-1-
هو عابر في عالم عابر .يعبر خفيفاً كالظل ، لا شأن له بالأماكن العمومية العابرة ، تلقاه يسير هنا في الشوارع الخلفية لمكناسة الزيتون ، متعجلا . وفي شوارع وجدة يلقي سلاماته على الأزقة الأليفة ثم يقول كلماته ويمضي كأنه ساعٍ إلى الخلاص.
-2-
عبد الناصر لقاح كائن من أمشاج شتى ، وثنيٌّ بطبعه، مؤمن حدَّ التخمة بالإنسان الذي سكنه منذ ظهوره ، ذات مساء ، في الناظور ، أو عبوره المتخم بالظلال والريحان في مدن وأزقة وحارات شتى . هو دوماً متلبس بطبيعته البشرية الفائقة ، وجوده في شعره ، وهو ها هنا متخم بالثرثرة والبوح ، وشعره في وجوده ، حتى لكأن شعره هو نقيض لأشعار الآخرين . هو نقيض لمن عرفت من الشعراء ، خالٍ من الإدعاء والتبجح ووباء النرجسية التي تحتال على الآخرين فتصير عدوانية واستبداداً .
عبد الناصر لقاح ، يعيش بلا شعارات كبيرة ، وهو سليل جيل السبعينات الذي ولد من عدم ، بعد أن تخلى عن الأب، وحازت الأمومة لديه شعار المحبة .ومما تحتفظ به ذاكرتي – وقد عرفته خلال مرحلتنا الجامعية ، مع سنوات الثمانينات –هي صورة الشاعر –الإنسان الذي جعل من الشعر عبوراً دافئاً نحو الإنسان ، وفي جغرافيا المرأة أقام ولا يزال . هل أزعم أنه أحب فعلا امرأة صنعت منه وفيه ومعه أخصب التجارب الإنسانية عمقا ودلالة .
ليس لعبد الناصر سوى عالم واحد يعيش فيه بالظاهر والخفاء ، ليس له جسدان ، ولا قلبان .إنه مثلي لم يسلك درب السياسة إلا على سبيل الاستعارة . فقد تركها لمن له وجوه للعرض وأخرى للخفاء . ولأنك أيها الشاعر لست مزيفا ، فقد أقمتَ في أشعارك ، وفي قلب بعض أصفيائك ، حتى حسبَ البعض أن القيامة قامتْ وأن مكناسة مقبرة الغرباء . لن يحاسبك أحدٌعلى اختفائك – ظهورك الجَسور وأنت من أحب الحياة بألف طريقة ، وحياها بمليون طريقة ، وكنتَ معلمها وشيخها العالم .أنتَ واحد من مواطني جمهورية بلا زعامة ، ومملكة بلا أمجاد .أنت مثلي ، أيها الشاعر تمشي خفيفاً ، وإن كان البعض يراك عجولا :
بارقٌ ، متّقدٌ في حضورك ،
شاكٌّ ، متيقنٌ في صلواتك ،
واقع بين البرزخ والهاوية ،
تستعلي عن الواقع ،
تقبض على النهايات المستحيلة.
-3-
في علاقتي بك أيها الصفي ، حيث الدهر مليءٌ ومضاعف، لا يمكنني إلا أن أستحضر عينة من اللحظات الجميلة في الجامعة ، وبيتنا هناك في وجدة ، وبيتنا هنا في البيضاء ، وبيتكم هناك عند أخيك السي محمد لقاح .في كل مكان كان لابد أن نتسار بعناية ونحكي بعبقرية ، ونتذاكر بلطف النجباء . كنتَ تحدثني كلما اتسعت حدقة العينين عن الناظور مدار البدايات الخفية ، وبني ادرار العابرة في الزمن العابر، ووجدة التي ولدت فيها مرة ثانية.كنتَ تحب الخبز البلدي الطافح برائحة الخميرة البلدية ، والمقروط المثخن بالتمر والزبدة والسكر. وكم كنتُ أسعد حينما تقول لي : إنك محظوظ لأن لك أماً .وكيف تغدو بلا أم ، وكيف تموت وليس لك أمٌّ :
- كل قبر هو قبر لأمي / فلا تدخل إلى قلـــبي
حتى تغـــــسل اسمك بالتــــربة والأسئلـة
أو تغزل وجهك بالجسم الأول / والشهــــقة المستحيلة
لا تدخـــل في الأنوثة حتى ترحل في الماء.
( قصيدة شرود ، ديوان شهوة الأشجار، ص29)
ذا صراطي/ أن أهوى دمها
ورائحة الصوف في يدها
وخوفها وأوجاع الحنين.
-4-
أعتبر أن تجربتك أيها الشاعر ، محاولة للحفر في اليومي والأبدي، في الذات والواقع ، في الممكن والمستحيل. فخلال مدة مطبوعة بالتوتر واللايقين شيدت مخاييلك مجدا من الشعر :
. اشتعال السرو، 1988، القاهرة.
- ديوان الأرق، وجدة، 1989.
- شهوة الأشجار، مكناس، 1996.
- جداول الروح، (بالاشتراك مع فريد الأنصاري)، مكناس، 1997.
- أشجار نصيرة الجذلى، القنيطرة، 1998.
- مارية تبكي مارية تضحك، مكناس، 2001.
سيبقى أيها الشاعر سقفا يؤويك إلى جانب بيوتات الشعر العامرة : بيوتات امرئ القيس والمتنبي وأبي العلاء وشوقي وبدر شاكر السياب وأدونيس وسركون بولس وفوزي كريم وعباس بيضون وأبي شقرا .
رحلة الشعر مزهوة بك فدامت لك الإقامة والسكنى.
* الناقد عثماني الميلود في شهادة محبة بمناسبة تكريم الشاعر عبدالناصر لقاح بمكناس
هو عابر في عالم عابر .يعبر خفيفاً كالظل ، لا شأن له بالأماكن العمومية العابرة ، تلقاه يسير هنا في الشوارع الخلفية لمكناسة الزيتون ، متعجلا . وفي شوارع وجدة يلقي سلاماته على الأزقة الأليفة ثم يقول كلماته ويمضي كأنه ساعٍ إلى الخلاص.
-2-
عبد الناصر لقاح كائن من أمشاج شتى ، وثنيٌّ بطبعه، مؤمن حدَّ التخمة بالإنسان الذي سكنه منذ ظهوره ، ذات مساء ، في الناظور ، أو عبوره المتخم بالظلال والريحان في مدن وأزقة وحارات شتى . هو دوماً متلبس بطبيعته البشرية الفائقة ، وجوده في شعره ، وهو ها هنا متخم بالثرثرة والبوح ، وشعره في وجوده ، حتى لكأن شعره هو نقيض لأشعار الآخرين . هو نقيض لمن عرفت من الشعراء ، خالٍ من الإدعاء والتبجح ووباء النرجسية التي تحتال على الآخرين فتصير عدوانية واستبداداً .
عبد الناصر لقاح ، يعيش بلا شعارات كبيرة ، وهو سليل جيل السبعينات الذي ولد من عدم ، بعد أن تخلى عن الأب، وحازت الأمومة لديه شعار المحبة .ومما تحتفظ به ذاكرتي – وقد عرفته خلال مرحلتنا الجامعية ، مع سنوات الثمانينات –هي صورة الشاعر –الإنسان الذي جعل من الشعر عبوراً دافئاً نحو الإنسان ، وفي جغرافيا المرأة أقام ولا يزال . هل أزعم أنه أحب فعلا امرأة صنعت منه وفيه ومعه أخصب التجارب الإنسانية عمقا ودلالة .
ليس لعبد الناصر سوى عالم واحد يعيش فيه بالظاهر والخفاء ، ليس له جسدان ، ولا قلبان .إنه مثلي لم يسلك درب السياسة إلا على سبيل الاستعارة . فقد تركها لمن له وجوه للعرض وأخرى للخفاء . ولأنك أيها الشاعر لست مزيفا ، فقد أقمتَ في أشعارك ، وفي قلب بعض أصفيائك ، حتى حسبَ البعض أن القيامة قامتْ وأن مكناسة مقبرة الغرباء . لن يحاسبك أحدٌعلى اختفائك – ظهورك الجَسور وأنت من أحب الحياة بألف طريقة ، وحياها بمليون طريقة ، وكنتَ معلمها وشيخها العالم .أنتَ واحد من مواطني جمهورية بلا زعامة ، ومملكة بلا أمجاد .أنت مثلي ، أيها الشاعر تمشي خفيفاً ، وإن كان البعض يراك عجولا :
بارقٌ ، متّقدٌ في حضورك ،
شاكٌّ ، متيقنٌ في صلواتك ،
واقع بين البرزخ والهاوية ،
تستعلي عن الواقع ،
تقبض على النهايات المستحيلة.
-3-
في علاقتي بك أيها الصفي ، حيث الدهر مليءٌ ومضاعف، لا يمكنني إلا أن أستحضر عينة من اللحظات الجميلة في الجامعة ، وبيتنا هناك في وجدة ، وبيتنا هنا في البيضاء ، وبيتكم هناك عند أخيك السي محمد لقاح .في كل مكان كان لابد أن نتسار بعناية ونحكي بعبقرية ، ونتذاكر بلطف النجباء . كنتَ تحدثني كلما اتسعت حدقة العينين عن الناظور مدار البدايات الخفية ، وبني ادرار العابرة في الزمن العابر، ووجدة التي ولدت فيها مرة ثانية.كنتَ تحب الخبز البلدي الطافح برائحة الخميرة البلدية ، والمقروط المثخن بالتمر والزبدة والسكر. وكم كنتُ أسعد حينما تقول لي : إنك محظوظ لأن لك أماً .وكيف تغدو بلا أم ، وكيف تموت وليس لك أمٌّ :
- كل قبر هو قبر لأمي / فلا تدخل إلى قلـــبي
حتى تغـــــسل اسمك بالتــــربة والأسئلـة
أو تغزل وجهك بالجسم الأول / والشهــــقة المستحيلة
لا تدخـــل في الأنوثة حتى ترحل في الماء.
( قصيدة شرود ، ديوان شهوة الأشجار، ص29)
ذا صراطي/ أن أهوى دمها
ورائحة الصوف في يدها
وخوفها وأوجاع الحنين.
-4-
أعتبر أن تجربتك أيها الشاعر ، محاولة للحفر في اليومي والأبدي، في الذات والواقع ، في الممكن والمستحيل. فخلال مدة مطبوعة بالتوتر واللايقين شيدت مخاييلك مجدا من الشعر :
. اشتعال السرو، 1988، القاهرة.
- ديوان الأرق، وجدة، 1989.
- شهوة الأشجار، مكناس، 1996.
- جداول الروح، (بالاشتراك مع فريد الأنصاري)، مكناس، 1997.
- أشجار نصيرة الجذلى، القنيطرة، 1998.
- مارية تبكي مارية تضحك، مكناس، 2001.
سيبقى أيها الشاعر سقفا يؤويك إلى جانب بيوتات الشعر العامرة : بيوتات امرئ القيس والمتنبي وأبي العلاء وشوقي وبدر شاكر السياب وأدونيس وسركون بولس وفوزي كريم وعباس بيضون وأبي شقرا .
رحلة الشعر مزهوة بك فدامت لك الإقامة والسكنى.
* الناقد عثماني الميلود في شهادة محبة بمناسبة تكريم الشاعر عبدالناصر لقاح بمكناس