في الجامعات المغربية أقسام متعددة متخصصة في ثقافة الإشهار تندرج ضمن علم حديث أبان المغاربة عن استيعاب استباقي له وعن تفوق كبير فيه، أقصد السيميولوجيا، ويكفي هنا ذكر محمد مفتاح وسعيد بنكراد وسواهما من المنشغلين بهذا الجانب المعرفي. هذه الأقسام تجذب منذ أكثر من عقدين الباحثين لإعداد الأطاريح الجامعية حول مواضيعها، فالإشهار حقل سيميائي خصب يتيح للباحث إمكانات شاسعة سواء على مستوى التحليل، أو على مستوى الاشتغال التطبيقي الذي يسمح بتطوير الأداء الإشهاري المتوخى منه في النهاية التأثير على المتلقي، قصد الرفع من مستوى تداول واستهلاك المادة المعلن عنها، إما سمعياً أو بصرياً أو عبر الوسائط التي تعتمد أكثر من حاسة.
إضافة إلى هذا الحضور الأكاديمي لثقافة الإشهار هناك بُعد تاريخي، حيث إن هذه الثقافة الجديدة وصلت إلى المغرب منذ مطالع القرن الماضي تقاطعاً بالتحديد مع المرحلة الكولونيالية، حيث كانت مجموعة من الشركات الفرنسية تنشر إعلاناتها في الجرائد القليلة التي كانت تصدر بالمغرب آنذاك.
هناك شيء ثالث يتعلق بالميزانية التي تصرف سنوياً من أجل الإشهار، فبالقياس مع ميزانيات الدول المغاربية الأخرى، يصل المغرب إلى المؤشر الأعلى في ما يتعلق بالقيمة التداولية سنوياً لهذا القطاع، حيث اقتربت ميزانية الإشهار فيه إلى حدود 700 مليار دولار العام الماضي.
يستحوذ التلفزيون على حصة الثلث، فيما تتقاسم الثلثين الإذاعة والصحافة والملصقات الإشهارية وباقي أشكال الإعلان الأخرى. ويبدو أن شركات الاتصال الثلاث هي التي تستحوذ على الإعلان في المغرب بنسبة الربع، فيما تتوزع النسبة الباقية على ما يقرب من أربعة آلاف مستشهر (معلن).
غير أن كل هذه المعطيات المتعلقة بتاريخ الإشهار في المغرب وميزانيته الضخمة وحضوره ضمن اهتمامات الجامعة لا تتناغم بشكل حقيقي مع مستوى الجودة المرغوبة في هذا المجال، والتي يفترض أن تحققها هذه الامتيازات المادية والمعنوية.
الإشهار المغربي الذي ينهال على رؤوس المشاهدين والمستمعين والقراء في غالبيته لا يحترم ذكاء المتلقي بشكل عام، ولا يراعي اختلاف طبيعة هذا المتلقي، إنه يخاطب في الغالب كائنا واحدا يتخيله المنتجون للإعلان سريع التصديق، ومستعداً للاستهلاك بحماس ولهفة، وخالياً من كل تمثل مسبق عن المادة المعلن عنها أو إحساس نقدي يضع معاً هذه المادة وطريقة إشهارها موضع مساءلة.
ربما الفارق الوحيد الذي يمكن الانتباه له هو عامل اللغة، حيث تقدم وصلات إعلانية بالعربية وأخرى بالفرنسية وثالثة تقدم أحياناً باللغة الأولى وأحياناً مترجمة للغة الثانية، إضافة إلى بعض الإعلانات التي تحاول المزج بين أكثر من لغة في المشهد أو العرض الواحد. ولا يعني هذا مثلا أن الإعلانات المقدمة باللغة الفرنسية تأخذ بعين الاعتبار ذكاء المتلقي المتمكن من هذه اللغة، إن المشهر يرى فيه مستهلكاً جاهزاً للإقبال على المنتوج، مستهلكاً لا يختلف عن سابقه سوى في كونه سيتواصل مع المنتِج أو الوسيط باللغة الفرنسية.
لكن لنطرح هذا السؤال: «مَن هم الذين يخاطبهم الإشهار في المغرب؟» أو لنقل بصيغة أخرى: هذه الكائنات التي تختفي خلف اللوحة أو الوصلة الإشهارية لمن تتوجه بالخطاب؟ شركات الياغورت والعقار والاتصالات والحفاظات والصابون ومساحيق الغسيل والمشروبات وغيرها هل تضع في اعتبارها أن الذي يشاهد إشهارها هو مثلا فنان تشكيلي أو سينمائي أو مفكر أو صحافي؟ هل هذه الإعلانات موجهة مثلا للأطباء والأساتذة والمحامين والمهندسين ورجال الأعمال؟
هناك فئتان يستهدفهما الإشهار في المغرب هما الأطفال وربات البيوت، قد لا يفكر المستشهر في أحد هؤلاء الذين أشرت لهم، ولكنه يذهب مباشرة إلى طفله، الذي سيكون ملحّا على الأب من أجل اقتناء المنتوج المعلن عنه.
الغزو
إن عدداً هائلا من المعلنين إنما يمارسون في الحقيقة نوعاً من الكذب، فشركات العقار في المغرب التي صارت خلال السنوات الأخيرة تستقطب المشاهير ليؤدوا وصلات دعائية بمقابل مادي خيالي عن منتوجها، إنما هي في الحقيقة تمارس الدعاية لشقق وبنايات تفتقد لمعايير الجودة، بل تفتقد أحيانا لمعايير «السكن الإنساني»، ويكفي القيام بإطلالة على المحاكم المغربية لمعرفة عدد الملفات التي تراكمت خلال السنوات الماضية وعدد الشكايات التي رفعها ويرفعها المتضررون.
البنوك وشركات القروض تملأ التلفزيون والجرائد والملصقات بإعلاناتها التي تقدم القرض كحل وحيد لخلق السعادة، فيما الحقيقة أنها تُغرق محدودي الدخل في ديون لا تنتهي وبنسب مئوية تدل على الجشع والاستغلال، استغلال المحنة الإنسانية العابرة، لا سيما حين تشرع شركات القروض هذه في الإعلان عن عروضها المتعلقة بشراء أضحية العيد أو أدوات ولوازم الدخول المدرسي.
هذا الكذب يبدو بشكل أكثر وضوحاً وأكثر فداحة في وصلات أخرى تعرض منتوجات غذائية يتم خلالها استقدام خبراء وهميين يتحدثون عن مزاياها الصحية في حين تكشف الدراسات العلمية المتخصصة أن هذه المنتوجات تشكل في الأصل خطراً على الصحة.
هناك ظاهرة أخرى يجب التوقف عندها، وهي تشكل خطراً على الحريات، ففي كثير من الحالات يستطيع الإشهار أن يتحول إلى عنصر موجه لخط تحريري لصحيفة ما، لا سيما حين يكون المعلن أحد الحيتان المؤثرة في سياسة واقتصاد البلاد. وهذا ما وقع بالفعل لبعض الجرائد التي فقدت مصداقيتها في المغرب.
أخيراً لنسأل: هل يراهن المعلن على وصول الخبر؟ أي أن يعرف المتلقي بوجود البضاعة المعلن عنها، وبخصائصها ومزاياها الحقيقية طبعاً. إنه لا يراهن على ذلك فحسب، بل يحاول تصوير بضاعته كما لو أنها هي الحل الأوحد لمشكل ما، ويسعى بالتالي إلى إزاحة منافسه عبر الإشارة إليه سلباً باللون مثلا أو بقرينة لفظية أو بأي شكل آخر.
قبل التلفزيون وقبل هذا الغزو الإشهاري لبيوت الناس كانت هناك قاعدة في الأسواق الشعبية البسيطة، وربما ما زالت عند بعض أولئك الذين لا تخدعهم مكبرات الصوت والصورة في الإعلان، تقول هذا القاعدة: إن الإفراط في الحديث عن مزايا بضاعة ما يجعلنا نشك في هذه البضاعة، وأحيانا يكون دليلاً كافياً على أنها بضاعة سيئة.
إضافة إلى هذا الحضور الأكاديمي لثقافة الإشهار هناك بُعد تاريخي، حيث إن هذه الثقافة الجديدة وصلت إلى المغرب منذ مطالع القرن الماضي تقاطعاً بالتحديد مع المرحلة الكولونيالية، حيث كانت مجموعة من الشركات الفرنسية تنشر إعلاناتها في الجرائد القليلة التي كانت تصدر بالمغرب آنذاك.
هناك شيء ثالث يتعلق بالميزانية التي تصرف سنوياً من أجل الإشهار، فبالقياس مع ميزانيات الدول المغاربية الأخرى، يصل المغرب إلى المؤشر الأعلى في ما يتعلق بالقيمة التداولية سنوياً لهذا القطاع، حيث اقتربت ميزانية الإشهار فيه إلى حدود 700 مليار دولار العام الماضي.
يستحوذ التلفزيون على حصة الثلث، فيما تتقاسم الثلثين الإذاعة والصحافة والملصقات الإشهارية وباقي أشكال الإعلان الأخرى. ويبدو أن شركات الاتصال الثلاث هي التي تستحوذ على الإعلان في المغرب بنسبة الربع، فيما تتوزع النسبة الباقية على ما يقرب من أربعة آلاف مستشهر (معلن).
غير أن كل هذه المعطيات المتعلقة بتاريخ الإشهار في المغرب وميزانيته الضخمة وحضوره ضمن اهتمامات الجامعة لا تتناغم بشكل حقيقي مع مستوى الجودة المرغوبة في هذا المجال، والتي يفترض أن تحققها هذه الامتيازات المادية والمعنوية.
الإشهار المغربي الذي ينهال على رؤوس المشاهدين والمستمعين والقراء في غالبيته لا يحترم ذكاء المتلقي بشكل عام، ولا يراعي اختلاف طبيعة هذا المتلقي، إنه يخاطب في الغالب كائنا واحدا يتخيله المنتجون للإعلان سريع التصديق، ومستعداً للاستهلاك بحماس ولهفة، وخالياً من كل تمثل مسبق عن المادة المعلن عنها أو إحساس نقدي يضع معاً هذه المادة وطريقة إشهارها موضع مساءلة.
ربما الفارق الوحيد الذي يمكن الانتباه له هو عامل اللغة، حيث تقدم وصلات إعلانية بالعربية وأخرى بالفرنسية وثالثة تقدم أحياناً باللغة الأولى وأحياناً مترجمة للغة الثانية، إضافة إلى بعض الإعلانات التي تحاول المزج بين أكثر من لغة في المشهد أو العرض الواحد. ولا يعني هذا مثلا أن الإعلانات المقدمة باللغة الفرنسية تأخذ بعين الاعتبار ذكاء المتلقي المتمكن من هذه اللغة، إن المشهر يرى فيه مستهلكاً جاهزاً للإقبال على المنتوج، مستهلكاً لا يختلف عن سابقه سوى في كونه سيتواصل مع المنتِج أو الوسيط باللغة الفرنسية.
لكن لنطرح هذا السؤال: «مَن هم الذين يخاطبهم الإشهار في المغرب؟» أو لنقل بصيغة أخرى: هذه الكائنات التي تختفي خلف اللوحة أو الوصلة الإشهارية لمن تتوجه بالخطاب؟ شركات الياغورت والعقار والاتصالات والحفاظات والصابون ومساحيق الغسيل والمشروبات وغيرها هل تضع في اعتبارها أن الذي يشاهد إشهارها هو مثلا فنان تشكيلي أو سينمائي أو مفكر أو صحافي؟ هل هذه الإعلانات موجهة مثلا للأطباء والأساتذة والمحامين والمهندسين ورجال الأعمال؟
هناك فئتان يستهدفهما الإشهار في المغرب هما الأطفال وربات البيوت، قد لا يفكر المستشهر في أحد هؤلاء الذين أشرت لهم، ولكنه يذهب مباشرة إلى طفله، الذي سيكون ملحّا على الأب من أجل اقتناء المنتوج المعلن عنه.
الغزو
إن عدداً هائلا من المعلنين إنما يمارسون في الحقيقة نوعاً من الكذب، فشركات العقار في المغرب التي صارت خلال السنوات الأخيرة تستقطب المشاهير ليؤدوا وصلات دعائية بمقابل مادي خيالي عن منتوجها، إنما هي في الحقيقة تمارس الدعاية لشقق وبنايات تفتقد لمعايير الجودة، بل تفتقد أحيانا لمعايير «السكن الإنساني»، ويكفي القيام بإطلالة على المحاكم المغربية لمعرفة عدد الملفات التي تراكمت خلال السنوات الماضية وعدد الشكايات التي رفعها ويرفعها المتضررون.
البنوك وشركات القروض تملأ التلفزيون والجرائد والملصقات بإعلاناتها التي تقدم القرض كحل وحيد لخلق السعادة، فيما الحقيقة أنها تُغرق محدودي الدخل في ديون لا تنتهي وبنسب مئوية تدل على الجشع والاستغلال، استغلال المحنة الإنسانية العابرة، لا سيما حين تشرع شركات القروض هذه في الإعلان عن عروضها المتعلقة بشراء أضحية العيد أو أدوات ولوازم الدخول المدرسي.
هذا الكذب يبدو بشكل أكثر وضوحاً وأكثر فداحة في وصلات أخرى تعرض منتوجات غذائية يتم خلالها استقدام خبراء وهميين يتحدثون عن مزاياها الصحية في حين تكشف الدراسات العلمية المتخصصة أن هذه المنتوجات تشكل في الأصل خطراً على الصحة.
هناك ظاهرة أخرى يجب التوقف عندها، وهي تشكل خطراً على الحريات، ففي كثير من الحالات يستطيع الإشهار أن يتحول إلى عنصر موجه لخط تحريري لصحيفة ما، لا سيما حين يكون المعلن أحد الحيتان المؤثرة في سياسة واقتصاد البلاد. وهذا ما وقع بالفعل لبعض الجرائد التي فقدت مصداقيتها في المغرب.
أخيراً لنسأل: هل يراهن المعلن على وصول الخبر؟ أي أن يعرف المتلقي بوجود البضاعة المعلن عنها، وبخصائصها ومزاياها الحقيقية طبعاً. إنه لا يراهن على ذلك فحسب، بل يحاول تصوير بضاعته كما لو أنها هي الحل الأوحد لمشكل ما، ويسعى بالتالي إلى إزاحة منافسه عبر الإشارة إليه سلباً باللون مثلا أو بقرينة لفظية أو بأي شكل آخر.
قبل التلفزيون وقبل هذا الغزو الإشهاري لبيوت الناس كانت هناك قاعدة في الأسواق الشعبية البسيطة، وربما ما زالت عند بعض أولئك الذين لا تخدعهم مكبرات الصوت والصورة في الإعلان، تقول هذا القاعدة: إن الإفراط في الحديث عن مزايا بضاعة ما يجعلنا نشك في هذه البضاعة، وأحيانا يكون دليلاً كافياً على أنها بضاعة سيئة.