أعاد تمرد أصحاب السترات الصفراء بفرنسا، المسألة الاجتماعية ليس في فرنسا وحدها، إلى صدارة الاهتمامات وسُلّم الأولويات. الغضب الشعبي أحيى السؤال الجوهري، هل خلق الثروة مواكب بالضرورة لحسن توزيعها. المنظومة الرأسمالية كانت دوما جيدة في ما يخص خلق الثروة، إلا أنها سيئة في ما يخص توزيعها.
اعتبر عرابو ما سمي بالليبرالية الجديدة، التي تحددت معالمها في ما سمي بتوافق واشنطن في تسعينيات القرن الماضي، من خلال حزمة من الإجراءات تقضي بتحرير التبادل التجاري برفع كل الحواجز، والخصخصة، وتحلل الدولة من الواجب الاجتماعي (أو العبء من منظورها). كان هذا المتن هو ما فرضه عرابو توافق واشنطن لبلوغ الإقلاع أو النهوض حسب المصطلح المكرس. صاحبت هذه النظرة الهلامية إجراءات من أجل التخفيف من الفوارق الاجتماعية، وهو ما سمي بنظرية الانسياب، أي أن خلق الثروة هو بمثابة شلال ما تلبث أفضاله أن تتدفق جداول على كافة الشرائح.
تبدّى مع أزمة 2008 أن ما سمي بنظرية الانسياب ما هو إلا أمان، أو تعبير شهادة، حسب تعبير جوزف ستغليتز الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل. فتطبيقات المنظومة النيوليبرالية في مختلف أرجاء العالم، زادت الأغنياء غنى، وساهمت في استفحال الفقر. الجانب الجديد في الأزمة التي عصفت بفرنسا، هو اختلال ميكانيزمات التوزيع المرتبطة بنظام ضريبي منصف. المتظاهرون ومَن وراءهم من الماليين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع، ينتقدون الحيف الضريبي. فأصحاب الثروات الضخمة يستطيعون التملص الضريبي، وبالأخص مع العولمة، وظهور ما يسمى بالجنان الضريبية، مع ما طفا من خلال حالات شخصيات عامة، مثل الثرية الفرنسية ليليان بتنكور، التي أخفت جزءا كبيرا من ثروتها عن الضرائب، أو وزير الميزانية الأسبق جيروم كاهوزاك. أما ذوو الدخل المحدود فيقعون تحت تطبيق صارم للعبء الضريبي، لأن الاقتطاع من مداخيلهم يتم من المصدر أو من الضرائب غير المباشرة. المتن القانوني، بل التفكير الاقتصادي متخلف عن الواقع. فميكانيزمات العدالة الضريبية معطلة، وهو ما طرحته الأزمة الفرنسية، هذا فضلا عن إجراءات بيروقراطية غير ملائمة وثقيلة ولاإنسانية.
السياق المشحون بالتوتر في فرنسا هو ما حدا بالوكالة الفرنسية للتنمية لتنظيم ندوة حول موضوع «التفاوتات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية» انعقدت في معهد العالم العربي بباريس بتاريخ 7 ديسمبر/كانون الأول، خلُص فيه المشاركون إلى أن التضامن الاجتماعي هو ما يتيح قيام حياة مجتمعية دائمة، أقوى مما يتيحه القانون، وبالأحرى السوق، وانتهوا إلى أن التضامن هو الغائب في المجتمعات الغربية، ما يهدد سدى المجتمعات، ووقفوا على التفاوتات ذات الطبيعة المتنوعة، منها الدخل بالطبع، وإمكانية الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، والميز وفق النوع والإثنية.. ومن الأرقام الدالة، ما قدمه اقتصادي من أنه يلزم لعامل فرنسي 166 سنة لتدارك دخل إطار عال، مقابل 36 سنة في 1975. ورأى المشاركون أن المدرسة تشكل بؤرة التوترات الاجتماعية في الغرب، وبخاصة في فرنسا. استُعملت في الندوة تعابير صادمة، من قبيل الأبارتايد، ونَيْر التفاوتات الاجتماعية.
اكتست الأزمة طابعا حادا في فرنسا لأن لها بعدا ثقافيا، ذلك أن فرنسا عرفت منذ الرئيس الفرنسي ساركوزي الانزياح إلى ما قد يسمى بالأمركة، أي التأثر بأمريكا من خلال تغليب الفعالية على التضامن، واعتبار الدولة مقاولة كبيرة، وخضوع القطاع العام إلى تأثير القطاع الخاص في التدبير والمصطلحات، والحال أن الدولة في فرنسا هي عبارة عن كنيسة علمانية، والمرفق العمومي نسك، والتضامن صورة للمحبة المسيحية. ولذلك كان من الشعارات التي رفعها المتظاهرون في فرنسا هي التضامن، أي العودة إلى طبيعة الدولة الفرنسية. أما الجانب الآخر، للأزمة الذي ليس خاصا بفرنسا هو هيمنة حكم التكنوقراط أو ما يسمى بالتكنقراسيا، وهم أدوات فعالة ما لبثوا أن أصبحوا فاعلين يتحركون من وراء ستار، يؤثرون في أصحاب القرار ويوجهونهم، مثلما يؤثرون في أصحاب رؤوس الأموال. حُكم التكنوقراط يهدد الديمقراطية، ويحيل الوسائط الاجتماعية من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني إلى أدوات للتنفيس، ما يجعل الفضاء الوحيد للتعبير عن الحَنق هو الشارع في غياب يسار يحظى بالمصداقية، أضحى في الغالب صدى لليمين، وهو ما عبر عنه كثير من المتظاهرين من أن الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي تقدم بهوية يسارية لم يكن يساريا في العمق. من الشهادات الدالة التي ركزت على الطبيعة السياسية للغضب، ما قاله السياسي الفرنسي بونواهامون، وكان مرشحا سابقا للرئاسة، في حوار له مع جريدة «لوموند» بتاريخ 7 ديسمبر أن الغضب الفرنسي يشبه الربيع العربي، لأنه مثله ذو طبيعة مزدوجة، اجتماعية وسياسية. فالمطالب الاجتماعية لا تخفي التذمر من أوليغارشيات استولت على الحكم، وحولت الاستحقاقات الانتخابية إلى تمرين صوري وأفرغت الوسائط التمثيلية من محتواها.
أصحاب السترات الصفراء يرفضون أن تُختزل مطالبهم في قضايا اقتصادية ومالية، ويرومون تحرير السياسية التي أصحبت محتلة من قِبل الرأسمال، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي إدكار موارن، ولذلك يرفضون مقترح «دفتر مطالب» يقدم لعمداء المدن، مما يُذكّر بالوصاية كما في العهد القديم للمَلكية، لأن ما يريدونه ليس التفضل عليهم ببعض التدابير، ولكن الحوار والمشاركة في الحلول. عولمة الاقتصادي تفضي إلى نتيجة منطقية وهي عولمة المشاكل. من العبث الاعتقاد أن ما تمور به فرنسا سيظل حبيس فرنسا، وأن مجتمعات أخرى لن تعيد طرح السؤال حول التوزيع العادل للثروة، والميكانيزمات الكفيلة بذلك، وتخليص السياسية من قبضة أصحاب المال والتكنوقراط، مع تغطية الأمنيين وممالأة الإعلام الموالي. لا يفيد طبعا منع ارتداء سترات صفراء، فليست السترات هي التي تقدح الغضب، ولكن الأوضاع الاجتماعية التي يتلظى بها المحرومون.
اعتبر عرابو ما سمي بالليبرالية الجديدة، التي تحددت معالمها في ما سمي بتوافق واشنطن في تسعينيات القرن الماضي، من خلال حزمة من الإجراءات تقضي بتحرير التبادل التجاري برفع كل الحواجز، والخصخصة، وتحلل الدولة من الواجب الاجتماعي (أو العبء من منظورها). كان هذا المتن هو ما فرضه عرابو توافق واشنطن لبلوغ الإقلاع أو النهوض حسب المصطلح المكرس. صاحبت هذه النظرة الهلامية إجراءات من أجل التخفيف من الفوارق الاجتماعية، وهو ما سمي بنظرية الانسياب، أي أن خلق الثروة هو بمثابة شلال ما تلبث أفضاله أن تتدفق جداول على كافة الشرائح.
تبدّى مع أزمة 2008 أن ما سمي بنظرية الانسياب ما هو إلا أمان، أو تعبير شهادة، حسب تعبير جوزف ستغليتز الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل. فتطبيقات المنظومة النيوليبرالية في مختلف أرجاء العالم، زادت الأغنياء غنى، وساهمت في استفحال الفقر. الجانب الجديد في الأزمة التي عصفت بفرنسا، هو اختلال ميكانيزمات التوزيع المرتبطة بنظام ضريبي منصف. المتظاهرون ومَن وراءهم من الماليين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع، ينتقدون الحيف الضريبي. فأصحاب الثروات الضخمة يستطيعون التملص الضريبي، وبالأخص مع العولمة، وظهور ما يسمى بالجنان الضريبية، مع ما طفا من خلال حالات شخصيات عامة، مثل الثرية الفرنسية ليليان بتنكور، التي أخفت جزءا كبيرا من ثروتها عن الضرائب، أو وزير الميزانية الأسبق جيروم كاهوزاك. أما ذوو الدخل المحدود فيقعون تحت تطبيق صارم للعبء الضريبي، لأن الاقتطاع من مداخيلهم يتم من المصدر أو من الضرائب غير المباشرة. المتن القانوني، بل التفكير الاقتصادي متخلف عن الواقع. فميكانيزمات العدالة الضريبية معطلة، وهو ما طرحته الأزمة الفرنسية، هذا فضلا عن إجراءات بيروقراطية غير ملائمة وثقيلة ولاإنسانية.
السياق المشحون بالتوتر في فرنسا هو ما حدا بالوكالة الفرنسية للتنمية لتنظيم ندوة حول موضوع «التفاوتات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية» انعقدت في معهد العالم العربي بباريس بتاريخ 7 ديسمبر/كانون الأول، خلُص فيه المشاركون إلى أن التضامن الاجتماعي هو ما يتيح قيام حياة مجتمعية دائمة، أقوى مما يتيحه القانون، وبالأحرى السوق، وانتهوا إلى أن التضامن هو الغائب في المجتمعات الغربية، ما يهدد سدى المجتمعات، ووقفوا على التفاوتات ذات الطبيعة المتنوعة، منها الدخل بالطبع، وإمكانية الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، والميز وفق النوع والإثنية.. ومن الأرقام الدالة، ما قدمه اقتصادي من أنه يلزم لعامل فرنسي 166 سنة لتدارك دخل إطار عال، مقابل 36 سنة في 1975. ورأى المشاركون أن المدرسة تشكل بؤرة التوترات الاجتماعية في الغرب، وبخاصة في فرنسا. استُعملت في الندوة تعابير صادمة، من قبيل الأبارتايد، ونَيْر التفاوتات الاجتماعية.
اكتست الأزمة طابعا حادا في فرنسا لأن لها بعدا ثقافيا، ذلك أن فرنسا عرفت منذ الرئيس الفرنسي ساركوزي الانزياح إلى ما قد يسمى بالأمركة، أي التأثر بأمريكا من خلال تغليب الفعالية على التضامن، واعتبار الدولة مقاولة كبيرة، وخضوع القطاع العام إلى تأثير القطاع الخاص في التدبير والمصطلحات، والحال أن الدولة في فرنسا هي عبارة عن كنيسة علمانية، والمرفق العمومي نسك، والتضامن صورة للمحبة المسيحية. ولذلك كان من الشعارات التي رفعها المتظاهرون في فرنسا هي التضامن، أي العودة إلى طبيعة الدولة الفرنسية. أما الجانب الآخر، للأزمة الذي ليس خاصا بفرنسا هو هيمنة حكم التكنوقراط أو ما يسمى بالتكنقراسيا، وهم أدوات فعالة ما لبثوا أن أصبحوا فاعلين يتحركون من وراء ستار، يؤثرون في أصحاب القرار ويوجهونهم، مثلما يؤثرون في أصحاب رؤوس الأموال. حُكم التكنوقراط يهدد الديمقراطية، ويحيل الوسائط الاجتماعية من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني إلى أدوات للتنفيس، ما يجعل الفضاء الوحيد للتعبير عن الحَنق هو الشارع في غياب يسار يحظى بالمصداقية، أضحى في الغالب صدى لليمين، وهو ما عبر عنه كثير من المتظاهرين من أن الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي تقدم بهوية يسارية لم يكن يساريا في العمق. من الشهادات الدالة التي ركزت على الطبيعة السياسية للغضب، ما قاله السياسي الفرنسي بونواهامون، وكان مرشحا سابقا للرئاسة، في حوار له مع جريدة «لوموند» بتاريخ 7 ديسمبر أن الغضب الفرنسي يشبه الربيع العربي، لأنه مثله ذو طبيعة مزدوجة، اجتماعية وسياسية. فالمطالب الاجتماعية لا تخفي التذمر من أوليغارشيات استولت على الحكم، وحولت الاستحقاقات الانتخابية إلى تمرين صوري وأفرغت الوسائط التمثيلية من محتواها.
أصحاب السترات الصفراء يرفضون أن تُختزل مطالبهم في قضايا اقتصادية ومالية، ويرومون تحرير السياسية التي أصحبت محتلة من قِبل الرأسمال، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي إدكار موارن، ولذلك يرفضون مقترح «دفتر مطالب» يقدم لعمداء المدن، مما يُذكّر بالوصاية كما في العهد القديم للمَلكية، لأن ما يريدونه ليس التفضل عليهم ببعض التدابير، ولكن الحوار والمشاركة في الحلول. عولمة الاقتصادي تفضي إلى نتيجة منطقية وهي عولمة المشاكل. من العبث الاعتقاد أن ما تمور به فرنسا سيظل حبيس فرنسا، وأن مجتمعات أخرى لن تعيد طرح السؤال حول التوزيع العادل للثروة، والميكانيزمات الكفيلة بذلك، وتخليص السياسية من قبضة أصحاب المال والتكنوقراط، مع تغطية الأمنيين وممالأة الإعلام الموالي. لا يفيد طبعا منع ارتداء سترات صفراء، فليست السترات هي التي تقدح الغضب، ولكن الأوضاع الاجتماعية التي يتلظى بها المحرومون.