تظل الكتابة هاجسا إبداعيا يسعى من ورائه صاحبه إلى تحقيق الإضافة والتفرّد والتميّز في ما ينتجه من نصوص سردية أو شعرية فيحرس من نص إلى آخر على تجاوز منجزه السابق بمنجز جديد ، غير أن ذلك لا يمكن أن يتحقق بالنيّة المجردة بل يحتاج إلى استعدادات نفسية وفكرية وفيزيائية أيضا مرتبطة بذات الكاتب ومتصلة بالمحيط ، لأن المناخ الإبداعي كما يعرّفة ألكسندر روشكا يعني الوسط المباشر والتأثيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية (1).
وإلى جانب ذلك يبرز شرط أساسي يتمثل في مدى قدرة الكاتب على القيام بنقد ذاتي صارم يكشف عن المعوّقات الفنية التي يجب تلافيها لتحقيق هدفه كالقوالب الضيّقة لفن القص التي تخدش متعة التذوّق لدى القارئ والناقد في آن واحد ونمطية المضامين المضامين التي تحصر المجال التخيّلي في أفق رتيب تتكرّر فيه الومضات والإشارات المتحوّلة من هذا النص إلى غيره وكأنّ فضاء السرد منغلق على أفعال وحركات واحدة .
ولعل ّ التهم التي اتجهت إلى العديد من الأعمال القصصية والروائية والشعرية لنعتها بالمحلية الضيّقة قد استندت إلى على ما ذكرته لأن الأدب الذي لا يؤثر على قارئه بما هو مدهش وجديد ومتمرّد على المألوف والمعروف هو أدب ميّت .
والمرحوم القاص والروائي التونسي إبراهيم بن سلطان ترك ـ في غير مجموعة القصص الموجهة للأطفال ـ العناوين التالية:
1) زغاريد ودموع، قصص (1991).
2) وتزهر الجبال الصلدة، رواية (1996).
3) فجر وأحلام وأرق، قصص (1999).
4) وردة السراب، رواية (2003).
5) طيبة هذه الأرض ـ قصص (2010).
ونتأكد من خلال العرض من أن الكاتب قد انخرط في حركية النشر قبل تجاوز سن النبوءة بسنتين ( 38 سنة ) لأنه من مواليد ي 28 فيفري 1953 ـ بالرغم من أن أول قصة منشورة له بعنوان "ساق وأضراس" يعود تاريخ كتابتها إلى سنة 1974 .
فهل كان حصاد السبع عشرة سنة من الكتابة المصرّح بها أقل من أن يؤلف مجموعة قصصية واحدة ، وهي باكورة المجاميع القصصية "زغاريد ودموع "، أم أنّ بن سلطان قد ألّف قصصا أخرى لم يرض عن نشرها ففضل التأني في إصدار إنتاجه في كتابه الأول إلى أن يقتنع بجدوى تقبله من قرائه؟
تلك فرضية معروضة للتأمل والنقاش ولا يمكن الاتكاء عليها كثيرا إذا أعزينا تأخر نشر "زغاريد ودموع " يعزىإلى ظروف مادية منعت صاحبها من وضعها بين أيدي القراء قبل أن تتوفر له الإمكانيات المالية لطباعتها على حسابه الخاص ، بعد ما تجاوز نصوصها بنصوص أخرى أكثر نضجا وأوفر تقبلا من طرف المتلقي.
وإذا تخلصنا من النظرة الاستعراضية إلى الحكم الاستقرائي نتأكد من أن كاتبنا قد تعامل بحميمية مع المحيط التي وضع فيه خطوات حياته الأولى وواصل فيه العيش ( رغم ابتعاده المتقطع عنه خلال فترات الدراسة الثانوية والترشيحية وغيرهما ) إلى أشهر قريبة من وقت وفاته المفاجئة يوم الأربعاء 27 أكتوبر 2010 بزغوان ( قرب تونس العاصمة ) .. هذا المحيط النائي عن فضاءات التلاقي والتشارك والتحاور وتبادل الأفكار والآراء ، بالنسبة له ، حول فنون الإبداع الأدبي عموما والسردي الذي يتعاطاه خصوصا ، قد يكون له تأثير واضح على مسيرته السردية التي تعثرت لأسباب متعددة لم يكن يرغب في بروزها .. فنحن نعرف أن الرديف المنزوية في الجنوب الغربي التونسي متاخمة للحدود الشرقية الجزائرية قد كانت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لا تعطي لدماغ الكاتب ما يقتات لأنها في رَبع منجَمي يتعاطى جل ساكنيه العمل بالأنفاق والمغاسل والمصانع والورشات والمكاتب التابعة لشركة الفسفاط ولا يشارك منهم إلا النزر القليل عند مغادرة مهنهم في بعض الأنشطة الثقافية كالمسرح والموسيقى والفنون الشعبية ،وذلك لمحدودية المستويات التعليمية والمعرفية لدى أغلبهم أولا ، ولبحثهم بعد ساعات العمل المضنية عمّا ينسيهم أتعابهم ومعاناتهم في أماكن يتسلون فيها دون بذل أي مجهود فكري .. وقد ظل إبراهيم بن سلطان في بلدته لسنوات طويلة مشروع قاص وروائي يكتب في صمت لأنه لم يجد ممن يحيطون به من يستمع إلى ما يحبّره قلمه لمناقشته فيه باستثناء الظفر بذلك في فرص متاحة له عندما زامله إبراهيم درغوثي بالتدريس ـ في المدرسة التي كان يشتغل فيها ـ متنقلا إليها يوميا من أم العرائس ـ المنجم المجاورـ بمسافة سبعة عشر كيلومترا شرقا .
والمعلوم هو أن الروائي القاص محمد الصالح الجابري قد أقام في الرديف في ستينيات القرن الفائت للتدريس فلم تلهمه مناخات العيش فيها رغبة الإعلان عن الكتابة فيها ولم ينجز في أجوائها المتخمة بمشاغل الكدح والنضال النقابي المتواتر روايته " يوم من أيام زمرا " التي استوحاها من أحداث كفاح عمالها قبيل استقلال البلاد إلا بعد مغادرتها إلى أجواء توفرت له فيها أسباب التحريض على الكتابة لينشرها سنة 1968 ولتتحول لاحقا إلى فيلم سينمائي طويل أخرجه ابن المنطقة علي العبيدي بعنوان " الرديف 1954". وأنا لا أعلم إن كان بن سلطان قد تأثر بها " يوم من أيام زمرا" لأنها قد أخلصت كثيرا لمشاغل الكادحين وتطلعاتهم ونضالاتهم في مسقط رأسه فسعى إلى محاكاتها أو إلى تجاوز موضوعها بإنتاجه القصصي والروائي الذي اتكأ على أحداث مستجدة في الزمن الذي ولد وترعرع وكبر فيه ، ولكنني أؤكد على أنه كان واثقا من أنه أولى من غيره بالكتابة عن شجون مواطنيه في ظروفهم القاسية وانتظاراتهم المحبطة ، هذا الوثوق الذي اصطدم بعراقيل اغترابه كصاحب قلم بين أهله وذويه خلال مسيرته الكتابية الأولى لأن الكاتب يشعر بالإحباط الذي يؤدي غالبا إلى التوقّف عن ممارسة فعل الكتابة عندما لا يجد من يتلقى نصوصه في محيطه بالسماع أو بالقراءة إن لم يكن يطمح أكثر من ذلك إلى تقبلها بالتناول التقويمي والنقدي الذي يساعده على تخطي العثرات والهنات لتطوير أدوات عمله بما يوَسّع دائرة الابتكار فيها .
لذلك هاجر الشاعر سويلمي بو جمعة المكان في أواسط السبعينيات المنصرمة إلى العاصمة بينما ظل أصحاب القلم في المتلوي ( الوسط المنجمي الآخر الذي يبتعد عن الرديف بـاثنين وخمسين كلمترا) ليؤسسوا حركة الشعر المنجمي في تلك الفترة ، وهم أحمد المختار الهادي ومحمد الطاهر سودة ومحمد عمار شعابنية وسالم الشعباني لأنهم كانوا مجموعة شبه متجانسة يلتقي أفرادها متى أرادوا ليقرؤوا لبعض البعض ويتحاوروا في مجالات الأدب والفكر .
وكان لا بدّ من أن ينطلق الرجل من سجنه ليجد ملاذا لتوقه في الملتقى الأدبي لجريدة الصدى الذي أسسه الصحفي الثقافي محمد بن رجب لاحتضان المواهب الكتابية الشابة، وليكتشف مجلة قصص التي رحبت بانضمامه للنشر في أعدادها الدورية ولإصدار قصصه في بعض الصحف لاحقا ليتكثف تواصله بحملة الأقلام فتتعدد بينهم اللقاءات والحوارات والتجاذبات النقدية التي ساعدته على الانخراط في تصورات إبداعية مخالفة للمتداول والجاهز فسعى إلى استضافتها بحذر واضح لأن المتأمل في هياكل نصوصه يكتشف أنها تخلصت في أغلبها من الإنشائية التقليدية والخطاب السائد والتصوير المباشر ، وهي المرتكزات الأساسية لقصص المجموعة الأولى " زغاريد ودموع "، إلى استنطاق مشاعر وقيَم وأحاسيس شخوصه ورصد تحركاتهم وانفعالاتهم بأساليب وصف وتعبير ترتكز على إعادة تركيب مكوّنات المادة الحكائية وتنظيمها وفي سياقات خاصة في مجموعة " فجر وأحلام وأرق" التي دارت حكاياتها في أماكن مختلفة كالرديف وصفاقس والطائف بالجزيرة العربية ، وقد كتب جل قصصها في بداية التسعينيات .
في قصص المجموعة الأولى ينقل الكاتب الأحداث ويرويها دون تدخل منه في تغيير وجهاتها للوصول إلى النتائج التي انتهت إليها على أرض الواقع سعيا إلى كسب تعاطف القارئ مع أصحابها. .
وفي قصص المجموعة الثانية يحافظ على تماسك خيوط مروياته إلى جانب تدخله لتحويل وجهاتها نحو الأهداف التي يتمنى الوصول إليها بها .. وهل للكاتب انتظار من متلقي آثاره إذا لم يفصح له عن تأييده أو مخالفته لما يكتبه ؟
وإذا لم أكن من المحظوظين بالإطلاع على المجموعة القصصية الأخيرة " امرأة الضباب" الصادرة سنة وفاته ، فإنني أقرّ بأنني ظفرت بمتعة القراءة في عدد من نصوص " طيّبة هذه الأرض " التي وضعتني أمام استنتاج مفاده أن بن سلطان قد انتقل من حظيرة البناء القصصي إلى جاهزية النضج السردي التي تخلى فيها عن الاتكاء عن النقل المباشر بالكلمات إلى توظيف أساليب قصص مستحدثة من طرفه سأعمل على إبانتها في سياق اهتمامي بقصة " بلقاسم غيدة يأكل الميتة " (2) التي اقتنعت بأنها أقرب لقلمي من غيرها للحديث عن الغرض المنجمي لمبررات مختلفة منها .
1) أن بطلها رجل حلّ للعمل المنجمي بالرديف في ثلاثينيات القرن العشرين مختزلا في نفسه قصة ألم سعى إلى الفرار من عذاباته لتناسيه فوقع في ألم آخر أشدّ وأنكى عندما انخرط في العمل المنجمي ، كالمستجير من الرمضاء بالنار .
وقد قضى بلقاسم طفولته ببلدة نقرين الجزائرية القريبة من تبسة في أجواء عادية مبصومة ببراءة الطفولة وعبثها إلى أن بلغ سن الفترة الأولى من شبابه فأصبح يتردد على بعض الأسواق كتاجر متنقل لكسب موارد الرزق له ولأمه الأرملة التي كانت تأمل في أن تزوّجه من ابنة أخيها ، وعندما خالفها الرأي مصرا على الزواج من ابنة عمه الجميلة وضعت له الورقة الميتة غي طعامه فأصبح ـ وهو الرجل الفحل ـ عاجزا عن معاشرة زوجته في الفراش وقتا طويلا أجبره على الاتفاق بينهما على الطلاق مكرهيْن ، ومن فرط إشفاقه عليها طلب من صديقه الحميم كرّومي الزواج منها لضمان استقرارها لدى من يثق بقدرته على حسن معاشرتها ، وسعت أمه إلى تزويجه من ابنة أخيها غير أنها أضاعت الورقة الحيّة من النبتة التي كانت قد خبّأتها لإحياء فحولته .
لم يعد بلقاسم قادرا على العيش في بلدته بالجزائر لتهامس البعض عند رؤيته فارتحل صحبة أمه إلى ميداس قرب تمغزة بالقطر التونسي ومنها إلى الرديف للعمل بمنجمها إلى أن قطعت ذراعه في حادث شغل وأحيل بعد سنوات على التقاعد فلزم دكانه الضيّق لا هواية له إلا صيد العصافير إلى أن مات فدفن في مقربة الغرباء .
2) إن بن سلطان الذي تهرّب في قصص المجموعة من التطرق إلى الشأن المنجمي ـ باستثناء ما سرّبه فيها من بعض التلميحات الباهتة في قصتيْ " قبس الجحيم "المهداة إلى إبراهيم درغوثي و" طيبة هذه الأرض " ـ لم يقدر بالخوض في مواضيعها المختلفة على التخلص من حنينه إلى كتابة قصة منجمية تختلف عمّا كتبه من مثيلاتها في مجموعتيه السابقتين بطرح أرقى وتقنيات كتابة أسمي .
من الواضح أن إبراهيم بن سلطان قد كتب قصصا كثيرة مستوحاة من واقع الحياة المنجمية نشرها في المجموعتين السابقتين كاشفا في أسطرها عن ضراوة العمل وعذاباته وفاضحا الاستغلال الجشع المسلط على المنجميين من طرف مسؤولي الشركة خلال فترة الاستعمار وحتى بعدها ، ومنوّها فيها كذلك بانتفاضات العمال الرافضة للاستعباد المهني ، غير أنه ظل متطلعا لكتابة أكثر إشراقا ومتخلصة من المضمون الجاهز في نفس الغرض الذي لا يمكن لهاجسه الإبداعي أن يتغاضى عنه ، وهو ابن المنجم الذي ينام ويصحو على ما يتحرك وينطق فيه ،فجاءت قصة " بلقاسم غيدة .... " مبشرة ببعض نواياه التي قد يكون خطط لتنفيذها كاملة لو أمهلته المنيّة.
3) إن قصة"بلقاسم غيدة يأكل الميتة " تعتبر مشروع رواية نجح صاحبها في اختزالها لتحويلها إلى قصة متوسطة الحجم(15صفحة) رغم كثافة أحداثها وتعدد أشخاصها واختلاف أزمنتها وأماكنها .
وإذا كان من شروط القصة أن تحتضن أحداثا مختزلة وتكتفي بأشخاص محدودي العدد فإن " قصة بلقاسم غيدة يأكل الميتة " قد امتدت أحداثها وتنوعت في أوقات وفضاءات كثيرة متباعدة كان من الممكن أن تجعل منها رواية واضحة المعالم لو لم يكبح القاص جماحها بتخلصه من السرد الأحادي الصوت الذي يمثله هو إلى الاستعانة بساردين آخرين ممن عاصروا بلقاسم في حالات وأوضاع مختلفة ، وهم : الراوي الذي تصدر كلامه أحداث القصة باختزان جميع الوقائع في خبر قصير هو فقرة مسبوقة بثلاث نقاط متتابعة تخلصت من حديث آخر أخفاه ناطقه أو صاحب القصة : ( ... عرفته دروب البلدة ونحن صبية نرتاد السوق صحبة الآباء أو الأتراب .. كان بيد واحدة .. اليسرى مبتورة إلى حد الذراع.. لقد راحت ضحية حادث شغل) (2) .
انتهى كلام الراوي في البداية دون استطرادات لذكر نوع الحادث وأسبابه ومن هو الطبيب الذي بتر ذراعه الخ..لأن القصة لا تحتمل إثقال مجراها بالتمطيط والثرثرة.وسوف لن يعود إلا في نهاية القصة ليعلن عن خبر وفاته وما تركه من ذكيات ( كان بلقاسم غيدة هنا ... فعل كذا ... قال كذا ....) (3) ، ثم يختم مقاله بمجموعة من النقاط المتواصلة .
3)حضور مكثف لأشخاص وأماكن مختلفة :
في القصة ذكر مجموعة كثيرة من الأماكن على ألسِنة بلقاسم غيدة والمساهمين في سردها وهم : عمّي العيد وآخرون ، سائق سيارة الإسعاف ، زملاؤه في العمل ،طبيب المنجم كامرا السنغالي في مذكراته ،أم بلقاسم ، صديقه في الجزائر كرومي ،الممرض ، سائق قاطرة العمل نحو المنجم ، جار له . أما الأماكن فهي متمثلة في مدن وقرى ومواقع حسب تواتر أسمائها في القصة : الرديف ، المنجم ، مرسيليا ، أدغال إفريقيا ، ضفاف الرون ، السنغال، باريس ، جنوب فرنسا ، بعض مستعمراتها ، سهول وهضاب الشرق الجزائري ، قسنطينة ، قفصة ، الجزائرـ نقرين ، و تبسة .. هذا فضلا عن الأماكن الفرعية الضيقة كالفضاءات المنجمية والمرافق العمومية والبيوت والساحات والأسواق الخ ...
وإذا كانت تلك الأماكن مكتظة بالأحداث قبل كتابة النص فإن السارد قد اختزل الكثير منها أثناء حبك نسيج قصته فانشغل عنها بالتركيز على الحركات التي تكثفت في الأماكن التي عاش فيها البطل أولا ، سواء بالقطر الجزائري أو في الجنوب الغربي التونسي ، وفي المكان الذي تهيأ فيه هو لكتابتها وهو الرديف بمكوّناته المهنية والحياتية ليستنتج بعده القارئ أن بلقاسم غيدة هو الذي أسهم في إبراز المكان الجمعي الذي شهد على سيرته بملامح جذابة إن لم تكن جميلة بالقدر المطلوب لأن المنجَم الذي اشتغل فيه كثيرا وبذل فيه الجهد المضني وناضل فيه نقابيا وآزر ـ مما يتوفر له فيه من نقود ـ حراك الثورة الجزائرية ، هو الذي فتح ذراعيه لعديد العمال المقيمين في ربوعه أو الوافدين عليه من أنحاء كثيرة من البلاد ومن الأقطار المغاربية وهو جدير بأن يُحترم رغم قسوَة ظروفه المعيشية ، لذلك ظل مقيما فيه إلى الممات حيث دفن في جبانة الغرباء وما هم في الحقيقة بغرباء عنه .
4) تواتر الأحداث بين زمنَيْ الماضي المركّب والماضي البسيط والحاضر .
كثيرا ما يشعر السارد بارتباك وهو يفحص الزمن في ثنايا نصه لأنه يدرك منذ الوهلة ألأولى أن زمن سير الأحداث يختلف عن رمن سردها ، لذلك لا يستطيع التحكم في ما مضى منه لتواتر الأفعال والحركات داخله لتُسهم في انقسامه إلى زمن مركّب وهو الذي تتكاثف في الوقائع وزمن بسيط تتحرك فيه الأفعال بسرعة وزمن حاضر يُلقي بثقله على الكاتب إلى أن ينهي الكتابة .
وفي الزمن المركب التجأ بن سلطان إلى عرض بعض الشهادات التي أوردها على ألسنة المشاركين في سرد القصة أمثال عمّي العيد الذي تسلل من مجموعة " فجر وأحلام وأرق " إلى القصة التي نحن بصدد تصفحها من مجموعة " طيبة هذه الأرض " ليعلمنا بأن بلقاسم غيدة قد جاء منجم الرديف في ثلاثينيات القرن الماضي قادما من الشرق الجزائري رفقة أمه ، وليواصل الحديث عن قدرته على قضاء كل شؤونه بيد واحدة دون احتياج إلى مساعدة من غيره .
وعندما يتغاضى عن ذكر سبب بتر يده يتدخل سائق سيارة الإسعاف والطبيب كامرا والممرض ـ كل على حده ـ ليكشفوا عن فقدان ذراع بلقاسم في حادث شغل.
وفي السرد المتكئ على الماضي البسيط يقول سائق قاطرة العمال :( ... أدعوه إلى ركوب القاطرة فيرد برمًا:ـ أنت تعرف موقفي يا السبتي (4) ).
وموقفه هذا هو قراره من عدم الاقتراب من زملائه النقابيين الذين يمتطون القطار، لأنهم خانوا القضية وأوقفوا " كسّروا " الإضراب بعدما ساومتهم إدارة المؤسسة على ذلك .
لذلك يمكن القول إن بن سلطان قد وفّق إلى حدّ ما في التخلص من تبعات الزمن في قصته فلم يحتكر سرد أحداثها بل أوكل مهمة ذلك إلى ساردين متعددين واكتفى هو برصد حركة زمن السرد فيها والتحكّم فيه، وهو الحاضر.
5) نجاح الكاتب في توظيف بعض التقنيات السينمائية في قصته باستدراج بعض عناصرها .
استعار بن سلطان بعض أدوات الفن السينمائي مثل :
× الحبكة أو الخدعة السينمائية (Intrigue cinématographique ).
تقول ليندا كاوغيل في كتاب " فن رسم الحبكة السينمائية " ( لا بد أن تكون لدينا شخصية ـ هي الشخصية الرئيسية ـ تتصرف من أجل تحقيق شئ ما فتواجه صراعا ، وحيث ما ينتهي كل شئ لا بد من أن يكون للقصة معنى (5) .
تتوفر اشتراطات ليندا في قصة بلقاسم غيدة انطلاقا من طفولته ومرورا بفترة شبابه التي فقد فيها فحولته ، بعدما وضعت أمه الورقة الميتة في طعامه ليصبح عاجزا عن معاشرة زوجته ابنة العم ، لأنها ترغب في تزويجه من ابنة أخيها غير أنها أضاعت الورقة الحية من العشبة فلم ينجح هذا الزواج الذي اضطر بعده الابن إلى الرحيل من بلدته إلى العمل بمنجم الفسفاط بالرديف في قطر غير قطره أين فقد ذراعه ثم توفيت أمه وعاش حياته الرتيبة إلى أن لفظه الحياة .
× التقطيع (Découpage ) .
وقد برز في تغيير مسارات القصة تبعا لتدخلات الرواة في سردها دون ترتيب زمني .
× التركيب ( Montage).
تدخل الكاتب لجمع أجزاء الحكاية من أفواه رواتها وجعلها قصة متماسكة سرديا وفنّيا .
× الارتداد ( Flashback ).
برز ذلك في تجاوز الأحداث والعودة إلى الوراء للتركيز على ما سبقها لمزيد توضيح مبرراتها ونتائجها .
× الحركة (Action) .
سعى الكاتب إلى تحريك قصته في سياقات سريعة فكبح جماح المتدخلين فيها بالحديث عن بطلها لتجنب طول الكلام الممل .
وقد أسهمت كل الأساليب والتقنيات التي استعملها بن سلطان في التأكيد على أن قصة " بلقاسم غيدة يأكل الميتة " تعتبر باستحسان قصة مخلصة للغرض المنجمي في عدد من ملامحه التي اختار أن لا يكون لها ارتباط بالمظاهر التقليدية المألوفة كضراوة العمل وكثرة المخاطر واستغلال عرق العمال وكثرة الأتعاب ، وهي التي يتذرع بها الإنسان العادي وحتى الروائي والقصصي والشعري التقليدي للتشكي والاستعطاف ...لذلك حمّلها قِيَما أخرى تنهل من معين تحدّي الحوادث الموجعة بتناسي نتائجها وانتهاج مسلك لحياة جديدة ..
يقول عمّي العيد عن بلقاسم الذي أصبحت له يد واحدة بعد حادث الشغل : ( بيد واحدة يقضي جميع شؤونه ... لا يحتاج إلى عون من أحد ... ولا أحد يجرؤ على منازعته أو الدنوّ من يسراه ... عند الخصام يراوغ خصمه ثم تلتف يده المبتورة على رقبة خصمه فيرديه مهزوما ,,)(6).
وقد أسهم بلقاسم في تأجيج نضالات نقابية ضد الشركة المنجمية الاستعمارية المستغلة وتبرأ من زملائه النقابين الذين ساومتهم المؤسسة لتعليق الإضراب لأنهم خانوا القضية وأسهموا في إضاعة حقوق العمال ،وبقي مرتبطا بالمكان الذي فقد فيه عضوا من أعضاء بدنه وأصرّ على أن لا يغادره حيّا أو ميّتا ، وكأن بن سلطان يريد أن يقول للذين يشتغلون في المنجم عقودا طويلة ـ وهم وافدون عليه من أماكن أخرى ـ وعندما يتقاعدون يغادرون محيطه بلا رجعة : أنتم لا تعرفون كم هو عزيز علينا هذا المكان لأن جماله يكمن في الذين يحبونه فقط .
تلح عليّ نقطة الختام بأن أشير إلى أن كتابات إبراهيم بن سلطان القصصية والروائية تحتاج إلى تناولات نقدية لأنها تتوفر على خصوصيات لا يجوز تجاهلها .
(×) محمد عمار شعابنية - شاعر وكاتب مسرحي من تونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) " الإبداع العام والخاص" تأليف ألكسندر روشكا . ترجمة غسان عبد الحي أبو فخر . نشر عالم المعرفة عدد 144. ص 83.
(2) " طيبة هذه الأرض" إبراهيم بن سلطان. دار الإتحاف للنشر 2003 . قصة" بلقاسم غيدة يأكل الميتة " . ص 80 .
(3) نفس المصدر . س 94 .
(4) نفس المصدر . ص91.
(5) " فن رسم الحركة السيبنمائية " . ليندا كاوغيل . ترجمة محمد منير الأصبحي . سلسلة " الفن السابع ".عدد 233 . منشورات وزارة الثقافة السورية . المؤسسة العامة للسيناريو . سنة 2013 . ص 19.
(6) نفس المصدر . ص 81.
وإلى جانب ذلك يبرز شرط أساسي يتمثل في مدى قدرة الكاتب على القيام بنقد ذاتي صارم يكشف عن المعوّقات الفنية التي يجب تلافيها لتحقيق هدفه كالقوالب الضيّقة لفن القص التي تخدش متعة التذوّق لدى القارئ والناقد في آن واحد ونمطية المضامين المضامين التي تحصر المجال التخيّلي في أفق رتيب تتكرّر فيه الومضات والإشارات المتحوّلة من هذا النص إلى غيره وكأنّ فضاء السرد منغلق على أفعال وحركات واحدة .
ولعل ّ التهم التي اتجهت إلى العديد من الأعمال القصصية والروائية والشعرية لنعتها بالمحلية الضيّقة قد استندت إلى على ما ذكرته لأن الأدب الذي لا يؤثر على قارئه بما هو مدهش وجديد ومتمرّد على المألوف والمعروف هو أدب ميّت .
والمرحوم القاص والروائي التونسي إبراهيم بن سلطان ترك ـ في غير مجموعة القصص الموجهة للأطفال ـ العناوين التالية:
1) زغاريد ودموع، قصص (1991).
2) وتزهر الجبال الصلدة، رواية (1996).
3) فجر وأحلام وأرق، قصص (1999).
4) وردة السراب، رواية (2003).
5) طيبة هذه الأرض ـ قصص (2010).
ونتأكد من خلال العرض من أن الكاتب قد انخرط في حركية النشر قبل تجاوز سن النبوءة بسنتين ( 38 سنة ) لأنه من مواليد ي 28 فيفري 1953 ـ بالرغم من أن أول قصة منشورة له بعنوان "ساق وأضراس" يعود تاريخ كتابتها إلى سنة 1974 .
فهل كان حصاد السبع عشرة سنة من الكتابة المصرّح بها أقل من أن يؤلف مجموعة قصصية واحدة ، وهي باكورة المجاميع القصصية "زغاريد ودموع "، أم أنّ بن سلطان قد ألّف قصصا أخرى لم يرض عن نشرها ففضل التأني في إصدار إنتاجه في كتابه الأول إلى أن يقتنع بجدوى تقبله من قرائه؟
تلك فرضية معروضة للتأمل والنقاش ولا يمكن الاتكاء عليها كثيرا إذا أعزينا تأخر نشر "زغاريد ودموع " يعزىإلى ظروف مادية منعت صاحبها من وضعها بين أيدي القراء قبل أن تتوفر له الإمكانيات المالية لطباعتها على حسابه الخاص ، بعد ما تجاوز نصوصها بنصوص أخرى أكثر نضجا وأوفر تقبلا من طرف المتلقي.
وإذا تخلصنا من النظرة الاستعراضية إلى الحكم الاستقرائي نتأكد من أن كاتبنا قد تعامل بحميمية مع المحيط التي وضع فيه خطوات حياته الأولى وواصل فيه العيش ( رغم ابتعاده المتقطع عنه خلال فترات الدراسة الثانوية والترشيحية وغيرهما ) إلى أشهر قريبة من وقت وفاته المفاجئة يوم الأربعاء 27 أكتوبر 2010 بزغوان ( قرب تونس العاصمة ) .. هذا المحيط النائي عن فضاءات التلاقي والتشارك والتحاور وتبادل الأفكار والآراء ، بالنسبة له ، حول فنون الإبداع الأدبي عموما والسردي الذي يتعاطاه خصوصا ، قد يكون له تأثير واضح على مسيرته السردية التي تعثرت لأسباب متعددة لم يكن يرغب في بروزها .. فنحن نعرف أن الرديف المنزوية في الجنوب الغربي التونسي متاخمة للحدود الشرقية الجزائرية قد كانت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لا تعطي لدماغ الكاتب ما يقتات لأنها في رَبع منجَمي يتعاطى جل ساكنيه العمل بالأنفاق والمغاسل والمصانع والورشات والمكاتب التابعة لشركة الفسفاط ولا يشارك منهم إلا النزر القليل عند مغادرة مهنهم في بعض الأنشطة الثقافية كالمسرح والموسيقى والفنون الشعبية ،وذلك لمحدودية المستويات التعليمية والمعرفية لدى أغلبهم أولا ، ولبحثهم بعد ساعات العمل المضنية عمّا ينسيهم أتعابهم ومعاناتهم في أماكن يتسلون فيها دون بذل أي مجهود فكري .. وقد ظل إبراهيم بن سلطان في بلدته لسنوات طويلة مشروع قاص وروائي يكتب في صمت لأنه لم يجد ممن يحيطون به من يستمع إلى ما يحبّره قلمه لمناقشته فيه باستثناء الظفر بذلك في فرص متاحة له عندما زامله إبراهيم درغوثي بالتدريس ـ في المدرسة التي كان يشتغل فيها ـ متنقلا إليها يوميا من أم العرائس ـ المنجم المجاورـ بمسافة سبعة عشر كيلومترا شرقا .
والمعلوم هو أن الروائي القاص محمد الصالح الجابري قد أقام في الرديف في ستينيات القرن الفائت للتدريس فلم تلهمه مناخات العيش فيها رغبة الإعلان عن الكتابة فيها ولم ينجز في أجوائها المتخمة بمشاغل الكدح والنضال النقابي المتواتر روايته " يوم من أيام زمرا " التي استوحاها من أحداث كفاح عمالها قبيل استقلال البلاد إلا بعد مغادرتها إلى أجواء توفرت له فيها أسباب التحريض على الكتابة لينشرها سنة 1968 ولتتحول لاحقا إلى فيلم سينمائي طويل أخرجه ابن المنطقة علي العبيدي بعنوان " الرديف 1954". وأنا لا أعلم إن كان بن سلطان قد تأثر بها " يوم من أيام زمرا" لأنها قد أخلصت كثيرا لمشاغل الكادحين وتطلعاتهم ونضالاتهم في مسقط رأسه فسعى إلى محاكاتها أو إلى تجاوز موضوعها بإنتاجه القصصي والروائي الذي اتكأ على أحداث مستجدة في الزمن الذي ولد وترعرع وكبر فيه ، ولكنني أؤكد على أنه كان واثقا من أنه أولى من غيره بالكتابة عن شجون مواطنيه في ظروفهم القاسية وانتظاراتهم المحبطة ، هذا الوثوق الذي اصطدم بعراقيل اغترابه كصاحب قلم بين أهله وذويه خلال مسيرته الكتابية الأولى لأن الكاتب يشعر بالإحباط الذي يؤدي غالبا إلى التوقّف عن ممارسة فعل الكتابة عندما لا يجد من يتلقى نصوصه في محيطه بالسماع أو بالقراءة إن لم يكن يطمح أكثر من ذلك إلى تقبلها بالتناول التقويمي والنقدي الذي يساعده على تخطي العثرات والهنات لتطوير أدوات عمله بما يوَسّع دائرة الابتكار فيها .
لذلك هاجر الشاعر سويلمي بو جمعة المكان في أواسط السبعينيات المنصرمة إلى العاصمة بينما ظل أصحاب القلم في المتلوي ( الوسط المنجمي الآخر الذي يبتعد عن الرديف بـاثنين وخمسين كلمترا) ليؤسسوا حركة الشعر المنجمي في تلك الفترة ، وهم أحمد المختار الهادي ومحمد الطاهر سودة ومحمد عمار شعابنية وسالم الشعباني لأنهم كانوا مجموعة شبه متجانسة يلتقي أفرادها متى أرادوا ليقرؤوا لبعض البعض ويتحاوروا في مجالات الأدب والفكر .
وكان لا بدّ من أن ينطلق الرجل من سجنه ليجد ملاذا لتوقه في الملتقى الأدبي لجريدة الصدى الذي أسسه الصحفي الثقافي محمد بن رجب لاحتضان المواهب الكتابية الشابة، وليكتشف مجلة قصص التي رحبت بانضمامه للنشر في أعدادها الدورية ولإصدار قصصه في بعض الصحف لاحقا ليتكثف تواصله بحملة الأقلام فتتعدد بينهم اللقاءات والحوارات والتجاذبات النقدية التي ساعدته على الانخراط في تصورات إبداعية مخالفة للمتداول والجاهز فسعى إلى استضافتها بحذر واضح لأن المتأمل في هياكل نصوصه يكتشف أنها تخلصت في أغلبها من الإنشائية التقليدية والخطاب السائد والتصوير المباشر ، وهي المرتكزات الأساسية لقصص المجموعة الأولى " زغاريد ودموع "، إلى استنطاق مشاعر وقيَم وأحاسيس شخوصه ورصد تحركاتهم وانفعالاتهم بأساليب وصف وتعبير ترتكز على إعادة تركيب مكوّنات المادة الحكائية وتنظيمها وفي سياقات خاصة في مجموعة " فجر وأحلام وأرق" التي دارت حكاياتها في أماكن مختلفة كالرديف وصفاقس والطائف بالجزيرة العربية ، وقد كتب جل قصصها في بداية التسعينيات .
في قصص المجموعة الأولى ينقل الكاتب الأحداث ويرويها دون تدخل منه في تغيير وجهاتها للوصول إلى النتائج التي انتهت إليها على أرض الواقع سعيا إلى كسب تعاطف القارئ مع أصحابها. .
وفي قصص المجموعة الثانية يحافظ على تماسك خيوط مروياته إلى جانب تدخله لتحويل وجهاتها نحو الأهداف التي يتمنى الوصول إليها بها .. وهل للكاتب انتظار من متلقي آثاره إذا لم يفصح له عن تأييده أو مخالفته لما يكتبه ؟
وإذا لم أكن من المحظوظين بالإطلاع على المجموعة القصصية الأخيرة " امرأة الضباب" الصادرة سنة وفاته ، فإنني أقرّ بأنني ظفرت بمتعة القراءة في عدد من نصوص " طيّبة هذه الأرض " التي وضعتني أمام استنتاج مفاده أن بن سلطان قد انتقل من حظيرة البناء القصصي إلى جاهزية النضج السردي التي تخلى فيها عن الاتكاء عن النقل المباشر بالكلمات إلى توظيف أساليب قصص مستحدثة من طرفه سأعمل على إبانتها في سياق اهتمامي بقصة " بلقاسم غيدة يأكل الميتة " (2) التي اقتنعت بأنها أقرب لقلمي من غيرها للحديث عن الغرض المنجمي لمبررات مختلفة منها .
1) أن بطلها رجل حلّ للعمل المنجمي بالرديف في ثلاثينيات القرن العشرين مختزلا في نفسه قصة ألم سعى إلى الفرار من عذاباته لتناسيه فوقع في ألم آخر أشدّ وأنكى عندما انخرط في العمل المنجمي ، كالمستجير من الرمضاء بالنار .
وقد قضى بلقاسم طفولته ببلدة نقرين الجزائرية القريبة من تبسة في أجواء عادية مبصومة ببراءة الطفولة وعبثها إلى أن بلغ سن الفترة الأولى من شبابه فأصبح يتردد على بعض الأسواق كتاجر متنقل لكسب موارد الرزق له ولأمه الأرملة التي كانت تأمل في أن تزوّجه من ابنة أخيها ، وعندما خالفها الرأي مصرا على الزواج من ابنة عمه الجميلة وضعت له الورقة الميتة غي طعامه فأصبح ـ وهو الرجل الفحل ـ عاجزا عن معاشرة زوجته في الفراش وقتا طويلا أجبره على الاتفاق بينهما على الطلاق مكرهيْن ، ومن فرط إشفاقه عليها طلب من صديقه الحميم كرّومي الزواج منها لضمان استقرارها لدى من يثق بقدرته على حسن معاشرتها ، وسعت أمه إلى تزويجه من ابنة أخيها غير أنها أضاعت الورقة الحيّة من النبتة التي كانت قد خبّأتها لإحياء فحولته .
لم يعد بلقاسم قادرا على العيش في بلدته بالجزائر لتهامس البعض عند رؤيته فارتحل صحبة أمه إلى ميداس قرب تمغزة بالقطر التونسي ومنها إلى الرديف للعمل بمنجمها إلى أن قطعت ذراعه في حادث شغل وأحيل بعد سنوات على التقاعد فلزم دكانه الضيّق لا هواية له إلا صيد العصافير إلى أن مات فدفن في مقربة الغرباء .
2) إن بن سلطان الذي تهرّب في قصص المجموعة من التطرق إلى الشأن المنجمي ـ باستثناء ما سرّبه فيها من بعض التلميحات الباهتة في قصتيْ " قبس الجحيم "المهداة إلى إبراهيم درغوثي و" طيبة هذه الأرض " ـ لم يقدر بالخوض في مواضيعها المختلفة على التخلص من حنينه إلى كتابة قصة منجمية تختلف عمّا كتبه من مثيلاتها في مجموعتيه السابقتين بطرح أرقى وتقنيات كتابة أسمي .
من الواضح أن إبراهيم بن سلطان قد كتب قصصا كثيرة مستوحاة من واقع الحياة المنجمية نشرها في المجموعتين السابقتين كاشفا في أسطرها عن ضراوة العمل وعذاباته وفاضحا الاستغلال الجشع المسلط على المنجميين من طرف مسؤولي الشركة خلال فترة الاستعمار وحتى بعدها ، ومنوّها فيها كذلك بانتفاضات العمال الرافضة للاستعباد المهني ، غير أنه ظل متطلعا لكتابة أكثر إشراقا ومتخلصة من المضمون الجاهز في نفس الغرض الذي لا يمكن لهاجسه الإبداعي أن يتغاضى عنه ، وهو ابن المنجم الذي ينام ويصحو على ما يتحرك وينطق فيه ،فجاءت قصة " بلقاسم غيدة .... " مبشرة ببعض نواياه التي قد يكون خطط لتنفيذها كاملة لو أمهلته المنيّة.
3) إن قصة"بلقاسم غيدة يأكل الميتة " تعتبر مشروع رواية نجح صاحبها في اختزالها لتحويلها إلى قصة متوسطة الحجم(15صفحة) رغم كثافة أحداثها وتعدد أشخاصها واختلاف أزمنتها وأماكنها .
وإذا كان من شروط القصة أن تحتضن أحداثا مختزلة وتكتفي بأشخاص محدودي العدد فإن " قصة بلقاسم غيدة يأكل الميتة " قد امتدت أحداثها وتنوعت في أوقات وفضاءات كثيرة متباعدة كان من الممكن أن تجعل منها رواية واضحة المعالم لو لم يكبح القاص جماحها بتخلصه من السرد الأحادي الصوت الذي يمثله هو إلى الاستعانة بساردين آخرين ممن عاصروا بلقاسم في حالات وأوضاع مختلفة ، وهم : الراوي الذي تصدر كلامه أحداث القصة باختزان جميع الوقائع في خبر قصير هو فقرة مسبوقة بثلاث نقاط متتابعة تخلصت من حديث آخر أخفاه ناطقه أو صاحب القصة : ( ... عرفته دروب البلدة ونحن صبية نرتاد السوق صحبة الآباء أو الأتراب .. كان بيد واحدة .. اليسرى مبتورة إلى حد الذراع.. لقد راحت ضحية حادث شغل) (2) .
انتهى كلام الراوي في البداية دون استطرادات لذكر نوع الحادث وأسبابه ومن هو الطبيب الذي بتر ذراعه الخ..لأن القصة لا تحتمل إثقال مجراها بالتمطيط والثرثرة.وسوف لن يعود إلا في نهاية القصة ليعلن عن خبر وفاته وما تركه من ذكيات ( كان بلقاسم غيدة هنا ... فعل كذا ... قال كذا ....) (3) ، ثم يختم مقاله بمجموعة من النقاط المتواصلة .
3)حضور مكثف لأشخاص وأماكن مختلفة :
في القصة ذكر مجموعة كثيرة من الأماكن على ألسِنة بلقاسم غيدة والمساهمين في سردها وهم : عمّي العيد وآخرون ، سائق سيارة الإسعاف ، زملاؤه في العمل ،طبيب المنجم كامرا السنغالي في مذكراته ،أم بلقاسم ، صديقه في الجزائر كرومي ،الممرض ، سائق قاطرة العمل نحو المنجم ، جار له . أما الأماكن فهي متمثلة في مدن وقرى ومواقع حسب تواتر أسمائها في القصة : الرديف ، المنجم ، مرسيليا ، أدغال إفريقيا ، ضفاف الرون ، السنغال، باريس ، جنوب فرنسا ، بعض مستعمراتها ، سهول وهضاب الشرق الجزائري ، قسنطينة ، قفصة ، الجزائرـ نقرين ، و تبسة .. هذا فضلا عن الأماكن الفرعية الضيقة كالفضاءات المنجمية والمرافق العمومية والبيوت والساحات والأسواق الخ ...
وإذا كانت تلك الأماكن مكتظة بالأحداث قبل كتابة النص فإن السارد قد اختزل الكثير منها أثناء حبك نسيج قصته فانشغل عنها بالتركيز على الحركات التي تكثفت في الأماكن التي عاش فيها البطل أولا ، سواء بالقطر الجزائري أو في الجنوب الغربي التونسي ، وفي المكان الذي تهيأ فيه هو لكتابتها وهو الرديف بمكوّناته المهنية والحياتية ليستنتج بعده القارئ أن بلقاسم غيدة هو الذي أسهم في إبراز المكان الجمعي الذي شهد على سيرته بملامح جذابة إن لم تكن جميلة بالقدر المطلوب لأن المنجَم الذي اشتغل فيه كثيرا وبذل فيه الجهد المضني وناضل فيه نقابيا وآزر ـ مما يتوفر له فيه من نقود ـ حراك الثورة الجزائرية ، هو الذي فتح ذراعيه لعديد العمال المقيمين في ربوعه أو الوافدين عليه من أنحاء كثيرة من البلاد ومن الأقطار المغاربية وهو جدير بأن يُحترم رغم قسوَة ظروفه المعيشية ، لذلك ظل مقيما فيه إلى الممات حيث دفن في جبانة الغرباء وما هم في الحقيقة بغرباء عنه .
4) تواتر الأحداث بين زمنَيْ الماضي المركّب والماضي البسيط والحاضر .
كثيرا ما يشعر السارد بارتباك وهو يفحص الزمن في ثنايا نصه لأنه يدرك منذ الوهلة ألأولى أن زمن سير الأحداث يختلف عن رمن سردها ، لذلك لا يستطيع التحكم في ما مضى منه لتواتر الأفعال والحركات داخله لتُسهم في انقسامه إلى زمن مركّب وهو الذي تتكاثف في الوقائع وزمن بسيط تتحرك فيه الأفعال بسرعة وزمن حاضر يُلقي بثقله على الكاتب إلى أن ينهي الكتابة .
وفي الزمن المركب التجأ بن سلطان إلى عرض بعض الشهادات التي أوردها على ألسنة المشاركين في سرد القصة أمثال عمّي العيد الذي تسلل من مجموعة " فجر وأحلام وأرق " إلى القصة التي نحن بصدد تصفحها من مجموعة " طيبة هذه الأرض " ليعلمنا بأن بلقاسم غيدة قد جاء منجم الرديف في ثلاثينيات القرن الماضي قادما من الشرق الجزائري رفقة أمه ، وليواصل الحديث عن قدرته على قضاء كل شؤونه بيد واحدة دون احتياج إلى مساعدة من غيره .
وعندما يتغاضى عن ذكر سبب بتر يده يتدخل سائق سيارة الإسعاف والطبيب كامرا والممرض ـ كل على حده ـ ليكشفوا عن فقدان ذراع بلقاسم في حادث شغل.
وفي السرد المتكئ على الماضي البسيط يقول سائق قاطرة العمال :( ... أدعوه إلى ركوب القاطرة فيرد برمًا:ـ أنت تعرف موقفي يا السبتي (4) ).
وموقفه هذا هو قراره من عدم الاقتراب من زملائه النقابيين الذين يمتطون القطار، لأنهم خانوا القضية وأوقفوا " كسّروا " الإضراب بعدما ساومتهم إدارة المؤسسة على ذلك .
لذلك يمكن القول إن بن سلطان قد وفّق إلى حدّ ما في التخلص من تبعات الزمن في قصته فلم يحتكر سرد أحداثها بل أوكل مهمة ذلك إلى ساردين متعددين واكتفى هو برصد حركة زمن السرد فيها والتحكّم فيه، وهو الحاضر.
5) نجاح الكاتب في توظيف بعض التقنيات السينمائية في قصته باستدراج بعض عناصرها .
استعار بن سلطان بعض أدوات الفن السينمائي مثل :
× الحبكة أو الخدعة السينمائية (Intrigue cinématographique ).
تقول ليندا كاوغيل في كتاب " فن رسم الحبكة السينمائية " ( لا بد أن تكون لدينا شخصية ـ هي الشخصية الرئيسية ـ تتصرف من أجل تحقيق شئ ما فتواجه صراعا ، وحيث ما ينتهي كل شئ لا بد من أن يكون للقصة معنى (5) .
تتوفر اشتراطات ليندا في قصة بلقاسم غيدة انطلاقا من طفولته ومرورا بفترة شبابه التي فقد فيها فحولته ، بعدما وضعت أمه الورقة الميتة في طعامه ليصبح عاجزا عن معاشرة زوجته ابنة العم ، لأنها ترغب في تزويجه من ابنة أخيها غير أنها أضاعت الورقة الحية من العشبة فلم ينجح هذا الزواج الذي اضطر بعده الابن إلى الرحيل من بلدته إلى العمل بمنجم الفسفاط بالرديف في قطر غير قطره أين فقد ذراعه ثم توفيت أمه وعاش حياته الرتيبة إلى أن لفظه الحياة .
× التقطيع (Découpage ) .
وقد برز في تغيير مسارات القصة تبعا لتدخلات الرواة في سردها دون ترتيب زمني .
× التركيب ( Montage).
تدخل الكاتب لجمع أجزاء الحكاية من أفواه رواتها وجعلها قصة متماسكة سرديا وفنّيا .
× الارتداد ( Flashback ).
برز ذلك في تجاوز الأحداث والعودة إلى الوراء للتركيز على ما سبقها لمزيد توضيح مبرراتها ونتائجها .
× الحركة (Action) .
سعى الكاتب إلى تحريك قصته في سياقات سريعة فكبح جماح المتدخلين فيها بالحديث عن بطلها لتجنب طول الكلام الممل .
وقد أسهمت كل الأساليب والتقنيات التي استعملها بن سلطان في التأكيد على أن قصة " بلقاسم غيدة يأكل الميتة " تعتبر باستحسان قصة مخلصة للغرض المنجمي في عدد من ملامحه التي اختار أن لا يكون لها ارتباط بالمظاهر التقليدية المألوفة كضراوة العمل وكثرة المخاطر واستغلال عرق العمال وكثرة الأتعاب ، وهي التي يتذرع بها الإنسان العادي وحتى الروائي والقصصي والشعري التقليدي للتشكي والاستعطاف ...لذلك حمّلها قِيَما أخرى تنهل من معين تحدّي الحوادث الموجعة بتناسي نتائجها وانتهاج مسلك لحياة جديدة ..
يقول عمّي العيد عن بلقاسم الذي أصبحت له يد واحدة بعد حادث الشغل : ( بيد واحدة يقضي جميع شؤونه ... لا يحتاج إلى عون من أحد ... ولا أحد يجرؤ على منازعته أو الدنوّ من يسراه ... عند الخصام يراوغ خصمه ثم تلتف يده المبتورة على رقبة خصمه فيرديه مهزوما ,,)(6).
وقد أسهم بلقاسم في تأجيج نضالات نقابية ضد الشركة المنجمية الاستعمارية المستغلة وتبرأ من زملائه النقابين الذين ساومتهم المؤسسة لتعليق الإضراب لأنهم خانوا القضية وأسهموا في إضاعة حقوق العمال ،وبقي مرتبطا بالمكان الذي فقد فيه عضوا من أعضاء بدنه وأصرّ على أن لا يغادره حيّا أو ميّتا ، وكأن بن سلطان يريد أن يقول للذين يشتغلون في المنجم عقودا طويلة ـ وهم وافدون عليه من أماكن أخرى ـ وعندما يتقاعدون يغادرون محيطه بلا رجعة : أنتم لا تعرفون كم هو عزيز علينا هذا المكان لأن جماله يكمن في الذين يحبونه فقط .
تلح عليّ نقطة الختام بأن أشير إلى أن كتابات إبراهيم بن سلطان القصصية والروائية تحتاج إلى تناولات نقدية لأنها تتوفر على خصوصيات لا يجوز تجاهلها .
(×) محمد عمار شعابنية - شاعر وكاتب مسرحي من تونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) " الإبداع العام والخاص" تأليف ألكسندر روشكا . ترجمة غسان عبد الحي أبو فخر . نشر عالم المعرفة عدد 144. ص 83.
(2) " طيبة هذه الأرض" إبراهيم بن سلطان. دار الإتحاف للنشر 2003 . قصة" بلقاسم غيدة يأكل الميتة " . ص 80 .
(3) نفس المصدر . س 94 .
(4) نفس المصدر . ص91.
(5) " فن رسم الحركة السيبنمائية " . ليندا كاوغيل . ترجمة محمد منير الأصبحي . سلسلة " الفن السابع ".عدد 233 . منشورات وزارة الثقافة السورية . المؤسسة العامة للسيناريو . سنة 2013 . ص 19.
(6) نفس المصدر . ص 81.