أفاقت (خيرية) - في غرفتها - على صدر (سارة)، أو لعل الأصح والأقرب إلى الصواب أن نقول إنها استعادت سكينة نفسها فيما ترى العين، بعد أن اسبلت ملء حفنةٍ من الدموع روت بها زهور خديها النضيرين، وأصارت أرنبة أنفها كالجزرة. وفي قليل من البكاء شفاء للصدر وجلاء للبصر، وغنى عن المساحيق!
وأحست (سارة) بانتظام أنفاسها فضمتها إليها في رفق وحنان، فجاوبتها (خيرية) بضغطة خفيفة. وطاف برأسها وهي تفعل ذلك أن لو كان هذا صدر شاكر!؟! وتنهدت كالمتحسرة، وذهبت تتصور ساعديه القويين على خصرها يهصرانه، وثدييها يُعْصران على ثندوتيهما، وأنفساه على شعرها، وكلامه العذب في أذنها. فأخذها من هذا الخاطر مثل الدوران في رأسها، وأظلمت عيناها، وشعرت بمثل النار تندلع في أحشائها وترقي إلى صدرها ونحرها وتأخذ بكظمها، على حين كانت تحس بالبرد في قدميها.
وشدت (سارة) على خصرها في هذا اللحظة الحافة بالاحتمالات، فرفعت (خيرية) وجهها المضطرم ونظرت إلى صاحبتها بعين ثابتة الحملاق إلا أن عليها كالضباب فهي لا تبصر، وأقبلت على فمها تقبله - قبلة حارة طويلة عصرت فيها روحا ونسيت نفسها، وإذا (بسارة) تهتز وتنتفض وترسل راحتها تتحسسّ علواً وسفلاً، و (خيرية) كالسكرى: تضم، وتئن، وتبوس، وتمسح الخد بالخد، وعينها مغمضة، وأصابع يمناها تتقبض على لحم (سارة) والأخرى تعبث بشعرها وتتخلله وتشده، وهما في عناقهما تميلان يمنة ويسرة، وتقبلان إلى الأمام تارة، وتنثنيان إلى الخلف طوراً، وتزحف كل منهما إلى صاحبتها كأن بينهما متسعاً فتتزحزحان على الطارقة حتى تهاوتا فتحاجزتا، وصار صدراهما كالخضم المضطرب.
وقالت (سارة) بصوت يذوب من الرقة:
(أحسن؟)
فدانت (خيرية) بين جفونها وألقت إلى صاحبتها - بمؤخر عينها - نظرة فيها من الرضى والشكر والرجاء معانٍ، وكانت كلتاهما مضطجعة، فمدت (سارة) يدها وتناولت راحة (خيرية) وأطبقت عليها أصابعها - في صمت - وظلتا هكذا برهة، ثم شخصت (سارة) إلى السقف وقالت كأنما ترى من تخاطبه فيه (ليتك كنتِ أخاك!)
ثم ثنت إلى (خيرية) وجهاً ينضح بالبشر ويغري بالعبث والمصارحة، فرفعت (خيرية) حاجبيها وأمالت رأسها على الوسادة ثم ردت وجهها إلى سارة وقالت:
(إنك سعيدة يا سارة. . .)
فسألتها (سارة):
(وأنت؟. .)
قالت خيرية (موزعة. .)
- موزعة؟
- نعم!. . . وعسى أن أكون واهمة. . . ولكنه يخيل إليّ أحياناً أني أحب (عبدة) وهو لاشك يحبني. . . على طريقته. . . حباً صامتاً. . . أخرس. . . يحيرني. . . أعني يا سارة انه يحرك نفسي لحظة ثم يدعها فارغة لا أثر فيها له. . . ليس عنده كلام يقوله. . . ينظر إليّ كأنه يشتهي أن يأكلني بعظامي. . . فهو يخيفني ويفزعني، ويسحرني أيضاً ويجذبني حين يفتح عليّ عينه بهذه النظرة المنهومة، ولكنه يخيفني أكثر مما يسحرني. . . آه لو كان ينطق. . .! ولكنه لا يعرف الكلام. . . ولا المغازلة.
. . . جسمه ضخم ولسانه أبكم. . . فهو قوة مرعبة. . . لو كان يرق فينفي الخوف!
. . . لو كان يشعرني أن الحب يلينه أو يذيبه قليلاً!؟. . . ولكنه ليس مثل. . .)
وأمسكت، ونزعت يدها من يد سارة، وظلتا مفترقتين برهة وهما تفكران في الغزل! (خيرية) في بكم عبدة وفي خلو حبه من هذا العنصر الذي يلطف الوقدة، ويخفف الحدة، ويسلب العاطفة المشبوبة لذعها وكيها، ويجعل الحديث أحلى من التقبيل والعناق. أما (سارة) فقد فتح لها كلام (خيرية) باباً جديداً من التفكير أعانتها دراستها العلمية على ولوجه، فراحت تقول لنفسها إن الغزل ليس عبثاً ولا تكلفاً، وإن الرقة فيه واجبة وليست ضعفاً، وإن الطبيعة لا تزال تطلب التوازن وتسعى له وتحدثه، فلولا رقة الرجل القوي، في غزله، لأرعب المرأة حبُّه ولما احتملته، وهو حين يجثو أمامها ويريح خده على ساقها، أو يناجيها بهواه ويشكو إليها ضعفه عن احتماله، ويصف لها ضيق صدره بما يجن، وقلبه بما يجد، ويتذلل لها ويتوسل إليها، وإنما يفعل ذلك بغريزته ليعتدل الميزان، فيذهب عن المرأة الخوفُ من قوته، وتَشعر أن فيه موضع ضعف تستطيع أن تستغله وتقاوم به طغيان القوة، وعلى قدر ما يبدي الرجل من الرقة في موقف الغزل والمناجاة تحس المرأة أنها قوية وأنها كفء له، فتطمئن وتعتقد أنها نده، وإن كان في ظاهره أقوى، وتبادله حباً بحب غير مكرهة ولا محمولة على ذلك، ولا شاعرة بتفريط في كرامتها أو تضييع لشخصيتها أو محو لإرادتها. .
ولم يشعرا أن الصمت طال بينهما أو أن الحديث انقطع لما قالت (سارة) بعد ذلك:
(ولكنك تحبينه. .! لاشك في ذلك)
فقالت (خيرية) بلهجة المفكر لا المستفسر.
(هذا ظنك؟)
قالت (سارة):
(لقد كنت تفكرين فيه ونحن متعانقان)
فاعتدلت (خيرية) في جلستها، وواجهت (سارة) وقالت بلهجة حازمة:
(كلا. . أبداً)
فوضعت سارة يدها على كتف صاحبتها وقالت:
(تعالي. . تعالي. . اطرحي عن صدرك هذا العبء. . . لماذا لا تبادلينني حبي؟)
فسألتها خيرية وهي تضحك:
(أتحبينني؟)
(أتسألين؟)
(أعني كحمادة؟)
(لا أزعم ذلك ولكني أحببتك)
(من أجله؟ لأني أخته؟)
(لذاتك)
(صحيح؟)
(أتشكين؟) (لا أشك. . ولكني غيره. . أعني أني فتاة مثلك)
(وما دخل هذا؟ ما قيمته؟ ألم نكن نتعانق على حب قبل دقائق؟ قد يختلف الغرض من الحب أو نوع الإحساس به ولكنه يظل حباً)
(سارة!)
(نعم)
(لا أدري كيف أقول. . إني لم أعرف من هو إلا الليلة)
ودفنت وجهها في راحتيها فصاحت بها (سارة)
(أهو ذاك؟)
فرفعت (خيرية) رأسها كأنما تتحدى الدنيا والناس وقالت وهي تسوي شعرها وترد عن جبينها خصلة.
(نعم. وقد عرفت الآن)
فقالت (سارة) بإخلاص:
(يا حبيبتي هذا أسعد يوم في حياتي. أنا لأخيك. وأنت لأخي)
فقالت (خيرية) وهي تكاد تبكي:
(كيف يمكن؟ كيف يمكن؟ إنه لم يرني قبل اليوم إلا مرة واحدة!)
فسألتها (سارة) وهي تنظر إليها نظرة من يُحْيي ذكرى تمعن في الغمض:
(قبل اليوم؟ أتعنين. .؟)
قالت (نعم كنت خارجة من سمعان فعثرت. .)
فصاحت بها سارة وقد صح ظنها:
(هو أنت؟)
(أهو أنا؟ ماذا تعنين؟)
أعني أنك فتاته التي يحبها ويبحث عنها. . يا لسعادتي)
فتعلقت بها خيرية وأمطرتها وابلاً من الأسئلة، وسارة تضحك ولا تعرف كيف تجيب، وإذا بحمادة ينقر ويسأل قبل أن يسمع الأذن بالدخول.
(سارة! ما هذا الذي يقول عبدة؟) فوثبت الفتاتان ووقفتا مبهوتتين من المفاجأة، واحتاج حمادة أن يعيد سؤاله
(أهو صحيح؟)
فقالت (سارة) وهي تبتسم له وترف: (ماذايا روحي؟) فأذابته ابتسامتها وراح يتلعثم
. . . أ. . . أ. . .
فقالت سارة (تعال يا حبيبي. . . أم نخرج؟؟ أظنه آن لي أن أخرج. يكرهني يا روحي. . . فتعال احملني إلى سيارتك. . . وفيها. . . إلى بيتي)
فنسى حمادة ما أفضى به إليه عبدة. . .
إبراهيم عبد القادرة المازني
مجلة الرسالة - العدد 66
بتاريخ: 08 - 10 - 1934
وأحست (سارة) بانتظام أنفاسها فضمتها إليها في رفق وحنان، فجاوبتها (خيرية) بضغطة خفيفة. وطاف برأسها وهي تفعل ذلك أن لو كان هذا صدر شاكر!؟! وتنهدت كالمتحسرة، وذهبت تتصور ساعديه القويين على خصرها يهصرانه، وثدييها يُعْصران على ثندوتيهما، وأنفساه على شعرها، وكلامه العذب في أذنها. فأخذها من هذا الخاطر مثل الدوران في رأسها، وأظلمت عيناها، وشعرت بمثل النار تندلع في أحشائها وترقي إلى صدرها ونحرها وتأخذ بكظمها، على حين كانت تحس بالبرد في قدميها.
وشدت (سارة) على خصرها في هذا اللحظة الحافة بالاحتمالات، فرفعت (خيرية) وجهها المضطرم ونظرت إلى صاحبتها بعين ثابتة الحملاق إلا أن عليها كالضباب فهي لا تبصر، وأقبلت على فمها تقبله - قبلة حارة طويلة عصرت فيها روحا ونسيت نفسها، وإذا (بسارة) تهتز وتنتفض وترسل راحتها تتحسسّ علواً وسفلاً، و (خيرية) كالسكرى: تضم، وتئن، وتبوس، وتمسح الخد بالخد، وعينها مغمضة، وأصابع يمناها تتقبض على لحم (سارة) والأخرى تعبث بشعرها وتتخلله وتشده، وهما في عناقهما تميلان يمنة ويسرة، وتقبلان إلى الأمام تارة، وتنثنيان إلى الخلف طوراً، وتزحف كل منهما إلى صاحبتها كأن بينهما متسعاً فتتزحزحان على الطارقة حتى تهاوتا فتحاجزتا، وصار صدراهما كالخضم المضطرب.
وقالت (سارة) بصوت يذوب من الرقة:
(أحسن؟)
فدانت (خيرية) بين جفونها وألقت إلى صاحبتها - بمؤخر عينها - نظرة فيها من الرضى والشكر والرجاء معانٍ، وكانت كلتاهما مضطجعة، فمدت (سارة) يدها وتناولت راحة (خيرية) وأطبقت عليها أصابعها - في صمت - وظلتا هكذا برهة، ثم شخصت (سارة) إلى السقف وقالت كأنما ترى من تخاطبه فيه (ليتك كنتِ أخاك!)
ثم ثنت إلى (خيرية) وجهاً ينضح بالبشر ويغري بالعبث والمصارحة، فرفعت (خيرية) حاجبيها وأمالت رأسها على الوسادة ثم ردت وجهها إلى سارة وقالت:
(إنك سعيدة يا سارة. . .)
فسألتها (سارة):
(وأنت؟. .)
قالت خيرية (موزعة. .)
- موزعة؟
- نعم!. . . وعسى أن أكون واهمة. . . ولكنه يخيل إليّ أحياناً أني أحب (عبدة) وهو لاشك يحبني. . . على طريقته. . . حباً صامتاً. . . أخرس. . . يحيرني. . . أعني يا سارة انه يحرك نفسي لحظة ثم يدعها فارغة لا أثر فيها له. . . ليس عنده كلام يقوله. . . ينظر إليّ كأنه يشتهي أن يأكلني بعظامي. . . فهو يخيفني ويفزعني، ويسحرني أيضاً ويجذبني حين يفتح عليّ عينه بهذه النظرة المنهومة، ولكنه يخيفني أكثر مما يسحرني. . . آه لو كان ينطق. . .! ولكنه لا يعرف الكلام. . . ولا المغازلة.
. . . جسمه ضخم ولسانه أبكم. . . فهو قوة مرعبة. . . لو كان يرق فينفي الخوف!
. . . لو كان يشعرني أن الحب يلينه أو يذيبه قليلاً!؟. . . ولكنه ليس مثل. . .)
وأمسكت، ونزعت يدها من يد سارة، وظلتا مفترقتين برهة وهما تفكران في الغزل! (خيرية) في بكم عبدة وفي خلو حبه من هذا العنصر الذي يلطف الوقدة، ويخفف الحدة، ويسلب العاطفة المشبوبة لذعها وكيها، ويجعل الحديث أحلى من التقبيل والعناق. أما (سارة) فقد فتح لها كلام (خيرية) باباً جديداً من التفكير أعانتها دراستها العلمية على ولوجه، فراحت تقول لنفسها إن الغزل ليس عبثاً ولا تكلفاً، وإن الرقة فيه واجبة وليست ضعفاً، وإن الطبيعة لا تزال تطلب التوازن وتسعى له وتحدثه، فلولا رقة الرجل القوي، في غزله، لأرعب المرأة حبُّه ولما احتملته، وهو حين يجثو أمامها ويريح خده على ساقها، أو يناجيها بهواه ويشكو إليها ضعفه عن احتماله، ويصف لها ضيق صدره بما يجن، وقلبه بما يجد، ويتذلل لها ويتوسل إليها، وإنما يفعل ذلك بغريزته ليعتدل الميزان، فيذهب عن المرأة الخوفُ من قوته، وتَشعر أن فيه موضع ضعف تستطيع أن تستغله وتقاوم به طغيان القوة، وعلى قدر ما يبدي الرجل من الرقة في موقف الغزل والمناجاة تحس المرأة أنها قوية وأنها كفء له، فتطمئن وتعتقد أنها نده، وإن كان في ظاهره أقوى، وتبادله حباً بحب غير مكرهة ولا محمولة على ذلك، ولا شاعرة بتفريط في كرامتها أو تضييع لشخصيتها أو محو لإرادتها. .
ولم يشعرا أن الصمت طال بينهما أو أن الحديث انقطع لما قالت (سارة) بعد ذلك:
(ولكنك تحبينه. .! لاشك في ذلك)
فقالت (خيرية) بلهجة المفكر لا المستفسر.
(هذا ظنك؟)
قالت (سارة):
(لقد كنت تفكرين فيه ونحن متعانقان)
فاعتدلت (خيرية) في جلستها، وواجهت (سارة) وقالت بلهجة حازمة:
(كلا. . أبداً)
فوضعت سارة يدها على كتف صاحبتها وقالت:
(تعالي. . تعالي. . اطرحي عن صدرك هذا العبء. . . لماذا لا تبادلينني حبي؟)
فسألتها خيرية وهي تضحك:
(أتحبينني؟)
(أتسألين؟)
(أعني كحمادة؟)
(لا أزعم ذلك ولكني أحببتك)
(من أجله؟ لأني أخته؟)
(لذاتك)
(صحيح؟)
(أتشكين؟) (لا أشك. . ولكني غيره. . أعني أني فتاة مثلك)
(وما دخل هذا؟ ما قيمته؟ ألم نكن نتعانق على حب قبل دقائق؟ قد يختلف الغرض من الحب أو نوع الإحساس به ولكنه يظل حباً)
(سارة!)
(نعم)
(لا أدري كيف أقول. . إني لم أعرف من هو إلا الليلة)
ودفنت وجهها في راحتيها فصاحت بها (سارة)
(أهو ذاك؟)
فرفعت (خيرية) رأسها كأنما تتحدى الدنيا والناس وقالت وهي تسوي شعرها وترد عن جبينها خصلة.
(نعم. وقد عرفت الآن)
فقالت (سارة) بإخلاص:
(يا حبيبتي هذا أسعد يوم في حياتي. أنا لأخيك. وأنت لأخي)
فقالت (خيرية) وهي تكاد تبكي:
(كيف يمكن؟ كيف يمكن؟ إنه لم يرني قبل اليوم إلا مرة واحدة!)
فسألتها (سارة) وهي تنظر إليها نظرة من يُحْيي ذكرى تمعن في الغمض:
(قبل اليوم؟ أتعنين. .؟)
قالت (نعم كنت خارجة من سمعان فعثرت. .)
فصاحت بها سارة وقد صح ظنها:
(هو أنت؟)
(أهو أنا؟ ماذا تعنين؟)
أعني أنك فتاته التي يحبها ويبحث عنها. . يا لسعادتي)
فتعلقت بها خيرية وأمطرتها وابلاً من الأسئلة، وسارة تضحك ولا تعرف كيف تجيب، وإذا بحمادة ينقر ويسأل قبل أن يسمع الأذن بالدخول.
(سارة! ما هذا الذي يقول عبدة؟) فوثبت الفتاتان ووقفتا مبهوتتين من المفاجأة، واحتاج حمادة أن يعيد سؤاله
(أهو صحيح؟)
فقالت (سارة) وهي تبتسم له وترف: (ماذايا روحي؟) فأذابته ابتسامتها وراح يتلعثم
. . . أ. . . أ. . .
فقالت سارة (تعال يا حبيبي. . . أم نخرج؟؟ أظنه آن لي أن أخرج. يكرهني يا روحي. . . فتعال احملني إلى سيارتك. . . وفيها. . . إلى بيتي)
فنسى حمادة ما أفضى به إليه عبدة. . .
إبراهيم عبد القادرة المازني
مجلة الرسالة - العدد 66
بتاريخ: 08 - 10 - 1934