ - رحمك الله - في الجملة ممثَّل به، ليس برجل ولا امرأة، وأخلاقه مُقسَّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصِّبيان، وفيه من العيوب التي لو كانت في حوْراء كان حقيقاً أن يُزهد فيها منه؛ لأن الخصيَّ سريع التبدُّل والتنقُّل من حدّ البضاضة وملاسة الجلد، وصفاء اللَّون ورقَّته، وكثرة الماء وبريقه، إلى التكسُّر والجمود والكمود، والتقبُّض والتجمُّد والتحدُّب، وإلى الهزال وسوء الحال. لأنّك ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوف تلمع في وجهه، وكأنه مرآةٌ صينيَّة، وكأنّه جُمارة، وكأنّه قضيب فضّةٍ قد مسَّه ذهب، وكأنّ في وجناته الورد. فإن مرض مرْضةً، أو طعن في السنِّ ذهب ذهاباً لا يعود.
وقال بعض العلماء: إنّ الخصيَّ إذا قُطع ذلك العضو منه قويتْ شهوته، وقويتْ معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرتْ دمعته، واتَّسعت فقْحته، ويصير كالبغل الذي ليس هو جماراً ولا فرساً؛ لأنّه ليس برجلٍ ولا امرأة. فهو مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ويعرض للخصيّ سُرعة الدَّمعة والغضب، وذلك من أخلاق النساء والصِّبيان. ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصَّدر بما أُودع من السِّرِّ.
ويعرض لهم البول في الفراش ولا سيَّما إذا بات أحدهم ممتلئاً من النَّبيذ.
ومما ناله من الحسرة والأسف لما فاتهم من النّكاح مع شدّة حبِّهم للنساء، أبغضوا الفحول أشدَّ من تباغض الأعداء، فأبغضوا الفحول بُغض الحاسد لذوي النِّعمة.
وزعم بعض أهل التجربة من الشُّيوخ المعَّمرين أنَّهم اعتبروا أعمار ضروب الناس فوجدوا طول أعمار الخصيان أعمَّ من جميع أجناس الرجال، وأنهم لم يجدوا لذلك عِلّةً إلاَّ عدم النّكاح. وكذلك طول أعمار البغال لقلة النَّزْو. ووجدوا أقل الأعمار أعمار العصافير؛ لكثرة سفادها.
ثم الخصيُّ مع الرِّجال امرأة، ومع النِّساء رجل. وهو من النمائم والتحريش والإفساد بين المرء وزوْجه، على ما ليس عليه أحد. وهذا من النَّفاسة والحسد للفحول على النساء. ويعتريه إذا طعن في السنِّ اعوجاج في أصابع اليد، والتواءٌ في أصابع الرِّجل.
ودخل بعض الملوك على أهله ومعه خصيٌّ فاستترت منه، فقال لها: تستترين منه وإنما هو بمنزلة المرأة! فقالت: ألموضع المُثْلة به يحلُّ له ما حرَّم الله عليه.
مع أنَّ في الخصيِّ عيوباً يطول ذكرها.
ولولا خوف الملال والسآمة على الناظر في هذا الكتاب، لقلْنا في الاحتجاج عليك بما لا يدفعه من كانت به مُسكة عقل، أوْ له معرفة. وفيما قُلنا ما أقنع وكفى. وبالله الثِّقة.
وقد ذكرنا في آخر كتابنا هذا مقطَّعاتٍ من أحاديث البطَّالين والظُّرفاء، ليزيد القارئ لهذا الكتاب نشاطا، ويذهب عنه الفتور والكلال، ولا قوَّة إلا بالله.
1 - قال: مرض رجلٌ من عُتاة اللاَّطة مرضاً شديدا، فأيسوا منه، فلما أفاق وأبلَّ من مرضه، دخل عليه جيرانه فقالوا له: احمد الله الذي أقالك، ودعْ ما كنت فيه من طلب الغلمان والانهماك فيهم، مع هذه السنِّ التي قد بلغتها. قال: جزاكم الله خيراً؛ فقد علمت أنّ فرط العناية والمدَّة دعاكم إلى عظتي. ولكنّي اعتدت هذه الصناعة وأنا صغير، وقد علمتم ما قال بعض الحكماء: ما أشدَّ فطام الكبير!.
قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُواري في ثرى رمسهِ
فقاموا من عنده آيسين من فلاحه.
2 - قال: كان رجلٌ من اللاَّطة وله بنون لهم أقدارٌ ومروءات، فشانهمْ بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنَّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجُلجُلتين! فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه.
2 - وقال بعض اللُّوطيين: إنَّما خُلق الأير للفَقْحة، مدوّرٌ لمدوَّرة؛ ولو كان للحر كان على صيغة الطَّبرْزين.
وقال شاعرهم:
إذا وجدت صغيراً ... وجأتأصل الحمارة
وإن أصبت كبيرا ... قصدت قصد الحرارة
فما أبالي كبيراً ... قصدت أو ذا غرارة
4 - وقيل لامرأة من الأشراف كانت من المتزوِّجات: ما بالك مع جمالك وشرفك لا تمكثين مع زوجك إلاّ يسيراً حتى يطلِّقك؟ قالت: يريدون الضِّيق، ضيَّق الله عليهم.
5 - قال: طلَّق رجلٌ امرأته، فمرَّ رجلٌ في بعض الطُّرقات فسمع امرأةً تسأل أخرى عنها فقالت: البائسة طلَّقها زوجها! فقالت: أحسن بارك الله عليه. فقال لها: يا أمة الله، من شأن النِّساء التعصُّب بعضهن لبعض، وأسمعك تقولين ما قلت. قالت: يا هذا، لو رأيتها لعلمت أن الله تعالى قد أحلَّ لزوجها الزِّنى، من قُبح وجهها.
6 - وقال مخنَّثٌ لامرأة: يا معشر النِّساء، مالكنَّ همَّةٌ إلاّ طلب النَّيك، لا تُؤْثرون عليه شيئاً. فقالت: إن أمْراً انتقلت من شهوته من طبْع الرِّجال إلى النساء حتَّى عقرت لحيتك له، لحقيق ألا تُلام عليه.
7 - قال إسحاق الموصلي: نظرت إلى شابٍّ مخنَّثٍ حسن الوجه جداً قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أنّ جمال الرجال في اللِّحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرُّك بالله أنّها في استك؟ قلت: لا والله! فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيءٌ وتأمرني أن أدعه في وجهي!.
8 - وقال: اشترى بعض ولاة العراق قينةً بمالٍ كثير، فجلس يوماً يشرب وأمرها أن تغنِّيه، فكان أوّل صوتٍ تغنَّت به:
أروح إلى القصَّاص كلَّ عشيَّةٍ ... أرجِّي ثواب الله في عدد الخُطى
فقال للخادم: يا غلام، خذْ بيد هذه الزَّانية فادفعْها إلى أبي حزْرة القاصّ. فمضى بها إليه فلقيه بعد ذلك، فقال: كيف رأيت تلك الجارية؟ فقال: ما شئت أصلحك الله، غير أنّ فيها خصلتين من صفات الجنة! قال: ويلك ما هما؟ قال: البرد، والسِّعة.
9 - قال : علق رجلٌ من أهل المدينة امرأةً فطال عناؤه بها حتّى ظفر بها، فصار بها إلى منزل صديقٍ له مغنٍّ، ثم خرج يشتري ما يحتاج إليه، فقالت له: لو غنَّيت لي صوتاً إلى وقت مجي صديقك!.
فأخذ العود وتغنَّى:
من الخفرات لم تفضحْ أخاها ... ولم ترفعْ لوالدها شنارا
قال: فأخذت المرأة خُفَّها ولبستْ إزارها وقالت: ويلي ويلي، لا والله لا جلست! فجهد بها فأبتْ وصاحت، فخشي الفضيحة فأطلقها. وجاء الرجل فلم يجدْها، فسأله عنها فقال: جئتني بمجنونة؛ قال: ما لها ويلك؟ قال: سألتْني أن أغنِّيها صوتاً ففعلت، فضربت بيدها إلى خفِّها وثيابها فلبستْ وقامت تولول، فجهَدْتُ أن أحبسها فصاحت فخَّليتها. قال: وأيِّ شيء غنَّيتها؟ فأخبره، فقال: لعنك الله! حُقَّ لها أن تهرب!.
قال: تواصف قومٌ الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنَّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحر لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مُذْ خرجت منه! 10 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةٌ، فمكثت عنده غير بعيد، ثم أتى الرجل بالذي زوّجه فقدَّمه إلى القاضي فقال: أصلحك الله، إنّ هذا زوّجني امرأةً مجنونة. قال: وأيَّ شيءٍ رأيت من جنونها؟ قال: إذا جامعتها غُشي عليها حتَّى أحسبها قد ماتت. فقال له القاضي: قم قبحك الله فما أنت لمثل هذه بأهل. وكانت ربوخاً.
11 - قال: كانت عائشة بنت طلحة من المتزوّجات، فتزوّجها عُمر بن عبيد الله بن مَعمر التَّيميّ، فبينا هي عنده تحدَّث مع امرأةٍ من زوَّارها إذْ دخل عُمر فدعا بها فواقعها، فسمعت المرأة من النَّخير والشَّهيق أمراً عجيباً، فلمَّا خرجت قالت لها: أنت في شرفك وقدْرك تفعلين مثل هذا! قالت: إنّ الددوابَّ لا تُجيد الشُّرب إلاَّ على الصَّفير!.
12 - قال: وكانت حُبَّي المدينيّة من المغتلمات، فدخل عليها نسوةٌ من المدينة فقلن لها: يا خالة، أتيناك نسألك عن القبْع عند الجماع يفعله النِّساء، أهو شيءٌ قديم أم شيءٌ أحدثه النِّساء؟ قالت: يا بناتي، خرجت للعمرة مع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلمَّا رجعنا فكُنَّا بالعرْج نظر إليّ زوجي ونظرت إليه، فأعجبه منيّ ما أعجبني منه فواثبني، ومرَّت بنا عيرُ عثمان فقبعت قبعةً وأدركني ما يصيب بنات آدم، فنفرت العير - وكانت خمس مائة - فما التقى منها بعيران إلى الساعة.
والقبْع: النَّخير عند الجماع. والغربلة: الرَّهز. كذاك تسمِّيه أهل المدينة.
ويقال إن حُبَّي علَّمت نساء المدينة القبْع والغربلة.
13 - قال: وكانت خُليدة امرأةً سوداء ذات خَلْق عجيب، وكان لها دارٌ بمكة تكريها أيام الحاجّ، فحجَّ فتىً من أهل العراق فاكترى منزلها، فانصرف ليلةً من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السَّطح نظر إلى خليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ النّاس وأحسنه خَلْقاً، فدعتْه نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى رفع برجليها فتابعتْه وأرتْه أنها نائمة، فناكها، فلمَّا فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتْك عقرب؟ ما بالك تبْكي؟ قال: لا والله ولكنِّي نكتك وأنا محرم. قال: فتنيكني وتبكي؟ أنا والله أحقُّ بالبكاء منك. قمْ يا أرعن!.
14 - وقال ابن حُبَّي لأمِّه: يا أُمَّه، أيُّ الحالات أعجب إلى النِّساء من أخْذ الرجال إيّاهنّ؟ قالت: يا بنيّ، إذا كانت مُسنَّة مثلي فأبركْها وألصقْ خدَّها بالأرض ثم أوعبْه فيها. وإذا كانت شابّةً فاجمع فخذيْها إلى صدرها فأنت تدرك بذلك ما تريد منها وتبلغ حاجتك منها.
15 - وقال: اشترى قومٌ بعيراً وكان صعباً، فأرادوا إدخاله الدار فامتنع، فجعلوا يضربونه وهو يأبى، فأشرفتْ عليهم امرأةٌ كأنّها شقَّة قمر، فبُهتوا ينظرون إليها، فقالت: ما شأنه؟ فقال لها بعضهم: نربده على الدُّخول فليس يدخل. قالت: بُلَّ رأسه حتَّى يدخل.
16 - قال: نظر رجلٌ بالمدينة إلى جاريةٍ سريّة ترتفع عن الخدمة، فقال: يا جارية، في يدك عمل؟ قالت: لا، ولكنْ في رجلي.
17 - قال بعضهم: كنا في مجلس رجلٍ من الفقهاء فقال لي رجل: عندك حُرّةٌ أو مملوكة؟ قلت: عندي أمُّ ولدٍ، ولم سألتني عن ذلك؟ قال: إنّ الحرّة لها قدرها فأردت أن أعلّمك ضرباً من النَّيك طريفاً. قلت: قل لي. قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدّةً بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك، ثم ادعُ الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوَّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومرها تصعد وتنزل عليه؛ فأنَّه شيء عجيب. فلمَّا صار الرجل إلى منزله فعل ما أمره به، وجعلت الجارية تعلو وتستفل، فقالت: يا مولاي، من علَّمك هذا النَّيك؟ قال: فلانٌ المكفوف. قالت: يا مولاي، ردّ الله عليه بصره!.
18 - قال: كانت امرأة من قريش شريفةً ذات جمال رائعٍ ومال كثير، فخطبها جماعةٌ وخطبها رجلٌ شريفٌ له مالٌ كثير، فردّته وأجابت غيره، وعزموا على الغدُوِّ إلى وليّها ليخطبوها، فاغتمَّ الرجل غمّاً شديداً، فدخلت عليه عجوزٌ من الحيّ فرأتْ ما به وسألته عن حاله فأخبرها، وقالت: ما تجعل لي إنْ زوّجتُك بها؟ قال: ألف درهم. فخرجتْ من عنده ودخلت عليها، فتحدَّثتْ عندها مليّاً وجعلتْ تنظر في وجهها وتتنفَّس الصُّعداء، ففعلت ذلك غير مرَّة، فقالت الجارية: ما شأنك يا خالة، تنظرين في وجهي وتنفَّسين؟ قالت: يا بُنيّة، أرى شبابك، وما أنعم الله عليك به من هذا الجمال، وليس يتمُّ أمر المرأة إلاَّ بالزَّوْج، وأراك أيِّماً لا زوج لك. قالت: فلا يغُمَّك الله، قد خطبني غير واحدٍ وقد عزمت على تزويج بعضهم. قالت: فاذكري لي من خطبك. قالت: فلان. قالت: شريفٌ، ومن؟ قالت: فلان. قالت: شريف، فما يمنعك منه؟ قالت: وفلانٌ - لصاحبها - قالت: أُفٍّ أفّ، لا تريدينه. قالت: وماله أليس هو شريفاً كثير المال؟ قالت: بلى، ولكن فيه خصلةً أكرهها لك. قالت: وما هي؟ قالت: دعي عنك ذكرها. قالت: أخبريني على كلِّ حال. قالت: رأيته يبول يوماً فرأيت بين رجليه رجلاً ثالثة. وخرجت من عندها فأتته، فقالت: أعدْ إليها رسولك. وأتاها الرجل الذي كانت أجابته - بعد مجيء الرسول - فردّتْه وبعثت إلى صاحب المرأة: أن اغد بأصحابك. فتزوّجها فلما بنى بها إذا معه مثل الزِّرّ، فلمَّا أتتْها العجوز فقالت: بكم بعتيني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت: لا أكلتيها إلاّفي المرض!.
19 - قال: كان هشام بن عبد الملك يقبض الثِّياب من عظم أيره، فكتب إلى عامله على المدينة: " أما بعد فاشتر لي عكاك النَّيك " . قال: وكان له كاتبٌ مدينيٌّ ظريف، فقال له: ويحك، ما عكاك النِّيك؟ قال: الوصائف. فوجَّه إلى النَّخَّاسين فسألهم عن ذلك. فقالوا: عكاك النِّيك الوصائف البيض الطوال. فاشتري منهنّ حاجته، ووجّه بهنَّ إليه.
قال: وكانت بالمدينة امرأةٌ جميلةٌ وضيّة، فخطبها جماعةٌ وكانت لا ترضى أحداً، وكانت أمُّها تقول: لا أزوجها إلاَّ من ترضاه. فخطبها شابٌّ جميلُ الوجه ذو مالٍ وشرف. فذكرتْه لابنتها وذكرت حاله وقالت: يا بنيّة إن لم تزوّجي هذا فمن تزَّوَّجين؟ قالت: يا أُمَّه: هو ما تقولين، ولكنّي بلغني عنه شيءٌ لا أقدر عليه. قالت: يا بنيّتي لا تحتشمين من أمِّك، اذكري كلَّ شيءٍ في نفسك. قالت: بلغني أنَّ معه أيراً عظيما وأخاف ألاَّ أقوى عليه. فأخبرت الأمُّ الفتى فقال: أنا أجعل الأمر إليك تُدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعمْ أرضى إن تكفَّلت لي بذلك. قالت: يا بنيّةُ والله إنّ هذا لشديدٌ عليّ، ولكنِّي أتكلَّفه لك. فتزوّجته. فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أُمَّه، كوني قريبةً منّي لا يقتلْني بما معه. فجاءت الأمّ وأغلقت الباب وقالت له: أنت على ما أعطيتنا من نفسك؟ قال: نعم، هو بين يديك. فقبضت الأمّ عليه وأدنْته من ابنتها فدسَّت رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعاً من أصابعها فقالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتَّى لم يبقِ في يدها شيءٌ منه، وأوعبه الرجل كلَّه فيها، قالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: يا بنيّة لم يبقِ في يدي شيء. قالت بنتها: رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول: إذا وقع الشيء في يديك ذهب البركةُ منه. قومي عنّي!.
20 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً وكان معه أيرٌ عظيم جداً، فلمَّا ناكها أدخله كلَّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلَّم، فقال لها: أيُّ شيءٍ حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟ - قال:نظر رجلٌ إلى امرأةٍ جميلة سريّة، ورجلٌ في دارها دميم مشوّهٌ يأمر وينهي، فظنَّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوَّجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفتْ عن فخذها فإذا فيه بُقع خُضْر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته.
22 - قال: وكانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاَّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنَّثٍ وهي تنيكه بكيرنْج، فرُفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجلٌ يعرفها فقال: ما هذا يا سلاَّمة؟ فقالت: بالله اسكُتْ، ما في الدُّنيا أظلمُ من الرجال، أنتم تنيكونا الدَّهر كلَّه فلمَّا نكنا كم مرَّة واحدة قتلتمونا.
23 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: كأنَّ ركبها دارة القمر، وكأنّ شُفْريها أير حمارٍ مثْنيّ.
24 - وقال بعض العجائز المغتلمات:
وخضبت ما صبغ الزَّمان فلم يدم ... صبْغي ودامت صبغة الأيامِ
أيّام أُمْسي والشَّباب غريرةً ... وأُناك من خلفي ومن قُدَّامي
25 - وقال سياه، وكان من مردة اللاّطة، وأسمه ميمون بن زياد بن ثرْوان، وهو مولىً لخزاعة:
أخزاعُ إنْ عدَّ القبائل فخرهم ... فضعوا أكفَّكم على الأفواهِ
إلاّ إذا ذُكر اللِّواط وأهله ... والفاتقون مشارج الأستاهِ
فهناك فافتخروا فإنّ لكم به ... مجداً تليداً طارفاً بسياهِ
26 - قال: وجاء سياه إلى الكميت فقال له: يا أبا عُمارة، قد قلت على عروض قصيدتك: " أبتْ هذه النَّفسُ إلاّ ادِّكارا " فقال: هات. فقال:
أبتْ هذه النفسُ إلاّ خسارا ... وإلاّ ارتداداً وإلاّ ازورارا
وحمل الدُّيوك وقود الكلاب ... فهذا هرشاً وهذا نقارا
وشرب الخمور بماء الغمام ... تنفجر الأرض عنه انفجارا
27 - وقال: أُخذ " ديكٌ " ، وكان من كبار اللاَّطة، وهو رجلٌ من أهل الحجاز، مع غلامٍ من قُريش كأنّه قديدة، فقيل له: عدوَّ الله هبك تُعذر في الغلمان الصِّباح فما أردت إلى هذا؟ فقال: بأبي أنتم وأمِّي، قد والله علمت أنّه كما تقولون، وإنَّما نكته لشرفه.
28 - وقد يُضرب المثل في اللِّواط بالحجاز فيقال: " ألْوطُ من ديك " ، كما يقول أهل العراق: " ألْوط من سياه " ، وهو كوفيّ.
وقد اختصرت كتابي هذا لئلا يملَّه القارئ. وبالله التوفيق.
تم كتاب مفاخرة الجواري والغلمان، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا إله إلا هو.
يتلوه إن شاء اللَّه تعالى كتاب القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ أيضاً، واللَّه الموفق للصواب. والحمد للَّه أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه.
كتاب القيان
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبي موسى بن إسحاق بن موسى، ومحمد بن خالد خذار خذاه، وعبد الله بن أيوب أبي سُمير، ومحمد بن حماد كاتب راشد، والحسن بن إبراهيم بن رباح، وأبي الخيار، وأبي الرنال، وخاقان بن حامد، وعبد الله بن الهيثم بن خالد اليزيديَّ المعروف بمشرطة، وعلك بن الحسن، ومحمد بن هارون كبّة، وإخوانهم المستمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذّة، المتمتعين بالقيان وبالإخوان، المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمراوءات.
إلى أهل الجهالة والجفاء، وغلظ الطبع، وفساد الحسّ.
سلام من وفق لرشده، وآثر حظَّ نفسه، وعرف قدر النعمة؛ فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها، ولا يزاد فيها من لم يشكرها، ولا بقاء لها على من أساء حملها.
وقد كان يقال: حمل الغنيِّ أشد من حمل الفقير، ومؤونة الشكر أضعف من مشقة الصبر. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.
أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله. والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء، و دون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه، وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان، ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه، حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه، ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه. ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت، وإنعام التفهُّم والتمهُّل، ليكون الاختيار بعد الاختيار، والحكم بعد التبيُّن.
وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره، مُبينٌ عن نفسه، مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره؛ إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن، وعلى الجوهر بالعرض، ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر.
وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا، غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا، وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن، بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس.
إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر، وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربّه واستصغار نعمته، والسَّخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صُعُداً، والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى. وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها.
فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان، وسبَّنا بمنادمة الإخوان، ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها. ورجونا النّصر إذ قد بدينا والبادي أظلم، وكاتب الحقّ فصيح - ويروي " ولسان الحقِّ فصيح " - ونفْس المحرج لا يُقام لها، وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها.
فبيَّنَّا الحجّة في اطِّراح الغيرة في غير محرَّم ولا ريبة، ثم وصفْنا فضل النعمة علينا، ونقضْنا أقوال خصمائنا بقولٍ موجزٍ جامعٍ لما قصدْنا. فمهما أطنبنا فيه فللشَّرح والإفهام، ومهما أدمجنا وطوينا فليخفَّ حمله. واعتمدنا على أنَّ المطوّل يقصَّر، والملخَّص يختصر، والمطويَّ يُنشر، والأصول تتفرع، وبالله الكفاية والعون.
إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها، والأعجاز لاحقةٌ بصدورها، والموالي تبعٌ لأوليائها، وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادَّة، وبعضها عِلَّةٌ لبعض، كالغيث علَّة السَّحاب والسَّحاب علَّة الماء والرُّطوبة، وكالحبّ عِلّته الزَّرع، والزَّرع علَّته الحبّ، والدَّجاجة علَّتها البيضة، والبيضة علَّتها الدجاجة، والإنسان علّته الإنسان.
والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض، وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين. إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه " الأُنثى " ؟ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها، وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة.
ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه. وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه، وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره. فالنساء حرثٌ للرجال، كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان.
ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرَّم وتحليل ما أحلّ، وتخليص المواليد من شُبهات الاشتراك فيها، وحصول المواريث في أيدي الأعقاب، لم يكن واحدٌ أحقَّ بواحدةٍ منهن من الآخر، كما ليس بعض السَّوام أحقَّ برعْي مواقع السَّحاب من بعض، ولكان الأمر كما قالت المجوس: إن للرجل الأقرب فالأقرب إليه رحماً وسبباً منهنّ. إلا أنّ الفرض وقع بالامتحان فخصَّ المطلق، كما فعل بالزَّرع فإنّه مرعىً لولد آدم ولسائر الحيوان إلاَّ ما منع منه التحريم.
وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق. وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياسٌ ما لم نخرج من التحريم دليلاً على حسنه، وداعياً إلى حلاله.
ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً، ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة ولزمنا قياس من أحقُّ بالنساء؛ فإنَّه كان يقال: ليس أحدٌ أولى بهنَّ من أحد، وإنَّما هنَّ بمنزلة المشامّ والتُّفَّاح الذي يتهاداه الناس بينهم. ولذلك اقتصر من له العدَّة على الواحدة منهنَّ، وفرَّق الباقي منهنَّ على المقرّبين. غير أنّه لما عزم الفريضة بالفرق بين الحلال والحرام، اقتصر المؤمنون على الحدِّ المضروب لهم، ورخّصوه فيما تجاوزه. فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتَّق من الزيارة. وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر، حتّى لقد حسك في صدر أخي بُثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة، وخروج العذر عن المخالطة، وشكا ذلك إلى زوجها وهزَّه ما حشّمه، فكمنا لجميلٍ عند إتيانه بثينة ليقتلاه، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحناً لها: هل لك فيما يكون بين الرِّجال والنساء، فيما يشفي غليل العشق ويُطفئ نائرة الشوق؟ قالت: لا. قال: ولم؟ قالت: إنَّ الحبَّ إذا نكح فسد! فأخرج سيفاً قد كان أخفاه تحت ثوبه، فقال: أمّا والله لو أنْعمت لي لملأته منك! فلمَّا سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة.
فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة.
وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة، وعفراء وعُروة، وكثيِّر وعزَّة، وقيسٍ ولُبنى، وأسماء ومقِّش، وعبد الله بن عجلان وهند.
ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام.
وكانت ضباعة، من بني عامر بن قُرط بن عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جُدعان زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة المخزوميُّ: ما تصنعين بهذا الشَّيخ الكبير الذي لا يولد له، قولي له حتّى يطلِّقك. فقالت لعبد الله ذلك، فقال لها: إنِّي أخاف عليك أن تتزوَّجي هشام بن المغيرة. قالت: لا أتزوّجه. قال: فإن فعلت فعليك مائة من الإبل تنحرينها في الحزورة وتنسجين لي ثوباً يقطع ما بين الأخشبيْن، والطواف بالبيت عُريانة. قالت: لا أطيقه. وأرسلتْ إلى هشامٍ فأخبرتْه الخبر فأرسل إليها: ما أيسر ما سألك، وما يكرُثك وأنا أيسر قريشٍ في المال، ونسائي أكثر نساء رجل من قريش، وأنت أجمل النِّساء فلا تأبَّيْ عليه. فقالت لابن جُدعان: طلِّقْني فإنْ تزوجت هشاماً فعليَّ ما قلت. فطلَّقها بعد استيثاقه منها، فتزوَّجها هشامٌ فنحر عنها ماءةً من الجُزُر، وجمع نساءه فنسجن ثوباً يسع ما بين الأخشبين، ثم طافت بالبيت عُريانة، فقال المطَّلب بن أبي وداعة: لقد أبصرتها وهي عُريانةٌ تطوف بالبيت وإنِّي لغلامٌ أتْبعها إذا أدبرتْ، وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً مما خلق الله أحسن منها، واضعةً يدها على ركبها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلُّه
كم ناظرٍ فيه فما يملُّه ... أخْثم مثل القعْب بادٍ ظلُّه
قال: ثم إنَّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمّهاتهن، فمن دونهنَّ يطفن بالبيت مكشّفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حجٌّ إلا به.
وأعرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر، فمات عنها بعد أن اشترط عليها ألا تتزوَّج بعده أبداً، على أن نحلها قطعةً من ماله سوى الإرث، فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأفتاها بأن يعطيها مثل ذلك من المال فتصدَّق به عن عبد الله بن أبي بكر، فقالت في مرثيته:
فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
فلما ابتنى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولم، ودعا المهاجرين والأنصار، فلمَّا دخل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام قصد لبيت حجلتها، فرفع السِّجف ونظر إليها فقال:
فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا
فخجلت فأطرقت، وساء عمر رضي الله عنه ما رأى من خجلها وتشوُّرها عند تعيير عليٍّ إياها بنقض ما فارقت عليه زوجها، فقال: يا أبا الحسن، رحمك الله، ما أردت إلى هذا؟ فقال: حاجةٌ في نفسي قضيتها.
هذا. وأنتم تروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أغير الناس، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: " إني رأيت قصراً في الجنة فسألت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر بن الخطاب. فلم يمنعني من دخوله إلاّ لمعرفتي بغيرتك " . فقال عمر رضي الله عنه: وعليك يُغارُ يا نبيَّ الله!.
فلو كان النظر والحديث والدُّعابة يُغار منها، لكان عمر المقدَّم في إنكاره؛ لتقدُّمه في شدَّة الغيرة. ولو كان حراماً لمنع منه؛ إذ لا شكَّ في زهده وورعه وعلمه وتفقُّهه.
وكان الحسن بن علي عليهما السلام تزوَّج حفصة ابنة عبد الرحمن، وكان المنذر بن الزُّبير يهواها، فبلغ الحسن عنها شيء فطلَّقها، فخطبها المنذر فأبت أن تتزوَّجه وقالت: شهَّرني!. وخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتزوَّجها، فرقَّى المنذر عنها شيئاً فطلَّقها، وخطبها المنذر فقيل لها: تزوَّجيه ليعلم الناس أنَّه كان يعضهك. فتزوَّجتْه فعلم الناس أنَّه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم: لنستأذنْ عليها المنذر فندخل إليها فنتحدَّث عندها، فاستأذناه؛ فشاور أخاه عبد الله بن الزُّبير فقال: دعهما يدخلان. فدخلا فكانت إلى عاصمٍ أكثر نظراً منها إلى الحسن، وكان أبسط للحديث. فقال الحسن للمنذر: خذ بيد امرأتك. فأخذ بيدها وقام الحسن وعاصمٌ فخرجا. وكان الحسن يهواها وإنمَّا طلَّقها لما رقَّى إليه المنذر.
وقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فخرجا فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل إليها فتحدَّثا طويلا ثم خرج، ثم قال لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ قال: نعم. فنزل بمنزلة حفصة ودخل، فقال له مرَّة أخرى: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أُمِّ، ألا تقول: هل لك في حفصة!!.
وكان الحسن في ذلك العصر أفضل أهل دهره. فلو كان محادثة النساء والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير، ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير.
وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام؛ لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر. إلاَّ أن يكون عني بالنظرة المحرَّمة النَّظر إلى الشعر والمجاسد، وما تخفيه الجلابيب مما يحلُّ للزّوج والوليِّ ويحرم على غيرهما.
ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ، وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى، معه فيها امرأته، فقال: يا شعبيُّ، من معي في هذه القبّة؟ فقال: لا أعلم أصلح الله الأمير! فرفع السِّجف، فإذا هو بعائشة ابنة طلحة.
والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم، ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً.
ورأى معاوية كاتباً له يكلِّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قرظة، في بعض طُرق داره، ثم خطب ذلك الكاتب تلك الجارية فزوَّجها منه، فدخل معاوية إلى فاختة وهي متحشِّدة في تعبئة عطر لعرس جاريتها، فقال: هوِّني عليك يا ابنة قرظة، فإني أحسب الابتناء قد كان منذ حين!.
ومعاوية أحد الأئمّة، فلما لم يقع عنده ما رأى من الكلام موقع يقينٍ، وإنَّما حلَّ محلَّ ظنٍّ وحسبان، لم يقضِ به ولم يوجبْه، ولو أوجبه لحدَّ عليه.
وكان معاوية يؤتى بالجارية فيجرِّدها من ثيابها بحضرة جلسائه، ويضع القضيب على ركبها، ثم يقول: إنَّه لمتاعٌ لو وجد متاعاً! ثم يقول لصعصعة بن صوحان: خذها لبعض ولدك، فإنّها لا تحلُّ ليزيد بعد أن فعلت بها ما فعلت.
ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه، وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال.
فمن ذلك حديث الوصيفة التي اطلَّعت في كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج وكان يُسرُّه، فلما فشا ما فيه رجع على الحجّاج باللَّوم وتمثَّل:
ألم ترَ أنَّ وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا
ثم نظر فوجد الجارية كانت تقرأ فنمَّت عليه.
ومن ذلك حديثه حين نعس فقال للفرزدق وجرير والأخطل: من وصف نُعاساً بشعرٍ وبمثلٍ يُصيب فيه ويُحسن التمثيل، فهذه الوصيفة له. فقال الفرزدق:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... أميم جلاميدٍ تركن به وقرا
فقال: شدختني ويلك يا فرزدق! فقال جرير:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... يرى في سواد الليل قُنبرة سقرا
فقال: ويلك تركتني مجنوناً! ثم قال: يا أخطل فقل. قال:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... نديمٌ تروَّى بين ندمانه خمرا
قال: أحسنت، خُذْ إليك الجارية.
ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساءٌ يجْلسْن للناس، مثل خالصة جارية الخيزران، وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر، ودقاق جارية العبَّاسة، وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب، وامرأة هارون بن جعبويه، وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب.
ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال: أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة؟ قالت: لا أدري، إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت: أنت مملوكة، وإذا رضيتْ قالت: أنت حُرَّة. قال: فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك. فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها، أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك، فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها: " أنت حُرَّة " . فتزوّجها على عشرة آلاف درهم، ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها، وأمر بدفع المال إليها.
والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام، أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك. فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ، ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحقّ الواجب.
وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم، ويعيِّرونها بذلك، ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي. فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ، وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع، حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسرِّيته.
ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر. وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً.
وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان.
وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن، وغلاكمٌ يقال له " بديع " يتغنَّى، فعابه بذلك الحكم بن مروان، فقال: وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ!.
وسمع يزيد بن معاوية الغناء.
واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة، وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر في حبابة:
إذا ما حنَّ مزهرها إليها ... وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ
وأصغوا نحوه الآذان حتَّى ... كأنّهم وما ناموا نيامِ
وقال في سلاَّمة:
ألم ترها، والله يكفيك شرَّها، ... إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ
تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه ... إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ
وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير! فتقول حبابة: لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة.
ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل، والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى. فممّا يعرف من غنائه:
أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا ... لقرب مزارها ودعا البعادا
وله:
عاود القلب سعادا ... فقلا الطَّرف السُّهادا
ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً: فما كان منه صدقاً فحسنٌ، وما كان منه كذباً فقبيح.
وقد قال النبي عليه السلام: " إنَّ من الشِّعر لحكمةً " .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح " .
ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته، فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك، ولا يزيل منزلته من الحكمة.
فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل. وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام. وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء، وكتاب الموسيقي، وهو من كتاب حدّ النُّفوس، تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع، وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن. فلا وجه لتحريمه، ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام.
فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين، واقتناص الصيد، والتشاغل بالجماع وسائر اللذات، تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله. ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل، إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة، وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم.
ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام. هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ألهاه عرض الخيل عن الصَّلاة حتّى غابت الشّمس، فعرقبها وقطع رقابها.
وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن، ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات. وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة؛ فقد يُعرف بالحسن والقبح. ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره، الماهر في بصره، الطَّبُّ بصناعته؛ فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره.
وكذلك الأمور الوهميّة، لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين، ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى، حتّى النَّعم والحمير، يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب، ومؤدياً إلى العقل، ثم يقع الحكم من العقل عليها.
وأنا مبين لك الحسن. هو التمام والاعتدال. ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة، وكدقة الجسم، أو عظم الجارحة من الجوارح، أو سعة العين أو الفم، مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق؛ فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن، وإنْ عدت زيادة في الجسم.
والحدود حاصرةٌ لأمور العالم، ومحيطة بمقاديرها الموقوتة لها، فكلُّ شيءٍ خرج عن الحدِّ في خُلُق، حتّى في الدين والحكمة الذين هما أفضل الأمور، فهو قبيحٌ مذموم.
وأما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية، والكون كون الأرض لا استواؤها.
ووزن النفوس في أشباه أقسامها. فوزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألاّ يفوت شيء منها شيئاً، كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس، والأنف العظيم لصاحب العين الضَّيِّقة، والذَّقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المدَّع النِّضو، والظَّهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرتين، والظَّهر القصير لصاحب الفخذين الطويلتين، وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه.
ثم هذا أيضاً وزن الآنية وأصناف الفُرُش والوشْي واللباس، ووزن القنوات التي تجري فيها المياه.
وإنما نعني بالوزن الاستواء في الخرط والتركيب.
فلا بدَّ ممّا لا يمنع الناظر من النظر إلى الزَّرع والغرس والتفسُّح في خضرته والاستنشاق من روائحه. ويسمّى ذلك كلُّه له حِلاًّ ما لم يمد له يداً. فإذا مدّ يداً إلى مثقال حبّةٍ من خردل بغير حقِّها فعل ما لا يحلُّ، وأكل ما يحرم عليه.
وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ، ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام، ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر، حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم.
وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة " . قال عبد الله بن مسعود، وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال: إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة، وإنْ تأخَّر فلممٌ. وقال غيره من الصَّحابة: القبلة واللَّمْس. وقال آخرون: الإتيان فيما دون الفرج.
وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته، فقال: ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله!.
فإن قال قائل: فيما روى من الحديث: " فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء " ، وقال: " لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها، إلا إنَّ حموها الموت " وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق، مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة؛ وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع.
قلنا: إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور، ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن، والعمل على النيَّات، فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعلّه ملحد فيه، ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ، إلاَّ أنّه مولود على فراشه، مشهورٌ بالانتماء إليه. ولو كُلِّف من يشهد لرجلٍ بواحدٍ من هذين المعنيين على الحقيقة لم تقم عليه شهادة. ومن يحضر مجالسنا لا يظهر نسباً مما ينسبونه إليه، ولو أظهر ثمَّ أغضينا له عليه لم يلحقْنا في ذلك إثم.
والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى. ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج. فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة، ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله، فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية.
ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ؛ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق، فيعوق عن ذلك ضبط الموالي ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب، فيضطر العاشق إلى الشراء، ويحلّ به الفرج، ويكون الشيطان المدحور.
والعشق داءٌ لا يملك دفعه، كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية، ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم.
ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء، للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته، ونحل جسمه وضوي لحمه، حتَّى يؤمر بالتخليط، ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات. ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية، لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء.
وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة، كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه. وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم. وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله، وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى، كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم. فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر، وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه في الانحلال. فالعشق يتركب من الحبّ والهوى، والمشاكلة والإلف، وله ابتداءٌ في المصاعدة، ووقوف على غاية، وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال.
والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به، لا تفسير له غيره؛ لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله، وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن، وإن الرجل يحبُّ ولده، والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه، ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً. فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق، ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار، وربّما عدل عنهما. وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور. ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى. ولذلك قيل: " عين الهوى لا تصدق " ، وقيل: " حبُّك الشيء يعمي ويصمّ " . يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم. وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إن سئل عن حجّته في ذلك لم تقم له حجّة.
ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً، فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد، والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ. فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده، وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق.
وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق.
فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة، أعني مشاكلة الطبيعة، أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال، المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان، صار ذلك عشقاً صحيحاً. وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة، وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة.
ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف، وتغرسه المواظبة في القلب، فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر، وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد. وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل. فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً.
ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره، والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن، ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة، ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته، والخاطر في كلِّ حالة على قلبه.
وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة، واضمحلَّ على المطاولة، وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها.
فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه. والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض؛ لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة، وسرعة الإلف وإبطائه، وقلّة الشَّهوة وضعفها.
وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه، ونكت في صدره وشغف فؤاده. وذلك من المشاكلة، وإجابة بعض الطبائع بعضاً، وتوقان بعض الأنفس إلى بعض، وتقارب الأرواح. كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس، وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله، قسراً من الطبيعة.
وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف، أو في الهوى أو الطِّباع. ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح، والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن، وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه، لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب.
ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفوس إليهنَّ، وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من اللّذَّات ما لا يجتمع في شيءٍ على وجه الأرض.
واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ، والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها. فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره، إذْ كان دماً جامداً. ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة، أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك، عاد ضرراً. ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة.
فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ، وصار القلب لها رابعاً. فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع، وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه، ولا تطرب آلته إلا إليه.
وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه. والحواسُّ كلُّها رواد للقلب، وشهودٌ عنده.
وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف، وأصغى نحوها السَّمع، وألقى القلب إليها الملك، فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه، فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس، فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ، ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة؛ لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة " . وكفى بها لصاحبها فتنةً، فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع، وتكانفتهما المغازلة.
إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تُناصح في ودِّها؛ لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين، ليقتحموا في أُنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ، وداعبتْه بالتبسُّم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشُّرب عند شربه، وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه، والصَّبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه، وأنّه قد تعقّل في الشَّرك، تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها، وبلَّت السِّحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنَّها لا تريد سواه، ولا تؤْثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار، وختمتْه بزعفران، وشدَّته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحَّت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:
وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ... ر مليحةٍ نغماتُها
جاءت وقد قرح الفؤا ... د لطول ما استبْطاتُها
فضحكت حين رأيتُها ... وبكيت حين قراتُها
عيني رأت ما أنكرتْ ... فتبادرت عبراتُها
أظلوم، نفسي في يدي ... ك: حياتُها ووفاتُها
ثم تغنت حينئذ:
باب كتاب الحبيب ندماني ... محدِّثي تارةً وريحاني
أضحكني في الكتاب أوّلُه ... ثم تمادى به فأبكاني
ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب، وتغايرتْ على أهله، وحمتْه النظر إلى صواحباتها، وسقتْه أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وتحيَّةٍ من ريحانها، وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها، وقطعةً من مرطها، وشظيَّةً من مضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً، وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وأبدت عند العثرة اسمه، وغنَّته إذا رأته:
نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ ... وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ
ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه، ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به، ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه، ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت، ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت، وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه، وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون:
أهوى من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه، أو كان منه مُدانيا
وعند الدُّعاء به قوله:
وداعٍ دعا إذْ نحن بالخيف من منىً ... فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وربما قادها التمويه إلى التصحيح، وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها، وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها، وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه، وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي، واستباعت من السادة، وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها، وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللَّفظ، دقيق الفهم، لطيف الحسّ، خفيف الرُّوح. فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها.
وأكثر أمرها قلّة المناصحة، واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه. وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحدٍ بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها، وتوهمه أنَّها له دون الآخر، وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها. وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة، تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم.
فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به، ولا علم يدعو إليه، ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان، لكفاه.
وليس هذا بذمٍّ لهنَّ، ولكنَّه من فرط المدح. وقد جاء في الأثر: " خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات " .
وليس يُحسن هاروت وماروت، وعصا موسى، وسحرة فرعون، إلاَّ دون ما يُحسنه القيان.
ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة. ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا لهنَّ كلَّ ذنب، وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب.
وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ، وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر. والسبب فيه واحد، والعلّة سواء.
وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنمّا تكتسب الأهواء، وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب والأخانيث، وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة.
وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيبٌ في ثواب؛ وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى والقيادة، والعشْق والصَّبوة، والشَّوق والغلْمة.
ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة. وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها؛ لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت، وإنْ أهملتْها نقصتْ، وإن لم تستفد منها وقفتْ. وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب. وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها، والمواظبة عليها. فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه، ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها، وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته؛ لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها، مشاغيل بما هي فيه، وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها.
ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء، فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة، ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة، ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة، وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة، والقلوب واجفة، والأكباد متصدِّعة، والأماني واقفة، على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده، مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى، ويستفاد ويُقتنى، بعد العُقد النَّفيسة. فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن، مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار.
ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة، فإذا جاءوا حصلوا على النظر وانصرفوا بالحسرة، ويجتني مولاها ثمرة ما غرسوا ويتملَّى به دونهم، ويُكفي مؤونة جواريه.
فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال، ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم، وصعوبة خدمتهم، هو عنه بمعزلٍ: لا يهتمُّ بغلاء الدقيق، ولا عوز السَّويق، ولا عزَّة الزيت، ولا فساد النبيذ؛ قد كُفي حسرته إذا نزر، والمصيبة فيه إذا حمض، والفجيعة به إذا انكسر.
ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ، ويسأل الحوائج فلا يُمنع، ويُلقي أبداً بالإعظام، ويكنَّى إذا نودي، ويُفدَّى إذا دُعي، ويُحيَّا بطرائف الأخبار، ويُطلع على مكنون الأسرار، ويتغاير الرُّبطاء عليه، ويتبادرون في برِّه، ويتشاحُّون في ودّه، ويتفاخرون بإيثاره.
ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء: يُعطَون فوق ما يأخذون، وتُحصَّل بهم الرغائب، ويدرك منهم الغنى.
والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين والعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد؛ لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة، لتركه حذقاً واختياراً، وشحاً على صناعته، ودفعاً عن حريم ضيعته؛ لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه، ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه.
ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويعرض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يُعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب، ويُشدَّد الحجاب، ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها. ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ، مثل سلمة الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّور، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام.
فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها!.
ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها؛ لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة.
فهل على مزوَّجة من حرج، وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل، وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة.
هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها. فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية، والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها. وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين؛ إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة، والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون.
فإن قال قائل: إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق. وبالله سبحانه التوفيق.
كتاب ذمّ أخلاق الكتَّاب
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وأبقاك وأمتع بك.
قد قرأت كتابك ومدحتك أخلاق الكتّاب وأفعالهم، ووصْفك فضائلهم وأيّامهم، وفهمته.
ومتى وقع الوصف من القائل تقصِّياً، والنَّعت من الواصف تألُّفاً، قلَّ شهداؤه وكثر خصماؤه، وخفَّت المؤونة على مجاوبيه في دعواه، وسُهلت مناسبة الأدْنياء له في معناه. لأنَّ أغلظ المحن ما عُرض على المشهود فأزاله، وتصفَّحه المعقول فأحاله.
وأضعف العلل ما التُمس بعد المعلول، ونصبت له علماً على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدَّم المعلول علَّته والمخبر عنه خبره، استُغنى عن الحاكم، وظهر عُوار الشَّاهد.
فقد رأيتك أطنبت بإحماد هذا الصِّنف من الناس، وحكمت بفضيلة هذه الطبقة من الخَلْق، فعلمت أنّ فرط الإعجاب من القائل متى وافق صناعة المادح رسخ في التركيب هواه، ورسبتْ في القلوب أوتاده، واشتدَّ على المناظر إفهامه، وعلى المخاصم بالحقّ توقيفه، وكان حكمه في صعوبة فسْخه وتعذُّر دفعه حكم الإجماع إذا لاقى محكم التنزيل.
ولست أدعُ مع ذلك توقيفك على موضع زللك في الاحتجاج، وتنبيهك على النكتة من غلطك في الاعتلال، بما لا يمكن السامع إنكاره ولا ينساغ له إبطاله. وأبيِّن مع ذلك رداءة مذاهب الكتّاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم بما تعلم أنت والناظر في كتابي هذا: أنِّي لم أقل إلاّ بعد الحجّة، ولم أحتجَّ إلاّ مع ظهور العلَّة، ثم أستشهد مع ذلك الأضداد تبياناً، وأجمع عليه الأعداء إنصافاً، إذ كان في ذلك من التبيان ما يبهرهم، ومن القول ما يسكتهم.
ثم أقول: ما ظنُّك بقوم منهم أوّل مرتدٍّ كان في الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتّى مات بجزيرة العرب كافراً، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرْح.
ثم استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده معاوية بن أبي سفيان، فكان أوّل من غدر في الإسلام بإمامه، وحاول نقض عُرى الإيمان بأثامه.
وكتب عثمان بن عفّان لأبي بكر رضوان الله عليهما - مع طهارة أخلاقه وفضائل أيّامه - فلم يمتْ حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمِّ من ذمَّه من أوليائه.
ثم كتب لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياد بن أبيه، فانعكس شرَّ ناشئٍ في الإسلام، نُقضت بدعوته السُّنّة، وظهرت في أيّامه ولايته بالعراق الجبْرية.
ثم كتب لعثمان بن عفان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخافه في خاتمه، وأشعل الرَّعيّة حرباً عليه في مُلكه.
ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فتبيّن من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتبٍ حتّى مات.
ولو كانت الكتابة شريفةً والخطُّ فضيلة كان أحقَّ الخلْق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أولى الناس ببلوغ الغاية فيها ساداتهم وذوو القدر والشرف فيهم. ولكنَّ الله منع نبيَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الخطَّ فيه دنيَّة، وصدَّ العِلْم به عن النبوَّة. ثم صيَّر الملك في ملكه، والشَّريف في قومه يتبجَّج برداءة الخط، وينبل بشنج الكتاب. وإنَّ بعضهم كان يقصد لتقبيح خطَّه وإنْ ككان حلواً، ويرتفع عن الكتاب بيده - وإن كان ماهراً، وكان ذلك عليه سهلاً - فيكلِّفه تابعه، ويحتشم من تقليده الخطير من جلسائه.
وكتب أحمد بن يوسف يوماً بين يدي المأمون خطّاً أعجبه فقال: وددت والله أنِّي كتبت مثله وأنِّي مُغرَّمٌ ألف ألف. فقال له أحمد بن يوسف: لا تأسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنَّه لو كان حظّاً ما حُرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك إنَّ سنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلَّدها إلاّ تابع، ولا يتولاها إلاّ من هو في معنى الخادم. ولم نر عظيماً قطُّ تولَّى كفاية نفسه، أو شارك كاتبه في عمله. وكلُّ كاتب فمحكومٌ عليه بالوفاء، ومطلوبٌ منه الصَّبر على اللأواء. وتلك شروطٌ متنوّعة عليه، ومحنةٌ مستكملة لديه.
وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك، بل يناله الاستبطاء عند أول الزَّلَّة وإن أكدي، ويُدركه العذْل بأوَّل هفوةٍ وإن لم يرض.
يجب للعبد استزادة السِّيد بالشكوى، والاستبدال به إذا اشتهى.وليس للكاتب تقاضي فائته إذا أبطأ، ولا التحوُّل عن صاحبه إذا التوى. فأحكامه أحكام الأرقّاء، ومحلُّه من الخدمة محل الأغبياء.
ثم هو مع ذلك في الذِّروة القصوى من الصَّلف، والسَّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التِّيه والسَّرف. يتوهَّم الواحد منهم إذا عرَّض جبَّته وطوّل ذيله، وعقص على خدِّه صُدغه، وتحذف الشابورتين على وجهه، أنَّه المتبوع ليس التابع، والمليك فوق المالك.
ثم الناشئ فيهم إذا وطئ مقعد الرياسة، وتورَّك مشورة الخلافة، وحُجزت السَّلَّةُ دونه، وصارت الدواة أمامه، وحفظ من الكلام فتيقه، ومن العلم مُلحه، وروى لبُزرْجمهْر أمثاله، ولأردشير عَهْده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفَّع أدبه، وصيَّر كتاب مَزْدَك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ أنَّه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عبّاسٍ في العلم بالتأويل، ومُعاذ بن جبلٍ في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاَّف في الجُزْء والطَّفرة، وإبراهيم بن سيار النظَّام في المكامنات والمجانسات، وحسينٌ النَّجَّار في العبارات والقول بالإثبات، والأصمعيُّ وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب. فيكون أوّل بدْوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه. ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحدٌ عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عند محاسنه كشحه. وإن ذُكر عنده شُريّح جرَّحه، وإن نُعت له الحسن استثقله، وإن وُصف له الشعبيُّ استحمقه، وإن قيل له ابن جُبير استجهله، وإن قدَّم عنده النَّخعيُّ استصغره.
ثم يقطع ذلك من مجلسه سياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان.
فإنْ حذر العيونْ وتفقَّده المسلمون، رجع بذكر السُّنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبَّه بالشاهد الغائب. لا يرتضى من الكتب إلاَّ المنطق، ولا يحمد إلاَّ الواقف، ولا يستجيد منها إلاّ السَّائر.
هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم.
ومن الدليل على ذلك، أنّه لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السَّعْي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقِّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه أُلاَّفه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله.
قال الزُّهريّ لرجل: أيُعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلاَّ الفحول من الرِّجال، ولا يبغضه إلاَّ إناثهم!.
ولئن وافق هذا القول من الزُّهري فيهم مذهباً، إنَّ ذلك لَبَيِّنٌ في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.
وسئل ثُمامة بن أشرس يوماً، وقد خرج من عند عمرو بن مسْعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهْمه؟ فقال: ما رأيت قوماً نفرتْ طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز - فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحْص والنظر قائد غيِّهم، والحكمة معْدن شبههم - أكثر من الكتَّاب.
وذكر أبو بكرٍ الأصمُّ ابن المقفَّع فقال: ما رأيت شيئاً إلاَّ وقليله أخفُّ من كثيره إلاَّ العلم، فإنّه كلَّما كثر خفَّ محمله. ولقد رأيت عبد الله بن المقفَّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: " كمثل الحمار يحْمل أسْفاراً " . قد أوهنه علمه، وأذهله علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته، وحيَّرتْه بصيرته.
وكنا في مجلس بشر بن المعتمر يوماً وعنده المُرْدار، وثمامة، والعلاَّف، في جماعةٍ من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوامَّ واستحواذ الفتنة عليهم في التقليد، واستغلاق قلوبهم بكثيرٍ مما ليس في طبعهم، فتعظِّمهم وتقضي لكلِّ من نُبل منهم بالصَّواب في قوله وإنْ لم يعلموا. لا يدينون بالحقيقة، ولا يحمدون إلا ظاهر الحلْية.
ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمنلا يعرفونه، حتَّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير مُعاشرةٍ جرتْ بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلاّ أنَّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلانٌ الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحدٍ تجهيله مع نبله. فإنْ وُقفوا على تمييزه هابوه، وإن دُعوا إلى تفهُّمه أكبروه، وقالوا: لم يُنصب هذا بموضعه إلاَّ لخاصَّةٍ فيه وإن جهلناها، وفضيلةٍ موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلَّه عُمر بن فرجٍ في السَّفه والمباهتة، وإبراهيم بن العبَّاس في الشَّره والرَّقاعة، ونجاح بن سلمة في الطَّيش والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللُّؤم والجهالة، وآل وهب في النَّهم والنَّذالة، ويحيى بن خاقان في الذُّلِّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبِّر في الخبِّ والمكابرة، والفضْل بن مروان في الفدامة مقصورة.
وفي عمر بن فرج يقول الشاعر:
لا تطلب الخير من بني فرج ... لا بارك الله في بني فرجِ
والعنْ إذا ما لقيته عُمراً ... لعناً يقيناً بأعظم الهرجِ
فلعنةٌ إنْ لعنْتها عُمراً ... تعدِل مقبولةً من الحججِ
ليس على المفتري على عُمرٍ ... من ضرْب حدٍّ يُخْشى ولا حرجِ
وخُبِّرْت أنَّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوماً ليسلِّم عليه، فلم يأذنْ له حاجبُه فانصرف، وأتاه يوماً آخر فصادفه حين نزل فسلَّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذنْ له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رُقْعةً فيها:
أراك تُراعُ حين ترى خيالي ... فما هذا يروعُك من خيالي
لعلك خائف منِّي سؤالاً ... ألا فلك الأمان من السُّؤال
كفيتُك إنَّ حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلاً بحالي
وإنَّ العُسْر مثل اليسر عندي ... بأيِّهما مُنيت فما أُبالي
فلما قرأ يحيى بن خاقان رُقْعته ووثق بأمانه من السُّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يَعُدْ إليه، ولا التقيا بعد ذلك.
وجلس الجاحظ يوماً في بعض الدواوين، فتأمَّل الكتَّاب فقال: خلقٌ حلوة، وشمائل معشوقة، وتظرُّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنْبتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون.
ثم وصف أصحاب الصناعات، وذكر تعاطف أهلها على نظرائهم، وتعصُّب رجالها على غيرهم فقال: لا أعلم أهل صناعة إلا وهم يجْرون في ذلك إلى غاية محمودة، ويأتون منه آيةً مذكورة، إلا الكُتَّاب، فإنَّ أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله، ويسترجح رأيه إذا بلغ في نكاية رجلٍ من أهل صناعته.
ثم ضرب لهم في ذلك مثلاً، ثم قال: هم كالهرمة من الكلاب في مرابضها، يمرُّ بها أصناف الناس فلا تحرَّكُ، وإن مرَّ كلبٌ مثلها نهضت إليه بأجمعها حتّى تقتله.
وحدّثني عُمر بن سيف، أنه حضر مجلس أبي عبّاد ثابت بن يحيى يوماً في منزله، وعنده جماعة من الكتاب، فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق ومدانس الأفعال، قال: ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال، وزُهدهم في المواصلة فقال: معاشر الكتاب، ما أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامَّة منكم، ولا النعم على قومٍ أظهر منها عليكم. ثم إنَّكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزُّهد في التعاطف عند الاختلال. وإنَّه ليبلغني أنَّ رجلاً من القصابين يكون في سُوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلَّى له القصَّابون سُوقهم يوماً، ويجعلون له أرباحهم، فيكون بربحها منفرداً، وبالبيع مُفردا، فيسدُّون بذلك خلَّته، ويجبرون منه كسره. وإنكم لتناكرون عند الاجتماع والتعارف، تناكر الضباب والسَّلاحف، ثم مع استحواذكم على صناعتكم، وقلة ملابسة أهل الصناعات لها معكم، لم أر صناعة من الصناعات إلاّ وقد يجمع أهلها غيرها إليها فيعانونها جميعاً، وينزلون لضربٍ من التجارات معاً، إلاّ صناعتكم هذه؛ فإنَّ المتعاطى لها منكم، والمتسمِّي بها من نظرائكم، لا يليق به ملابسةُ سواها، ولا ينساغ له التَّشاغل بغيرها. ثم كأنكم أولاد علاَّتٍ، وضرائر أُمهات، في عداوة بعضكم بعضا، وحنق بعضكم على بعض. أُفٍّ لكم ولأخلاقكم!.
إنَّ للكتّاب طبائع لئيمة، ولولا ذلك لم يكن سائر أهل التجارات والمكاسب بنظرائهم بررةً، ومن ورائهم لهم حفظة، وأنتم لأشكالكم مُذلُّون، ولأهل صنائعكم قالون. قبح الله الذي يقول قضينا في الأمور بالأغلب.
وعرفنا علل الناس في مكاسبهم وتعامُلهم، فمن كانت علَّتُه أكرم كان كرم فعاله أعمَّ.
ولست أعلم علَّةً في مكتسبٍ أنبل عند الخاصَّة من مكسبكم.
ثم وصف من سلف من هذه الطَّبقة يوماً فقال: كتب سالمٌ لهشام ابن عبد الملك، وكان أشدَّ الناس غلطاً، وأضعفهم رأياً، وكان هشامٌ يُحضره فيسمع من ضعفه ويستميحه الرأي، يهزأ به.
ثم كتب لهم مسْعدة وكان مؤدِّباً، وكانت ضعْفة المؤدِّبين فيه.
ثم كتب لهم عبدُ الحميد وكان معلِّماً، وبتحامله على نصر بن سيار انتقضت خراسان، وزال ملك بنى مَرْوان.
ثم كتب لبني العباس عبد الله بن المقفَّع، فأغرى بهم عبد الله بن علي، ففُطن له وقُتل وهدم البيت على صاحبه.
ثم كتب لهم يونس بن أبي فروة، وكان زنديقاً، فطلب فاختفى بالكوفة والنِّيل حتَّى هلك.
واستكتب الرشيد أزدانقاذار على ديوان الخراج، وكان ثنويّاً.
ثم لم ينوِّهوا بذكر كاتبٍ حتّى ولى المأمون، فقدم معه ابن أبى العباس الطُّوسى، فبه انتشرت السِّعاية بالعراق.
واستكتب أبا عبّاد، وكان بالرَّى مؤدِّباً، وكان سخيفاً حديداً، ولم يزل بمكانه في ديوانه قيمّا لابن أبي خالد الأحول والاسم له.
ثم كتب له رجاء بن أبي الضحَّاك، وكان أظلمهم وأغشمهم، واستخلف حفصويه على ديوان الخراج، وكان ركيكاً لسعايته.
ثم كتب لهم ابن يزداد، وكان أشقاهم، حتّى هلك.
وكتب لهم عمرو بن مسعدة، وكان رسائلياً فقط.
واسترجح المأمون وهو بخراسان قبل مقدمه من كتاب العراق على غير بلوى إبراهيم بن إسماعيل بن داود، وأحمد بن يوسف، فلما قدم امتحنهما فتعنَّتا، فاستنهضهما في الأعمال ففشلا، فلم يعملا على شيء حتّى هلكا.
وكان إبراهيم شُعوبيا، وكان يتهم بالثَّنويَّة. فإن كان ذلك صحيحاً فقد كانت صبابته بها على جهة التقليد فيها، لا على جهة التفتيش والاحتجاج فيها. وهذه علة المرتدّ من سائر الكتّاب.
وقد قال أهل الفطن: إنَّ محض العمى التقليد في الزندقة؛ لأنَّها إذا رسخت في قلب امرئ تقليداً أطالت جرأته، واستغلق على أهل الجدل إفهامه.
وكان أحمد بن يوسف مأفونا، وهو أول من قُرف بالآفة المخالفة لطبع الكتَّاب.
واستقضى على ديوان الخراج والجند إبراهيم الحاسب، والحسن بن أبى المشرف. فلقن إبراهيم من سائر الآداب والعلوم علم الحساب فقط، ولم يُفزع إليه في قضيةٍ ولا رأى حتّى هلك، فكان الذي وضعه وأدناه شرهُه، وهي علَّةٌ قائمة في كتّاب الجند خاصة.
واستضعف ولاة الدواوين الحسن بن أبى المشرف عند قول الفضل مروان له وهو على الوزارة: " يا حسن، احتجنا إلى رجلٍ جزلٍ في رأيه، متوفّر لأمانته، متصرِّف في الأمور بتجربته، مستقدرٍ على الأعمال بعلمه، تصف لنا مكانه، وتشير علينا به، فنقلِّده جسيماً من عملنا " . فأجابه سريعاً قال: وجدته لك - أصلحك الله - كذلك. قال: من هو؟ قال: أنا. وألح في قوله، فتبسم الفضل وقال: هذا من غيرك فيك أحسن منك بلسانك لك، نعود وننظر إن شاء الله! وحسبك بقومٍ أنبلهم أخسُّهم في الرِّزق مرتبة، وأعظمهم غناءً أقلُّهم عند السُّلطان عقلاً. يُرزق صاحب ديوان الرسائل - وبلسانه يخاطب الخلق - العشر من رزق صاحب الخراج. ويرزق المحرِّر - وبخطِّه يكون جمال كتب الخليفة - الجُزء من رزق صاحب النَّسخ في ديوان الخراج. لا يحضر كاتب الرسائل لنائبةٍ، ولا يُفزع إليه في حادثة. فإذا أبرم الوزراء التدبير، ووقفوا منها على التقدير، طرحت إليه رقعةٌ بمعانى الأمر لينسِّق فيه القول، فإذا فرغ من نظامه واستوى له كلامه، أحضر له محرِّره فجلس في أقرب المواطن من الخليفة، وأمنع المنازل من المختلفة، فإذا تقضَّى ذلك فهُما والعوّام سواء.
هذا وليست صناعتهما بفاشيةٍ في الكتَّاب، ولا بموجودة في العوامّ؛ فأغزرهم علماً أمهنهم، وأقربهم من الخليفة أهونهم. فكيف بكاتب الخراج الذي علمه ليس بمحظور، وإشراك الناس فيه ليس بممنوع، يصلح لموضعه كلُّ من عمل وعُمل عليه، أحمد أحواله عند نفسه التعقُّد على الخصوم، وأسعد أموره التي يرجو بها البلوغ الشَّره ومنع الحقوق. وأحذق ما يكون بصناعته عند نفسه حين يأخذ بإبطال السُّنن، ويعمل بفلتات الدفوع.
ولذلك ما ذكر أنَّ بعض رجال الشَّعبيِّ قال له: يا أبا عمرو، الكتَّاب شرار خلق الله! فقال: لا تفعل.
ولكنَّ الشعبيَّ كان لسلطانه مُدارياً.
ومن كتاب الجند: محمود بن عبد الكريم، كان حُميد بن عبد الحميد عند دخول المأمون مدينة السلام وبعد سكون الهيْج وخمود النَّائرة، رفع إلى المأمون يذكر أن في الجند دغلا كثيراً ممن دخل فيهم بسبب تلك الحروب في أيام الأجناد وهم قومٌ من غير أهل خراسان ممَّن تشبَّه بهم وادّعى إليهم من الأعراب والدُّعّار، وممن لا يستحقُّ الدِّيوان، وقومٌ من أهل خراسان صارت لهم الخواصُّ السَّنيَّة، ولم يكن لهم من الغناء ما يستحقُّون به مثلها وذكر أنَّ بيت المال لا يحتمل ذلك، وسأل المأمون أن يولِّيه تصنيف الجند. ولم يكن مذهب حُميدٍ في ذلك التوفير على المأمون، ولا الشفقة على بيت مال المسلمين، ولكنه تعصَّب على أبناء أهل خراسان، واضطغن عليهم محاربتهم إياه أيَّام الحسن بن سهل مع ولد محمد بن أبي خالد وغيرهم، وما كانوا قد انتحوْه به من تلك الوقائع والهزائم، وما ذهب له من الأموال بذلك السَّبب.
فولاه المأمون التصنيف، وأمر للجند برزق شهرين، فولّى حميدٌ العطاء والتصنيف محمود ابن عبد الكريم الكاتب، وعرف محمود ما غزا حميد، فتحامل على الناس واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواصَّ، وبعث في الكور وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم وإشفاءً لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنّت، فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشرٌ كثير.
ثم إنّ المأمون أمر للناس بتمام عطاياهم؛ واكتسب محمود بن عبد الكريم المذمَّة، وصار ملعنةً في محالِّ بغداد وفي مجالسها وطرقها.
ومنهم: زيد بن أيوب الكاتب، عمل في ديوان الجند أربعين سنة، ثم صار في آخر عمره قواداً ليحيى بن أكثم القاضى. وذلك أن المأمون أمر له بفرض، فصّير يحيى بن أكثم أمر ذلك الفرض إلى زيد بن أيوب، وأمره ألا يفرض إلا لأمرد بارع الجمال، حسن القد والصورة. فكان آمر ذلك الفرض مشهوراً متعالماً. ففي ذلك يقول الحسن بن علي الحرمازيّ لزيد بن أيوب:
يا زيد يا كاتب فرض الفراش ... أكلُّ هذا طلبٌ للمعاش
مالي أرى فرضك حملانهم ... يثبت في القرنين قبل الكباش
وعلى ذلك فإنه لم يبلغني أنه كان في ولاة ديوان الجند ولا في كتابهم مثل المعلّى بن أيوب في نبله وارتفاع همته، وكرم صحبته، وعفافه، وجميل مذهبه، وشدة محاماته عمن صحبه وتحرَّم به. فكان المأمون يعرف له ذلك ومن بعده من الخلفاء، فثبتت وطأته، ودامت ولايته، وحمد أثره.
قد أتينا على بعض ما أردنا فيما له قصدنا، ولم نستعمل الانتزاعات فيما ذكرنا، وأعرضنا عن التأويلات فيما وصفنا، وقصدنا إلى المأثور فحكيناه، وإلى المذكور في الأزمنة فأجريناه، لئلا يجد الطاعن فيما وصفنا مقالا، والمنكر لذمّ ما ذممنا مساغا، وعلمنا أن من عاند مع ذلك فقد دفع عيانا وأنكر كائنا مذكوراً. وفي ذلك دليلٌ باهر على اضمحلاله، وشاهدٌ عدلٌ لأضداده.
ولو حكينا كلّ ما في هذا الجنس من الأقوال، وما يدخله من المقايسات والأشكال، لطال الكتاب،ولمله الناظر المعجاب، فاكتفينا بالجزء من الكتاب، والبعض دون التمام، وعلمنا أنَّ الناظر فيه إن كان فطناً أقنعه القليل فقضى، وإن كان بليداً جهولا لم يزده الإكثار إلا عيّاً، ومن العلم بما له قصدنا إلا بعدا. وبالله الكفاية والتوفيق.
تمَّ كتاب " ذم أخلاق الكتاب " بعون الله ومنِّه ومشيئته وتوفيقه، والله تعالى الموفق للصواب. والحمد لله أولا وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بالله نستعين، وإياه نستهدي، وعليه نتوكل.
إنّ لكل نوعٍ من العلم أهلاً يقصدونه ويُؤْثرونه، وأصناف العلم لا تُحصى، منها الجزلُ ومنها السَّخيف. وإذا كان موضع الحديث على أنّه مُضحكٌ ومُلهٍ، وداخلٌ في باب حدّ المزج، فأُبدلت السَّخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وُضع على أن يَسُرَّ النفوس يكرُبُها ويغُمّها.
ومن كان صاحب علم ممرَّناً موقَّحا، إلف تفكير وتنقيب ودراسة، وحلف تبيُّن، وكان ذلك عادةً له، لم يضره النَّظرُ في كلِّ فنٍّ من الجدّ والهزل؛ ليخرج بذلك من شكل إلى شكل. فإنَّ الأسماع قد تملُّ الأصوات المطربة، والأوتار الفصيحة، والأغانيَّ الحسنة، إذا طال ذلك عليها.
وقد رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: " إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل مخافة أن أحمل عليها من الحقّ ما يُملُّها " .
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كلِّ شيءٍ أحسنه " .
ورُوي عن الشَّعبي أنه قال: " إنّ القلوب تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة " .
وبعض من يُظهر النسك والتقشُّفإذاذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع.
ولو علم أنَّ عبد الله بن عباسٍ أنشد في المسجد الحرام وهو مُحرمٌ:
وهُنَّ يمشين بنا هميسا ... إنْ تصدُقِ الطَّيْرُ ننكْ لميسا
فقيل له: إنَّ هذا من الرَّفث! فقال: إنما الرَّفث ما كان عند النساء.
وقول عليٍّ رضوان الله عليه ودخل على بعض أهل البصرة، ولم يكن في حسبه بذاك، فقال: من في هذه البيوت؟ فقال: عقائل من عقائل العرب. فقال: " من يَطُلْ أيرُ أبيه ينتطْق به " .
فعلى عليٍّ في التَّنزُّه يُعَوَّل.
وقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه لبُديل بن ورقاء يوم الحُديبية، وقد تهدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عضضت ببظْر اللات، أنحنُ نخذُله؟! " .
وقول حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه: " وأنت يا ابن مقطِّعة البُظور ممن يكثِّر علينا! " .
وحديثٌ مرفوع: " من عذيري من ابن أمِّ سباع مقطَّعة البُظور " .
ولو تتبَّعت هذا وشبهه وجدته كثيرا.
وإنما وُُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألاّ يُلفظ بها ما كان لأوّلِ كونها معنىً، ولكان في التَّحريم والصَّون للُغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منها.
وقد أصاب كلَّ الصَّواب من قال: " لكلِّ مقامٍ مقال " .
ولو كان ممّن يتصوَّف ويتقشَّف، علم قول امرأة رفاعة القّرظيّ تَجْبَهه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محتشمة: إنّي تزوّجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنّما معه مثل هُدبة الثَّواب، وكنت عند رفاعة فطلَّقني - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على التبسُّم حتى قضتْ كلامها - فقال: " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتَّى تذوقي من عُسيلته ويذوق من عُسيلتك " . ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها لعلم أنّه على سبيل التَّصنُّع والرِّياء.
ولو سمعوا حديث ابن حازمٍ حين زعم أنَّه يُقيم ذكره ويصعد السُّلَّم وامرأته متعلقة بذكره حتَّى يصعد.
وحديث ابن أخي أبي الزِّناد إذْ يقول لعمِّه: أنْخَرُ عند الجماع؟ قال: يا بُنيَّ إذا خلوت فاصنع ما أحببت. قال: يا عمِّ، أتنخرُ أنت؟ قال: يا بنيّ، لو رأيت عمَّك يجامع لظننت أنّه لا يؤمن بالله العظيم!.
وهذان من ألفاظ المُجان.
ورُوي عن بعض الصَّالحين من التابعين رحمه الله، أنه كان يقول في دعائه: اللهمَّ قوِّ ذكري على نكاح ما أحللت لي.
ونحن لم نقصد في ذكرنا هذه الأخبار الردَّ على من أنكر هذهذ الأمور، ولكنَّا لما ذكرنا اختصام الشِّتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضَّأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللاَّطة والزُّناة، وذكرنا ما نقل حُمَّال الآثار وروتْه الرُّواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان في بعض البطالات، فأردنا أن نقدِّم الحُجَّة لمذهبنا في صدر كتابنا هذا.
ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتغ ويُردي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدُّنيا برحمته.
قال (صاحب الغلمان): إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية إذا وُصفت بكمال الحسن قيل: كأنَّها غلام، ووصيفةٌ غلامية.
قال الشاعر يصف جارية:
لها قدُّ الغلام وعارضاه ... وتفتير المبتَّلة اللَّعوبِ
وقال:
فطِبْ لحديثٍ من نديم موافقٍ ... وساقيةٍ بَيْنَ المُراهقِ والحُلْمِ
إذا هي قامت والسُّداسيَّ طالها ... وبين النَّحيف الجسم والحسن الجسم
وقال والبة بن الحُباب:
وميراثيَّة تمشي اختيالاً ... من التكريه قاتلة الكلام
لها زيُّ الغلام ولم أقسْها ... إليه ولم أُقصِّر بالغلامِ
وقال عُكاشة:
مطمومة الشَّعْر في قُمصٍ مزرَّرةٍ ... في زيّ ذي ذكرٍ سيماهُ سيماها
وأكثر من قول الشاعر قول الله عزّ وجلّ: " يطوف عليهمْ غلمانٌ لهمْ كأنهم لؤلؤ مكنونٌ " وقال تبارك وتعالى: " يطوف عليهم ولْدانٌٌ مُخلَّدون. بأكوابٍ وأباريق " . فوصفهم في غير موضعٍ من كتابه، وشوَّق إليهم أوْلياءه.
قال (صاحب الجواري): قد ذكر الله جلَّ اسمه الحور العين أكثر مما ذكر الولدان، فما حجَّتك في هذا إلا كحجَّتنا عليك.
ومما صان الله به النِّساء أنَّه جعل في جميع الأحكام شاهدين: منها الإشراك بالله، وقتل النَّفْس التي حرم الله تعالى؛ وجعل الشهادة على المرأة إذا رُميت بالزِّنى أربعةً مجتمعين غير مفترقين في موضعٍ، يشهدون أنَّهم رأوه مثل الميل في المُكحُلة. وهذا شيءٌ عسير؛ لما إراد الله من إغماض هذا الحد إذ جعل فيه الشَّدخ بالحجارة.
وإنما خلق الله الرِّجال بالنساء.
وريح الجارية أطيب، وثيابها أعطر، ومشيتها أحسن، ونغْمتها أرق، والقلوب إليها أمْيل. ومتى أردتها من قُدَّامٍ أو خَلْفٍ من حيث يحسن ويحلّ وجدت ذلك كما قال الشاعر:
وصيفةٌ كالغلامِ تصلح لل ... أمرين كالغُصن في تثنِّيها
أكملها اللهُ ثم قال لها ... لما استتمَّت في حُسنها: إيها
قال: ونظر بعض الحاجِّ إلى جاريةٍ كأنها دمية في محراب، قد أبْدت عن ذراعٍ كأنه جُمارة، وهي تكلَّمُ بالرَّفث، فقال: يا هذه، تكلَّمين بمثل هذا وأنت حاجَّة! قالت: لست حاجّة، وإنما يحجُّ الجمل، ألست تراني جالسةً وهو يمشي! قال: ويحك، لم أر مثلك فمن أنت؟ قالت: أنا من اللواتي وصفهنَّ الشَّاعر فقال:
ودَقّت وجَلَّت واسبكرّت وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنَّتِ
قال (صاحب الغلمان): إنّ أحداً لا يدخل الجنّة إلا أمرد، كما جاء في الحديث: " إن أهل الجنّة يدخلونها جُرْداً مكحَّلين " . والنِّساء إلى المُرْدِ أمْيل، وله أشهى، كما قال الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأً ... فقد الشَّباب وقد يصلْن الأمردا
وقال امرؤ القيس:
فيا رُبَّ يومٍ قد أروحُ مرجَّلاً ... حبيباً إلى البيض الأوانسِ أملسا
أراهن لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال عَلْقمة بن عبدة:
فإنْ تسألوني بالنِّساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخُ الشَّباب عندهنَّ عجيبُ
قال (صاحب الجواري): فإن الحديث قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " حُبِّبت إليَّ النِّساء والطِّيب، وجعل قُرَّة عيني في الصلاة " . ولم يأت للغلمان مثل هذه الفضيلة. وقد فُتن بالنساء الأنبياء عليهم السلام، منهم داود، ويُوسف، عليهما السلام.
قال (صاحب الغلمان): لو لم يكن من بليّة النساء إلاّ أنّ الزِّنى لا يكون إلاّ بهنّ، وقد جاء في ذلك من التغليظ ما لم يأتِ في غيره في الكتاب نصّاً، وفي الروايات الصحيحة. قال الله تبارك وتعالى: " ولا تقْربوا الزِّنى إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً " ، وقال: " ولا يزْنون ومنْ يفعلْ ذلك يًلْقَ أثاماً. يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهاناً " ، وقال: " الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ " . وقد جعل بينهما إذا لم يكن شهودٌ التلاعن والفرقة في عاجل الدُّنيا، إلى ما أعدَّ للكاذب منهما من اللَّعن والغضب في الآخرة.
قال (صاحب الجواري): ما جعل الله من الحدّ على الزَّاني إلاّ ما جعل على اللَّوطيّ مثله. وقد رُوي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؟، أنّه أُتي بلُطيٍّ، فأُصعد المئذنة ثم رُمي منكِّساً على رأسه، وقال: " هكذا يُرمى به في نار جهنَّم " .
وحُدِّث عن أبي بكر، رضي الله عنه، أنّه أُتي بلوطيٍّ فعرقب عليه حائطاً.
وحديث أبي بكر أيضاً رضي الله عنه، أنَّ خالد بن الوليد كتب إليه في قومٍ لاطُوا فأمر بإحراقهم.
وأحرقهم هشام بن عبد الملك، وأحرقهم خالد بن عبد الله بأمر هشام.
وفي الحديث مجاهد أنَّ الذي يعمل عمل قوم لُوطٍ لو اغتسل بكلِّ قطرةٍ من السَّماء وكلِّ قطرة في الأرض لم يزلْ نجساً.
وحديث الزُّهريّ: " اللُّوطيّ يُرجم، أُحصن أو لم يُحصنْ؛ سُنّةٌ ماضيةٌ " .
ورُوي عن الحكم بن عُتَيْبَة أن عليّاً رحمه الله رجم لوطيّاً وقال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذَّكرين يلعب أحدهما بالآخر " .
وحديث أنسٍ قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤنَّثين من الرجال، والمذكَّرات من النساء " .
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنَّثاً من المدينة يقال له " هيتٌ " وسمعه يقول لأمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا فتحتم الطَّائف فعليك بادية بنت غيْلان، فإنها هيفاءُ شموع، إذا قامت تثنَّت، وإذا تكلَّمت تغنَّتْ، تُقبل بأربعٍ وتُدبرُ بثمانٍ، وبين رجليها كالإناء المكفوء، فزوِّجيها عُمر ابنك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تغلغلت في النظر يا عدوَّ الله، وما ظننتك من ذوي الإربة! " . فنفاه عن المدينة.
قال (صاحب الغلمان): من عيوب المرأة أنّ الرجل إذا صاحبها شيَّبتْ رأسه، وسهَّكت ريحه، وسوَّدت لونه، وكثر بوله. وهنَّ مصايد إبليس وحبائل الشيطان، يُتعبن الغنيَّ، ويكلِّفن الفقير ما لا يجد. وكم من رجلٍ تاجرٍ مستورٍ قد فلَّسته امرأته حتَّى هام على وجهه، أو جلس في بيته، أو أقامته من سوقه ومعاشه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النِّساء " .
قال (صاحب الجواري): قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تزوَّجوا فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأمم " .
وجاء عنه: " إذا قضيتُم غزوكم فالكيْس الكيْس " . يعني النكاح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مسكينٌ رجلٌ لا زوجة له. مسكينةٌ مسكينةٌ امرأةٌ لا بعل لها " .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: " تزوّجوا والتمسوا الولد؛ فإنَّهم ثمراتُ القلوب. وإيّاكم والعُجُز العُقر " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل عصره نساء، وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام قبله.
وقد أنبأك الله عزّ وجلّ بخير داود عليه السلام في القرآن، وما روي أنه كان لسليمان عليه السلام.
وقد تزوج ابن مسعودٍ في مرضه الذي مات فيه.
وقال مُعاذ: زوِّجوني لا ألقى الله تعالى وأنا عزب.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأُجْهد نفسي في النِّكاح حتّى يُخرج الله منيّ نسمةً تسبِّحه.
وروي أنه قال: عليكم بالأبكار الشَّواب؛ فإنهنَّ أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً.
والحديث في هذا أكثر من أن نأتي عليه.
قال (صاحب الغلمان):إن من عيوب الجواري أنَّ الرجل إذا اشترى الوصيفة إلى أن يستبرئها محرَّمٌ عليه أن يستمتع بشيءٍ منها قبل ذلك والوصيف لا يحتاج إلى ذلك. وقد قال الشاعر:
فديتك إنمّا اخترناك عَمْداً ... لأنك لا تحيض ولا تبيض
وقد جاء في الحديث أنَّ الزِّنى فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرِّزق من السماء. وأمّا اللواتي في الآخرة فالحساب، والعذاب، ودخول النار.
وروي عن مجاهدٍ، قال: إنَّ لأهل النار صرخةً من ريح الزُّناة.
وقالوا: إن أهل النار ليتأذَّون بريح الزُّناة.
قال (صاحب الجواري): لم نسمع بعاشقٍ قتله حبُّ غلام. ونحن نعدُّ من الشعراء خاصةً الإسلاميِّين جماعةً، منهم جميل بن مَعمَر قتله حبُّ بُثينة، وكثيِّر قتله حبُّ عزّة، وعروة قتله حبُّ عفراء، ومجنون بني عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلتْه لُبْنى، وعبد الله بن عجلان قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلتْه جُمْل. هؤلاء من أحصينا، ومن لم نذكر أكثر.
قال (صاحب الغلمان): لو نظر كثيِّر وجميلٌ وعروة، ومن سميِّت من نظرائهم، إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشتُرى بالمال العظيم فراهة وشطاطاً ونقاء لون، وحُسن اعتدالٍ، وجودة قدٍّ وقوام، لنبذوا بُثينة وعزّة وعفْراء من حالقٍ، وتركوهُنَّ بمزجر الكلاب. ولكنك احتججت علينا بأعرابٍ أجلافٍ جُفاة، غُذُوا بالبؤس والشَّقاء ونشؤوا فيه، لا يعرفون من رفاعة العيش ولذَّات الدنيا شيئاً، إنّما يسكنون القفار، وينفرون من الناس كنفور الوحش، ويقتاتون القنافذ والضِّباب، وينقُفُون الحنظل، وإذا بلغ أحدهم جُهده بكى على الدِّمنة ونعت المرأة، ويشبّهها بالبقرة والظَّبية، والمرأة أحسن منهما. نعم حتَّى يشبِّهها بالحيّة، ويسِّميها شوهاء وجرباء، مخافة العين عليها بزعمه.
فأمّا الأدباء والظرفاء فقد قالوا في الغلمان فأحسنوا، ووصفوهم فأجادوا، وقدّموهم على الجواري، في الجدّ منهم والهزل.
وقال الشاعر يصف الغلام:
شبيهٌ بالقضيب وبالكثيب ... غريبُ الحسن في قدٍّ غريبِ
براه الله بدراً فوق غصنٍ ... ونيط بحقوه دعص الكثيبِ
أغنُّ تولَّدُ الشَّهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوبِ
وما اكتحلت به عينٌ ففاتت ... مسلَّمة الضَّمير من الذُّنوبِ
شغلت به الهوى ونزعْت عنه ... ولم أدنس به دنس المُريبِ
وقال آخر:
كلفتُ بظبيٍ له ... سوالفُ أُدمانْه
قضيبٌ على رَمْلةٍ ... على شُعبتيْ بانه
له لحظ وحشيّةٍ ... وألفاظُ إنسانه
وقال أبو نواس:
سَقْيا لغير العلياء والسَّند ... وغير أطلال ميَّ بالجردِ
ويا صبيب السَّحاب إن كنت قد ... جُدت اللِّوى مرةً فلا تعدِ
لا تسقينْ بلدةً إذا عُدَّت ال ... بلدان كانت زيادة الكبدِ
إنْ أتحرزْ من الغراب بها ... يكن مفرِّى منه إلى الصُّردِ
بحيثث لا تجلب الفجاجُ إلى ... أذنيك إلاَّ تصايح النَّقدِ
أحسن عندي من انكبابك بال ... فهْر مُلحّاً به على وتدِ
وقوفُ ريحانةٍ على أُذْنٍ ... وسير كأس إلى فمٍ بيدِ
يسقيكها من بني العباد رشاً ... منتسبٌ عيدُه إلى الأحدِ
إذا بنى الماء فوقها حبباً ... صلَّب فوق الجبين بالزَّبدِ
أشرب من كفِّه الشمول ومن ... فيه رُضاباً يجري على بردِ
فذاك خيرٌ من البكاء على ال ... رَّبع وأنمى في الرُّوح والجسدِ
قال (صاحب الجواري): فقد قال أبو نواسٍ الحكميُّ شاعركم أيضاً:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الورد من حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ في حلْقِِ شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخدِّ
فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ
تسقيك من عينها سحراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ
لي نشوتان وللنَّدمان واحدةٌ ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداءُ
صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّته سرَّاءُ
من كفِّ ذات حرٍ في ذي ذكر ... لها مُحبّان: لوطيٌّ وزنّاءُ
قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فظلَّ من وجهها في البيت لألاءُ
فأرسلتْ من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذها بالعين إغفاءُ
في فتيةٍ زُهُرٍ ذلَّ الزمان لهم ... فما يصيبهم إلاَّ بما شاءوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تكون بها هندٌ وأسماءُ
قال صاحب الغلمان.....وقال النظام:
بان بك الشَّكل والنَّظيرُ ... وجلَّ عن وصفك الضَّميرُ
فليس يُخطيك في امتحانٍ ... صغيرُ أمرٍ ولا كبيرُ
خُلقت من مثل لا عيانٍ ... جسماً على أنّه منيرُ
فأنت عند المجسِّ نارٌ ... وأنت عند اللِّحاظ نورُ
وقال أبو هشامٍ الخرَّاز:
يا من تعدَّى العباد من شبهه ... لمَّا قصُرن الصِّفات عن كُنُههِ
ويا غزالاً يسبي بلحظته ... مكتحلاً راح أو على مرههِ
يجعل قتل النُّفوس نزهته ... يوشك يُفني النُّفوس في نُزههِ
لبَّيك داعٍ دعا فقلتُ له ... والقلب في كربه وفي ولههِ
هذا فؤادي أتاك مبتدعاً ... طوعاً ولم يأتكمْ على كُرُههِ
يشرهُ منكم إلى مواصلةٍ ... يا بُوس قلبٍ يذوبُ من شرههِ
فالآن قل للخيال يطرقُ منْ ... أعيا عليه وصالُ منتبههِ
وقال الحكميّ:
رسْمُ الكرى بين الجفون مُحيلُ ... عفَّى عليه بُكاً عليك طويلُ
يا ناظراً ما أقلعتْ نظراته ... حتّى تشحَّط بينهنَّ قتيلُ
أحللت من قلبي هواك محلَّة ... ما حلَّها المشروب والمأكولُ
وقال أيضاً:
لي حبيبٌ كلَّما زاد في ... جفوته لي كان أشْهى
هو وجهٌ كلُّه في كلِّ ما ... نظرتْ عيناك منه كان وجها
وكذا الدُّرّة لا يدري الفتى ... أيُّها من أيِّها في العين أبهى
وقال أيضاً:
أفنيت فيك معاني الشكوى ... وصفاتِ ما ألقى من البلوى
قلَّبتُ آفاق الكلام فما ... أبصرتني أغفلت عن معنى
وأعُدُّ ما لا أشتكي غبناً ... فأعود فيه مرّةً أخرى
فلو أنَّ ما أشكو إلى بشرٍ ... لأراحني ظنِّي من الشَّكوى
لكنّني أشكو إلى حجرٍ ... تنبو المعاول عنه بل أقْسى
فهذا وشبهه من الشعر كثير.
وإذا جئت إلى أصحاب الهزْل كقول بعضهم ممَّن ذمَّ النساء:
هذه الخمر فاشرب ... واسقني يا ابن مصعبِ
اسقنيها وغنِّني: ... من لقبٍ معذَّبِ
طمعتْ فيّ طَفْلةٌ ... ربَّ راج مجنَّبِ
قلت لمّا رأيتها ... أسفرتْ لي: تنقَّبي
لست والله مُدخلاً ... إصبعي جُحْرَ عقربِ
وقال آخر:
لا أبتغي بالمُرد مطمومةً ... ولا أبيع الظّبي بالأرنبِ
لا أُدخل الجُحْرَ يدي طائعاً ... أخشى من الحيَّة واالعقربِ
وقال آخر:
ليس لي في الحرِّ حاجة ... نيكه عندي سماجة
ما ينيك الرَّ إلاّ ... كلُّ ذي فقرٍ وحاجة
فإذا نكتم فنيكوا ... أمرداً في لون عاجة
وقال يوسف لقْوه:
ما يساوي نيكُ أنثى ... عند أيري بعرتينِ
إنّما نيك الجواري ... حلُّ ديْنٍ بعد دينِ
ليس للأير حياةٌ ... غير ريح الخُصيتينِ
وهو الذي يقول:
وعلى اللُّواط فلا تلُمنْ كاتباً ... إنّ اللِّواطِ سجيَّةٌ في الكاتبِ
ولقد يتُوب من المحارم كلِّها، ... وعن الخُصى ما عاش ليس بتائبِ
وقال الحكميّ:
للطمةٌ يلطمني أمردٌ ... تأخذ منّي العين والفكَّا
أطيب من تُفاحةٍ في يدي ... معضوضةٍ قد ملئتْ مسْكا
وقال آخر:
إنْ تزن محصنةٌ تُرجم علانيةً ... وإن يلُطْ عزبٌ لا يرجم العزبُ
وقال آخر:
أيسر ما فيه من مفاضلةٍ ... أمْنُكَ من طمثه ومن حبلهِ
وهذا قليلٌ من كثير ما قالوا، فقد قالت الشعراء في الغلام في الجدّ والهزل فأحسنوا، كما قالت الشعراء في الغزل والنَّسيب، ولا يضير المحسن منهم أقديماً كان أو محدثاً.
قال (صاحب الجواري): أمّا أنت فحيث اجتهدت واحتفلت جئت بالحكميّ، والرَّقاشيّ، ووالبة، ونظرائهم من الفُسَّاق والمرغوب عن مذهبهم، الذين نبغوا في آخر الزمان، سُقّاطٌ عند أهل المروءات، أوضاعٌ عند أهل الفضل؛ لأنّهم وإن أسهبوا في وصف الغلمان، فإنما يمدحون اللِّواط ويشيدون بذكره.
وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى في قوم لوطٍ، وما عجَّل لهم من الخزي والقذف بالحجارة، إلى ما أعدَّ لهم من العذاب الأليم. فمن أسوأُ حالاً ممن مدح ما ذمَّه الله، وحسَّن ما قبَّح! وأين قول من سمَّيت من قول الأوائل في الغزل والنَّسيب والنساء! وهل كان البكاء والتشبيب والعويل إلا فيهنَّ وعليهنّ، ومن أجلهنّ! وهل ذمَّت العرب الشَّيب مع الخصال المحمودة التي فيه إلا لكراهتهنَّ له. قال شاعر الشعراء من الأوّلين والآخرين، امرؤ القيس:
أراهُنَّ لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال علقمة بن عبدة الفحل، وكان نظير امرؤ القيس في عصره:
إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمْنه ... وشرخ الشَّباب عندهُنّ عجيبُ
وما قالت القدماء في النسيب أكثر من أن نأتي عليه. وأين قول من ذكرت في صفات الغلمان من قول امرؤ القيس في التشبيب حيث يقول:
وما ذرفتْ عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ
أغرَّك منّي أنَّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلب يفعلِ
وقول الأعشى:
لو أسندتْ ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُنقل إلى قابرِ
حتّى يقولُ الناس مما رأوا ... يا عجبّاً للقاتل الناشرِ
وقال جرير:
إنّ الذين غدوْا بلبِّك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزالُ معينا
غيَّضْنَ من عبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وقال جميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتله قبلي
وقال القُطاميّ:
يقتُلننا بحديثٍ ليس يعلمُه ... من يتَّقين ولا مكنونه بادي
فهنّ ينبذن من قولٍ يُصبْن به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي
فهؤلاء القدماء في الجاهلية والإسلام، فأين قول من احتججت به من قولهم!.
ولا نعلم أحداً قال في الغلام ما قال الحكميّ وهو من المحدثين. وأين يقع قوله من قول الأوائل الذين شبَّبوا بالنساء! فدعْ عنك الرَّقاشيّ ووالبة والخرَّاز ومن أشبههم؛ فليست لك علينا حجّة في الشعراء.
وأُخرى: ليس من قال الشعر بقريحته وطبعه واستغنى بنفسه، كمن احتاج إلى غيره يطردُ شعره، ويحتذي مثاله، ولا يبلُغ معشاره.
قال (صاحب الغلمان): ظلمت في المناظرة ولم تُنصف في الحجَّة؛ لأن لم ندفع فضل الأوائل من الشعراء، إنّما قلنا إنهم كانوا أعراباً أجلافاً جُفاةً، لا يعرفون رقيق العيش ولا لذَّات الدنيا؛ لأنَّ أحدهم إذا اجتهد عند نفسه شبَّه المرأة بالبقرة، والظبية، والحيّة. فإنْ وصفها بالاعتدال في الخلقة شبّهها بالقضيب، وشبَّه ساقها بالبَرْدية؛لأنّهم مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها.
وقد نعلم أنّ الجارية الفائقة الحُسن أحسنُ من البقرة، وأحسنُ من الظَّبية، وأحسن من كلِّ شيءٍ شُبِّهَتْ به.
وكذلك قولهم: كأنَّها القمر؛ وكأنّها الشمس؛ فالشَّمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروبٌ من الحُسن الغريب، والتركيب العجيب. ومن يشكُّ أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظَّبي والبقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت!.
وهذه أشياءُ يشترك فيها الغلمان والجواري، والحجَّة عليك مثلُ الحجّة لك في هذه الصفات.
وأمّا احتجاجُك علينا بالقرآن والآثار والفقهاء، فقد قرأنا مثل ما قرأت، وسمعْنا من الآثار مثل ما سمعت. فإن كنت إلى سرور الدُّنيا تذهب، ولذّاتها تريد، فالقول قولنا. كما قال الشاعر:
ما العيش إلاَّ في جنون الصِّبا ... فإنْ تولَّى فزمانُ المُدامْ
كأساً إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردَّى برداء الغلامْ
وإن كنت إلى التقشُّف والتزهيد في اللَّذَّات تعمد فترك جميع الشَّهوات من النساء وغيرهنّ أفضل. فإنْ أنصفت فأْتنا بمثل حجّتنا. فأمّا أن تتلو علينا القرآن وتأتينا بأحاديث ألَّفتها فهذا منك انقطاع. ومثلنا ومثلك في ذلك مثل بصريٍّ وكوفيٍّ تفاخرا بعدد أشراف أهل البصرة وأشراف أهل الكوفة، فقال البصريّ للكوفيّ:
هات في أربع قبائل الكوفة مثل أربعة رجالٍ بالبصرة في أربع قبائل: في تميم الكوفة مثل الأحنف، وفي بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع، وفي قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، وفي أزد الكوفة مثل المهلب.
فقال الكوفيّ: مخنف بن سُليم من أزد السَّراة، وهم أشرف من أزد عُمان.
فقال البصريّ: إنا لم نكن في شرف القبائل وفرق ما بينهما، فإنما ذكرنا المهلب بنفسه، وما علمت أن أحداً يبلغ من جهله أن يفخر بمخنف بن سليم فيفضّله على المهلب. وأخْمل رجل من ولد المهلّب أشهر في الولايات وفي الفرسان وفي الناس من مخنف. والمهلّب رجلٌ ليس له بالعراق نظيرٌ يقاومه، ومناقبه وأيّامه وفتُوحُه أكثر وأشهر من أن يجوز لنا أن نجعله إزاء مخْنف. وما زالوا يقولون: " بصرة المهلّب " . ولو لم يكن للمهلّب إلاَّ أنه ولد يزيد بن المهلّب كان كافيا. ونحن إذا قلنا: ليس في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، قال قائل: فزارة أشرف من باهلة. قلنا: ليس هذه معارضة؛ فإنّما المعارضة أن تذكر أسماء بن خارجة ثم تقول ونقول، فنذكر فتوح قتيبة العظام، والشَّهامة والنفس الأبية، والشَّجاعة والحزم والرأي، والوفاء، وشرف الولاية، ونذكر سُودد أسماء، وجوده ونواله. فأمّا أن نتخطّى أنفسهما إلى قبائلهما كما تخطَّيت بدن المهلَّب وبدن مخنف إلى أزْدِ عمان وأزدِ السَّراة، فهذا ليس من معارضة العلماء.
وكذلك إذا ذكرنا عُبّاد البصرة وزُهّادها ونُسَّاكها فقلنا: لنا مثل عامر بن عبد قيس، وهرم بن حيَّان، وصلة بن أشْيم. قلت: فعُبَّاد الكوفة: أُويسٌ القرنيّ، والرَّبيع بن خُثيم، والأسود بن يزيد النَّخعي. وهذا جواب.
فأمّا أن تذكر طيب الدُّنيا والتمتُّع من لذّاتها وصفات محاسنها، وتذكر ظرفاءها وأربابها، وتجيئنا بأحاديث الزهّاد والفقهاء، فقد انقطع الحجاج بيننا وبينك.
وقد قلنا في صدر كتابنا: إن الكلام إذا وُضع على المزْح والهزل، ثم أخرجته عن ذلك إلى غيره من الجدّ، تغيّر معناه وبطل.
وقد رُوي أنَّ معاوية سأل عمرو بن العاص يوماً - وعنده شبابٌ من قريش - فقال له: يا أبا عبد الله، ما اللذّة؟ فقال: مُر شباب قريشٍ فليقوموا. فلما قاموا قال: " إسقاط المروءة " .
قال الشاعر في مثل ذلك:
من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللّذةِ الجسور
وقال الحكميّ:
تجاسرت فكاشفةُ ... ك لمّا غُلب الصَّبرُ
وما أحسن في مثل ... ك أن ينهْتك السِّتْرُ
قال (صاحب الجواري): فنحن نترك ما أنكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يُحصِّله المعقول ويدركه الحسُّ والوجدان، دالاً على أنَّ الاستمتاع بالجارية أكثر وأطول مدّة؛ لأنه أقل ما يكون التمتُّع بها أربعون عاماً، وليس تجد في الغلام معنىً إلاَّ وجدته في الجارية وأضعافه. فإن أردت التفخيذ فأردافٌ وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام. وإن أردت العناق فالثُّديُّ النواهد، وذلك معدومٌ في الغلام. وإن أردت طيب المأتى فناهيك، ولا تجد ذلك عند الغلام. فإن أتوه في محاشِّه حدث هناك من الطَّفاسة والقذر ما يكدِّر كلَّ عيش، وينغص كلَّ لذّة.
وفي الجارية من نعمة البشرة ولدونة المفاصل، ولطافة الكفَّين والقدمين، ولين الأعطاف، والتثنِّي وقلّة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصالٍ لا تحصى، كما قال الشاعر:
يصف جودة القدّ وحُسن الخرط، ويفرق بين المجدولة والسمينة.
وقولهم " مجدولة " يريدون جودة العصب وقلّة الاسترخاء، ولذلك قالوا: خُمصانة وسيفانة، وكأنها جانٌّ، وكأنَّها جدْل عنان، وكأنَّها قضيب خيزران. والتثني في مشية الجارية أحسن ما فيها، وذلك في الغلام عيبٌ؛ لأنه بنسب إلى التخنيث والتأنيث وقد وصفت الشعراء المجدولة في أشعارها، فقال بعضهم:
لها قسمةٌ من خوط بانٍ ومن نقاً ... ومن رشأ الأقواز جيدٌ ومَذْرِفُ
وقال آخر:
مجدولة الأعلى كثيبٌ نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها
وقال آخر:
ومجدولةٍ جدل العنان إذا مشتْ ... ينوء بخصريها ثقالُ الرَّوادف
وقال الأحوص:
من المدمجات اللحم جَدْلاً كأنّها ... عنان صناعٍ أنعمت أن تخوَّدا
وقالوا في ذلك أكثر من ان نأتي عليه.
والغلام أكثر ما تبقي بهجته ونقاء خدّيه عشرة أعوام، إلى أن تتَّصل لحيته ويخرج من حدّ المرودة، ثم هو وقاخٌ طوراً ينتف لحيته، وتارة يهْلُبُها ليستدعي شهوة الرِّجال. وقد أغنى الله الجارية عن ذلك، لما وهب لها من الجمال الفائق، والحسن الرائق.
فإن قلت: إنّ من النساء من يتحسَّن ويستر عيبه بخضاب الشعر وغيره، كما قال الشاعر:
عجوزٌ ترجَّى أن تكون فتيَّةً ... وقد لحب الجنبان واحدوْدبَ الظُّهرُ
تدسُّ إلى العطّار ميرة أهلها ... ولن يصلح العطّارُ ما أفسد الدَّهرُ
قلنا: قد يفعل ذلك بعض النساء إذا شُيِّبتْ وليس كالغلام، لعموم هَلْب اللِّحى في الغلمان.
وذكرت الخصْيان وحُسن قدودهم، ونعمة أبشارهم، والتلذُّذ بهم، وأنَّ ذلك شيءٌ لا تعرفه الأوائل، فألجأْتنا إلى نصف ما في الخصيان وإن لم يكن لذلك معنىً في كتابنا، إذ كنّا إنمّا نقول في الجواري والغلمان.
والخصيُّ - رحمك الله - في الجملة ممثَّل به، ليس برجل ولا امرأة، وأخلاقه مُقسَّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصِّبيان، وفيه من العيوب التي لو كانت في حوْراء كان حقيقاً أن يُزهد فيها منه؛ لأن الخصيَّ سريع التبدُّل والتنقُّل من حدّ البضاضة وملاسة الجلد، وصفاء اللَّون ورقَّته، وكثرة الماء وبريقه، إلى التكسُّر والجمود والكمود، والتقبُّض والتجمُّد والتحدُّب، وإلى الهزال وسوء الحال. لأنّك ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوف تلمع في وجهه، وكأنه مرآةٌ صينيَّة، وكأنّه جُمارة، وكأنّه قضيب فضّةٍ قد مسَّه ذهب، وكأنّ في وجناته الورد. فإن مرض مرْضةً، أو طعن في السنِّ ذهب ذهاباً لا يعود.
وقال بعض العلماء: إنّ الخصيَّ إذا قُطع ذلك العضو منه قويتْ شهوته، وقويتْ معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرتْ دمعته، واتَّسعت فقْحته، ويصير كالبغل الذي ليس هو جماراً ولا فرساً؛ لأنّه ليس برجلٍ ولا امرأة. فهو مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ويعرض للخصيّ سُرعة الدَّمعة والغضب، وذلك من أخلاق النساء والصِّبيان. ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصَّدر بما أُودع من السِّرِّ.
ويعرض لهم البول في الفراش ولا سيَّما إذا بات أحدهم ممتلئاً من النَّبيذ.
ومما ناله من الحسرة والأسف لما فاتهم من النّكاح مع شدّة حبِّهم للنساء، أبغضوا الفحول أشدَّ من تباغض الأعداء، فأبغضوا الفحول بُغض الحاسد لذوي النِّعمة.
وزعم بعض أهل التجربة من الشُّيوخ المعَّمرين أنَّهم اعتبروا أعمار ضروب الناس فوجدوا طول أعمار الخصيان أعمَّ من جميع أجناس الرجال، وأنهم لم يجدوا لذلك عِلّةً إلاَّ عدم النّكاح. وكذلك طول أعمار البغال لقلة النَّزْو. ووجدوا أقل الأعمار أعمار العصافير؛ لكثرة سفادها.
ثم الخصيُّ مع الرِّجال امرأة، ومع النِّساء رجل. وهو من النمائم والتحريش والإفساد بين المرء وزوْجه، على ما ليس عليه أحد. وهذا من النَّفاسة والحسد للفحول على النساء. ويعتريه إذا طعن في السنِّ اعوجاج في أصابع اليد، والتواءٌ في أصابع الرِّجل.
ودخل بعض الملوك على أهله ومعه خصيٌّ فاستترت منه، فقال لها: تستترين منه وإنما هو بمنزلة المرأة! فقالت: ألموضع المُثْلة به يحلُّ له ما حرَّم الله عليه.
مع أنَّ في الخصيِّ عيوباً يطول ذكرها.
ولولا خوف الملال والسآمة على الناظر في هذا الكتاب، لقلْنا في الاحتجاج عليك بما لا يدفعه من كانت به مُسكة عقل، أوْ له معرفة. وفيما قُلنا ما أقنع وكفى. وبالله الثِّقة.
وقد ذكرنا في آخر كتابنا هذا مقطَّعاتٍ من أحاديث البطَّالين والظُّرفاء، ليزيد القارئ لهذا الكتاب نشاطا، ويذهب عنه الفتور والكلال، ولا قوَّة إلا بالله.
1 - قال: مرض رجلٌ من عُتاة اللاَّطة مرضاً شديدا، فأيسوا منه، فلما أفاق وأبلَّ من مرضه، دخل عليه جيرانه فقالوا له: احمد الله الذي أقالك، ودعْ ما كنت فيه من طلب الغلمان والانهماك فيهم، مع هذه السنِّ التي قد بلغتها. قال: جزاكم الله خيراً؛ فقد علمت أنّ فرط العناية والمدَّة دعاكم إلى عظتي. ولكنّي اعتدت هذه الصناعة وأنا صغير، وقد علمتم ما قال بعض الحكماء: ما أشدَّ فطام الكبير!.
قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُواري في ثرى رمسهِ
فقاموا من عنده آيسين من فلاحه.
2 - قال: كان رجلٌ من اللاَّطة وله بنون لهم أقدارٌ ومروءات، فشانهمْ بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنَّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجُلجُلتين! فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه.
2 - وقال بعض اللُّوطيين: إنَّما خُلق الأير للفَقْحة، مدوّرٌ لمدوَّرة؛ ولو كان للحر كان على صيغة الطَّبرْزين.
وقال شاعرهم:
إذا وجدت صغيراً ... وجأتأصل الحمارة
وإن أصبت كبيرا ... قصدت قصد الحرارة
فما أبالي كبيراً ... قصدت أو ذا غرارة
4 - وقيل لامرأة من الأشراف كانت من المتزوِّجات: ما بالك مع جمالك وشرفك لا تمكثين مع زوجك إلاّ يسيراً حتى يطلِّقك؟ قالت: يريدون الضِّيق، ضيَّق الله عليهم.
5 - قال: طلَّق رجلٌ امرأته، فمرَّ رجلٌ في بعض الطُّرقات فسمع امرأةً تسأل أخرى عنها فقالت: البائسة طلَّقها زوجها! فقالت: أحسن بارك الله عليه. فقال لها: يا أمة الله، من شأن النِّساء التعصُّب بعضهن لبعض، وأسمعك تقولين ما قلت. قالت: يا هذا، لو رأيتها لعلمت أن الله تعالى قد أحلَّ لزوجها الزِّنى، من قُبح وجهها.
6 - وقال مخنَّثٌ لامرأة: يا معشر النِّساء، مالكنَّ همَّةٌ إلاّ طلب النَّيك، لا تُؤْثرون عليه شيئاً. فقالت: إن أمْراً انتقلت من شهوته من طبْع الرِّجال إلى النساء حتَّى عقرت لحيتك له، لحقيق ألا تُلام عليه.
7 - قال إسحاق الموصلي: نظرت إلى شابٍّ مخنَّثٍ حسن الوجه جداً قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أنّ جمال الرجال في اللِّحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرُّك بالله أنّها في استك؟ قلت: لا والله! فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيءٌ وتأمرني أن أدعه في وجهي!.
8 - وقال: اشترى بعض ولاة العراق قينةً بمالٍ كثير، فجلس يوماً يشرب وأمرها أن تغنِّيه، فكان أوّل صوتٍ تغنَّت به:
أروح إلى القصَّاص كلَّ عشيَّةٍ ... أرجِّي ثواب الله في عدد الخُطى
فقال للخادم: يا غلام، خذْ بيد هذه الزَّانية فادفعْها إلى أبي حزْرة القاصّ. فمضى بها إليه فلقيه بعد ذلك، فقال: كيف رأيت تلك الجارية؟ فقال: ما شئت أصلحك الله، غير أنّ فيها خصلتين من صفات الجنة! قال: ويلك ما هما؟ قال: البرد، والسِّعة.
9 - قال : علق رجلٌ من أهل المدينة امرأةً فطال عناؤه بها حتّى ظفر بها، فصار بها إلى منزل صديقٍ له مغنٍّ، ثم خرج يشتري ما يحتاج إليه، فقالت له: لو غنَّيت لي صوتاً إلى وقت مجي صديقك!.
فأخذ العود وتغنَّى:
من الخفرات لم تفضحْ أخاها ... ولم ترفعْ لوالدها شنارا
قال: فأخذت المرأة خُفَّها ولبستْ إزارها وقالت: ويلي ويلي، لا والله لا جلست! فجهد بها فأبتْ وصاحت، فخشي الفضيحة فأطلقها. وجاء الرجل فلم يجدْها، فسأله عنها فقال: جئتني بمجنونة؛ قال: ما لها ويلك؟ قال: سألتْني أن أغنِّيها صوتاً ففعلت، فضربت بيدها إلى خفِّها وثيابها فلبستْ وقامت تولول، فجهَدْتُ أن أحبسها فصاحت فخَّليتها. قال: وأيِّ شيء غنَّيتها؟ فأخبره، فقال: لعنك الله! حُقَّ لها أن تهرب!.
قال: تواصف قومٌ الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنَّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحر لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مُذْ خرجت منه! 10 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةٌ، فمكثت عنده غير بعيد، ثم أتى الرجل بالذي زوّجه فقدَّمه إلى القاضي فقال: أصلحك الله، إنّ هذا زوّجني امرأةً مجنونة. قال: وأيَّ شيءٍ رأيت من جنونها؟ قال: إذا جامعتها غُشي عليها حتَّى أحسبها قد ماتت. فقال له القاضي: قم قبحك الله فما أنت لمثل هذه بأهل. وكانت ربوخاً.
11 - قال: كانت عائشة بنت طلحة من المتزوّجات، فتزوّجها عُمر بن عبيد الله بن مَعمر التَّيميّ، فبينا هي عنده تحدَّث مع امرأةٍ من زوَّارها إذْ دخل عُمر فدعا بها فواقعها، فسمعت المرأة من النَّخير والشَّهيق أمراً عجيباً، فلمَّا خرجت قالت لها: أنت في شرفك وقدْرك تفعلين مثل هذا! قالت: إنّ الددوابَّ لا تُجيد الشُّرب إلاَّ على الصَّفير!.
12 - قال: وكانت حُبَّي المدينيّة من المغتلمات، فدخل عليها نسوةٌ من المدينة فقلن لها: يا خالة، أتيناك نسألك عن القبْع عند الجماع يفعله النِّساء، أهو شيءٌ قديم أم شيءٌ أحدثه النِّساء؟ قالت: يا بناتي، خرجت للعمرة مع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلمَّا رجعنا فكُنَّا بالعرْج نظر إليّ زوجي ونظرت إليه، فأعجبه منيّ ما أعجبني منه فواثبني، ومرَّت بنا عيرُ عثمان فقبعت قبعةً وأدركني ما يصيب بنات آدم، فنفرت العير - وكانت خمس مائة - فما التقى منها بعيران إلى الساعة.
والقبْع: النَّخير عند الجماع. والغربلة: الرَّهز. كذاك تسمِّيه أهل المدينة.
ويقال إن حُبَّي علَّمت نساء المدينة القبْع والغربلة.
13 - قال: وكانت خُليدة امرأةً سوداء ذات خَلْق عجيب، وكان لها دارٌ بمكة تكريها أيام الحاجّ، فحجَّ فتىً من أهل العراق فاكترى منزلها، فانصرف ليلةً من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السَّطح نظر إلى خليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ النّاس وأحسنه خَلْقاً، فدعتْه نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى رفع برجليها فتابعتْه وأرتْه أنها نائمة، فناكها، فلمَّا فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتْك عقرب؟ ما بالك تبْكي؟ قال: لا والله ولكنِّي نكتك وأنا محرم. قال: فتنيكني وتبكي؟ أنا والله أحقُّ بالبكاء منك. قمْ يا أرعن!.
14 - وقال ابن حُبَّي لأمِّه: يا أُمَّه، أيُّ الحالات أعجب إلى النِّساء من أخْذ الرجال إيّاهنّ؟ قالت: يا بنيّ، إذا كانت مُسنَّة مثلي فأبركْها وألصقْ خدَّها بالأرض ثم أوعبْه فيها. وإذا كانت شابّةً فاجمع فخذيْها إلى صدرها فأنت تدرك بذلك ما تريد منها وتبلغ حاجتك منها.
15 - وقال: اشترى قومٌ بعيراً وكان صعباً، فأرادوا إدخاله الدار فامتنع، فجعلوا يضربونه وهو يأبى، فأشرفتْ عليهم امرأةٌ كأنّها شقَّة قمر، فبُهتوا ينظرون إليها، فقالت: ما شأنه؟ فقال لها بعضهم: نربده على الدُّخول فليس يدخل. قالت: بُلَّ رأسه حتَّى يدخل.
16 - قال: نظر رجلٌ بالمدينة إلى جاريةٍ سريّة ترتفع عن الخدمة، فقال: يا جارية، في يدك عمل؟ قالت: لا، ولكنْ في رجلي.
17 - قال بعضهم: كنا في مجلس رجلٍ من الفقهاء فقال لي رجل: عندك حُرّةٌ أو مملوكة؟ قلت: عندي أمُّ ولدٍ، ولم سألتني عن ذلك؟ قال: إنّ الحرّة لها قدرها فأردت أن أعلّمك ضرباً من النَّيك طريفاً. قلت: قل لي. قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدّةً بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك، ثم ادعُ الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوَّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومرها تصعد وتنزل عليه؛ فأنَّه شيء عجيب. فلمَّا صار الرجل إلى منزله فعل ما أمره به، وجعلت الجارية تعلو وتستفل، فقالت: يا مولاي، من علَّمك هذا النَّيك؟ قال: فلانٌ المكفوف. قالت: يا مولاي، ردّ الله عليه بصره!.
18 - قال: كانت امرأة من قريش شريفةً ذات جمال رائعٍ ومال كثير، فخطبها جماعةٌ وخطبها رجلٌ شريفٌ له مالٌ كثير، فردّته وأجابت غيره، وعزموا على الغدُوِّ إلى وليّها ليخطبوها، فاغتمَّ الرجل غمّاً شديداً، فدخلت عليه عجوزٌ من الحيّ فرأتْ ما به وسألته عن حاله فأخبرها، وقالت: ما تجعل لي إنْ زوّجتُك بها؟ قال: ألف درهم. فخرجتْ من عنده ودخلت عليها، فتحدَّثتْ عندها مليّاً وجعلتْ تنظر في وجهها وتتنفَّس الصُّعداء، ففعلت ذلك غير مرَّة، فقالت الجارية: ما شأنك يا خالة، تنظرين في وجهي وتنفَّسين؟ قالت: يا بُنيّة، أرى شبابك، وما أنعم الله عليك به من هذا الجمال، وليس يتمُّ أمر المرأة إلاَّ بالزَّوْج، وأراك أيِّماً لا زوج لك. قالت: فلا يغُمَّك الله، قد خطبني غير واحدٍ وقد عزمت على تزويج بعضهم. قالت: فاذكري لي من خطبك. قالت: فلان. قالت: شريفٌ، ومن؟ قالت: فلان. قالت: شريف، فما يمنعك منه؟ قالت: وفلانٌ - لصاحبها - قالت: أُفٍّ أفّ، لا تريدينه. قالت: وماله أليس هو شريفاً كثير المال؟ قالت: بلى، ولكن فيه خصلةً أكرهها لك. قالت: وما هي؟ قالت: دعي عنك ذكرها. قالت: أخبريني على كلِّ حال. قالت: رأيته يبول يوماً فرأيت بين رجليه رجلاً ثالثة. وخرجت من عندها فأتته، فقالت: أعدْ إليها رسولك. وأتاها الرجل الذي كانت أجابته - بعد مجيء الرسول - فردّتْه وبعثت إلى صاحب المرأة: أن اغد بأصحابك. فتزوّجها فلما بنى بها إذا معه مثل الزِّرّ، فلمَّا أتتْها العجوز فقالت: بكم بعتيني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت: لا أكلتيها إلاّفي المرض!.
19 - قال: كان هشام بن عبد الملك يقبض الثِّياب من عظم أيره، فكتب إلى عامله على المدينة: " أما بعد فاشتر لي عكاك النَّيك " . قال: وكان له كاتبٌ مدينيٌّ ظريف، فقال له: ويحك، ما عكاك النِّيك؟ قال: الوصائف. فوجَّه إلى النَّخَّاسين فسألهم عن ذلك. فقالوا: عكاك النِّيك الوصائف البيض الطوال. فاشتري منهنّ حاجته، ووجّه بهنَّ إليه.
قال: وكانت بالمدينة امرأةٌ جميلةٌ وضيّة، فخطبها جماعةٌ وكانت لا ترضى أحداً، وكانت أمُّها تقول: لا أزوجها إلاَّ من ترضاه. فخطبها شابٌّ جميلُ الوجه ذو مالٍ وشرف. فذكرتْه لابنتها وذكرت حاله وقالت: يا بنيّة إن لم تزوّجي هذا فمن تزَّوَّجين؟ قالت: يا أُمَّه: هو ما تقولين، ولكنّي بلغني عنه شيءٌ لا أقدر عليه. قالت: يا بنيّتي لا تحتشمين من أمِّك، اذكري كلَّ شيءٍ في نفسك. قالت: بلغني أنَّ معه أيراً عظيما وأخاف ألاَّ أقوى عليه. فأخبرت الأمُّ الفتى فقال: أنا أجعل الأمر إليك تُدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعمْ أرضى إن تكفَّلت لي بذلك. قالت: يا بنيّةُ والله إنّ هذا لشديدٌ عليّ، ولكنِّي أتكلَّفه لك. فتزوّجته. فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أُمَّه، كوني قريبةً منّي لا يقتلْني بما معه. فجاءت الأمّ وأغلقت الباب وقالت له: أنت على ما أعطيتنا من نفسك؟ قال: نعم، هو بين يديك. فقبضت الأمّ عليه وأدنْته من ابنتها فدسَّت رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعاً من أصابعها فقالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتَّى لم يبقِ في يدها شيءٌ منه، وأوعبه الرجل كلَّه فيها، قالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: يا بنيّة لم يبقِ في يدي شيء. قالت بنتها: رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول: إذا وقع الشيء في يديك ذهب البركةُ منه. قومي عنّي!.
20 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً وكان معه أيرٌ عظيم جداً، فلمَّا ناكها أدخله كلَّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلَّم، فقال لها: أيُّ شيءٍ حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟ - قال:نظر رجلٌ إلى امرأةٍ جميلة سريّة، ورجلٌ في دارها دميم مشوّهٌ يأمر وينهي، فظنَّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوَّجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفتْ عن فخذها فإذا فيه بُقع خُضْر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته.
22 - قال: وكانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاَّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنَّثٍ وهي تنيكه بكيرنْج، فرُفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجلٌ يعرفها فقال: ما هذا يا سلاَّمة؟ فقالت: بالله اسكُتْ، ما في الدُّنيا أظلمُ من الرجال، أنتم تنيكونا الدَّهر كلَّه فلمَّا نكنا كم مرَّة واحدة قتلتمونا.
23 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: كأنَّ ركبها دارة القمر، وكأنّ شُفْريها أير حمارٍ مثْنيّ.
24 - وقال بعض العجائز المغتلمات:
وخضبت ما صبغ الزَّمان فلم يدم ... صبْغي ودامت صبغة الأيامِ
أيّام أُمْسي والشَّباب غريرةً ... وأُناك من خلفي ومن قُدَّامي
25 - وقال سياه، وكان من مردة اللاّطة، وأسمه ميمون بن زياد بن ثرْوان، وهو مولىً لخزاعة:
أخزاعُ إنْ عدَّ القبائل فخرهم ... فضعوا أكفَّكم على الأفواهِ
إلاّ إذا ذُكر اللِّواط وأهله ... والفاتقون مشارج الأستاهِ
فهناك فافتخروا فإنّ لكم به ... مجداً تليداً طارفاً بسياهِ
26 - قال: وجاء سياه إلى الكميت فقال له: يا أبا عُمارة، قد قلت على عروض قصيدتك: " أبتْ هذه النَّفسُ إلاّ ادِّكارا " فقال: هات. فقال:
أبتْ هذه النفسُ إلاّ خسارا ... وإلاّ ارتداداً وإلاّ ازورارا
وحمل الدُّيوك وقود الكلاب ... فهذا هرشاً وهذا نقارا
وشرب الخمور بماء الغمام ... تنفجر الأرض عنه انفجارا
27 - وقال: أُخذ " ديكٌ " ، وكان من كبار اللاَّطة، وهو رجلٌ من أهل الحجاز، مع غلامٍ من قُريش كأنّه قديدة، فقيل له: عدوَّ الله هبك تُعذر في الغلمان الصِّباح فما أردت إلى هذا؟ فقال: بأبي أنتم وأمِّي، قد والله علمت أنّه كما تقولون، وإنَّما نكته لشرفه.
28 - وقد يُضرب المثل في اللِّواط بالحجاز فيقال: " ألْوطُ من ديك " ، كما يقول أهل العراق: " ألْوط من سياه " ، وهو كوفيّ.
وقد اختصرت كتابي هذا لئلا يملَّه القارئ. وبالله التوفيق.
تم كتاب مفاخرة الجواري والغلمان، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا إله إلا هو.
يتلوه إن شاء اللَّه تعالى كتاب القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ أيضاً، واللَّه الموفق للصواب. والحمد للَّه أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه.
كتاب القيان
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبي موسى بن إسحاق بن موسى، ومحمد بن خالد خذار خذاه، وعبد الله بن أيوب أبي سُمير، ومحمد بن حماد كاتب راشد، والحسن بن إبراهيم بن رباح، وأبي الخيار، وأبي الرنال، وخاقان بن حامد، وعبد الله بن الهيثم بن خالد اليزيديَّ المعروف بمشرطة، وعلك بن الحسن، ومحمد بن هارون كبّة، وإخوانهم المستمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذّة، المتمتعين بالقيان وبالإخوان، المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمراوءات.
إلى أهل الجهالة والجفاء، وغلظ الطبع، وفساد الحسّ.
سلام من وفق لرشده، وآثر حظَّ نفسه، وعرف قدر النعمة؛ فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها، ولا يزاد فيها من لم يشكرها، ولا بقاء لها على من أساء حملها.
وقد كان يقال: حمل الغنيِّ أشد من حمل الفقير، ومؤونة الشكر أضعف من مشقة الصبر. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.
أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله. والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء، و دون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه، وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان، ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه، حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه، ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه. ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت، وإنعام التفهُّم والتمهُّل، ليكون الاختيار بعد الاختيار، والحكم بعد التبيُّن.
وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره، مُبينٌ عن نفسه، مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره؛ إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن، وعلى الجوهر بالعرض، ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر.
وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا، غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا، وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن، بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس.
إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر، وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربّه واستصغار نعمته، والسَّخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صُعُداً، والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى. وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها.
فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان، وسبَّنا بمنادمة الإخوان، ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها. ورجونا النّصر إذ قد بدينا والبادي أظلم، وكاتب الحقّ فصيح - ويروي " ولسان الحقِّ فصيح " - ونفْس المحرج لا يُقام لها، وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها.
فبيَّنَّا الحجّة في اطِّراح الغيرة في غير محرَّم ولا ريبة، ثم وصفْنا فضل النعمة علينا، ونقضْنا أقوال خصمائنا بقولٍ موجزٍ جامعٍ لما قصدْنا. فمهما أطنبنا فيه فللشَّرح والإفهام، ومهما أدمجنا وطوينا فليخفَّ حمله. واعتمدنا على أنَّ المطوّل يقصَّر، والملخَّص يختصر، والمطويَّ يُنشر، والأصول تتفرع، وبالله الكفاية والعون.
إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها، والأعجاز لاحقةٌ بصدورها، والموالي تبعٌ لأوليائها، وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادَّة، وبعضها عِلَّةٌ لبعض، كالغيث علَّة السَّحاب والسَّحاب علَّة الماء والرُّطوبة، وكالحبّ عِلّته الزَّرع، والزَّرع علَّته الحبّ، والدَّجاجة علَّتها البيضة، والبيضة علَّتها الدجاجة، والإنسان علّته الإنسان.
والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض، وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين. إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه " الأُنثى " ؟ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها، وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة.
ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه. وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه، وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره. فالنساء حرثٌ للرجال، كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان.
ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرَّم وتحليل ما أحلّ، وتخليص المواليد من شُبهات الاشتراك فيها، وحصول المواريث في أيدي الأعقاب، لم يكن واحدٌ أحقَّ بواحدةٍ منهن من الآخر، كما ليس بعض السَّوام أحقَّ برعْي مواقع السَّحاب من بعض، ولكان الأمر كما قالت المجوس: إن للرجل الأقرب فالأقرب إليه رحماً وسبباً منهنّ. إلا أنّ الفرض وقع بالامتحان فخصَّ المطلق، كما فعل بالزَّرع فإنّه مرعىً لولد آدم ولسائر الحيوان إلاَّ ما منع منه التحريم.
وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق. وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياسٌ ما لم نخرج من التحريم دليلاً على حسنه، وداعياً إلى حلاله.
ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً، ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة ولزمنا قياس من أحقُّ بالنساء؛ فإنَّه كان يقال: ليس أحدٌ أولى بهنَّ من أحد، وإنَّما هنَّ بمنزلة المشامّ والتُّفَّاح الذي يتهاداه الناس بينهم. ولذلك اقتصر من له العدَّة على الواحدة منهنَّ، وفرَّق الباقي منهنَّ على المقرّبين. غير أنّه لما عزم الفريضة بالفرق بين الحلال والحرام، اقتصر المؤمنون على الحدِّ المضروب لهم، ورخّصوه فيما تجاوزه. فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتَّق من الزيارة. وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر، حتّى لقد حسك في صدر أخي بُثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة، وخروج العذر عن المخالطة، وشكا ذلك إلى زوجها وهزَّه ما حشّمه، فكمنا لجميلٍ عند إتيانه بثينة ليقتلاه، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحناً لها: هل لك فيما يكون بين الرِّجال والنساء، فيما يشفي غليل العشق ويُطفئ نائرة الشوق؟ قالت: لا. قال: ولم؟ قالت: إنَّ الحبَّ إذا نكح فسد! فأخرج سيفاً قد كان أخفاه تحت ثوبه، فقال: أمّا والله لو أنْعمت لي لملأته منك! فلمَّا سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة.
فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة.
وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة، وعفراء وعُروة، وكثيِّر وعزَّة، وقيسٍ ولُبنى، وأسماء ومقِّش، وعبد الله بن عجلان وهند.
ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام.
وكانت ضباعة، من بني عامر بن قُرط بن عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جُدعان زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة المخزوميُّ: ما تصنعين بهذا الشَّيخ الكبير الذي لا يولد له، قولي له حتّى يطلِّقك. فقالت لعبد الله ذلك، فقال لها: إنِّي أخاف عليك أن تتزوَّجي هشام بن المغيرة. قالت: لا أتزوّجه. قال: فإن فعلت فعليك مائة من الإبل تنحرينها في الحزورة وتنسجين لي ثوباً يقطع ما بين الأخشبيْن، والطواف بالبيت عُريانة. قالت: لا أطيقه. وأرسلتْ إلى هشامٍ فأخبرتْه الخبر فأرسل إليها: ما أيسر ما سألك، وما يكرُثك وأنا أيسر قريشٍ في المال، ونسائي أكثر نساء رجل من قريش، وأنت أجمل النِّساء فلا تأبَّيْ عليه. فقالت لابن جُدعان: طلِّقْني فإنْ تزوجت هشاماً فعليَّ ما قلت. فطلَّقها بعد استيثاقه منها، فتزوَّجها هشامٌ فنحر عنها ماءةً من الجُزُر، وجمع نساءه فنسجن ثوباً يسع ما بين الأخشبين، ثم طافت بالبيت عُريانة، فقال المطَّلب بن أبي وداعة: لقد أبصرتها وهي عُريانةٌ تطوف بالبيت وإنِّي لغلامٌ أتْبعها إذا أدبرتْ، وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً مما خلق الله أحسن منها، واضعةً يدها على ركبها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلُّه
كم ناظرٍ فيه فما يملُّه ... أخْثم مثل القعْب بادٍ ظلُّه
قال: ثم إنَّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمّهاتهن، فمن دونهنَّ يطفن بالبيت مكشّفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حجٌّ إلا به.
وأعرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر، فمات عنها بعد أن اشترط عليها ألا تتزوَّج بعده أبداً، على أن نحلها قطعةً من ماله سوى الإرث، فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأفتاها بأن يعطيها مثل ذلك من المال فتصدَّق به عن عبد الله بن أبي بكر، فقالت في مرثيته:
فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
فلما ابتنى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولم، ودعا المهاجرين والأنصار، فلمَّا دخل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام قصد لبيت حجلتها، فرفع السِّجف ونظر إليها فقال:
فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا
فخجلت فأطرقت، وساء عمر رضي الله عنه ما رأى من خجلها وتشوُّرها عند تعيير عليٍّ إياها بنقض ما فارقت عليه زوجها، فقال: يا أبا الحسن، رحمك الله، ما أردت إلى هذا؟ فقال: حاجةٌ في نفسي قضيتها.
هذا. وأنتم تروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أغير الناس، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: " إني رأيت قصراً في الجنة فسألت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر بن الخطاب. فلم يمنعني من دخوله إلاّ لمعرفتي بغيرتك " . فقال عمر رضي الله عنه: وعليك يُغارُ يا نبيَّ الله!.
فلو كان النظر والحديث والدُّعابة يُغار منها، لكان عمر المقدَّم في إنكاره؛ لتقدُّمه في شدَّة الغيرة. ولو كان حراماً لمنع منه؛ إذ لا شكَّ في زهده وورعه وعلمه وتفقُّهه.
وكان الحسن بن علي عليهما السلام تزوَّج حفصة ابنة عبد الرحمن، وكان المنذر بن الزُّبير يهواها، فبلغ الحسن عنها شيء فطلَّقها، فخطبها المنذر فأبت أن تتزوَّجه وقالت: شهَّرني!. وخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتزوَّجها، فرقَّى المنذر عنها شيئاً فطلَّقها، وخطبها المنذر فقيل لها: تزوَّجيه ليعلم الناس أنَّه كان يعضهك. فتزوَّجتْه فعلم الناس أنَّه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم: لنستأذنْ عليها المنذر فندخل إليها فنتحدَّث عندها، فاستأذناه؛ فشاور أخاه عبد الله بن الزُّبير فقال: دعهما يدخلان. فدخلا فكانت إلى عاصمٍ أكثر نظراً منها إلى الحسن، وكان أبسط للحديث. فقال الحسن للمنذر: خذ بيد امرأتك. فأخذ بيدها وقام الحسن وعاصمٌ فخرجا. وكان الحسن يهواها وإنمَّا طلَّقها لما رقَّى إليه المنذر.
وقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فخرجا فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل إليها فتحدَّثا طويلا ثم خرج، ثم قال لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ قال: نعم. فنزل بمنزلة حفصة ودخل، فقال له مرَّة أخرى: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أُمِّ، ألا تقول: هل لك في حفصة!!.
وكان الحسن في ذلك العصر أفضل أهل دهره. فلو كان محادثة النساء والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير، ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير.
وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام؛ لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر. إلاَّ أن يكون عني بالنظرة المحرَّمة النَّظر إلى الشعر والمجاسد، وما تخفيه الجلابيب مما يحلُّ للزّوج والوليِّ ويحرم على غيرهما.
ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ، وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى، معه فيها امرأته، فقال: يا شعبيُّ، من معي في هذه القبّة؟ فقال: لا أعلم أصلح الله الأمير! فرفع السِّجف، فإذا هو بعائشة ابنة طلحة.
والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم، ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً.
ورأى معاوية كاتباً له يكلِّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قرظة، في بعض طُرق داره، ثم خطب ذلك الكاتب تلك الجارية فزوَّجها منه، فدخل معاوية إلى فاختة وهي متحشِّدة في تعبئة عطر لعرس جاريتها، فقال: هوِّني عليك يا ابنة قرظة، فإني أحسب الابتناء قد كان منذ حين!.
ومعاوية أحد الأئمّة، فلما لم يقع عنده ما رأى من الكلام موقع يقينٍ، وإنَّما حلَّ محلَّ ظنٍّ وحسبان، لم يقضِ به ولم يوجبْه، ولو أوجبه لحدَّ عليه.
وكان معاوية يؤتى بالجارية فيجرِّدها من ثيابها بحضرة جلسائه، ويضع القضيب على ركبها، ثم يقول: إنَّه لمتاعٌ لو وجد متاعاً! ثم يقول لصعصعة بن صوحان: خذها لبعض ولدك، فإنّها لا تحلُّ ليزيد بعد أن فعلت بها ما فعلت.
ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه، وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال.
فمن ذلك حديث الوصيفة التي اطلَّعت في كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج وكان يُسرُّه، فلما فشا ما فيه رجع على الحجّاج باللَّوم وتمثَّل:
ألم ترَ أنَّ وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا
ثم نظر فوجد الجارية كانت تقرأ فنمَّت عليه.
ومن ذلك حديثه حين نعس فقال للفرزدق وجرير والأخطل: من وصف نُعاساً بشعرٍ وبمثلٍ يُصيب فيه ويُحسن التمثيل، فهذه الوصيفة له. فقال الفرزدق:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... أميم جلاميدٍ تركن به وقرا
فقال: شدختني ويلك يا فرزدق! فقال جرير:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... يرى في سواد الليل قُنبرة سقرا
فقال: ويلك تركتني مجنوناً! ثم قال: يا أخطل فقل. قال:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... نديمٌ تروَّى بين ندمانه خمرا
قال: أحسنت، خُذْ إليك الجارية.
ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساءٌ يجْلسْن للناس، مثل خالصة جارية الخيزران، وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر، ودقاق جارية العبَّاسة، وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب، وامرأة هارون بن جعبويه، وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب.
ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال: أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة؟ قالت: لا أدري، إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت: أنت مملوكة، وإذا رضيتْ قالت: أنت حُرَّة. قال: فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك. فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها، أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك، فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها: " أنت حُرَّة " . فتزوّجها على عشرة آلاف درهم، ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها، وأمر بدفع المال إليها.
والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام، أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك. فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ، ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحقّ الواجب.
وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم، ويعيِّرونها بذلك، ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي. فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ، وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع، حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسرِّيته.
ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر. وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً.
وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان.
وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن، وغلاكمٌ يقال له " بديع " يتغنَّى، فعابه بذلك الحكم بن مروان، فقال: وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ!.
وسمع يزيد بن معاوية الغناء.
واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة، وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر في حبابة:
إذا ما حنَّ مزهرها إليها ... وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ
وأصغوا نحوه الآذان حتَّى ... كأنّهم وما ناموا نيامِ
وقال في سلاَّمة:
ألم ترها، والله يكفيك شرَّها، ... إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ
تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه ... إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ
وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير! فتقول حبابة: لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة.
ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل، والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى. فممّا يعرف من غنائه:
أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا ... لقرب مزارها ودعا البعادا
وله:
عاود القلب سعادا ... فقلا الطَّرف السُّهادا
ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً: فما كان منه صدقاً فحسنٌ، وما كان منه كذباً فقبيح.
وقد قال النبي عليه السلام: " إنَّ من الشِّعر لحكمةً " .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح " .
ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته، فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك، ولا يزيل منزلته من الحكمة.
فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل. وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام. وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء، وكتاب الموسيقي، وهو من كتاب حدّ النُّفوس، تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع، وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن. فلا وجه لتحريمه، ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام.
فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين، واقتناص الصيد، والتشاغل بالجماع وسائر اللذات، تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله. ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل، إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة، وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم.
ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام. هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ألهاه عرض الخيل عن الصَّلاة حتّى غابت الشّمس، فعرقبها وقطع رقابها.
وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن، ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات. وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة؛ فقد يُعرف بالحسن والقبح. ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره، الماهر في بصره، الطَّبُّ بصناعته؛ فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره.
وكذلك الأمور الوهميّة، لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين، ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى، حتّى النَّعم والحمير، يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب، ومؤدياً إلى العقل، ثم يقع الحكم من العقل عليها.
وأنا مبين لك الحسن. هو التمام والاعتدال. ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة، وكدقة الجسم، أو عظم الجارحة من الجوارح، أو سعة العين أو الفم، مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق؛ فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن، وإنْ عدت زيادة في الجسم.
والحدود حاصرةٌ لأمور العالم، ومحيطة بمقاديرها الموقوتة لها، فكلُّ شيءٍ خرج عن الحدِّ في خُلُق، حتّى في الدين والحكمة الذين هما أفضل الأمور، فهو قبيحٌ مذموم.
وأما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية، والكون كون الأرض لا استواؤها.
ووزن النفوس في أشباه أقسامها. فوزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألاّ يفوت شيء منها شيئاً، كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس، والأنف العظيم لصاحب العين الضَّيِّقة، والذَّقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المدَّع النِّضو، والظَّهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرتين، والظَّهر القصير لصاحب الفخذين الطويلتين، وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه.
ثم هذا أيضاً وزن الآنية وأصناف الفُرُش والوشْي واللباس، ووزن القنوات التي تجري فيها المياه.
وإنما نعني بالوزن الاستواء في الخرط والتركيب.
فلا بدَّ ممّا لا يمنع الناظر من النظر إلى الزَّرع والغرس والتفسُّح في خضرته والاستنشاق من روائحه. ويسمّى ذلك كلُّه له حِلاًّ ما لم يمد له يداً. فإذا مدّ يداً إلى مثقال حبّةٍ من خردل بغير حقِّها فعل ما لا يحلُّ، وأكل ما يحرم عليه.
وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ، ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام، ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر، حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم.
وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة " . قال عبد الله بن مسعود، وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال: إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة، وإنْ تأخَّر فلممٌ. وقال غيره من الصَّحابة: القبلة واللَّمْس. وقال آخرون: الإتيان فيما دون الفرج.
وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته، فقال: ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله!.
فإن قال قائل: فيما روى من الحديث: " فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء " ، وقال: " لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها، إلا إنَّ حموها الموت " وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق، مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة؛ وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع.
قلنا: إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور، ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن، والعمل على النيَّات، فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعلّه ملحد فيه، ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ، إلاَّ أنّه مولود على فراشه، مشهورٌ بالانتماء إليه. ولو كُلِّف من يشهد لرجلٍ بواحدٍ من هذين المعنيين على الحقيقة لم تقم عليه شهادة. ومن يحضر مجالسنا لا يظهر نسباً مما ينسبونه إليه، ولو أظهر ثمَّ أغضينا له عليه لم يلحقْنا في ذلك إثم.
والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى. ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج. فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة، ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله، فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية.
ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ؛ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق، فيعوق عن ذلك ضبط الموالي ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب، فيضطر العاشق إلى الشراء، ويحلّ به الفرج، ويكون الشيطان المدحور.
والعشق داءٌ لا يملك دفعه، كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية، ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم.
ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء، للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته، ونحل جسمه وضوي لحمه، حتَّى يؤمر بالتخليط، ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات. ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية، لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء.
وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة، كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه. وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم. وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله، وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى، كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم. فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر، وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه في الانحلال. فالعشق يتركب من الحبّ والهوى، والمشاكلة والإلف، وله ابتداءٌ في المصاعدة، ووقوف على غاية، وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال.
والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به، لا تفسير له غيره؛ لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله، وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن، وإن الرجل يحبُّ ولده، والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه، ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً. فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق، ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار، وربّما عدل عنهما. وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور. ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى. ولذلك قيل: " عين الهوى لا تصدق " ، وقيل: " حبُّك الشيء يعمي ويصمّ " . يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم. وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إن سئل عن حجّته في ذلك لم تقم له حجّة.
ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً، فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد، والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ. فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده، وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق.
وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق.
فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة، أعني مشاكلة الطبيعة، أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال، المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان، صار ذلك عشقاً صحيحاً. وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة، وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة.
ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف، وتغرسه المواظبة في القلب، فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر، وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد. وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل. فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً.
ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره، والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن، ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة، ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته، والخاطر في كلِّ حالة على قلبه.
وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة، واضمحلَّ على المطاولة، وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها.
فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه. والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض؛ لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة، وسرعة الإلف وإبطائه، وقلّة الشَّهوة وضعفها.
وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه، ونكت في صدره وشغف فؤاده. وذلك من المشاكلة، وإجابة بعض الطبائع بعضاً، وتوقان بعض الأنفس إلى بعض، وتقارب الأرواح. كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس، وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله، قسراً من الطبيعة.
وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف، أو في الهوى أو الطِّباع. ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح، والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن، وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه، لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب.
ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفوس إليهنَّ، وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من اللّذَّات ما لا يجتمع في شيءٍ على وجه الأرض.
واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ، والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها. فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره، إذْ كان دماً جامداً. ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة، أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك، عاد ضرراً. ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة.
فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ، وصار القلب لها رابعاً. فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع، وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه، ولا تطرب آلته إلا إليه.
وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه. والحواسُّ كلُّها رواد للقلب، وشهودٌ عنده.
وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف، وأصغى نحوها السَّمع، وألقى القلب إليها الملك، فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه، فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس، فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ، ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة؛ لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة " . وكفى بها لصاحبها فتنةً، فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع، وتكانفتهما المغازلة.
إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تُناصح في ودِّها؛ لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين، ليقتحموا في أُنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ، وداعبتْه بالتبسُّم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشُّرب عند شربه، وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه، والصَّبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه، وأنّه قد تعقّل في الشَّرك، تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها، وبلَّت السِّحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنَّها لا تريد سواه، ولا تؤْثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار، وختمتْه بزعفران، وشدَّته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحَّت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:
وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ... ر مليحةٍ نغماتُها
جاءت وقد قرح الفؤا ... د لطول ما استبْطاتُها
فضحكت حين رأيتُها ... وبكيت حين قراتُها
عيني رأت ما أنكرتْ ... فتبادرت عبراتُها
أظلوم، نفسي في يدي ... ك: حياتُها ووفاتُها
ثم تغنت حينئذ:
باب كتاب الحبيب ندماني ... محدِّثي تارةً وريحاني
أضحكني في الكتاب أوّلُه ... ثم تمادى به فأبكاني
ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب، وتغايرتْ على أهله، وحمتْه النظر إلى صواحباتها، وسقتْه أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وتحيَّةٍ من ريحانها، وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها، وقطعةً من مرطها، وشظيَّةً من مضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً، وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وأبدت عند العثرة اسمه، وغنَّته إذا رأته:
نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ ... وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ
ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه، ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به، ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه، ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت، ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت، وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه، وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون:
أهوى من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه، أو كان منه مُدانيا
وعند الدُّعاء به قوله:
وداعٍ دعا إذْ نحن بالخيف من منىً ... فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وربما قادها التمويه إلى التصحيح، وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها، وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها، وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه، وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي، واستباعت من السادة، وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها، وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللَّفظ، دقيق الفهم، لطيف الحسّ، خفيف الرُّوح. فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها.
وأكثر أمرها قلّة المناصحة، واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه. وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحدٍ بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها، وتوهمه أنَّها له دون الآخر، وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها. وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة، تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم.
فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به، ولا علم يدعو إليه، ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان، لكفاه.
وليس هذا بذمٍّ لهنَّ، ولكنَّه من فرط المدح. وقد جاء في الأثر: " خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات " .
وليس يُحسن هاروت وماروت، وعصا موسى، وسحرة فرعون، إلاَّ دون ما يُحسنه القيان.
ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة. ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا لهنَّ كلَّ ذنب، وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب.
وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ، وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر. والسبب فيه واحد، والعلّة سواء.
وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنمّا تكتسب الأهواء، وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب والأخانيث، وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة.
وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيبٌ في ثواب؛ وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى والقيادة، والعشْق والصَّبوة، والشَّوق والغلْمة.
ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة. وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها؛ لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت، وإنْ أهملتْها نقصتْ، وإن لم تستفد منها وقفتْ. وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب. وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها، والمواظبة عليها. فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه، ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها، وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته؛ لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها، مشاغيل بما هي فيه، وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها.
ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء، فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة، ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة، ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة، وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة، والقلوب واجفة، والأكباد متصدِّعة، والأماني واقفة، على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده، مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى، ويستفاد ويُقتنى، بعد العُقد النَّفيسة. فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن، مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار.
ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة، فإذا جاءوا حصلوا على النظر وانصرفوا بالحسرة، ويجتني مولاها ثمرة ما غرسوا ويتملَّى به دونهم، ويُكفي مؤونة جواريه.
فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال، ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم، وصعوبة خدمتهم، هو عنه بمعزلٍ: لا يهتمُّ بغلاء الدقيق، ولا عوز السَّويق، ولا عزَّة الزيت، ولا فساد النبيذ؛ قد كُفي حسرته إذا نزر، والمصيبة فيه إذا حمض، والفجيعة به إذا انكسر.
ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ، ويسأل الحوائج فلا يُمنع، ويُلقي أبداً بالإعظام، ويكنَّى إذا نودي، ويُفدَّى إذا دُعي، ويُحيَّا بطرائف الأخبار، ويُطلع على مكنون الأسرار، ويتغاير الرُّبطاء عليه، ويتبادرون في برِّه، ويتشاحُّون في ودّه، ويتفاخرون بإيثاره.
ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء: يُعطَون فوق ما يأخذون، وتُحصَّل بهم الرغائب، ويدرك منهم الغنى.
والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين والعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد؛ لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة، لتركه حذقاً واختياراً، وشحاً على صناعته، ودفعاً عن حريم ضيعته؛ لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه، ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه.
ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويعرض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يُعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب، ويُشدَّد الحجاب، ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها. ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ، مثل سلمة الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّور، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام.
فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها!.
ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها؛ لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة.
فهل على مزوَّجة من حرج، وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل، وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة.
هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها. فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية، والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها. وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين؛ إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة، والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون.
فإن قال قائل: إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق. وبالله سبحانه التوفيق.
كتاب ذمّ أخلاق الكتَّاب
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وأبقاك وأمتع بك.
قد قرأت كتابك ومدحتك أخلاق الكتّاب وأفعالهم، ووصْفك فضائلهم وأيّامهم، وفهمته.
ومتى وقع الوصف من القائل تقصِّياً، والنَّعت من الواصف تألُّفاً، قلَّ شهداؤه وكثر خصماؤه، وخفَّت المؤونة على مجاوبيه في دعواه، وسُهلت مناسبة الأدْنياء له في معناه. لأنَّ أغلظ المحن ما عُرض على المشهود فأزاله، وتصفَّحه المعقول فأحاله.
وأضعف العلل ما التُمس بعد المعلول، ونصبت له علماً على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدَّم المعلول علَّته والمخبر عنه خبره، استُغنى عن الحاكم، وظهر عُوار الشَّاهد.
فقد رأيتك أطنبت بإحماد هذا الصِّنف من الناس، وحكمت بفضيلة هذه الطبقة من الخَلْق، فعلمت أنّ فرط الإعجاب من القائل متى وافق صناعة المادح رسخ في التركيب هواه، ورسبتْ في القلوب أوتاده، واشتدَّ على المناظر إفهامه، وعلى المخاصم بالحقّ توقيفه، وكان حكمه في صعوبة فسْخه وتعذُّر دفعه حكم الإجماع إذا لاقى محكم التنزيل.
ولست أدعُ مع ذلك توقيفك على موضع زللك في الاحتجاج، وتنبيهك على النكتة من غلطك في الاعتلال، بما لا يمكن السامع إنكاره ولا ينساغ له إبطاله. وأبيِّن مع ذلك رداءة مذاهب الكتّاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم بما تعلم أنت والناظر في كتابي هذا: أنِّي لم أقل إلاّ بعد الحجّة، ولم أحتجَّ إلاّ مع ظهور العلَّة، ثم أستشهد مع ذلك الأضداد تبياناً، وأجمع عليه الأعداء إنصافاً، إذ كان في ذلك من التبيان ما يبهرهم، ومن القول ما يسكتهم.
ثم أقول: ما ظنُّك بقوم منهم أوّل مرتدٍّ كان في الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتّى مات بجزيرة العرب كافراً، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرْح.
ثم استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده معاوية بن أبي سفيان، فكان أوّل من غدر في الإسلام بإمامه، وحاول نقض عُرى الإيمان بأثامه.
وكتب عثمان بن عفّان لأبي بكر رضوان الله عليهما - مع طهارة أخلاقه وفضائل أيّامه - فلم يمتْ حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمِّ من ذمَّه من أوليائه.
ثم كتب لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياد بن أبيه، فانعكس شرَّ ناشئٍ في الإسلام، نُقضت بدعوته السُّنّة، وظهرت في أيّامه ولايته بالعراق الجبْرية.
ثم كتب لعثمان بن عفان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخافه في خاتمه، وأشعل الرَّعيّة حرباً عليه في مُلكه.
ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فتبيّن من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتبٍ حتّى مات.
ولو كانت الكتابة شريفةً والخطُّ فضيلة كان أحقَّ الخلْق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أولى الناس ببلوغ الغاية فيها ساداتهم وذوو القدر والشرف فيهم. ولكنَّ الله منع نبيَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الخطَّ فيه دنيَّة، وصدَّ العِلْم به عن النبوَّة. ثم صيَّر الملك في ملكه، والشَّريف في قومه يتبجَّج برداءة الخط، وينبل بشنج الكتاب. وإنَّ بعضهم كان يقصد لتقبيح خطَّه وإنْ ككان حلواً، ويرتفع عن الكتاب بيده - وإن كان ماهراً، وكان ذلك عليه سهلاً - فيكلِّفه تابعه، ويحتشم من تقليده الخطير من جلسائه.
وكتب أحمد بن يوسف يوماً بين يدي المأمون خطّاً أعجبه فقال: وددت والله أنِّي كتبت مثله وأنِّي مُغرَّمٌ ألف ألف. فقال له أحمد بن يوسف: لا تأسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنَّه لو كان حظّاً ما حُرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك إنَّ سنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلَّدها إلاّ تابع، ولا يتولاها إلاّ من هو في معنى الخادم. ولم نر عظيماً قطُّ تولَّى كفاية نفسه، أو شارك كاتبه في عمله. وكلُّ كاتب فمحكومٌ عليه بالوفاء، ومطلوبٌ منه الصَّبر على اللأواء. وتلك شروطٌ متنوّعة عليه، ومحنةٌ مستكملة لديه.
وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك، بل يناله الاستبطاء عند أول الزَّلَّة وإن أكدي، ويُدركه العذْل بأوَّل هفوةٍ وإن لم يرض.
يجب للعبد استزادة السِّيد بالشكوى، والاستبدال به إذا اشتهى.وليس للكاتب تقاضي فائته إذا أبطأ، ولا التحوُّل عن صاحبه إذا التوى. فأحكامه أحكام الأرقّاء، ومحلُّه من الخدمة محل الأغبياء.
ثم هو مع ذلك في الذِّروة القصوى من الصَّلف، والسَّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التِّيه والسَّرف. يتوهَّم الواحد منهم إذا عرَّض جبَّته وطوّل ذيله، وعقص على خدِّه صُدغه، وتحذف الشابورتين على وجهه، أنَّه المتبوع ليس التابع، والمليك فوق المالك.
ثم الناشئ فيهم إذا وطئ مقعد الرياسة، وتورَّك مشورة الخلافة، وحُجزت السَّلَّةُ دونه، وصارت الدواة أمامه، وحفظ من الكلام فتيقه، ومن العلم مُلحه، وروى لبُزرْجمهْر أمثاله، ولأردشير عَهْده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفَّع أدبه، وصيَّر كتاب مَزْدَك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ أنَّه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عبّاسٍ في العلم بالتأويل، ومُعاذ بن جبلٍ في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاَّف في الجُزْء والطَّفرة، وإبراهيم بن سيار النظَّام في المكامنات والمجانسات، وحسينٌ النَّجَّار في العبارات والقول بالإثبات، والأصمعيُّ وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب. فيكون أوّل بدْوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه. ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحدٌ عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عند محاسنه كشحه. وإن ذُكر عنده شُريّح جرَّحه، وإن نُعت له الحسن استثقله، وإن وُصف له الشعبيُّ استحمقه، وإن قيل له ابن جُبير استجهله، وإن قدَّم عنده النَّخعيُّ استصغره.
ثم يقطع ذلك من مجلسه سياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان.
فإنْ حذر العيونْ وتفقَّده المسلمون، رجع بذكر السُّنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبَّه بالشاهد الغائب. لا يرتضى من الكتب إلاَّ المنطق، ولا يحمد إلاَّ الواقف، ولا يستجيد منها إلاّ السَّائر.
هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم.
ومن الدليل على ذلك، أنّه لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السَّعْي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقِّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه أُلاَّفه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله.
قال الزُّهريّ لرجل: أيُعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلاَّ الفحول من الرِّجال، ولا يبغضه إلاَّ إناثهم!.
ولئن وافق هذا القول من الزُّهري فيهم مذهباً، إنَّ ذلك لَبَيِّنٌ في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.
وسئل ثُمامة بن أشرس يوماً، وقد خرج من عند عمرو بن مسْعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهْمه؟ فقال: ما رأيت قوماً نفرتْ طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز - فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحْص والنظر قائد غيِّهم، والحكمة معْدن شبههم - أكثر من الكتَّاب.
وذكر أبو بكرٍ الأصمُّ ابن المقفَّع فقال: ما رأيت شيئاً إلاَّ وقليله أخفُّ من كثيره إلاَّ العلم، فإنّه كلَّما كثر خفَّ محمله. ولقد رأيت عبد الله بن المقفَّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: " كمثل الحمار يحْمل أسْفاراً " . قد أوهنه علمه، وأذهله علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته، وحيَّرتْه بصيرته.
وكنا في مجلس بشر بن المعتمر يوماً وعنده المُرْدار، وثمامة، والعلاَّف، في جماعةٍ من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوامَّ واستحواذ الفتنة عليهم في التقليد، واستغلاق قلوبهم بكثيرٍ مما ليس في طبعهم، فتعظِّمهم وتقضي لكلِّ من نُبل منهم بالصَّواب في قوله وإنْ لم يعلموا. لا يدينون بالحقيقة، ولا يحمدون إلا ظاهر الحلْية.
ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمنلا يعرفونه، حتَّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير مُعاشرةٍ جرتْ بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلاّ أنَّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلانٌ الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحدٍ تجهيله مع نبله. فإنْ وُقفوا على تمييزه هابوه، وإن دُعوا إلى تفهُّمه أكبروه، وقالوا: لم يُنصب هذا بموضعه إلاَّ لخاصَّةٍ فيه وإن جهلناها، وفضيلةٍ موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلَّه عُمر بن فرجٍ في السَّفه والمباهتة، وإبراهيم بن العبَّاس في الشَّره والرَّقاعة، ونجاح بن سلمة في الطَّيش والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللُّؤم والجهالة، وآل وهب في النَّهم والنَّذالة، ويحيى بن خاقان في الذُّلِّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبِّر في الخبِّ والمكابرة، والفضْل بن مروان في الفدامة مقصورة.
وفي عمر بن فرج يقول الشاعر:
لا تطلب الخير من بني فرج ... لا بارك الله في بني فرجِ
والعنْ إذا ما لقيته عُمراً ... لعناً يقيناً بأعظم الهرجِ
فلعنةٌ إنْ لعنْتها عُمراً ... تعدِل مقبولةً من الحججِ
ليس على المفتري على عُمرٍ ... من ضرْب حدٍّ يُخْشى ولا حرجِ
وخُبِّرْت أنَّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوماً ليسلِّم عليه، فلم يأذنْ له حاجبُه فانصرف، وأتاه يوماً آخر فصادفه حين نزل فسلَّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذنْ له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رُقْعةً فيها:
أراك تُراعُ حين ترى خيالي ... فما هذا يروعُك من خيالي
لعلك خائف منِّي سؤالاً ... ألا فلك الأمان من السُّؤال
كفيتُك إنَّ حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلاً بحالي
وإنَّ العُسْر مثل اليسر عندي ... بأيِّهما مُنيت فما أُبالي
فلما قرأ يحيى بن خاقان رُقْعته ووثق بأمانه من السُّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يَعُدْ إليه، ولا التقيا بعد ذلك.
وجلس الجاحظ يوماً في بعض الدواوين، فتأمَّل الكتَّاب فقال: خلقٌ حلوة، وشمائل معشوقة، وتظرُّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنْبتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون.
ثم وصف أصحاب الصناعات، وذكر تعاطف أهلها على نظرائهم، وتعصُّب رجالها على غيرهم فقال: لا أعلم أهل صناعة إلا وهم يجْرون في ذلك إلى غاية محمودة، ويأتون منه آيةً مذكورة، إلا الكُتَّاب، فإنَّ أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله، ويسترجح رأيه إذا بلغ في نكاية رجلٍ من أهل صناعته.
ثم ضرب لهم في ذلك مثلاً، ثم قال: هم كالهرمة من الكلاب في مرابضها، يمرُّ بها أصناف الناس فلا تحرَّكُ، وإن مرَّ كلبٌ مثلها نهضت إليه بأجمعها حتّى تقتله.
وحدّثني عُمر بن سيف، أنه حضر مجلس أبي عبّاد ثابت بن يحيى يوماً في منزله، وعنده جماعة من الكتاب، فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق ومدانس الأفعال، قال: ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال، وزُهدهم في المواصلة فقال: معاشر الكتاب، ما أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامَّة منكم، ولا النعم على قومٍ أظهر منها عليكم. ثم إنَّكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزُّهد في التعاطف عند الاختلال. وإنَّه ليبلغني أنَّ رجلاً من القصابين يكون في سُوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلَّى له القصَّابون سُوقهم يوماً، ويجعلون له أرباحهم، فيكون بربحها منفرداً، وبالبيع مُفردا، فيسدُّون بذلك خلَّته، ويجبرون منه كسره. وإنكم لتناكرون عند الاجتماع والتعارف، تناكر الضباب والسَّلاحف، ثم مع استحواذكم على صناعتكم، وقلة ملابسة أهل الصناعات لها معكم، لم أر صناعة من الصناعات إلاّ وقد يجمع أهلها غيرها إليها فيعانونها جميعاً، وينزلون لضربٍ من التجارات معاً، إلاّ صناعتكم هذه؛ فإنَّ المتعاطى لها منكم، والمتسمِّي بها من نظرائكم، لا يليق به ملابسةُ سواها، ولا ينساغ له التَّشاغل بغيرها. ثم كأنكم أولاد علاَّتٍ، وضرائر أُمهات، في عداوة بعضكم بعضا، وحنق بعضكم على بعض. أُفٍّ لكم ولأخلاقكم!.
إنَّ للكتّاب طبائع لئيمة، ولولا ذلك لم يكن سائر أهل التجارات والمكاسب بنظرائهم بررةً، ومن ورائهم لهم حفظة، وأنتم لأشكالكم مُذلُّون، ولأهل صنائعكم قالون. قبح الله الذي يقول قضينا في الأمور بالأغلب.
وعرفنا علل الناس في مكاسبهم وتعامُلهم، فمن كانت علَّتُه أكرم كان كرم فعاله أعمَّ.
ولست أعلم علَّةً في مكتسبٍ أنبل عند الخاصَّة من مكسبكم.
ثم وصف من سلف من هذه الطَّبقة يوماً فقال: كتب سالمٌ لهشام ابن عبد الملك، وكان أشدَّ الناس غلطاً، وأضعفهم رأياً، وكان هشامٌ يُحضره فيسمع من ضعفه ويستميحه الرأي، يهزأ به.
ثم كتب لهم مسْعدة وكان مؤدِّباً، وكانت ضعْفة المؤدِّبين فيه.
ثم كتب لهم عبدُ الحميد وكان معلِّماً، وبتحامله على نصر بن سيار انتقضت خراسان، وزال ملك بنى مَرْوان.
ثم كتب لبني العباس عبد الله بن المقفَّع، فأغرى بهم عبد الله بن علي، ففُطن له وقُتل وهدم البيت على صاحبه.
ثم كتب لهم يونس بن أبي فروة، وكان زنديقاً، فطلب فاختفى بالكوفة والنِّيل حتَّى هلك.
واستكتب الرشيد أزدانقاذار على ديوان الخراج، وكان ثنويّاً.
ثم لم ينوِّهوا بذكر كاتبٍ حتّى ولى المأمون، فقدم معه ابن أبى العباس الطُّوسى، فبه انتشرت السِّعاية بالعراق.
واستكتب أبا عبّاد، وكان بالرَّى مؤدِّباً، وكان سخيفاً حديداً، ولم يزل بمكانه في ديوانه قيمّا لابن أبي خالد الأحول والاسم له.
ثم كتب له رجاء بن أبي الضحَّاك، وكان أظلمهم وأغشمهم، واستخلف حفصويه على ديوان الخراج، وكان ركيكاً لسعايته.
ثم كتب لهم ابن يزداد، وكان أشقاهم، حتّى هلك.
وكتب لهم عمرو بن مسعدة، وكان رسائلياً فقط.
واسترجح المأمون وهو بخراسان قبل مقدمه من كتاب العراق على غير بلوى إبراهيم بن إسماعيل بن داود، وأحمد بن يوسف، فلما قدم امتحنهما فتعنَّتا، فاستنهضهما في الأعمال ففشلا، فلم يعملا على شيء حتّى هلكا.
وكان إبراهيم شُعوبيا، وكان يتهم بالثَّنويَّة. فإن كان ذلك صحيحاً فقد كانت صبابته بها على جهة التقليد فيها، لا على جهة التفتيش والاحتجاج فيها. وهذه علة المرتدّ من سائر الكتّاب.
وقد قال أهل الفطن: إنَّ محض العمى التقليد في الزندقة؛ لأنَّها إذا رسخت في قلب امرئ تقليداً أطالت جرأته، واستغلق على أهل الجدل إفهامه.
وكان أحمد بن يوسف مأفونا، وهو أول من قُرف بالآفة المخالفة لطبع الكتَّاب.
واستقضى على ديوان الخراج والجند إبراهيم الحاسب، والحسن بن أبى المشرف. فلقن إبراهيم من سائر الآداب والعلوم علم الحساب فقط، ولم يُفزع إليه في قضيةٍ ولا رأى حتّى هلك، فكان الذي وضعه وأدناه شرهُه، وهي علَّةٌ قائمة في كتّاب الجند خاصة.
واستضعف ولاة الدواوين الحسن بن أبى المشرف عند قول الفضل مروان له وهو على الوزارة: " يا حسن، احتجنا إلى رجلٍ جزلٍ في رأيه، متوفّر لأمانته، متصرِّف في الأمور بتجربته، مستقدرٍ على الأعمال بعلمه، تصف لنا مكانه، وتشير علينا به، فنقلِّده جسيماً من عملنا " . فأجابه سريعاً قال: وجدته لك - أصلحك الله - كذلك. قال: من هو؟ قال: أنا. وألح في قوله، فتبسم الفضل وقال: هذا من غيرك فيك أحسن منك بلسانك لك، نعود وننظر إن شاء الله! وحسبك بقومٍ أنبلهم أخسُّهم في الرِّزق مرتبة، وأعظمهم غناءً أقلُّهم عند السُّلطان عقلاً. يُرزق صاحب ديوان الرسائل - وبلسانه يخاطب الخلق - العشر من رزق صاحب الخراج. ويرزق المحرِّر - وبخطِّه يكون جمال كتب الخليفة - الجُزء من رزق صاحب النَّسخ في ديوان الخراج. لا يحضر كاتب الرسائل لنائبةٍ، ولا يُفزع إليه في حادثة. فإذا أبرم الوزراء التدبير، ووقفوا منها على التقدير، طرحت إليه رقعةٌ بمعانى الأمر لينسِّق فيه القول، فإذا فرغ من نظامه واستوى له كلامه، أحضر له محرِّره فجلس في أقرب المواطن من الخليفة، وأمنع المنازل من المختلفة، فإذا تقضَّى ذلك فهُما والعوّام سواء.
هذا وليست صناعتهما بفاشيةٍ في الكتَّاب، ولا بموجودة في العوامّ؛ فأغزرهم علماً أمهنهم، وأقربهم من الخليفة أهونهم. فكيف بكاتب الخراج الذي علمه ليس بمحظور، وإشراك الناس فيه ليس بممنوع، يصلح لموضعه كلُّ من عمل وعُمل عليه، أحمد أحواله عند نفسه التعقُّد على الخصوم، وأسعد أموره التي يرجو بها البلوغ الشَّره ومنع الحقوق. وأحذق ما يكون بصناعته عند نفسه حين يأخذ بإبطال السُّنن، ويعمل بفلتات الدفوع.
ولذلك ما ذكر أنَّ بعض رجال الشَّعبيِّ قال له: يا أبا عمرو، الكتَّاب شرار خلق الله! فقال: لا تفعل.
ولكنَّ الشعبيَّ كان لسلطانه مُدارياً.
ومن كتاب الجند: محمود بن عبد الكريم، كان حُميد بن عبد الحميد عند دخول المأمون مدينة السلام وبعد سكون الهيْج وخمود النَّائرة، رفع إلى المأمون يذكر أن في الجند دغلا كثيراً ممن دخل فيهم بسبب تلك الحروب في أيام الأجناد وهم قومٌ من غير أهل خراسان ممَّن تشبَّه بهم وادّعى إليهم من الأعراب والدُّعّار، وممن لا يستحقُّ الدِّيوان، وقومٌ من أهل خراسان صارت لهم الخواصُّ السَّنيَّة، ولم يكن لهم من الغناء ما يستحقُّون به مثلها وذكر أنَّ بيت المال لا يحتمل ذلك، وسأل المأمون أن يولِّيه تصنيف الجند. ولم يكن مذهب حُميدٍ في ذلك التوفير على المأمون، ولا الشفقة على بيت مال المسلمين، ولكنه تعصَّب على أبناء أهل خراسان، واضطغن عليهم محاربتهم إياه أيَّام الحسن بن سهل مع ولد محمد بن أبي خالد وغيرهم، وما كانوا قد انتحوْه به من تلك الوقائع والهزائم، وما ذهب له من الأموال بذلك السَّبب.
فولاه المأمون التصنيف، وأمر للجند برزق شهرين، فولّى حميدٌ العطاء والتصنيف محمود ابن عبد الكريم الكاتب، وعرف محمود ما غزا حميد، فتحامل على الناس واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواصَّ، وبعث في الكور وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم وإشفاءً لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنّت، فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشرٌ كثير.
ثم إنّ المأمون أمر للناس بتمام عطاياهم؛ واكتسب محمود بن عبد الكريم المذمَّة، وصار ملعنةً في محالِّ بغداد وفي مجالسها وطرقها.
ومنهم: زيد بن أيوب الكاتب، عمل في ديوان الجند أربعين سنة، ثم صار في آخر عمره قواداً ليحيى بن أكثم القاضى. وذلك أن المأمون أمر له بفرض، فصّير يحيى بن أكثم أمر ذلك الفرض إلى زيد بن أيوب، وأمره ألا يفرض إلا لأمرد بارع الجمال، حسن القد والصورة. فكان آمر ذلك الفرض مشهوراً متعالماً. ففي ذلك يقول الحسن بن علي الحرمازيّ لزيد بن أيوب:
يا زيد يا كاتب فرض الفراش ... أكلُّ هذا طلبٌ للمعاش
مالي أرى فرضك حملانهم ... يثبت في القرنين قبل الكباش
وعلى ذلك فإنه لم يبلغني أنه كان في ولاة ديوان الجند ولا في كتابهم مثل المعلّى بن أيوب في نبله وارتفاع همته، وكرم صحبته، وعفافه، وجميل مذهبه، وشدة محاماته عمن صحبه وتحرَّم به. فكان المأمون يعرف له ذلك ومن بعده من الخلفاء، فثبتت وطأته، ودامت ولايته، وحمد أثره.
قد أتينا على بعض ما أردنا فيما له قصدنا، ولم نستعمل الانتزاعات فيما ذكرنا، وأعرضنا عن التأويلات فيما وصفنا، وقصدنا إلى المأثور فحكيناه، وإلى المذكور في الأزمنة فأجريناه، لئلا يجد الطاعن فيما وصفنا مقالا، والمنكر لذمّ ما ذممنا مساغا، وعلمنا أن من عاند مع ذلك فقد دفع عيانا وأنكر كائنا مذكوراً. وفي ذلك دليلٌ باهر على اضمحلاله، وشاهدٌ عدلٌ لأضداده.
ولو حكينا كلّ ما في هذا الجنس من الأقوال، وما يدخله من المقايسات والأشكال، لطال الكتاب،ولمله الناظر المعجاب، فاكتفينا بالجزء من الكتاب، والبعض دون التمام، وعلمنا أنَّ الناظر فيه إن كان فطناً أقنعه القليل فقضى، وإن كان بليداً جهولا لم يزده الإكثار إلا عيّاً، ومن العلم بما له قصدنا إلا بعدا. وبالله الكفاية والتوفيق.
تمَّ كتاب " ذم أخلاق الكتاب " بعون الله ومنِّه ومشيئته وتوفيقه، والله تعالى الموفق للصواب. والحمد لله أولا وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.