محمد حسن - يحيى الطاهر عبدالله، الحالم الذى ناطح السماء بخياله.. كيف نفهم يحيى الطاهر عبدالله من إهداءاته؟ كيف كان معجبًا بالأساطير الإغريقية القديمة

ماشيًا على أرض الواقع فى ميدان «السيدة عائشة» أو صاعدًا عبر سماء الأسطورة إلى قمم «جبال الأوليمب»، كان يحيى الطاهر عبد الله «30 أبريل 1938 - 9 أبريل 1981» يكتب قصصه ورواياته، واضعًا على رؤوس بعضها إهداءات مقتضبة لكنها مكثفة ودالة للغاية، بعضها لشخصيات واقعية -معروفة ومجهولة- وأخرى لرموز من الأسطورة أو الطبيعة.

من هذه الزاوية، سنحاول أن نفهم شخصية يحيى الطاهر عبد الله، فى ثمانيناته التى تحل بعد أيام من ذكرى وفاته السابعة والثلاثين.
فى أعماله الكاملة -وسنعتمد هنا على الطبعة الثانية من نسخة دار «المستقبل العربى» 1994- خمس مجموعات قصصية وثلاث روايات وقصة طويلة. تسعة أعمال بين القصة والرواية، كتب يحيى الطاهر أربعة إهداءات على بعض منها: الأول على رأس «ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالًا»، وثلاثة فى «الرقصة المباحة» واحد على المجموعة ككل، وآخر على قصة «أغنية للعاشق إيليا»، وثالث على القصة التى حملت اسم المجموعة، والرابع فى «الطوق والإسورة»، وبإحصائية بسيطة سنقسم مفردات هذه الإهداءات إلى جزأين، الأول لأشخاص حقيقيين، والثانى لرموز.
«والده، أصدقاؤه الكتاب: خليل كلفت، إدوار الخراط، عبد الفتاح الجمل، غالب هلسا، وزوجته مديحة محمد إبراهيم»، هؤلاء هم الستة الذين أهداهم أعماله، لكن ثمة ثلاثة أشخاص آخرين لكنهم غير معروفين، هم «الشيخ سيد، محروس الترزى، ومحب طالب الطب بالسيدة عائشة».
على مستوى «الرموز»، نجد: «المُقبل، الربة العذراء فوق قمم الأوليمب، الشجر المورق العالى، الريح المغنية والإنسان فى قوته وفى ضعفه على الأرض ذات الخير».
تفصيليًّا، استهل يحيى الطاهر مجموعته الأولى «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا»، فكتب: «للمقبل. للربة العذراء فوق قمم الأوليمب المسنونة، لأبى الشيخ فى الكرنك القديم. لخليل كلفت بمسرح الجيب بالقاهرة».
يتماس عبد الله كثيرًا مع الثقافة الإغريقية، وارتباطًا بذلك يبدو كأنه رجل قادم من الملاحم، كما «هوميروس» شاعر الأسطورة القديمة، والذى كان يلقى شعره شفاهة، مثلما كان يفعل «ابن الكرنك» مع قصصه.
من ناحية أخرى، يبدو عبد الله معجبًا بالإلهة العذراء فى الأسطورة القديمة «أثينا أو آرتميس» والتى مُنحت وعدًا بالعذرية الأبدية واختارت الحكمة، ورغم فارق التشبيه، كان عبد الله مصرًّا لسنوات طويلة على عدم الزواج، معتنقًا فلسفة راسخة لديه فى التحرر من كل القيود والمؤسسات، حتى مؤسسة الزواج والعائلة، لكنه -لاحقًا- عندما تعرف على صديقه الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة، أعجب به الأخير وسعى لتزويجه من شقيقته الصغرى مديحة، وحدث هذا فى مارس 1975، تلك التى أهداها بعد ذلك -مع آخرين- مجموعة «الرقصة المباحة» كالتالى: «إلى مديحة محمد إبراهيم: أم ابنتىّ أسماء وهالة».
الدكتور حسين حمودة، الناقد الأدبى وصديق «يحيى»، والذى نقلت إليه ملاحظاتى عن الإهداءات، يرى أنها «كانت تعبر عن عالمه المشغول به، وأيضا عن امتنانه للشخصيات التى قدمت له ما قدمت».
يعلِّق «حمودة»: «فى الإهداءات الأولى توجه يحيى إلى بعض المفردات المرتبطة بالميراث الإغريقى الذى اتصل به على بعض المستويات».
فى المرتبة الثانية من إهداء «ثلاث شجرات…»، يأتى الشيخ «الطاهر عبد الله»، والد يحيى، وكان رجلًا معمما يتولى التدريس فى مدرسة ابتدائية بقريته الكرنك فى محافظة قنا. وفى سن مبكر له توفيت أم «يحيى»، وانتقلت رعايته بالتبعية إلى شقيقتها/ خالته، التى تزوجها والده بعد ذلك، وبحسب رواية عبد الرحمن الأبنودى فإنها كانت سببًا فى أن يهرب يحيى من سوء معاملتها فى الواحدة والعشرين من عمره إلى مدينة قنا، حيث عاش فى منزل صديقه شاعر العامية بعد أن التقاه هو وأمل دنقل لأول مرة، من هنا ربما نفهم ارتباطه بأبيه فى الكرنك، قريته التى لم ينسها قط.
الثالث فى الإهداء هو خليل كلفت، المفكر والمترجم اليسارى البارز، كان صديقا ليحيى فى الستينيات، كتب فى الأدب قليلا قبل أن يتجه إلى الترجمة، وعمل فى إدارة مؤسسة فنون المسرح الموسيقى ثم فى مسرح الجيب فى الفترة من 1962 إلى 1969، قبل أن يستقيل ويقطع علاقته بالعمل الحكومى.
و«مسرح الجيب» هو التجربة التى أسسها المخرج المسرحى الراحل سعد أردش فى الستينيات بعد عودته من بعثة فى إيطاليا، وعُنى بتقديم عروض تجريبية، وكان يعده نافذة لتشكيل طليعة واعدة.
اشتملت مجموعة «الرقصة المباحة»، التى صدرت كاملة بعد وفاته، على ثلاثة إهداءات، الأول على رأس المجموعة ككل، وكان إلى إدوار الخراط وعبد الفتاح الجمل وغالب هلسا ثم زوجته كما ذكرنا.
الثلاثة من العلامات البارزة فى جيل الستينيات، الأول كتب مقدمة لمجموعة «الطاهر» الأولى، وصكّ تعبيرًا لأدب «يحيى» هو «الميتاواقعية»، فى إشارة إلى كتابته التى تضفِّر الحقيقة بالفانتازيا.
الثانى هو غالب هلسا، الذى سبق «يحيى» فى النشر بسنوات، ثم فتح بيته لأدباء هذا الجيل بشهادة كثيرين منهم بهاء طاهر، ابن الكرنك الآخر، فى مقدمة روايته «خالتى صفية والدير»، إذ كانوا يلتقون هناك كثيرًا، منها مرة دعى فيها «هلسا» رجاء النقاش وسمير فريد ليتعرفا على الكاتب القادم من الجنوب ليسمعان منه قصصه مباشرة.
الاسم الثانى له وقفة أطول، نتحدث عن عبد الفتاح الجمل، مكتشف الكثير من أسماء جيل الستينيات، إذ قدم محمد البساطى وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى وجار النبى الحلو ونشر أيضا لصلاح عيسى، ولآخرين.
كان «الجمل» مشرفا على الملحق الأدبى بجريدة «المساء» منذ 1962، ونشر ليحيى الطاهر قصته الثانية «جبل الشاى الأخضر»، وفى مكتبه بالجريدة القومية كان لهما مواقف عديدة.
يقول «حمودة» الذى شهد كثيرًا من هذه المواقف: «كان الجمل يمثل فى حياة يحيى رمزًا مضيئًا جدًّا، كان أستاذًا وأبًا روحيًّا».
ويحكى قصة اشتهرت بين أبناء الجيل: «كان الجمل يأتى بيحيى إلى الجريدة ويضع أمامه علبة سجائر ويطلب له قهوة ويوصى الساعى بأن يلاحقه بفناجين متتالية، ثم يشتمه ويقول له: العدد نازل غدًا وهناك صفحة كاملة، لازم تكتب»، وهكذا كتب يحيى أغلب قصص «حكايات للأمير» بهذه الطريقة، كما يؤكد الناقد الأدبى.
ويؤكد الناقد الذى قدم دراسات فى أدب «الطاهر» أن «يحيى» كان يحاول فى تلك الإهداءات أن يقدم نوعًا من التحية وربما الشكر لمن ساعدوه بطريقة أو بأخرى.
الإهداء الأغرب -وإن كان حقيقة ليس غريبًا على شخصية يحيى الطاهر- جاء على رأس قصة «الرقصة المباحة» فى المجموعة، إذ أهداها لثلاثة أشخاص هم: «الشيخ سيد، ومحروس الترزى، ومحب طالب الطب بالسيدة عائشة».
لا نلحظ أى ارتباط بين هؤلاء الثلاثة وبين مضمون القصة، لكنهم ظهروا بصورة أو أخرى فى أعمال الكاتب التى تناولت شخصيات «الشيخ» على أكثر من مستوى، وكذلك رجال المهن مثل الفرانين والإسكافية والموظفين، ويبدو أنهم مواطنون عاديون تعرف عليهم خلال اختلاطه الدائم بالناس من كل الفئات. يرجح «حمودة» هذا فيقول شاهدًا على اتصال «يحيى» بالبسطاء: «ربما ارتبط بهم فى فترة ما ثم مثلوا له شيئًا فى قصصه».
فى رواية «الطوق والإسورة» الصادرة عن هيئة الكتاب 1975 -قبل أن يحولها خيرى بشارة عام 1986 إلى فيلم سينمائى جاء فى المرتبة الثانية والعشرين فى قائمة المئة الأفضل- وضع «الطاهر» إهداءً استثنائيًّا: «للشجر المورق العالى.. وللريح المغنية، وللإنسان -على الأرض ذات الخير- فى قوته وفى ضعفه».
إنه هنا يهدى روايته لرموز من الطبيعة، يفسر «حمودة» قائلًا: «هذه مفردات الطبيعة التى ظلت تمثل جزءًا أساسيًّا من عالمه القصصى والروائى».
فى هذا العالم -بحسب صديق «يحيى»- يمكن أن نلاحظ حضور أسطورة شخصية خاصة به تتمثل فى «الغابة» بكل عناصرها التى تحتوى عالم الطبيعة كله، والتى تمثل موازيًا بالمعنى الحرفى لمفردات العالم المعاصر أو العالم الواقعى الذى عاش فيه.
وعلى سبيل المثال، نقرأ فى الرواية: «خبطات الهواء تحرك الأوراق الخشنة الكبيرة لشجرة الدوم وتجعلها تحتك وتصدر أصواتًا أشبه بزحف الحيّات وسط دغل الحلفاء، وضوء شمس ما قبل الغروب الأصفر اللين يغمر أرط وحوائط الفناء الضيق».
من هنا ربما يمثل الشجر المورق العالى معادلًا للنخيل كما فى قصته «العالية»، وهو عنصر أساسى من مكونات الطبيعة فى الريف والصعيد، وجسد به الراحل معنى التحدى بين الرجال فى إثبات ذواتهم، أما الإنسان فهو أسمى شىء عند «يحيى» الذى كان يناضل من أجل الحرية الداخلية للبشر.
فى عبارة أخرى، كان يحيى الطاهر عبد الله برحابة آفاق هذه الإهداءات -من «السيدة عائشة» إلى جبال الأوليمب، ومن «محروس الترزى» إلى «الربة العذراء»- كما الحالم الذى يناطح بخياله ومعرفته السُّحب فى السماء، بينما كيانه ملتحم كلية بالبشر على الأرض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى