بانياسيس - المقاربات التواصلية (أو المجاز المستمر)

إذا كانت فلسفة الذات والموضوع قد استمرت منتجة لجدليتها حتى اليوم بطرفيها المثالي والحسي ووسطية البين ذاتية ، فكان من اللازم تأثير ذلك الديالكتيك على مفهومنا عن التواصل. وعندما اتحدث عن التواصل فلا أعني به اللغة المتكلمة بشكل حصري ، ولا النص ، بل أعني التواصل بمعناه الواسع ؛ ذلك التواصل الذي لم يبلغ يوما درجة الاشباع المطلوب ولا الاكتفاء الأداتي. تبدو فلسفة التواصل شديدة التعقيد ؛ لأنها محاولات خجولة لفهم تعقيدات كونية عبر أنسنة صناعية. فإذا كان الوجود بما هو وجود موضوعا مستقلا ومتصلا في نفس الوقت بالذات فإن الفهم والإدراك له والوعي به هي عملية تواصلية ، وهي -من ثم- لا تخلو من شبهة النقص والوهن. ورغم ذلك فحتمية هذا التفاعل الذي يبدو -من وجهة نظر الذات الاستعلائية- متحركا باتجاه واحد ، تستدعي أن يخلق الانسان وسائله الخاصة ويطورها من أجل بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه من حالة التواصل. في فيلم أفاتار يقوم الأفاتار بالاتصال بالوجود اتصالا ماديا عبر ضفائر الشعر ؛ وهذه فكرة مادية قد تبدو ساذجة وكلاسيكية كان فوكو قد أشار إليها في نصف جملة من قبل ، وكان من الأجدر أن يتم تحرير التواصلية من جانبها الفيزيائي لتحقيق عمق أكبر. مع ذلك فالأمر لا يخلو من دوافع (هي أيضا ذات بعد تواصلي) ، لتقريب وعي المشاهدين بما يراد أن يقال. فالتواصل عبر الضفائر هو ذاته التواصل عبر التجسيد في التعبد او ما يسمى بالتقرب إلى الآلهة. فهناك نزعة مادية للتواصل لتحقيق ذلك الشعور بالجدوى منه. لهذا فلا يمكن أن تكون عملية التواصل ممكنة بالسلب. فلا يتصور أن يكون هناك تواصلا بين الذات والموضوع بالامتناع الكامل. فحتى في فلسفة التأمل لبلوغ الحالة المتسامية لابد من اتباع بيروقراطية إما داخلية (شعورية) ، أو خارجية (سلوكية) ، أو عبر الدمج بين الصورتين. ولا شأن لنا الآن بتكييف التواصل الجواني كاستجابات عصبية لتأكيد فيزيائيته ، فمحور التواصل هو الفعل.
عندما نثمن على استقلال الوعي بالوجود عن موناد ذلك الوجود فنحن إذن نؤكد استمرار الحالة المجازية في سيولتها عبر التواصل. فالتواصل إذن محاولات مستمرة لردم المساحة الهائلة التي تفصل بين الوعي بالموضوع والموضوع نفسه. وإذا لم يكن من سبيل إلى تحقيق تطابق مطلق (وإلا لما احتجنا الى العلوم) ؛ فالمجاز هو أفضل ما توصلنا إليه كبشر عبر التاريخ. هذا يدعونا إلى القول بشمولية المجاز كعملية مقاربة مستمرة وضرورية بل وحتمية للعلاقة بيننا كأطراف وجدوا انفسهم في هذا الوضع المريب والمتهافت. حينها ربما نتساءل: إن كانت كل عملياتنا التواصلية ليست أكثر من مقاربات فعلى أي أساس سنبني تعريفنا للمجاز؟ وعلى أي معيار سنستند للفصل بين المجاز وغير المجاز؟
لا إجابة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى