كليلة و دمنة محمد علي آذرشب - ابن المقفع بين حضارتين.

تقديم الكتاب

عبدالله بن المقفع من أهمّ رجال الارتباط الثقافي بين الإيرانيين والعرب في العصر العباسي، أتقن العربية والفارسية، وخدم في دواوين الأمويين، ثم أسلم في العصر العباسي، وتعاون مع الحكام العباسيين، وقتله المنصور بتهمة شخصية سياسية.
كان صديقاً لعبد الحميد الكاتب المحسوب على الأمويين، حتى إن عبدالحميد لم يجد ملجأ يلوذ به بعد اندلاع الثورة العباسية أفضل من بيت صديقه ابن المقفع الوفي، الذي آثر تسليم نفسه للشرطة بدلاً من عبدالحميد وهو يعلم مافي هذا من موت محتّم، لكنّ صديقه عبدالحميد خرج من بيته وعرّف بنفسه.
عاش ابن المقفع في عصر أُريد فيه للناس أن يتخلّوا عن إرادتهم وعقلهم تحت شعار الاستسلام للقضاء والقدر، وأن ينظروا إلى الحاكم بأنه مفروض الطاعة، يحكم كيف يشاء، لا يحقّ لأحد أن يدلي برأيه في الحكم كيف يكون، وكيف ينبغي أن يكون الحاكم. أُريد للناس أن ينشغلوا بالأمور اليومية الصغيرة ويتخلّوا عن الأهداف الكبيرة، وأن ينكفئ الناس على أنفسهم وهمومهم الشخصيّة، ويستوحشوا من العلاقات الاجتماعية، وهذا هو شأن كل مجتمع يسود فيه الإرهاب والطغيان.
في مثل هذا المجتمع نهض ابن المقفع بثورة فكريّة كان لها دورها الهام في نهوض حركة العقلية الإسلامية من كبوتها، والنفسية الإسلامية المتحركة من هزيمتها، وسخّر طاقاته الخلاّقة وثقافته المزدوجة وعبقريته الأدبية لتحقيق أهدافه. ولعلّ هذه الثورة هي التي أدّت إلى قتله.
ولأخلاقه الشخصية دور في نجاح مهمّته، فقد كان سخيّاً كريماً محسناً إلى أصحابه، كما كان اجتماعياً يغشى مجالس الأصدقاء لا يحسدهم ولايحمل على أحد منهم ضغينة. وقد مرّ بنا وفاؤه تجاه صديقه عبدالحميد.
ومن ثم فقد اتُّهم ابن المقفع بالزندقة والشعوبية وكره العرب، ولادليل على ذلك، بل تدل الوثائق على حبّه للعرب، وعلى أنه - كما يقول الأستاذ محمد كرد علي - صحيح الإيمان محباً للإسلام.
جزى الله الأستاذ الدكتور حسين علي جمعه خيراً فقد وجدته مهتمّاً أشد الاهتمام بالتواصل العربي الفارسي، وبرجال هذا التواصل. وهذا الذي كتبه عن ابن المقفع هو مظهر من مظاهر هذا الاهتمام.
نسأله سبحانه أن يوفق الأستاذ الباحث لمزيد من هذا الجهد العلمي الذي نحن بأمس الحاجة إليه لإثراء مشروعنا الحضاري المستقبلي. ونتقدم إليه بجزيل الشكر أن تفضل بالموافقة على طباعة كتابه ضمن سلسلة «كتاب الثقافة الإسلامية».


د. محمد علي آذرشب


لقيت شخصية عبد الله بن المقفع وفكره ونثره عناية القدماء والمحدثين؛ ووقف أكثرهم صفين متقابلين فـي تهمة الزندقة التي وجهت إليه؛ منهم من اتهمه بها وأثبتها عليه مع التعصب لبني بجدته من الفرس؛ ومنهم من ظل على شكه فـي تلك التهمة، لكنه وصفه برقة الدين…. وندر أن وجدنا دارساً برأه من أي منهما…. على وجود آخرين لم يتعرضوا لهذه القضية برمتها. وعلى الرغم من ذلك فقد رأيناهم جميعاً يتفقون على أنه كان ثاني اثنين مع عبد الحميد بن يحيى الكاتب؛ أستاذه ومعاصره؛ تركا بصمة عظيمة فـي النثر العربي فـي زمن صعب؛ زمن بدايات النثر الفني…. إذ شكلا فـي مرحلة الريادة هذه مدرسة فنية أدبية فـي الكتابة أخذ الناشئة من الكتاب يتتلمذون على يديها؛ فضلاً عن أثرهما فـي كل من جاء بعدهما من الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا وأبي هلال العسكري؛ وابن عبد ربه؛ وقدامة بن جعفر؛ وابن رشيق والثعالبي…. ولكنهم جميعاً أغفلوا ماله من شعر وكأنهم رأوا فـي نثره شخصيته وعبقريته المتميزة فـي الدعوة إلى الإصلاح، وفـي أساليبه…
وتميز ابن المقفع من عبد الحميد بأن بريقه طفق يلمع فـي وقت اختفى عبد الحميد من مسرح الأحداث حين أخذه أبو العباس السفاح وقدَّمه هدية إلى عبد الجبار؛ لأنه كان كاتباً لآخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد…. واستطاع ابن المقفع أن يتحمل مسؤولية صناعة الكتابة بعد أستاذه ليصبح - بجدارة - إحدى العبقريات الأدبية فـي عالم العرب والإسلام. فهو لم يخلّف لنا - فقط - جملة من الآثار والمصنفات البديعة التي شهد الناس بتنوعها، وحسن تصنيفها…. وإنما استطاع أن يرتقي بأساليب العربية؛ وأن يرقق الكثير منها؛ ومن ثم زاد عليها عدداً آخر لم تعرفه العربية قبله ….
ومثلما كانت شخصيته، ولا سيما إسلامه؛ مدار حوار طويل بين الأدباء والدارسين حتى الآن كانت آثاره مركز نقاش مستفيض فـي كونها تؤيد هذا الطرف أو ذاك …
ويبدو لي أن كثرتهم الكاثرة لم يعنوا كثيراً بأن ابن المقفع قد عاش فـي مرحلة انتقال سياسي عظيمة الفتن والأحداث بانتقال الخلافة إلى بني العباس…. ولم يلحظوا - أيضاً - الإرباك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي كان يعصف بالناس…. ومن ثم لم يلتفتوا إلى أنه يعيش بين حضارتين فارسية قديمة لم يبق منها فـي الأذهان إلا صورة النظم الإدارية التي أبدعها ملوك فارس…. وعربية إسلامية ناهضة يشارك فيه العنصر الفارسي وغيره من أبناء الدول المفتوحة والعنصر العربي الذي حمل على عاتقه مهمة الفتح وإبلاغ رسالة الإسلام إلى كل إنسان فـي نواحيها…. وبخاصة أن لغة القرآن صارت اللسان الجامع لذلك كله؛ فضلاً عن الدين….
وفـي صميم هذا المناخ كان ابن المقفع الطفل يعيش ويتنفس وهو لا يزال على دين آبائه؛ إذ لم يسلم أبوه…. الذي عمل فـي دواوين الدولة للحجاج بن يوسف الثقفـي والي العراق…. وأخذ ينشئ ابنه على صناعة الكتابة….
هكذا أخذت مدارك الفتى تتفتح وفـي عقله ثقافة فارس يحملها بين جوانحه؛ واعتقاد بدين المانوية دين آبائه…. ومن ثم يرى الإسلام بكل مبادئه الخلقية السامية يرفرف بظله ماداً نوره فـي الآفاق…. ويرى المصنفات العربية هنا وهناك فـي الشعر واللغة والفقه والتفسير والحديث …. لكنه يشاهد فـي آن معاً حالة من الفساد والفوضى تدب فـي أوصال الدولة…. والمجتمع…. فالأمة التي ينبغي أن تتقدم وترتقي كانت تتراجع…. وتتمزق إلى شيع ومشارب فكرية واجتماعية ومذهبية وعرقية…. فالعصبيات عادت تطل برأسها لتنخر فـي عضد الأمة التي وحدها الإسلام…
لهذا كله أخذ الفتى يتطلع إلى حركة فـي الإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني والخلقي … ومن ثم رغب رغبةً شديدةً فـي أن يثبت مكانة له بين الكتاب فـي دواوين الولاة؛ إذ أضحى للكاتب منزلة خاصة لا يضاهيه فيها أعظم الناس …؛ فاندفع مع هذا الطموح الجارف واندمج بلغة القرآن الكريم وثقافته حتى حذقها، ومن ثم حذق الفارسية القديمة التي كادت تندثر، إذ لا يتقنها من الفرس إلا العدد النادر …. ورأى أن خير ما يحقق مراميه إنما هو ترجمته لما بين يديه من آثار فارسية قديمة؛ باعتباره - وهو الفتى الناشئ - لا يتقن إلا الفارسية والعربية….
ونرجح فـي هذا المقام أن ابن المقفع بما امتلكه من قدرات عقلية خارقة - وقد تسلح بمعارف شتى ومنهج سديد - راودته فكرة إعادة كتابة التاريخ؛ ولمّا لم يتقن من اللغات إلا العربية والفارسية فإنه مدَّ يديه بقوة إلى خزانة الثقافة الفارسية ليبدأ بترجمة أول كتاب يتحدث عن بداية الخلق ونشوئه فكان الكتاب المشهور (خداينمك) فترجمه أولاً - وترجمته نسخة من ثماني نُسخ اجتمعت بين يدي حمزة الأصفهاني - كما قال - لتأليف كتابه (تاريخ سني ملوك الأرض) - وثانياً ترجم (الآيين فـي سير الملوك) ثم توالت سلسلة الترجمة …. حتى قدّم للبشرية كتاب (كليلة ودمنة) الهندي الأصل المترجم إلى الفارسية الفهلوية القديمة؛ والتي ترجم عنها ابن المقفع الكتاب….
ولمّا اتجه هذا الاتجاه كان يدرك أن المكتبة العربية لا تملك من هذه المصنّفات التاريخية شيئاً …. لذلك اتجه إلى باب لا يعرفه غيره وفتحه بقوة …. وحينما كان يفعل ذلك كان يعيش بين حضارتين؛ حضارة فارسية قديمة وحضارة عربية إسلامية ناهضة فقدّم من الأولى إلى الثانية ما يراه مفيداً لها؛ فحقق جسر التواصل الحضاري الثقافـي بينهما، فـي الوقت الذي أصبح جسر اتّصال حيوي فعّال بين القديم والجديد…. فسبق الأمم إلى ما تصبو إليه اليوم من حوار حضاري شريف.
ولهذا كان بحثنا بعنوان (ابن المقفع بين حضارتين)؛ ومن هنا تكونت رؤيتنا لقراءة شخصية هذا الرجل وآثاره ولا سيما أدبه / نثراً وشعراً / قراءة فكرية نقدية معاصرة، وقراءة أدبية جديدة تضعنا عند عتبات فنونه وموضوعاته وأساليبه التعبيرية بخصائصها المميزة.
ونحن إذ نقبل على ذلك كله نرجو أن تكون قراءتنا قراءة موضوعية نزيهة؛ ومحايدة للوقوف عند المفاصل الأساسية لهذه العبقرية الفذة فـي تاريخ أمتنا بعد أن مزقتها الأهواء، وتناوشتها الأقلام؛ فشوّهت جمال ملامحها؛ حين اتهمتها مرة بالزندقة، ومرة أخرى بالشعوبية والعصبية للفرس…. وجعلتها ترتكس عقلياً - وهي التي اعتُرف لها بالعقل والدراية - إلى المذاهب القديمة للفرس كالمانوية بعد أن تزينت بشفافية الدين الحنيف، وانقادت له طواعية دون إكراه من أحد؛ قريباً كان أم بعيداً؛ والياً أم خليفةً…. صديقاً أم عدواً…. وسيقت الأباطيل فـي هذا كله ليشاع بين الناس حتى اليوم أنه زنديق متعصب لفارس…. وهو أبعد عن ذلك كله.
وإذ كنا نعيد قراءة هذه العبقرية الفكرية الإصلاحية؛ وهذه الشخصية الأدبية المبدعة لنستشرف آفاق العقل الحر الواعي؛ وآيات الإبداع اللغوي والفني فإننا نثمن كل كلمة قيلت فـي هذا المجال…. وما أكثرها…. نثمن كلمة مناوئيه قبل مناصريه لأنها علمتنا أموراً عديدة ما كنا لنتعرف إليها لولا جهودهم العظيمة؛ ونخص بالثناء منهم الباحثين المحدثين الذين أخذتهم العزة القعساء للعروبة والإسلام….
وحينما كنت أحد العروبيين المسلمين فقد دفعني المنهج العلمي الموضوعي النزيه لتبني رؤية شمولية لتناول هذه الشخصية وإعادة النظر فيها فـي إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات؛ والذي تبناه الإسلام قبل أي عقيدة أخرى …. ولهذا تبنيت المنهج التكاملي المستند إلى التحليل الهادئ لكل قضية تمثل بين يدينا؛ فكان المنهج التاريخي يتقدم على غيره حينما يكون له المقام؛ ويتراجع أمام المنهج الفلسفـي الفكري المنطقي حينما يتطلبه موضوع ما…. وكلاهما يتراجعان أمام المنهج اللغوي التحليلي عندما يمثل الأدب شامخاً لبيان خصائصه…. وكذا المنهج النفسي والاجتماعي…. وعلى الرغم من تغليب منهج على آخر فإن المناهج تتكامل فيما بينها للوصول إلى الحقيقة؛ ولا شيء غيرها.
وبناءً على هذا المنهج توزعت الدارسة على مدخل قصير وفصول أربعة كان الفصل الرابع أكبرها وأشملها ….
وتناول المدخل حالة الأمة الإسلامية فـي إطار امتزاج أبنائها الثقافـي الحضاري الذي لا يعترف بعصبية لعرق أو جنس أو لون …. وبيّن ريادة أبناء العرب وفارس لهذه الحالة الحيوية المتقدمة فـي التفاعل على صعد شتى فـي الفقه والحديث، والفلسفة والدين، واللغة والأدب وفق مفهوم العدل والمساواة الدينية؛ لأن الدين الإسلامي يحصن جميع أبناء الأمة ويرعاهم بمبادئه السامية، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى.
ثم تعلق الفصل الأول (حياته وصفاته) بكل ما يعرفنا بهذه الشخصية المتميزة اسماً ونسباً وولادة ونشأة، وصفات ورثها واكتسبها؛ فكان المثال الأرحب للشاب العاقل الصادق الطامح إلى بناء الأمة بناء سليماً، منطلقاً فيه من تصحيح سلوك الفرد أياً كانت منزلته…. يدعوه أبداً إلى الفضائل الكبرى والتمسك بالخلق الكريم؛ وهو الخلق الذي دفعه - مع عقله الحصيف - إلى الإسلام فحسن إسلامه؛ وأتقن عمله فـي صناعة الكتابة؛ وأخلص إخلاصاً لا نظير له لمهنة التأديب؛ وصدق عهده وثبت عليه مع أولياء نعمته من آل علي بن العباس أعمام الخليفة ابي جعفر المنصور فدفع رأسه ثمناً لذلك كله…. حين تحول به الحال السياسي ووضعه فـي خندقهم المقابل لخندق الخليفة، فتخلص منهم ومنه.
ثم جاء الفصل الثاني (آثاره وأبعادها الفكرية) الذي بدأ بتمهيد أبرز تأثر الأديب اللاحق بالسابق؛ فنقل عنه حرفياً جملة من الأحكام تتعلق بآثاره.. دون أن يفيد من قراءة التاريخ نفسه ومن هدفه.. فراح التاريخ يعيد نفسه على يدي اللاحق…. ومن ثم كشف عن تعاظم مهمة الكاتب فـي بداية العصر العباسي وأثره فـي الحياة الخاصة والعامة.
ومن بعدُ؛ عالج الفصل آثاره المنسوبة إليه والمفقودة مثل (البنكش والسكيكين؛ وأنالوطيقا وإيساغوجي)؛ ثم آثاره المفقودة وهي له مثل (خداي نامه، والآيين؛ والتاج، ومزدك، ورسالة تنسر، والدرة اليتيمة... )؛ ثم آثاره الموجودة مثل (كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة.. ) وحلّل كل أثر على حدة من جهات عدة فـي قراءة فكرية سياسية واجتماعية وأدبية؛ ونفسية؛ تعتمد العقل والنقل.
أما الفصل الثالث فعنوانه (براءته من الزندقة) وكشف المدخل فيه عن الحرية الواعية للعاقل الذي يفتح نوافذه على القديم دون أن يبقى عنده، بمثل ما يفتحها على الجديد دون أن يغدو أسيراً له… وقد صان الإسلام حرية الاعتقاد، واحترمه… ثم التزم الخلفاء بمبدأ الدين الحنيف فأطلقوا للناس حريتهم الفكرية والاجتماعية والدينية، مما أدى إلى اختلاط الثقافات التي انتهت إلى اختلاف المفاهيم… وهذا فرض علينا التوقف عند مفهوم الزندقة التي اتجهت إلى أربعة مفاهيم؛ باعتبار أن اللفظ والدلالة ليس مما فـي العربية أصلاً. فالتابعُ لكتاب (الزَنْد) زنديقٌ؛ وكذا من يتبع ديناً بعينه، كالمانوية؛ وربما أطلق حتى شاع على كل من يتبع ديناً مجوسياً…. ثم توسع المفهوم ليُنْعت كل ماجن متظرف بالزندقة…. سواء كان مجونه إلحاداً وشكّاً أم كان تملحاً واستهتاراً وإقبالاً على متع الدنيا. ثم عولجت الأسباب التي دعت الناس والباحثين إلى اتهامه بالزندقة ومناقشتها سبباً سبباً كاتهامه بالحنين إلى المانوية على إسلامه، واتهام معاصريه له بها، واتهام المهدي لآثاره بأنها الأصل فيها؛ فضلاً عن آثاره التي فسرت على أنها دعوة للمانوية والعصبية الفارسية، واجتماعه بالمجان والزنادقة الذي جعل الناس يصدّقون التهمة عليه.. وصدق فيه القول: من حام حول الحمى وقع فيه.
أخيراً تقدم الفصل الرابع (ابن المقفع أديباً)، وعرض مدخله للأسباب التي جعلته يحظى باحترام أعدائه ومناصريه فـي نثره؛ ثم بين مكانته لدى القدماء والمحدثين وأثر كتبه فيهم؛ وكيف غدت مكانته عالمية… وناقش مطولاً فنونه وموضوعاته، ماجدّد فيها وما طوّره، وقسمت الموضوعات إلى عامة وخاصة؛ فمن العامةِ الموضوعات الدينية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والعلمية والسياسية؛ بما فيها الدعوة إلى الاستشارة… ومن الخاصةِ موضوعُ المرأة والحرص على الإخوان (الصداقة) والانتفاع بحسن الاستماع والحفظ؛ ومفهوم العمل المنظم… ثم بحث الخصائص الشكلية لنثره بدءاً من البناء المعماري للنّص ومروراً بالوضوح والسهولة؛ والدقة والتلاؤم، والتوازن والتراسل؛ والتحميد والإرداف؛ والقص والترميز؛ وانتهاء بالتضمين... ليختم هذا الفصل بشاعريته: ما أودعه من الأشعار فـي أدبه، وما قاله من شعر... وعرضنا لسبب قلة شعره، علماً أنه لم تكن غايتنا الإحاطة به وتعقبه.
وكنا نثبت تعاون عدد من الأساليب البلاغية فـي صميم أسلوب رئيسي مما تقدم فيما أطلقنا عليه أسلوب التكثيف.. فبلاغة ابن المقفع ظهرت فـي حذقه لأساليب العربية حتى استحق عن جدارة صدارة البلغاء العشرة فـي زمانه، ومن ثم صارت بلاغته مضرب المثل فـي استلهام ما قاله فيها من آراء... وما اتبعه من أساليب وفـي طليعتها أسلوب الإيجاز والإطناب.
ولم يستحق - فقط - مرتبة الرئاسة فـي البلاغة؛ بل صار حكيماً من طراز رفيع مثلما كان مصلحاً اجتماعياً من نمط فريد... حمل على عاتقه هموم مجتمعه، وثقافته، وجعل قلمه كمبضع الجراح يستأصل كل فساد أينما رآه…. وغدا للكلمة قيمتها وسلطانها؛ لأنها كلمة الله فـي أرضه؛ ممثلة بالإنسان الحر الشريف القوي بعقله وقيمه وإنسانيته؛ ما دام يملك الإرادة والطموح الخلاّق.
هكذا فرض علينا المنهج العلمي أن نبدأ دائماً بمدخل يحمل الرؤية العامة؛ ثم يمضي إلى الفصل الذي يحمل الرؤية الخاصة القائمة على التحليل والاتساع فـي مناقشة كل قضية بالحجة والبرهان؛ سواء كانت الأدلة نقلية من آراء الباحثين، ومن نصوصه التي خلفها لنا آراء وأدباً... أم كانت أدلة عقلية مستقاة من نُصوصه ذاتها….
ثم إننا ذيَّلنا كل فصل بحواشيه الخاصة به؛ لتستقر الدراسة عند أهم نتائج الدراسة فالمصارد والمراجع، وفهرس المحتوى.
ولعل القارئ الكريم يلحظ شيئاً من التكرار فـي بعض الفصول؛ فيعيبه علينا؛ وتأخذه الغيرة على المنهج العلمي الدقيق... ولكنني أستميحه العذر فـي هذا التكرار لأنه كان موظفاً فـي كل مرة للقضية التي يناقشها؛ مما استدعاه فـي النصوص أو فـي الآراء… لهذا كان التكرار مقصوداً لذاته فيما ينبغي له من المناقشة والبرهان.
ويظل أي عمل غير مكتمل إلا بتعاون العقول الحرة للوصول إلى أفضل سبيل فـي الحوار والمناقشة والانفتاح على الآخر … لأن هذه العقول تنشدُ دائماً صفة الكمال؛ والكمال لله وحده؛ بديع السموات والأرض؛ والعقل البشري مركب على النقص بطبعه، ما دامت الكلمة تتجدد، والثقافة تنمو وترتقي... وليس لنا إلا أن نقول: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ولعلنا نكون قد وفقنا فـي عملنا وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى؛ والله ولي التوفيق.


دمشق الفيحاء / حرسها الله /
مساء الثلاثاء ١٤ / رمضان / ١٤٢٣هـ
الموافق ٢٠ / ١١ / ٢٠٠٢م.
حسين جمعة




محمد علي آذرشب - تقديم الكتاب
ابن المقفع بين حضارتين.
المؤلف: د. حسين علي جمعة.
ا. د. محمد علي آذرشب
استاذ في جامعة طهران

تعليقات

ابن المقفع بين حضارتين
د. حسين علي جمعة


الفصل الأول:
حياته و صفاته اسمه ونسبه


أبو محمد عبد الله بن المُقَفَّع فارسي الأصل والمولد. وكان اسمه رَوْزَبه بن داذَويْه؛ ومعنى (رَوْزَبة): المبارك. وقيل اسمه: داذَوَيه، وكنيته أبو عمرو، وقيل: أبو عمر، والأول أرجح؛ ولما أسلم تسمَّى بعبد الله؛ وتكنى بأبي محمد. وانفرد الزبيدي فـي (التاج) بتسميته داذبة بن داذجِشْنس، وزعم أن ابن المقفع ذكره بكتابه (اليتيمة) [١].

ولادته
لا تعرف سنة ولادته، ولم يحددها أغلب الدارسين بدقة؛ مما أدى إلى اختلافهم فـي شأنها قديماً وحديثاً، وكذلك اختلفوا فـي مكانها؛ فقيل: ولد بالعراق سنة (١٠٦هـ / ٧٢٤م) وقيل: ولد بقرية (جُوْر) إحدى قرى (فيروز آباد) من إيران اليوم سنة (١٠٦ أو ١٠٧هـ) [٢] بينما ذهب بعض المحدثين إلى أنه ولد فـي (جُوْر) على الأغلب فـي عشر التسعين من القرن الهجري الأول. [٣]
وبنى صاحب هذا الرأي حكمه على ظنه بأن ابن المقفع عمل لدواوين عمر بن هُبَيرة؛ ولذا فإن عمره يقارب الستين سنة؛ وهذا يتفق مع ما أنتجه من آثار؛ إذ لا يعقل لديه أن شاباً صغيراً أنتج هذه الآثار العظيمة…. [٤]
والرأي الراجح لدينا أنه لم يعمل لعمر بن هبيرة، والي يزيد بن عبد الملك على فارس وكان هشام بن عبد الملك عزله سنة (١٠٥هـ) وإنما عمل لابنه يزيد والي مروان بن محمد (آخر خلفاء بني أمية) فـي ولايته على كِرْمان سنة (١٢٨هـ) ثم كتب لأخيه داود بن عمر بن هبيرة بعد وفاة يزيد أخيه، علماً أن والدَ ابن المقفع لم يستوطن العراق زمن الحجاج وإنما استعمله الحجاج على بعض دواوين فارس [٥].
ولهذا كله فإن ولادة عبد الله كانت فـي قرية (جُوْر) سنة (١٠٦هـ / ٧٢٤م) لأنه قتل سنة (١٤٢هـ / ٧٥٩م) بعد أن ( (عاش ستاً وثلاثين سنة) ) كما قال ابن خلكان، والجاحظ [٦].

أُسرته
لا يُعْرَف شيء عن أسرته عدا أبيه وابنه محمد؛ فأبوه يسمى (دَاذويه) وقيل: اسمه داذجِشْنِسْ؛ وقيل: المبارك. والمُقَفَّع - (بتشديد الفاء وفتحها) على وزن اسم المفعول - لقب له؛ لأنه كان قد ولي دواوين للخراج فـي إمارة والي «العراق وفارس» الحجّاج بن يوسف الثقفي؛ فسرق مالاً؛ فضُرِب ضَرْباً مبرحاً تقفَّعت يداه منه؛ أي تشنّجت؛ فلُقِّب (المقفّع).
ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إنه لُقِّب (المُقَفِّع) على وزن اسم الفاعل؛ بتشديد الفاء وكسرها - لأنه كان يشتغل بالقفاع؛ جمع (القَفْعة)؛ وهي مثل القُفَّة، وجمعها القِفاف؛ أو هي مثل الزنابيل، ومفردها الزَّبيل، والزنبيل؛ …. ولكن القفعة بغير عروة. [٧]
والراجح أن أباه لم يسلم؛ وبقي مجوسياً مانوياً، ولكنه عُني بتأديب ابنه كما عُني بتعليمه العربية. [٨] أما ابنه محمد فقد ورث مهنة أبيه فـي الكتابة والتأليف؛ ولذا اختلط العديد من المؤلفات بينه وبين أبيه، وليس بصحيح أن اسمه أحمد [٩].

نشأته
كانت (جوْر) القرية الهادئة الجميلة التي يُنْسب إليها الورد الجوري؛ لشهرتها فيه؛ مسقط رأس عبد الله بن المقفع؛ نشأ فـي أحضان ربوعها الغناء، وترعرع فـي كنف أسرة تعتنق المجوسية الموروثة؛ ورأى كل يوم أقرباءه وجيرانه يتعبدون على مذهب (ماني)؛ فألف ذلك بالاعتياد، فاتبع مذهب ماني بن يزيد، هو الآخر.
ولما وجد فيه أبوه علامات الذكاء والنجابة، ورهافة الحس، ولطافة الذوق ورغبة شديدة فـي الإقبال على المعرفة حَرَص على تعليمه صنعة الكتابة التي كان يتقنها ويعمل بها…. ثم دفعه إلى الازدياد من الثقافة، وحفزه على تعلم العربية وإتقانها كالفارسية تماماً لأنها لغة الدولة ودواوينها…. وهي وسيلة الكاتب الناجح إلى الحياة.
من هنا بدأ ابن المقفع مشواره؛ بدأه فـي سن مبكرة، وعيناه لا تريان إلا المعرفة؛ وعقله لا يعشق إلا العلم والثقافة…. فقد تفتحت مواهبه ومشاعره وأفكاره على احترام القدماء وربما تقديسهم…. والإذعان لذوي الجاه والسلطان…. ومن ثم تعمقت خبرته بالحياة العامة والخاصة حين دخل فـي أول شبابه إلى دواوين الولاة فـي فارس، وعمل لدواوين بعض الولاة مثل يزيد بن عمر بن هبيرة فـي كرمان (١٢٨هـ) ولأخيه داود؛ والي البصرة حتى سنة (١٣٢هـ). ويبدو أنه حين كان يعمل لدواوين (داود) التقى بعبد الحميد الكاتب وانعقدت بينهما صداقة عظيمة؛ فقيل: وُجد عبد الحميد فـي بيته فأُخذ فقتل (١٣٢هـ).
وهذا لا يعني أنه استقر بمكان واحد لأنه عمل لوالي نَيْسابور (المسبّح بن الحُوَّاري الخُوَيلدي؛ ثم لواليها سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب الذي سيكون له شأن كبير معه…. ونظن أن عمله لهما كان بعد عمله لداود…. ويبدو أن الحال لم تستقر به؛ ولهذا كاتب عيسى بن علي سنة (١٣٢هـ) ثم انتقل إليه فـي الأهواز.
هكذا كانت الأحداث الجسام فـي حياة ابن المقفع مع تحول الدولة السياسي والفكري من بني أمية إلى بني العباس ذات أثر كبير فـي نمو شخصيته…. فما يشاهده من أحداث مرعبة، وفتن كقطع الليل البهيم، وهو على مقربة من مصادرها جعله شديد الحساسية والحذر من الوقوع فيها…. فلجأ إلى التاريخ ليرى فيه راحته، ويعوض فيه عما يعاني من مرارة النفس…. فاتصل بآثاره وترجم منها ما ترجم، ولكنه فُقد كله.
وحينما انتقل إلى عيسى بن علي ووجد لديه السكينة وراحة البال؛ ولمس منه العقل والحِلْم والمروءة؛ ولم يكرهه على الإسلام أسلم - كما سيتضح لنا بعد قليل - وحين انتقل إلى أخيه سليمان فـي البصرة لم تنقطع صلته بعيسى…. وأخلص لهما معاً، وأقام بها بصحبتهما حتى مصرعه…. علماً ان سليمان وليّ البصرة سنة (١٣٣هـ) وظل فيها حتى عزله المنصور (١٣٩هـ / ٧٥٦م).
وهنا يتساءل المرء: ألم يفكر أن يصبح كاتباً للخليفة؟ بلى، فقد ثبت لدينا من أخباره، ومما كتبه فـي رسالة الصحابة أنه ذهب فـي وفد من فضلاء البصرة إلى دار الخلافة فـي الأنبار فمنعته بطانة أبي العباس، ورجع الوفد كله [١٠]. ويبدو أن هذه الحادثة قد تركت أثرها فـي نفسه.
واستقر الحال لابن المقفع فـي البصرة وكان مولىً لآل الأهتم من بني تميم، وهم من أرباب الفصاحة؛ كما اتصل بأبي الجاموس ثور ابن يزيد الأعرابي المعدود من كبار العربية؛ ومنه شرب البلاغة وفصح لسانه، وأتقن أساليب اللغة؛ وكان ثور يَفد على آل سليمان ابن علي [١١]. وإذا كان ابن المقفع - هو الآخر - لم ينقطع عن آل سليمان وتلقى منهم معارف جمّة فإنه لم ينقطع عن مجالس العلماء فـي البصرة التي كانت موئل العلم والأدب والمعرفة …. وكان أبوه يحثه على طلب المعرفة، وكان يستقدم علماء اللغة إلى بيته…. وبهذا كله لزم البصرة وإن تردد على بعض بلاد العراق، ولم يفارقها لا إلى بلاد الترك ولا إلى غيرها [١٢].
إن القراءة الواعية لحياته ونشأته تؤكد أن ابن المقفع بادر إلى الاتصال برجال الدولة فـي العهد الأموي والعصر العباسي منذ يفاعته ليعمل فـي صناعة الكتابة التي عمل بها أبوه من قبل…. وكان أبوه يحثه على ذلك إلى أن أتيح له المجال للعمل فـي دواوين يزيد بن عمر بن هبيرة فـي كِرْمان ثم نيسابور قبل انتقاله إلى العراق فـي عهد أخيه داود، وفيه التقى عبد الحميد الكاتب.
ولا شك فـي أن ابن المقفع كان شديد التطلع إلى أن يصبح كاتباً معروفاً، وأن تحقيق هذا الهدف يبدأ من دواوين الولاة …. والأمراء…. ومن ثم الخلفاء…. ولكنه كان فـي الوقت نفسه يتوجس الخيفة والحذر من الاتصال بالسلطان؛ لأنه شاهد بأم عينه - وهو ما يزال فـي مقتبل العمر - الفتن الكبرى التي أخذت تعصف بالدولة الإسلامية. فهناك غير والٍ يخلع أو يحبس، أو يقتل؛ ثم يأتي آخر ويرحل، وهكذا دواليك. وهاهي ذي دولة بني أميّة تنتهي ويبزغ فجر دولة جديدة لبني العباس الذين كادوا لأبناء عمومتهم من آل البيت (رضي الله عنهم) وأبعدوهم عن الخلافة. وفـي ذلك كله كان ابن المقفع قريباً من صنّاع أحداثها وما يجري فيها من مؤامرات واغتيالات…. وإبعاد…. ومثالها قصة صديقه عبد الحميد الكاتب.
فقربه من بعض الولاة، وقصة صديقه جعل الصورة عنده أكثر وضوحاً ودقة من غيره؛ فتنحّى عن الخوض فـي مجرياتها، وإن آلمه ما يقع فيها من رعب وخوف وتشريد وسجن وقتل…. وكما يقال: رب ضارة نافعة؛ فهذه الأحداث الكثيرة والمتنوعة زودته بذخيرة عظيمة لمادة مؤلفاته…. كما أنضجت رؤيته السياسية والفكرية حين قدمت له خبرة واسعة بالسلطان وكيفية تفكيره…. فضلاً عن تأثير كتابات عبد الحميد فيه.
لهذا استفزه التاريخ القديم فـي بلاد فارس فوجد فيه ضالته فـي التعبير عما يعاني منه ويقلقه على الصعيد الذاتي والاجتماعي والرسمي…. وشدد على أن تكون ترجماته الأولى مرتبطة بإصلاح الفساد السياسي والاجتماعي….
ولهذا حصر اتصاله فـي عهد الدولة العباسية - وهو العهد الذي نضج فيه فكره؛ وكان عمره نحو [٢٧] عاماً - بأسرة عيسى بن علي ثم أخيه سليمان ومن يتصل بهما، ولم يتطلع يوماً إلى أن يصبح كاتب الخليفة أبي جعفر…. ولهذا لم يغادر البصرة إلى الكوفة إلا فـي مرات قليلة فـي عهد واليها عِمارة بن حمزة (على الأرجح).
ونحن نوافق من يرى أن ابن المقفع لم يفكر لحظة واحدة فـي الاتصال بالخليفة لأسباب كثيرة، يمكن إبراز أعظمها هنا:
١ـ وجود كاتب لدى المنصور كان يدرك قيمة ابن المقفع وهو أبو أيوب المُوْرِياني. فاضطغن عليه، وسعى فـي الكيد له؛ والوشاية به وتشويه سيرته، [١٣] على نحو ما.
٢ـ اضطغان سفيان بن معاوية والي البصرة (١٣٩ـ١٤٥هـ) على ابن المقفع لأنه كان يسخر منه علناً فـي شكله وعلمه….؛ بدافع ذاتي، أو بدافع من عيسى بن علي وأخيه سليمان، بينما كان سفيان أثيراً عند الخليفة أبي جعفر، وكان يعرف حقد سفيان عليه [١٤].
٣ـ سياسة الخلفاء وموقفهم منه: يبدو لنا أن إدارة شؤون الخلافة على الوجه الذي يراه ابن المقفع لم يكن ليقنعه؛ ومن ثم كره المفاسد، والمظالم التي استشرت على أيدي بطانة الخليفة أبي العباس ثم المنصور…. وكان هو من شهد أَخْذَ عبد الحميد الكاتب من بيته إلى السفاح ثم سلمه هذا إلى عبد الجبار…. [١٥]
وتصاعدت حكاية نفوره من الفساد بترجمته لكتاب (كليلة ودمنة) نحو سنة (١٣٢هـ / ٧٥٠م) [١٦] وكان هدفه من وراء هذا الكتاب كشف ما يدور فـي أروقة الخلافة والولايات؛ والسعي إلى إصلاحه …. ثم جاءت مؤلفاته الأخرى (الأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة)؛ لتعزز هذا الاتجاه لديه، وجميعها تجعل من السلطان مادة غنية للمناقشة والحوار….
يبدو أن الخلفاء قد أدركوا الرموز التي تنطوي عليها رسائله؛ وكذلك البطانة التي تعمل عندهم؛ هذه البطانة التي منعته مع وفد البصرة من الدخول إلى أبي العباس؛ كما يذكر هو فـي رسالة الصحابة [١٧] فلم يرغب أحد منهم فـي جعله كاتباً له أو فـي تقريبه من مركز الخلافة…. وهم ما زالوا يحسنون الظن فيه، لأنه يعمل عند عمومتهم؛ عند آل سليمان بن علي بن محمد بن علي….
وكذلك أيقن ابن المقفع بأن الخلفاء لا يميلون إليه، مما جعله ينغمس فـي شؤون ذوي نعمته، ويبتعد عن دار الخلافة…. حتى كان كتاب (الأمان) الذي غدا سبباً مباشراً وقاطعاً لقطع رأسه على وجود الأسباب الأخرى.
وبهذا لم يكن ابتعاد ابن المقفع عن مركز الخلافة لأنه فارسي النزعة؛ أما قتل أبي مسلم الخراساني فهو لسبب سياسي وشخصي عند أبي جعفر المنصور؛ وطالما حرَّض أخاه أبا العباس على قتله؛ ولم يفعل وإن همَّ به ذات مرة. ولما تسنم المنصور الخلافة قتله برومية المدائن سنة (١٣٧هـ) [١٨] وليس كما ذهب إليه بعض المحدثين [١٩]؛ إذ أشرك ابن المقفع مع أبي مسلم الخراساني فـي العداوة للعباسيين خاصة والعرب عامة بسبب فارسيتهما.
٤ـ لم يذكر أحد من القدماء أن ابن المقفع اتصل بالخليفة أو صار كاتباً له. وإذا كان قد ترجم بعض الأعمال، أو وجّه بعضها إلى الخليفة؛ فهذا لا يعني أنه أصبح كاتباً له…. فالرجل لم ينقطع عن سليمان بن علي وأخيه عيسى؛ …. وهذا ما ذكره القدماء، كما ذكروا اتصاله بولاة آخرين، ولو كان كتب للمنصور أو اتصل به؛ لما غفلوا عن ذكره؛ فضلاً عن أنه حاول الاتصال بالسفاح كما قلنا ولم يفلح. ولعل هذه الحادثة رغّبته عن الاتصال بالمنصور…. والخبر الوحيد الذي ذكر اتصاله بالخليفة روي عن صاعد الأندلسي فـي طبقاته؛ ثم تبعه فيه بعض الباحثين بعده، كحاجي خليفة والزركلي وفروخ وغيرهم [٢٠]؛ ونقلوا عنه…. وهو خبر لا يصمد أمام الأخبار الأخرى التي لم تشر إلى ذلك الاتصال.
وهذا كله ينقلنا إلى الحديث عن إسلامه ثم أخلاقه، ثم مصرعه.

إسلامه
دخل ابن المقفع دواوين الدولة الأموية فـي ولاية يزيد بن عمر ابن هبيرة لمروان بن محمد؛ على كِرمان سنة (١٢٨هـ)، ولم تزد سِنّه على اثنتين وعشرين سنة… ولكنه عاصر فتناً عظيمة، ومؤامرات لا حصر لها… فالخيانة يتطاير شررها فـي جنبات الأرض؛ والموت يحيط بالناس من كل اتجاه، ويقعد لهم كل مرصد…. ثم انتهى أمر الدولة الأموية وبزغ فجر دولة بني العباس علي يد أبي العباس السفاح (عبد الله بن محمد بن علي) (١٣٢ـ١٣٦ / ٧٥٠ـ٧٥٦م) …. ولم يكن لابن المقفع إلا الصبر إلى أن جاء عيسى بن علي والياً لابن أخيه أبي العباس على الأهواز سنة (١٣٢هـ) فاتصل به؛ وعمل كاتباً لدواوينه.
ونرى أن عيسى قد أدرك فـي طبع عبد الله بن المقفع الجِدَّ والنشاط والعفة، والذكاء والصدق؛ والإخلاص…. ففيه مُروءة وثقافة وعلم وعقل…. فقرَّبه منه، إذ جعله مؤدباً لبعض بني أخيه إسماعيل.
وهنا نقول: أخذ نجم ابن المقفع يظهر من الأهواز، وعلى يد واليها أخذت حياته تتحول تحولاً جذرياً وسريعاً، وهو لا يزال على ديانته المجوسية، ومذهبه المانوي؛ ولم يكرهه أحد على تغيير مذهبه…. ولكن عقل الرجل كان يبحث منذ وعى الحياة عن معتقد يلبي ما يدور فـي خلده…. لقد بقي سنوات فـي دواوين الدولة، وهي سنوات لم تكن جدباء؛ كما يبدو لنا…. ففيها ربما ترجم العديد من الآثار الفارسية؛ والآثار اليونانية التي نقلت إلى اللغة الفارسية القديمة (الفهلوية) …. ونظن أن هذه الآثار ربما قوّت لديه النزوع للتفتيش عن دين فيه اطمئنانه؛ علماً أنه يرى أمامه الإسلام يمد نوره فـي الآفاق…
لهذا كله؛ عاش حراً فـي اعتقاده، وهو ينظر فـي تعاليم الإسلام؛ ويقرأ القرآن الكريم؛ وسيرة المصطفى…. ويراقب سلوك الخلَّص من أهل الدين…. وكان فـي ذلك كله يتدبَّر شأنه؛ حتى تهيأت نفسه للإسلام. ولما أراد الله سبحانه له الخير جعله يمشي فـي طريق ضيّقة من طرقات الأهواز، فتناهى إلى سمعه وفؤاده صوت مرتفع لصبي صغير يتلو قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً ( (النبأ ٧٨ / ٦ـ٩) فوقف منصتاً حتى أتم الطفل تلاوة السورة؛ فقال فـي نفسه: (الحق أنه ليس هذا بكلام بشر)، ثم ذهب إلى عيسى بن علي، وقال له (قد دخل الإسلام فـي قلبي، وأريد أن أسلم على يدك). فأجابه عيسى: (ليكن ذلك بمحضر من القّواد، ووجوه الناس؛ فإذا كان الغد فاحضر). ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس؛ فقال له عيسى: (أتزمزم وأنت على عَزْم الإسلام؟ ) فقال: (أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده) [٢١] ومن ثم اختص به كاتباً؛ ثم آثر به أخاه سليمان فـي البصرة، ومن ثم انتقل عيسى إلى كنف أخيه فـي البصرة نحو سنة (١٣٥هـ) [٢٢].
هذه هي قصة إسلام الرجل التي توحي أحداثها بصدق إخلاص الرجل لمعتقده، ولم تكن زمزمته موحية بالزندقة والنفاق كما ذهب إليه بعض الباحثين، وإنما دليل صدق الموقف.
ولعل كل من يقرأ سيرة ابن المقفع وما بثه من آراء يدرك أنه أخذ نفسه بالمثال الأرحب للأخلاق والإنسان النبيل؛ إذ أدّبته نفسه مما رأى من تجارب الناس ونطق تقريباً بما قاله المسيح حين قيل له مرة: (من أدَّبك؟ قال: نفسي؛ إذا رأيت من غيري حسناً أتيته، وإن رأيت قبيحاً أبيته) [٢٣].
ولست أُعنى هنا بآرائه إلا فيما يوضح لنا صفاته التي نشأ عليها منذ صغره فإن لم يستطع بلوغ الكمال كان يأخذ بما يوصله إليه، وهو القائل: (أخذ القليل خير من ترك الجميع).
لهذا كان شديداً على نفسه، مراقباً لكل تصرف أو كلمة تخرج منه؛ فجعل عقله رقيباً يقظاً لكل ما يصدر منه… وأراد لذاته أن تكون الصورة التي لا تناقض فيها ولا تشويه… فقد آمن بأن إصلاح المجتمع يبدأ بالفرد؛ وإصلاح الفرد يبدأ بالذات، فهو أجلُّ له وأَوقر؛ ولهذا يقول: (من نصب نفسه للناس إماماً فـي الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها فـي السِّيْرة والطّعْمة والرأي واللفظ والأَخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه…. ومعلم نفسه ومؤدبُّها أحق بالإجلال والتفضيل من مُعلِّم الناس ومؤدبهم) [٢٤].
فتعلقه بالمثل العليا لا يشك أحد فـي أمرها و (هي التي كانت تحمله على فعل الخير لأنه خير، وتجنب الخبث لأنه خبث. وهو إذن ممن كانوا يعبدون الفضيلة لا عبادة العبيد، ولكن عبادة الأحرار). (وكان يصدر فـي كل أفعاله عن فكرة هي من خُلق نفسه ونتيجه من نتائج فلسفته) …. ولكن أن يكون (عقله لا دينه - كائناً ما كان هذا الدين - هو الذي كان يهديه إلى الطريق التي يسلكها فـي معاملة الناس ومواجهة الأشياء…. ليس طمعاً فـي الثواب، …. [و] ليس خوفاً من انتقاد أو عقاب) [٢٥] فهذا ما ينبغي للباحث أن ينظر فيه بإمعان، ويقلبه على وجوهه.
إن حكاية إسلام ابن المقفع تدل على رجاحة عقله؛ وعظمة تمسكه بالفضائل التي رغب فيها، وهي فضائل توافق تعاليم الإسلام ومبادئه… إذ كان مسلماً قبل أن يؤمن بالدين الحنيف. فلما آمن به تابع ما كان عليه وازداد ضَبْط العقل نفسه للنفس بالإيمان السامي قوَّة ومضاءً؛ وصار يملك حافزاً أعظم يسيّره لم يكن يعرفه من قبلُ…. فالتقدير والإجلال فـي الدنيا ينتهي بموت صاحبهما؛ وهذه نظرة فلسفية وجودية لم تكن تقنع ابن المقفع لذلك كان يبحث عن الدين الذي يحقق له كمال الفضيلة؛ لأنه لم يجدها متمثلة فـي المانوية التي ولد عليها…. ولمّا أسلم تحقق له ذلك…. فصار يقرأ قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( (الصف ٦١ / ٢ - ٣).
وبهذا ربط عمله بقوله وكان يرجو فيهما وجه الله وآخرته قبل دنياه لقوله: (أحق ما صان الرجل أمر دينه؛ المغبون من طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ المصيبةُ العظمى الرزيّةُ فـي الدين، طوبى لمن ترك دنياه لآخرته). وهذا القول مستمد من قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسِن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد فـي الأرض؛ إن الله لا يحب المفسدين ( (القصص ٢٨ / ٧٧).
ونرى أن عقله ليس دينه، وإن جعله رقيباً وحارساً على أفعاله؛ والذكي من يفعل هذا؛ لكن الأذكى منه من يربطه بالإيمان السليم ويقتدي بسير النبلاء والأنبياء…. وهو الذي عرف سيرة المصطفى بعد إسلامه وقرأ قوله تعالى: (لقد كان لكم فـي رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً ( (الأحزاب ٣٣ / ٢١) كما قرأ الثقافة العربية وصدر عنها؛ ولا سيما فيما عرفناه من قوله السابق: (مَن نصّب نفسه …. ) إلى آخر القول، وكأني به قد صدر فيه عن أبيات أبي الأسود الدؤلي؛ ومنها [٢٦]:
لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلْتَ عظيمُ
ابدأ بنفسك وانهها عن غيِّها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقْبَل ما وعظت ويقتدى
بالعلم منك وينفع التعليم
ولا ريب فـي أنه كان مؤدباً ومعلماً لأبناء الولاة وأقربائهم وكان عقله ومروءته وشرفه يلزمه بالفضائل…ولكنه أدرك أن أي عمل نبيل يكون فيه صلاح النفس والآخر إذا تجسد فـي إيمان صحيح؛ فهو يُؤْجَر عند ذلك مرتين مرة فـي الدنيا ومرة أخرى فـي الآخرة؛ وهذا ما وجده فـي قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها؛ ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ( (القصص ٢٨ / ٨٤) وقوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء…. ( (الكهف ١٨ / ٩) وقوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ( (الإسراء ١٧ / ٧) وقوله: (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( (آل عمران ٣ / ١٧٢).

إنه بحث عن الدين حتى هيأ له الله الإيمان باستماعه إلى ذلك الصبي الصغير…. فقد اجتمع العقل والذكاء والمروءة…. و…. عند الرجل بتعاليم الإسلام فازداد كمالاً على كمال وهو يقف بين ماضٍ جعل عقله رقيباً عليه، وبين حاضر كان الدين رأس فضائله حتى: لم يبق فـي الإسلام من أهل فارس (شريف يذكر إلا أن يكون عبد الله بن المقفع والفضل بن سهل) مذكوراً فـي جماع الأخلاق [٢٧].
وقال محمد كرد علي فيه: (صحة الإيمان وحب الإسلام صفتان ماثلتان فـي ابن المقفع، مهما تقوّل عليه المتقوّلون…. كان محافظاً على شعائره (وفـي الوقت نفسه) لايحرّم على نفسه الطيبات المحللة؛ فليس فيه جمود الفقهاء، ولا استهتار الأدباء؛ فهمَ من الدين ما فهمه كل عاقل) [٢٨].
ومن صميم هذا الرأي نقول: إن ابن المقفع مثله مثل كثير من البشر؛ يملك نفساً لها نزواتها ووثباتها، فكان يجمع صفات الفضيلة، وصحة الدين، ولا يمتنع من التظرف والمزاح، والاختلاط بغير الفقهاء، وربما اجتمع إلى المغنين والمغنيات، ومجالس الشعر، واستفزه الطرب إلى سماع الألحان والأصوات الشجية، وبذل مالاً وفيراً فـي سبيل ذلك…. وربما تعاطى شيئاً قليلاً من النبيذ الذي حلله آنذاك فقهاء العراق… ولكنه لم يرتكب محرماً؛ وهو القائل [٢٩]:
سأشرب ما شربت على طعامي

ثلاثاً ثم أتركه صحيحا
فلست بقارفٍ منه أثاماً
ولستُ براكبٍ منه قبيحا
ويقول أيضاً: (على العاقل أن لا يكون راغباً إلا فـي إحدى ثلاث خصال: تزوّد لمعادٍ، أو مَرَمَّة لمعاش؛ أو لذة فـي غير محرم) [٣٠] فهو يطلب المتع ما كانت حلالاً، ويمتنع عن كل ما فيه شبهة الحرام عقلاً وديناً فيقول: (لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجده من لذة دنيا، وليس من العقل أن يحرمَه حظَّه من الدنيا بصرُهُ بزوالها). ويقول: (على العاقل ما لم يكن مغلوباً على نفسه ألا يشغَله شَغَلٌ عن أربع ساعات: ساعة يرفع بها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب بها نفسه، وساعة يفضي بها إلى إخوانه؛ وثقاته الذين يَصْدُقونه عن عيوبه، وينصحونه فـي أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحلّ ويجمل. فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر) [٣١]. وهذا مماثل لما ورد فـي الحديث المرفوع: (ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً؛ فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة) [٣٢].

وعلى الرغم من أننا سنتحدث عن اتهامه بالزندقة فإننا نشير فـي هذا المقام إلى هذه الملذات التي يقبل عليها ابن المقفع، وهذا السلوك من طلب الدنيا يخالف كل المخالفة ما كان عليه أهل المانوية. فهم لا يأكلون اللحم، ولا يقبلون على الملذات؛ ويقمعون شهوة النفس فـي الاستماع إلى الألحان والطرب والغناء؛ ويزهدون فـي الدنيا ويتقشفون، ويواصلون صومهم ليلاً ونهاراً؛ ويطوفون فـي البلاد يدعون إلى دينهم…. ويعظمون إبليس لأنه خُلق من نار، ويحرمون دفن الموتى فـي الأرض…. [٣٣]
فأين ابن المقفع من ذلك كله؟ إنه لم يعظّم إبليس، وجعله عاصياً حاسداً بغيضاً متعالياً - وكذلك جاء وصفه فـي القرآن الكريم ـ [٣٤] ومكث عند آل سليمان بن علي فـي البصرة؛ ولم يزهد فـي الدنيا، أو يواصل صومه…. وكان يأكل اللحم؛ ويستمع إلى الطرب واللحن…. ونرجح أنه كان يؤدي فرائض الصلاة لقوله: (فأصل الأمر فـي الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر؛ وتؤدي الفريضة. فالزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه حُرمه هلك؛ ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقّه فـي الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل) [٣٥].
ومن طريف ما حكي عن اجتماعه ببعض المتهمين بالزندقة مثل يحيى بن زياد وصالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل وبشار بن برد، وغيرهم [٣٦] أن أصحاب بشار ذكروا تهاون بشار فـي أمر تأدية الصلاة، ولم يذكروا غيره فقالوا: (كنا إذا حضرت الصلاة نقوم إليها، ويقعد بشار؛ فنجعل حول ثيابه تراباً؛ لننظر: هل يصلي، فنعود؛ والتراب بحاله، ولم يقم إلى الصلاة) [٣٧]. ويبدو أن اجتماعه هذا مع بعض المارقين من الدين والسمر معهم جعل تهمة الزندقة تلتصق به…. وهو بريء منها براءة كل مؤمن هذه الأيام يعاشر أحياناً بعض أناس نزعوا عنهم صبغة الدين، ولكنهم اتّصفوا بالحرية والعدالة.
ولا شيء أدل على تمسكه بدينه من قوله: (ابذل لصديقك دمك ومالك؛ ولمعرفتك رفدك ومحضرتك؛ وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك؛ واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد) [٣٨].
بل إننا نراه فـي كثير مما ترك، فضلاً عن سلوكه يصدر عن مبادئ الدين الحنيف كما فـي قوله: (وعلى العاقل أن يذكر الموت فـي كل يوم وليلة مراراً؛ وذكراً يباشر به القلوب، ويقْدَع الطِّماع؛ فإن كثرة ذكر الموت عصمة من الأَشَر، وأماناً - بإذن الله - من الهلع) [٣٩].
فنحن لن نتوقف عند كلمة (بإذن الله) وما فيها من عمق الدلالة على صحة إسلامه؛ ولكننا نذكّر أنفسنا بالمصدر الذي نهل منه كلامه؛ إنه مستمد من أحاديث المصطفى (ص)؛ كقوله فـي الحديث الصحيح «أكثروا ذكر هاذم اللذّات الموت» و «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت؛ فإنه لم يذكره أحد فـي ضيق من العيش إلا وسّعه عليه، ولا ذكره فـي سَعةٍ إلا ضيّقها عليه»، وكذلك فـي الحديث الحسن: «أكثروا ذكر هاذم اللذَّات، فإنه لا يكون فـي كثير إلا قلّله، ولا فـي كثير إلا أجزله» [٤٠].
ولا يمكن للمرء - فـي مثل هذا المقام - أن يتغافل عن العديد من رسائله التي جعلت المعاني القرآنية عدتها وسندها لفظاً ومعنىً [٤١] وهي - بلا ريب - تؤكد صحة إسلامه؛ ولو كان عقله وحده هو دينه لفعل فيها ما كان يفعله بمؤلفاته التي كتبها قبل إسلامه…. أو تلك التي كتبها فـي بدايته؛ ومن هذه الرسائل ما جاء فـي كتاب تعزية أرسله إلى رجل أُصيب بعزيز له: (أما بعد؛ فإن الآخرة والدنيا بيد الله؛ هو يدبرهما، ويقضي فيهما ما يشاء؛ لا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه. فإن الله خلق الخَلْق بقدرته؛ ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة؛ لئلا يطمع أحد من خلقه فـي خُلْدِ الدنيا؛ ووَقَّت لكل شيء ميقاتَ أجَلٍ؛ لا يستأخرون عنه ساعة، ولا يستقدمون. فليس أَحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت؛ لا يرجو أن يخلصه من ذلك أحد. نسأل الله خير المُنْقلب) [٤٢].
لو أراد أي منا أن يعيد هذا الكلام إلى مصدره الإلهي [٤٣] لما عجز؛ ويمكن له أن يعرض كلامه كله على آي الذكر الحكيم، فـي أي معجم من المعاجم المفهرسة لألفاظ القرآن.
وبناء على ذلك كله فإننا نعتقد مع من يعتقد بصحة إسلامه؛ وصدقه فيه، وإن لم تكن منزلته فـي فقه الدين بمنزلة فقهاء الإسلام؛ لأنه لم يعش على الإسلام إلا تسع سنوات…. وفـي هذه السنوات جهد أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة؛ فاتصف بشيء من الإقبال على الدنيا من دون أن يرتكب محرماً؛ فاتهم برقة الدين. ولما اجتمع ببعض الأدباء والمستهترين؛ وكان له من الآثار المترجمة ما كان اتهم بالزندقة؛ ولما دخل دواوين الولاة وُصِم بأن إسلامه كان لغرض دنيوي ولم ينزع عصبيته عن مذهبه المانوي القديم، ولا تعصبه لفارسيته عند من زعم ذلك [٤٤].
وختام الأمر - هنا - نقول: أقدم ابن المقفع على ترجمة الآثار القديمة الهندية والفارسية واليونانية من لغته الفهلوية فـي أول شبابه؛ لأنه آمن بأن الشجرة الطيبة هي التي تطرح ثمرها للناس؛ وحين أخذ نفسه بالخلق النبيل السامي التزم بعد إسلامه بتعاليم الدين الحنيف…. ودل كل ما تركه على عقل ناضج؛ وحكمة بالغة؛ ولم يخرج فيه عن مبادئ الإسلام.
أما أعداؤه؛ وحساده فـي عصره فقد رموه بالزندقة؛ ثم تعاورت أقلام الدارسين بعده على نقل هذا الاتهام، فضلاً عن القراءات الخاطئة لآثاره وأقواله فارتبطت التهمة به؛ حتى ماانفك أحد يتحدث عنها، وكأنه ما حفظ عنه غيرُها؛ وما أسهلَ أن يرمي إنسان إنساناً بهذه التهمة ليتخلص منه فـي ذلك الزمان…. ولذا نصيح: ما أكثر الزنادقة…. اليوم؛ إذا قيسوا بذلك المقياس.
وبناء على ما سبق لابد من الحديث عن أخلاقه وصفاته؛ وهي تقوي الميل إلى عدم زندقته؛ وتعزز نفيها عنه؛ …. وهذا ما سنركز فيه القول حين نتحدث عن زندقته فـي فصل لاحق، بعد أن نجلو صفاته وآثاره لتكون بين أيدينا دليلاً على براءته منها.

أخلاقه وصفاته
لعل ما تقدم بين أيدينا قد دلَّ على جملة من أخلاق ابن المقفع وصفاته، فضلاً عما ترشدنا إليه مؤلفاته…. فقد أخذ نفسه بالفضيلة والمروءة؛ ولم يخرج عن مفهوم الخلق السامي، وتعاليم الدين الحنيف إلا مرة واحدة مع سفيان بن معاوية…. إذ كان يتهكم به ويسخر من شكله وعلمه…. ولا نعرف السبب وراء هذا…. إلا أن يكون قد عرف عنه فرية عظيمة…. ولهذا كان لا ينبس ببنت شفة؛ وهو والٍ للبصرة؛ وابن المقفع يعبث به على رؤوس الأشهاد…. [٤٥]
هذا ما نراه فـي سلوك ابن المقفع الفريد مع هذا الرجل، ولكنه سلوك لا يليق بالأخلاق التي اتصف بها، واجتمعت له وقلَّ أن تجتمع فـي غيره.
فهو صادق صدوق مقدّر للصداقة حق قدرها؛ وفـي ودود، محب للناس جميعاً؛ عفيف النفس طيب المعشر، مجد مثابر لا يمل، وصبور لا يقنط؛ ومتفائل مستبشر لا ييأس…. شغوف بالمعرفة؛ مقدر لأهل العلم، موقر لشأنهم…. كاره للجهل والكذب والغدر والخيانة، والشر والحسد، والمراءة والنفاق؛ والغش والتدليس والسرقة…. ينفر من الحريص ويذم البخيل، ويهفو إلى الكريم، ويسعى إلى الإصلاح ويعمل له …. فيبذل ماله ونفسه من أجل ذلك…. يحب المؤمن وتزداد منزلته إذا اتسم بتلك الفضائل…. ولكنه يتذمر منه ويتحسر له إن افتقدها…. ولما خلق الله الإنسان وكرمه جعله حُرَّاً؛ - والحر من يتحلّى بالفضيلة والخلق ولو لم يكن على دين…. لهذا يبجله ويعاشره - . إذا وعد وفى؛ وإذا حدَّث صدق، وإذا أؤتمن حافظ على أمانته…. يعين المحتاج ويقدم له من ماله…. ما يفك ضائقته. وهو القائل فـي الكرم: (واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما فـي يديه، وسخاوته عما فـي أيدي الناس) [٤٦].
ولهذا كله فلسنا نوافق بعض الباحثين الذين ذهبوا إلى أن ابن المقفع كان يتهكم بالعرب وأمرائها، فقصة ابن المقفع مع سفيان فريدة؛ بينما عشرته للعديد من الأمراء العرب تنقض ما زعموه عليه. ومن ثم جعلوا رسالة الصحابة نمطاً آخر من الطعن فـي قوانين العرب وأمرائها والسخرية من ولاتها [٤٧] ثم غالى الدكتور عبد اللطيف حمزة [٤٨] فـي اتهام ابن المقفع بالتهكم والسخرية من العرب جميعاً فـي الخبر الذي رواه ابن عبد ربه فـي (العقد الفريد)؛ ثم رواه أيضاً أبو حيان التوحيدي فـي (الإمتاع والمؤانسة) [٤٩] وكلاهما أورد الخبر تحت عنوان متشابه يتحدث عن (فضائل العرب) …. صحيح أن كثيراً من لغة رواية الخبر قد تغيرت لكنها لم تتناقض…. فما ندري كيف اتفق للدكتور حمزة تفسيره له على أنه يسخر فيه من العرب …‍‍!!؟ وكأنه بفعله هذا يستجهل علمين من أعلام التاريخ والأدب والفكر عند العرب…. لأنه وحده القادر على قراءة ما وراء الكلمات، وقراءته - وحدها - اهتدت إلى أن ابن المقفع يسخر من العرب…. أمَّا ابن عبد ربه والتوحيدي فلم يعرفا القراءة الباطنية للخبر…. إنه لأمر أعجب من العجب…!! فابن المقفع حين يعرض لصفات الأجناس إنما يضع كل جنس من البشر فـي الموضع الذي اتص
ف به فـي التاريخ؛ ثم يوضح أثر القرآن فـي العرب خاصة، وما قدمه لهم من خير عميم، حين خصّهم بالدين الحنيف، ونقلهم بوساطته ليصبحوا سادة الدنيا بعد أن كانوا منعزلين فـي باديتهم.
وبهذا كله يقف مرة أخرى بين حضارتين قديمة زائلة وجديدة ناهضة لا ينسى ما للأولى وما يمكن أن تفيده؛ ولا يتهكم من جنس الثانية أو يسخر؛ بل هو أميل إلى الثناء على هؤلاء البدو الذين لم يكونوا شيئاً مذكوراً فإذا بهم يقودون الدنيا وتنقاد لهم. وهذا لا يعني أنه يتعصب للعرب - أكثر مما هو عليه الجاحظ مثلاً - كما ذهب إليه كرد علي [٥٠]. وإنما موقفه موقف الرجل العاقل المنصف الذي يعطي ما لقيصر لقيصر، ومالله لله. وليتضح لنا ذلك كله نثبت نص الخبر بتمامه؛ فقد روى (ابو العيناء الهاشمي عن القَحْذَمي عن شبيب بن شيبة قال: كنا وقوفاً بالمِرْبَد - وكان المربد مألف الأشراف - إذ أقبل ابن المقفع فبششنا به؛ وبدأناه بالسلام؛ فردَّ علينا السلام؛ ثم قال: لو ملتم إلى دار نَيْروز؛ (٥١) وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب، فعَوَّدتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابَّكم من جهد الثقل، فإن الذي تطلبونه لن تُفاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه. فقبلنا وملنا، فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إلى بعض، فقلنا: لعله أراد أصله فارس، قلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيراً من الأرض، ووجدوا عظيماً من الملك؛ وغلبو
ا على كثير من الخَلْق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم بنفوسهم؛ قلنا: فالروم، قال: أصحاب صنعة؛ قلنا: فالصين، قال: أصحاب طُرْفة؛ قلنا: الهند، قال: أصحاب فلسفة؛ قلنا: فالسودان، قال: شَرُّ خلق الله؛ قلنا: الترك، قال: كلاب ضالّة؛ قلنا: الخزر، قال: بَقَرٌ سائمة؛ قلنا: فقل؛ قال: العرب.
قال (أي شبيب): فضحكنا. قال (أي ابن المقفع) أَمَا إنّي ما أردت موافقتكم؛ ولكن إذا فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مُثِّل لها، ولا آثارٍ أُثِرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شَعَر وأَدَم؛ يجود أحدهم بقُوْته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك فـي ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوةً، ويفعله فيصير حجَّةً، ويُحسّن ما شاء فيحسُن ويُقبِّح ما شاء فيقبُح، أدَّبتهم أَنفُسهم، ورفعتهم هممُهم، وأَعْلتهم قلوبهم وألسنتُهم، فلم يزل حِبَاء الله فيهم وحباؤهم فـي أنفسهم حتى رفع الله لهم الفخر؛ وبلغ بهم أَشرف الذكر، ختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم. فقال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( (الأعراف ٧ / ١٢٨) فمن وضع حقهم خَسِر، ومن أنكر فضلهم خُصِم، ودَفْع الحق باللسان أكبت للجنان) (٥٢).
ونحن نترك العنوان الذي ورد تحته الخبر عند ابن عبد ربه (اليتيمة فـي النَّسب وفضائل العرب)، كما نترك تأثر ابن المفقع بأسلوب القرآن ومعانيه؛ كقوله: (ومهما قضى الله …. ) فهو مستمد من آيات كثيرة كقوله تعالى: (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ( (البقرة ٢ / ١١٧)، وكذلك نترك استشهاده بآية من القرآن الكريم ونتوقف لنتأمل قوله فـي الفرس والعرب…. وقد دل فيه على إنصاف لافت للنظر لكل من الجنسين، فالفرس سيطروا على أراض كثيرة قبل الإسلام وأخضعوا شعوباً عديدة لسلطانهم، ولبثوا فـي ذلك زمنا يسوسون الخلق بأنظمة عملية…. لكنهم لم يتركوا وراءهم آثاراً أدبية فلسفية تقارن مثلاً بفلسفة الهند التي عرفتها فارس وعرفت شيئاً منها فـي (كليلة ودمنة) …. وإن كانت فارس معروفة بالسياسة والحكم والعمارة والحياة المدنية التي نقلتها إلى غيرها من الأمم.
فهو يتحدث بوعي عن تاريخ فارس فـي عهد ملوكها القدامى، وأعظم ما لديها من الآثار المكتوبة تعود إلى فترة ما قبل الإسلام. ولهذا يريد ابن عبد ربه قبل التوحيدي أن يبين على لسان ابن المقفع أن الفرس لم يبنوا البناء على البناء على وجود تتابع الحضارة فيهم، أما العرب فهم لديه أمة متبدية - وهذا لا مراء فيه - وحظهم من الحضارة لا يكاد يرى إلا فـي الكلمة الأدبية وبجملة من القيم والعادات التي كانت بمقتضى حياتهم…. ولعل أهم ما يميزهم صفاء عقولهم وحدّة قريحتهم فـي تلك البادية المترامية الأطراف التي عززت لديهم علو الهمة، والتمسك بالحرية…. وعلى الرغم من ذلك أنتجوا حضارة؛ وهي حضارة لم تكن نتيجة اتصالهم بشعوب أخرى، ولم يكن لها مثال سابق…. وهذا ما يدل على أفضليتهم، ومن ثم إخلاصهم بحمل دين الإسلام؛ فانتقلوا من حال التشتت والتخلف والانعزال والضعف…. إلى الوحدة والتقدم والاتصال بالدنيا فصاروا سادة لها….
إننا نستشعر بذلك قدرة ابن المقفع على وعي التاريخ واستيعابه ودقة تحليله له؛ من دون أن ينكر على أحد من الناس ما له وما عليه…. حكم فأنصف / وما أقلَّ النَّصَفة هذه الأيام - وهو الفارسي الأصل. فحين يقر بالفضل للعرب إنّما ينفـي عنه الشعوبية ولا يثبتها عليه. وسيتضح لنا أن ابن المقفع أديب ألمعي مبتدع؛ وكاتب ماهر مثقف خبر الكتابة وأدواتها؛ ومترجم أدرك قيمة التاريخ ومعطياته فنقله إلى حاضره؛ وخطيب شاعر؛ وإن لم يكن له حظ كبير فيهما؛ فهو كما أجاب حين سئل عن عدم إكثاره من الشعر: (لأن الذي أرتضيه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرتضيه) (٥٣) كما قال: (أنا المِسنّ أسن الحديد ولا أقطع) (٥٤). وهو مؤلف مبدع للأساليب مخترع للسير والمعاني؛ ومعلِّم مؤدب بليغ؛ عمدته العقل، ومنهجه الاستقامة…. سعى إلى بلوغ الفضيلة فوصل إلى ارفع درجاتها؛ أخلص فـي انتمائه لأصوله وحافظ عليها؛ ومن ثم عزز الإسلام روح التطلع إلى هوية جديدة لا تنكر القديم ولكنها ليست من نوعه….
لقد شب وفؤاده يستفزه إلى كل معرفة؛ وروحه تسمو إلى كل خلق؛ ويتطلع إلى المستقبل بتفاؤل وثبات …. لا يوهن من عزيمته حسد حاسد؛ ولا كيد والٍ؛ ولا اضطغان كبير أو صغير. ولهذا كله يقول: (من حاول الأمور احتاج فيها إلى ستٍ: العلم والتوفيق، والفرصة، والأعوان، والأدب، والاجتهاد) (٥٥).
وقال: (لا تجد العاقل يحدّث من يخاف تكذيبه؛ ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يَعِد بما لا يجد إنجازه، ولا يرجو ما يعنَّف برجائه، ولا يقدُم على من يخاف العجز عنه) (٥٦)
فالعاقل هو المؤمن الحقيقي بالخُلُق، ومن كان له خُلُق فهو ذو مروءة. ويؤكده جواب الرسول (ص) لرجل من مجاشع على سؤاله: ألست أفضل قومي؟ (فقال: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك خُلُق فلك مروءة…. وإن كان لك تقى فلك دين) (٥٧).
فأي رجل إن لم يكن متديناً، فليكن حراً ذا مروءة، وهذا ما نراه فـي مقولة لابن المقفع فـي بعض شروط الصديق: (إذا نظرت فـي حال من ترتئيه لإخائك فليكن حراً ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير) (٥٨). لهذا كان يذم الحريص الغافل، والحسود المبغض؛ ويكرههما كراهة تدل على عقل واعٍ؛ وتدين قويم لقوله: (الحرص والحسد بِكْر الذنوب؛ وأصل المهالك. فأما الحسد فأهلك إبليس؛ وأما الحرص فأخرج آدم من الجنة) (٥٩).
فهو يفضل الصديق بأن يكون متديناً حراً شريفاً، وهذا أنبل ما يراه، وإن لم يكن متديناً، فليكن حراً شريفاً؛ أما إذا كان متديناً وفقد صفات المروءة فلاحاجة للإنسان به… وإن فُرض علىالمؤمن الشريف أن يخالط بعض المستهترين أحياناً - كما حدث له، وكما يحدث لنا فـي أيامنا هذه - فليتمسك بخلقه وعقله من دون الإساءة لهم.
فابن المقفع مثل للوفاء والإخلاص والتضحية بالنفس والمال من أجل صديقه؛ وقصته مع عبد الحميد الكاتب - مثلا - تؤكد ذلك. فقد روي أن عبد الحميد طلب من بني العباس، فاستخفى فعُثر عليه عند (ابن المقفع - وكان صديقاً له - ففاجأهما الطلب، وهما فـي بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: أنا، خوفاً من أن ينال صاحبه مكروه؛ وخاف عبد الحميد من أن يسرعوا إلى ابن المقفع؛ فقال: ترفقوا بنا؛ فإن كلاً منا له علامات…. ففعلوا؛ وأُخذ عبد الحميد) (٦٠)
إنه قدَّم روحه فـي سبيل صديقه، آواه إليه؛ ودفع نفسه للتهمة قرباناً له…. ومن كانت هذه صفته فإن حاله أهون عنده ليبذله فـي سبيل المحتاجين إليه…. أصدقاء وغير ذلك.
وروى ابن قتيبة أن ابن المقفع كان له جار ركبه دَيْن، فرغب فـي بيع داره لسداد دينه، فقال: (ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها مُعْدماً، وبت واجداً، فحمل إليه ثمن الدار وقال: لا تَبع) (٦١).
وذكر الجهشياري قصّة أخرى له مع عمارة بن حمزة؛ ثم قال فيه: (وكان سرياً سخياً، يطعم الطعام؛ ويتسع على كل من احتاج إليه. وكان قد أفاد من الكتابة لداود بن عمر مالاً؛ فكان يجري على جماعة من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين الخمس مئة إلى الألفين فـي كل شهر) (٦٢).
فالرجل يتعهد ذوي الحاجات، ويواسيهم بماله، ونفسه؛ مما يدل على سماحة خلقه؛ وهو القائل: (أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وُصْله وسبيلاً) (٦٣). فالعقل يزيد العاقل بصراً، ويزيد الخفافيش سوء بصر…. بل إن اجتماع عقل ابن المقفع مع خلق رفيع؛ ورهافة حس، يشي - دون شك - بأن حذره لم يكن تقيَّة أو نفاقاً؛ كما ادعاه عليه بعض الباحثين (٦٤)؛ وهو القائل: (الكريم يمنح الرجل مودته عن لُقْية واحدةٍ أو معرفة يوم؛ واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة) (٦٥)؛ و (لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل؛ كالمريض الذي قد علم دواء نفسه؛ فإذا هو لم يتداوَ به لم يُغْنِه علمه) (٦٦) فشدة حذره من السلطان ناتج عن حلم سديد، وتجربة واعية بشؤون السياسة؛ فهو الذي كابد فتن الولاة، ورأى أحداثاً عظيمة تجري بين ظهرانيه.
ولو أعاد المرء النظر فـي كتاب الأمان لاستيقن بما طبع عليه من فضائل؛ فهو صادق مخلص؛ محض مودته وإخاءه لذوي نعمته؛ فكان وفياً شريفاً ولم يخذلهم حين احتاجوا إليه. لهذا وضع كل حذقه فـي الكتابة؛ وبلاغته بمعرفة العربية وأساليبها؛ ودل على فهم عميق بنفس أبي جعفر المنصور؛ لأنه استشعر منه البطش والغدر بعبد الله بن علي؛ فأحكم كل منفذ عليه (٦٧)؛ وهو يعلم أنه يضع دمه بين حروف كلماته…. وهو الذي قدّم نفسه - من قبلُ - قرباناً لصديقه عبد الحميد الكاتب.
ودل فـي هذا الكتاب وغيره على أنه بليغ فصيح وكاتب مبدع، يضع كلامه فـي الموضع الدقيق له؛ وعالم فطن لأبعاد ما يرمي إليه كلامه، …. حتى صار مضرب المثل ببلاغته كما نجد فـي شعر لأبي تمام يذكره مع غيره من البلغاء؛ فـي مدحه للحسن بن وهب (٦٨):
فكأن قِسّاً فـي عكاظ يخطب

وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكُثَيِّر عزة يوم بَيْنٍ ينسُب
وابن المقفع فـي اليتيمة يُسهبُ
وشهد له الأصمعي اللغوي المعروف (ت ٢١٦هـ) بفصاحته فقال: (قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً إلا قوله: العلم أكثر من أن يحاط بالكل منه فاحفظوا البعض) (٦٩)، وكان الصواب أن يقول: (كله) و (بعضه) بغير (أل) …. كما سعى الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠ هـ) إلى مجالسته، ولما سئل عن نتيجة مجالسته له: (كيف رأيت صاحبك؟ فقال: ماشئت من علم وأدب إلا أن عقله وعلمه أكثر) (٧٠). وقد حرفت رواية الخبر نتيجة النسخ أو رواية الرواة فكان الجواب (ما رأيت مثله، وعلمه أكثر من عقله) (٧١)، وقد صدق كل منهما فـي وصف الآخر، ووقع بذكائه على أهم ما يتصف به.

ومن ثم قال ابن سلام: (سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان من العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع) (٧٢).
وكذلك كان مثار إعجاب كثير من القدماء والمحدثين؛ استشهدوا بآرائه (٧٣) وأثنوا على أخلاقه وذكائه وعفته وقناعته فـي المأكل والملبس والمشرب، وكرمه الفياض، فكان (جواداً فارساً جميلاً) كما قال الجاحظ (٧٤). وقال محمد كرد علي فيه:
كان (رجل نجدة وأنفة وكرم أخلاق ومروءة ووفاء وحسن عشرة. وكان ربّ جد وعمل، لا يستند فـي أموره (إلى) الخيال، وجل اعتماده على عقله وتجاربه وتجارب من سلف من حكماء الأمم. كان محافظاً على شعائره، لا يحرم على نفسه الطيبات المحللة؛ فليس فيه جمود الفقهاء، ولا استهتار الأدباء، فَهِم من الدين ما فهمه كل عاقل) (٧٥).
ولهذا كله نعجب للجاحظ كيف اتهمه بالجهل بعد أن أثنى عليه، فقال: (وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خُلَّص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر فـي آخر رسالته الهاشمية فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم…. وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بَعُد فيه) (٧٦). ثم استجهله معتزليٌّ آخر هو أبو بكر الأصم، فقال: (ولقد رأيت ابن المقفع هذا فـي غزارة علمه وكثرة روايته كما قال الله تعالى: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً ( (الجمعة ٦٢ / ٥) قد أوهن علمه وأذهله حلمه، وأعمته حكمته وحيَّرته بصيرته) (٧٧). ولعل هذا الحكم يحدونا - من جديد - إلى تذكر مجالسة الخليل لابن المقفع؛ إذا قال الأول فـي الثاني: (علمه أكثر من عقله) بينما قال الثاني فـي الأول: (عقله أكثر من علمه) (٧٨)، وشتان بين الحكمين.
وبذلك كله يتضح لنا أمران اثنان فـي الانتقاص من عبد الله بن المقفع وهما:
١ـ كان ابن المقفع يجهل علم الكلام الذي يتقنه المعتزلة، وإن أقروا له بغزارة العلم وجيد المعارف، وكثرة الرواية…. ولكنه فـي هذا العلم ليس حجة. ثم اتهم بالجهل وقلة تدبر أمره فقال البغدادي: (وجهل ابن المقفع أداه إلى أن كتب أماناً…. فقتله) (٧٩).
٢ـ غلب على علمه ومؤلفاته منهج الجمع والتصنيف؛ فليس له من الفضل إلا أنه نقل ما لدى القدماء من الفرس والهنود وربما غيرهم…. ولهذا ظهر علمه أكثر من عقله، فلو كان يملك - فـي رأيهم - العقل الراجح لسخر علمه فـي إنقاذ نفسه.
وفـي ضوء ذلك نقول: على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك المنى؛ وإذا نقصت معارفه من علم الكلام؛ فهذا ليس بضائره، ولا يقوَّم به حدّ المعرفة؛ فـي زمانه؛ فضلاً عن أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ الكمال وإن نشده طوال حياته…. فالكمال لله وحده، والإنسان مركب على النقص؛ ومن ادعى أنه قد علم فقد جهل. وهو القائل: (العلم أكبر من أن يحاط بالكل فخذوا البعض) …. إذا أهملنا صغر سن ابن المقفع، وأن الجاحظ نفسه قدَّمه فـي (بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السِّيَر…. وعدَّه من المعلمين ثم من البلغاء المؤدبين) (٨٠).
وأخيراً نرجح بأن ابن المقفع ليس مجرد جامع أو مصنف لآثار الفرس وغيرهم؛ ولكنه أخذ نفسه فيما يراه من الواقع السياسي والاجتماعي والفكري - وهو لم يكن قد أسلم - بأن يرجع إلى التاريخ…. فيفيد منه…. ويحاور أهله ويستمع إليهم فـي ضروب من الأخلاق ولطائف الأمور…. فترجم بعض تلك الآثار وما نُقل إليها من الهندية على السواء، مما هو مكتوب باللغة الفارسية؛ وطبع ذلك بطابعه الشخصي وثقافته العربية، وساقه من أجل هدف إصلاحي ليس غير.
وما الذي يضير هذا الشاب وهو فـي مقتبل العمر أن يعمد إلى مايعرفه من ثقافات؛ ويجعلها مركز اهتمامه، وهو ما يزال لا يعرف غيْرها؟ ! إنه ينهل منها آراءً سياسية واجتماعية وفكرية؛ ويستشف أنظمة وقوانين يراها مفيدة لأبناء عصره؛ شأنه شأن المبدعين والمفكرين المخلصين هذه الأيام…. فابن المقفع وجد نفسه أنه يقف بين حضارتين ولا يملك إلا قلمه وعقله فتوجه إلى ثقافته القديمة لينهل من معينها ما يفيد واقعه، ولكنه كان مبدعاً حين مزج بين ما هو قديم وما هو جديد؛ فقدّم لنا المثال الحيوي على المزج الحضاري مبكراً. ثم تراه من بعد إسلامه وإتقانه للغة العربية يضع مؤلفات تدل على إبداع من نوع جديد؛ كما هو عليه رسالة الصحابة…. والأدب الكبير والأدب الصغير…. ثم لا يحيد فـي منهجه عن منهج عبد الحميد الكاتب فـي رسالته إلى ولي العهد (٨١). وبذلك كله نرى أنه إذا كانت كل صناعته تحتاج إلى ذكاء فإن الكتابة تحتاج إلى ذكائين: (جمع المعاني والحروف بالقلم) (٨٢).

مصرعه:
جاء على رأس دولة بني العباس رجلان شديدان حازمان هما أبو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر المنصور، فبطشا بأقرب المقربين إليهما إن لم يرَ رأيهما، وقد عاين ابن المقفع ذلك عن كثب لأنه كان كاتباً لعيسى بن علي عم أبي العباس، كما أشرنا إليه من قبل…. إذ عاش فـي مرحلة زمنية عصيبة من حياة الأمة الإسلامية. ولما نأى بجنبه عن كل ما يجري… ابتعد عن مركز الخلافة وأبي جعفر المنصور؛ ولكنه دخل فـي نهاية المطاف فـي أتون خلافاتها فدفع رأسه ثمناً لذلك، ووقع المحذور الذي كان يخشى منه، فانطبقت عليه مقولة: (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه)؛ فهو قد وقع فيه فعْلاً…. ولم ينجه عقله ولا حذره من قدره….
بل لنقل: إنه أحد أولئك الذين قتلهم علمهم وإتقانهم للمعرفة وصنعة الكتّاب؛ ومن العلم ما قتل… فابن المقفع الذي تعهده أبوه بالرعاية، وعلمه صناعة الكتابة، فتثقف الثقافة الفارسية والثقافة العربية على السواء حتى وصل فيهما إلى درجة أقرب إلى الكمال كان حسن صنعه فـي إحكام كتاب الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي نحو سنة (١٣٩هـ) بدافع من أخيه عيسى السبب الأعظم الذي أدى إلى مقتل ابن المقفع. وكان الذين شقَّ على أبي جعفر ما جاء فـي أسفل الكتاب؛ ليوقع بخطه عليه؛ وهو: (وإن أنا نلت من عبد الله بن علي أو أحد ممن أقدمه معه بصغير من المكروه أو كبير؛ أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً له؛ سرّاً أو علانية؛ على الوجوه والأسباب كلها، تصريحاً أو كناية؛ أو بحيلة من الحيل؛ فأنا نَفـي من محمد بن علي بن عبد الله ومولود لغير رشدة. وقد حلَّ لجميع أمة محمد خلعي وحربي والبراءة مني، ولا بيعة لي فـي رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمّة. وقد وجب عليهم الخروج من طاعتي، وإعانة من ناوأني من جميع الخلق، ولا موالاة بيني وبين أحد من المسلمين، وهو متبرئ من الحول والقوة؛ ومُدّعٍ إن كان أنه كافر بجميع الأديان، ولقي ربه على غير دين ولا شريعة، محرم المأكل والمشرب والمناكح والمركب والرِق والملك والملبس على الوجوه والأسباب كلها، وكتبت بخطي ولا نية لي سواه؛ ولا يقبل الله مني إلا إياه والوفاء به) (٨٣).
هذا جزء مما ينبغي أن يوقّع عليه الخليفة من كتاب الأمان؛ فهو مكتوب بلغة بالغة الدقة، وفيها كثير من الإثارة؛ فضلاً عن أنه لم يمكنه من التأويل كي يفتك بعبد الله ولو كان عمه؛ لأنه خرج عليه فـي الشام؛ …. ولم يبايعه إلا فـي سنة (١٣٨هـ) بعد أن فرَّ فـي البلاد، ثم استطاع الدخول إلى البصرة وكان واليها للمنصور - آنئذ - عمه سليمان بن علي الذي سعى جاهداً مع أخيه عيسى لأخذ الأمان لأخيهما عبد الله. ولمّا وعدهما أبو جعفر بالأمان أحفظه فعلهما، واضطغن على ابن المقفع، ثم عزل سليمان سنة (١٣٩هـ / ٧٥٦م) وولَّى مكانه سفيان بن معاوية (١٣٩ـ١٤٥هـ) ثم أمره بقتل ابن المقفع سنة (١٤٢هـ / ٧٥٩م). أما كيفية مقتله فسنوضحها بعد أن نشير إلى بعض الأسباب الأخرى التي تراكمت سنة بعد سنة حتى إذا حان قدره كتب ذلك الكتاب بأمر من عيسى بن علي.
فسبب مقتل ابن المقفع سبب سياسي شخصي يكمن وراءه ما اختزنه ابن المقفع من مهارة ومعرفة؛ فلم يترك للمنصور منفذاً ينفذ منه إلى قتل عبد الله بن علي.
لهذا حبس الخليفة عبد الله بن علي سنة (١٤٠هـ) ثم قتل فـي السجن فيما بعد سنة (١٤٩هـ) بأمر من المنصور؛ وكان عبد الله قد أغرى بإخوته وابن المقفع، ففطن له وقتل وهدم البيت على صاحبه، (٨٤) كما يقول الجاحظ.
فالكتاب - فـي اعتقادنا السبب الأول والأخير فـي قتل ابن المقفع، أما الدواعي الأخرى فكانت بمنزلة المقدمات لمصرعه، وذلك ما ذكره البغدادي قبل قليل. وليس من أحد يشك فـي أن ابن المقفع نال شهرة عظيمة فـي التأليف والترجمة؛ ومهر بصناعة الكتابة فـي الدواوين…. وقد جّرَّ عليه هذا كله حسد الحاسدين وكيد الكائدين ومنهم أبو أيوب المورياني كاتب الخليفة كما عرضنا له من قبل.
أما السبب الآخر فهو حقد سفيان بن معاوية المهلبي على ابن المقفع؛ وكراهيته الشديدة له… ولم تذكر الأخبار القديمة سبباً للعداوة بينهما، علماً أن أول اتصال وقع لابن المقفع به كان يوم ولايته على نيسابور… ومن بعدُ صار والياً للمنصور على البصرة؛ ولكنها روت أن ابن المقفع كان (يعبث بسفيان…. وينال من أمه، ولا يسميه إلا بابن المغتلمة، وكثر ذلك منه). واستمر يستخف به (كثيراً، وكان أنف سفيان كبيراً، فكان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، يعني نفسه وأنفه. وقال له يوماً: ما تقول فـي شخص مات وخلَّف زوجاً وزوجة؟ يسخر به على رؤوس الناس. وقال سفيان يوماً: ما ندمت على سكوت قط؛ فقال ابن المقفع: الخُرْس زين لك، فكيف تندم عليه؟ !!. وكان سفيان يقول: والله لأقطعَنَّه إرْباً إرْباً، وعينه تنظر. وعزم على أن يغتاله؛ فجاءه كتاب المنصور بقتله).
وكان من أمر ابن المقفع قبل مقتله أن عيسى بن علي طلب إليه أن يذهب بأمر أخيه عبد الله إلى سفيان فأجابه بقوله: ابعث إليه غيري؛ فإني أخاف منه. فقال: اذهب فأنت فـي أماني) (٨٥). ثم ذهب فرأى عزم سفيان على قتله؛ فقال يتهكم به: (والله إنك لتقتلني فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قتل مائة مثلك ما وفوا بواحد؛ ثم أنشد شعراً (٨٦):
إذا ما مات مثلي مات شخص

يموت بموته خَلْق كثير
ذ
وأنت تموت وحدك ليس يدري

بموتك لا الصغير ولا الكبير
ثم أمر بتَنُّور فسُجِّر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواً؛ وهو يلقيها فـي التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده؛ ثم أطبق عليه التنور، وقال: ليس عليَّ فـي المُثْلة بك حَرَج لأنك زنديق وقد أفسدت الناس) (٨٧).

هذه هي أشهر رواية لكيفية مقتله بعد أن عاش ستاً وثلاثين سنة؛ وكذلك روي أنه (ألقاه فـي بئر المخرج وردم عليه الحجارة؛ وقيل: أدخله حماماً، وأغلق عليه بابه فاختنق) …. ونرى أن الرواية الأخيرة أقرب إلى المنطق والعقل ومجريات الحادثة، فمن حضر من الشهود أفادوا بأنهم رأوه يدخل دار الوالي ولم يخرج منها. (٨٨)
وحين يتحدث المرء عن مصرع ابن المقفع لا يمكنه أن يتغافل عن سبب آخر أشرنا إليه على نحو ما فيما تقدم…. وهو علم الرجل ومهارته فـي الكتابة. فحين نصّب نفسه مدافعاً عن الرعية، وأخذ يغمز من الخليفة ويلمز بطانته، وينقد سياسة تدبير شؤون الحكم وتعيين الولاة؛ ويوحي بظلم الحاكم المطلق فـي كتابه (كليلة ودمنة) وإن لم يسمّه كان هذا بداية لاضطغان أبي جعفر عليه.
ثم نصّب نفسه من جديد بعد تولي أبي جعفر الخلافة سنة (١٣٦هـ) مرشداً وناصحاً يوصيه بجملة من التدابير التي تبصره بإصلاح فساد بطانته؛ وكأنه غافل عنها، مما زاد حنق الخليفة عليه….
وما زال غضب المنصور يتصاعد حتى أخرجه كتاب الأمان عن حلمه وسياسته المرنة؛ مع ابن المقفع. والسبب أن الكتاب يحمل فـي طياته نذير الثورة الحقيقية؛ والتمرد الصريح…. فقد وقف الكتاب سداً منيعاً فـي وجهه فلم يستطع أن ينال من رجل خارج عليه، ولم يبايعه إلا قهراً بعد مطاردته…. وهذا ينذر بالتقليل من هيبة الخليفة؛ ويشجع الآخرين على أن يحتذوا حذوه…. لهذا وجدنا المنصور يسجن عبد الله بن علي ثم يضيع دم عبد الله بن المقفع حين طلب بثأره عيسى بن علي وأخوه، ومن ثم يقتل عيسى بعد ابن المقفع فـي ظروف غامضة فـي السنة نفسها (١٤٢هـ) وهي السنة التي مات فيها سليمان أيضاً (٨٩).
ولهذا كله لا ندري سبباً لرفض الدكتور طه حسين أن يكون كتاب الأمان مدعاة لقتل ابن المقفع حين رجح نفيه بقوله: (ويقولون: بل قتله عهد كتبه لعبد الله بن علي أحرج صدر المنصور؛ إذ ألزم الخليفة إن رجع أن تكون نساؤه طوالق؛ ورقيقه حراً؛ إلى غير ذلك. فغضب المنصور وأغرى إلى والي البصرة سفيان…. بقتله فقتله). ثم يقول: (أما أنا فأرجح جداً أن الذي قتل ابن المقفع ليست الزندقة، ولم يقتله تشدده فـي الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي؛ لأنه يوشك أن يكون أسطورة ليس لدينا منها نص. ولكن لابن المقفع رسالة أخشى أن تكون هي التي قتلته؛ لأنها توشك أن تكون برنامج ثورة؛ وهي موجهة إلى المنصور…) (٩٠)
وإذا كان قد استنكر مقتله على تلك الرواية التي قطعته إرباً إرباً فهو محق فـي استنكاره؛ لأننا رجحنا الرواية الأقرب للمنطق؛ وهي حبسه فـي الحمام حتى مات دون أن يدري به أحد، وأما أن يستنكر كتاب الأمان ويجعله أسطورة لعدم وجود نص فهذا كلام غير دقيق؛ لثبات النص وروايته عن الرجال الثقات. أما أن تكون (رسالة الصحابة) السبب الوحيد لقتله فهذا غير مُسَلّم عندنا، وإن وصَفَها بأنها: توشك أن تكون برنامج ثورة. ونحن لا نستبعد قيمة ما توحي به من وجوه استفزاز الخليفة؛ إذ كانت تحمل من النقد اللاذع لنظام الحكم أكثر مما ينبغي أن يثار… ولكنها ليست سبباً فـي قتله لأنَّها كتبت نحو سنة (١٣٦هـ) بينما كُتب (الأمان) آخر (١٣٩هـ) وأدى فـي جملة ما انتهت إليه الأحداث إلى عزل سليمان ابن علي عن البصرة وحقد الخليفة عليه وعلى أخيه عيسى وحبس عبد الله. وهنا نتساءل: أيعقل أن يتريث المنصور ثماني سنوات حتى ينفذ فـي ابن القفع حكم القتل وهي برنامج ثورة؟ !. إننا نستبعد فرضية الدكتور طه حسين؛ علماً أن أبا جعفر كان فطناً ذكياً حذراً فهو يعد من الدهاة؛ وهو أدرى الناس بضغائن الصدور من غيره؛ وهو من بطش بأعدائه على الظن، فليس من المنطق فـي شيء أن يقتل المنصور
ابن المقفع على رسالته (رسالة الصحابة) بعد تلك المدة الطويلة من كتابتها؛ وهي التي دفعته إلى التفكير الجاد لإيجاد نظام واحد للقضاء والخراج…. لذا فالراجح لدينا أن هذه الرسالة كانت سبباً من الأسباب التي تجمعت عند المنصور للأمر بقتله، ولاسيما ما تدل عليه عبارة ابن المقفع نفسه، ويقول فيها: (الملك يحتمل كل شيء من أصحابه إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض للحُرَم، والقدح فـي الملك) (٩١).
وقد يقول قائل: لماذا لا تكون الزندقة وراء مقتله، ولا سيما أن سفيان بن معاوية قد وصمه بذلك فـي رواية المدائني عن كيفية مقتله؟ . ومن ثم فإن بعض المحدثين كالدكتور عبد اللطيف حمزة لا يرى سببا لقتله غير الزندقة، إذ يقول: (فعندي أن المنصور لم يتذرع بكتاب الأمان فـي قتل الرجل، ولكنه حين أراد قتله إنما تذرع بسبب واحد قبل كل شيء هو الزندقة أو هو شهرة ابن المقفع بهذه الصفة) (٩٢). ولما ذهب هذا المذهب جعل الخروج على السلطان والخليفة زندقة، كما يخرج الإنسان عن الدين الإسلامي…. ولا سيما أن الزنادقة أصبحوا فـي نظر الخليفة المنصور مصدر شر عظيم له ولدولته….
ونحن لا نرتاب فـي أن الزنادقة شر كبير على الناس فـي كل زمان ومكان، ولكن أن نسلّم باتهام كل من هبَّ ودب بالزندقة على اعتبار ما نفكر فيه أو نتعصب له…. فهذا أغرب من الغرابة منهجاً وعلماً وموضوعية…. فالباحث سلم بزندقة ابن المقفع - وهو بريء منها كما سنرى - ثم جعله مطارداً فـي زمرة الزنادقة الذين طاردهم أبو جعفر المنصور، وقتل بعضهم…. وهذا كله محض افتراء وتوهم وخيال غير دقيق ومناقض للواقع التاريخي…. فابن المقفع كان بالقرب من الخليفة، وإذا كان الخليفة قادراً على أخذ عمه عبد الله ابن علي والي الشام لأنه ثار عليه فهو أقدر على أخذ ابن المقفع القريب منه فـي البصرة عند عمه سليمان بن علي…. فالزندقة شر مستطير على المجتمع والدين، ولكنها لم تكن سبب مقتله كما رآه الدكتور طه حسين وهو ما نذهب إليه، على أننا لا نرى رأيهم فـي تهمة الزندقة…. وهذا يعود لأسباب كثيرة سنناقشها فـي الفصل الثالث…. بيد أننا نشير هنا إلى أن الرواية الوحيدة التي ورد فيها اتهام ابن المقفع بالزندقة من أبناء معاصريه إنما هي رواية المدائني (ت ٢٢٥هـ) على لسان سفيان بن معاوية…. وهي رواية مشكوك فيها…. ومما يؤيد الشك فيها أن المنصور لم يقتل من الزنادقة إ
لا من اعترف على نفسه بها، وبأنه ارتكب بحق الإسلام أمراً فظيعاً، كما هو حال ابن أبي العوجاء الذي وضع أحاديث مكذوبة على رسول الله، واعترف بذلك فقتله المنصور…. (٩٣)
فهذه هي الحالة التاريخية الوحيدة فـي هذا الشأن؛ إذ لم يكن المنصور يتعرض لحرية الرأي والفكر إلا إذا ارتبط بمركز الخلافة والحكم، أو جاهر بعدائه للإسلام، وأخذ يفتري عليه وعلى رسوله….
وبناء على ذلك كله نرى أن هناك أسباباً عديدة اجتمعت كلها، بعد أن تراكمت سنة إثر أخرى حتى كان (كتاب الأمان) وما لحقه من وقوف ابن المقفع مع بني علي أعمام الخليفة…. مما أدى إلى نقمة المنصور عليه وأمره لوالي البصرة الجديد سفيان بن معاوية كي يتخلص منه…. وهنا واتت الفرصة المناسبة سفيان وكان يضطغن عليه كثيراً فقتله شر قتلة كما ذهبت إليه الروايات العديدة…. ما عدا رواية وحيدة ذهبت إلى أن ابن المقفع قتل نفسه…. ثم اتفقت مع غيرها ممن ترى أن كتاب الأمان هو سبب قتله. فقد ذكر فـي كتاب (المقالات والفِرَق) الذي صنفه سعد بن عبد الله بن خلف الأشعري القمي (ت ٥٠١هـ) أن المنصور لما ضجر من كتاب الأمان كتب إلى عامله على البصرة سفيان بن معاوية أن يقتله… ولكن سفيان الذي ظفر بابن المقفع أراد حمله إلى المنصور؛ فما كان منه إلا أن قتل نفسه، فقيل: شرب سماً؛ وقيل: شنق نفسه (٩٤).
وهذا ليس بصحيح لما تبيناه من أن عيسى بن علي أراد الأخذ بثأر ابن المقفع من سفيان؛ فانتهى هو الآخر نهاية مجهولة…. فـي سنة (١٤٢هـ / ٧٥٩م).
ويخلص المرء إلى أن حسد الكتاب وحقدهم عليه كأبي أيوب المورياني؛ وكراهية بعض الولاة المقربين من الخليفة وتوعدهم له بالشر، والنكاية له عند المنصور…. وتعرض ابن المقفع لنقد الولاة والحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ ووقوفه إلى جانب بني علي أعمام الخليفة…. كل ذلك أدى إلى عدم تقبل الخليفة لابن المقفع، ومن ثم عدم الرغبة فيه، ومن ثم كراهيته التي بلغت أوجها بكتاب الأمان…. مما جعله يعزم على قتله….
فسبب مقتله سبب ذاتي شخصي، ثم اجتماعي سياسي فـي ضوء ما ذكرناه، وقبل كل ذلك قتله إتقانه لحرفة الكتابة….
أما تاريخ مقتله فقد اختلف فيه القدماء والمحدثون، وإن اتفقوا على أنه وقع فـي البصرة؛ فجعله كثير منهم بين سنتي (١٤٢هـ / ٧٥٩م) وبين (١٤٥هـ / ٧٦٤م)؛ ومنهم من مده إلى سنة (١٥٠هـ) أو بعدها بقليل…. وكل له رأيه (٩٥). ولكننا نرجح أنه قتل سنة (١٤٢هـ / ٧٥٩م) وهي السنة التي قتل فيها عيسى بن علي الذي رغب فـي الثأر له….، فضلاً عن أن ابن خلكان يفيد بأنه عاش ستاً وثلاثين سنة، فإذا كان مولده الذي اتفق عليه أغلب القدماء سنة (١٠٦هـ / ٧٢٤م) فإن سنة (١٤٢هـ) هي الأرجح لمقتله؛ وهي السنة التي حددها الجاحظ أيضاً (٩٦).
وأخيراً نقول لعل بيان زندقته ينكشف فـي الكلام على آثاره، وتبين هذه الآثار جملة من الإضاءات عن عقيدته وثقافته ومنهجه، وسلوكه الدؤوب فـي الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والسياسي.. وهي فـي الوقت نفسه توضح لنا مفهوم ابن المقفع للترجمة التي توسع فيها باعتبار نزوعه الفارسي الإنساني لا باعتباره الشعوبي.. وقد عمل لذلك منذ دخوله الدواوين.. وهذه الآثار هي التي تسلمنا إلى الفصل الثالث الذي يبرئ ابن المقفع من الزندقة والشعوبية.)


------------------
المصادر
 
ابن المقفع بين حضارتين
د. حسين علي جمعة

الفصل الأول:
حياته وصفاته اسمه ونسبه


تابع


المصادر

[١] انظر الوزراء والكتاب ١٠٣ و ١٠٩ والفهرست ١٧٢ والقاموس المحيط والتاج (قفع) وخزانة الأدب ٣ / ٤٥٩ـ٤٦٠ ووفيات الأعيان ٢ / ١٥١ ولسان الميزان ٣ / ٣٦٦ والأعلام ٤ / ١٤٠ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٢ / ٩٢ و (فروخ) ٢ / ٥١، وضحى الإسلام ١ / ١٩٥ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ـ٤٣٩ والفن ومذاهبه فـي النثر العربي ١٣٤ والعصر العباسي الأول ٥١٠ وأمراء البيان ٨٦ وابن المقفع ٤٠ - ٤١.
[٢] المصدر السابق نفسه.
[٣] انظر أمراء البيان ٨٦ - ٨٧ وأخذه كما يبدو لنا من الوزراء والكتاب ١٠٩.
[٤] انظر الفن ومذاهبه فـي النثر العربي ١٣٤.
[٥] انظر تاريخ الطبري ٧ / ٥٠٠ والوزراء والكتاب ١٠٩ والبداية والنهاية ١٠ / ٩٦ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٢ـ٩٣ وضحى الإسلام ١ / ١٩٥ - ١٩٦ وانظر شذرات الذهب ١ / ٥٠ وتاريخ الحكماء ٢٢٠.
[٦] وفيات الأعيان ٢ / ١٥٣ وانظر فيه ١٥٢ والبخلاء ٣٦٨ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ وانظر حاشية ٩٣ـ٩٦ مما يأتي.
[٧] انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٥ والفهرست ١٧٢ وخزانة الأدب ٣ / ٤٦٠ والقاموس المحيط والتاج (قفع) ومن حديث الشعر والنثر ٤٦ وابن المقفع ٤٢، وأمراء البيان ٨٦.
[٨] انظر البيان والتبيين ١ / ٢٥٥ - وعنه أخذ شوقي ضيف فـي الفن ومذاهبه فـي النثر العربي ١٣٤.
[٩] انظر مثلاً: وفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وبعد، ومارآه بروكلمان فـي تاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٨.
[١٠] انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٢ وما سيقال فـي التكلم على الرسالة من بعدُ.
[١١] انظر تاريخ الطبري ٧ / ٤٧٠ـ٥٠٤ (أحداث سنوات ١٣٢ـ١٤٢هـ) والكامل فـي التاريخ ٥ / ٤٩٧ والبيان والتبيين ١ / ١١٥ـ١١٧ و٢ / ٢١١ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٠٣ وتاريخ الأدب العربي (فروخ) ٢ / ٥٢.
[١٢] انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٤.
[١٣] انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤١٠ وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٨٩ ومعجم الأدباء ١٥ / ٢٤٢ و ٢٥١ـ٢٥٣ (ترجمة عمارة بن حمزة)
[١٤] انظر تاريخ الطبري ٧ / ٤٧٠ـ٤٧١ وكتاب الصناعتين ٦٤ و ٢٦٦ ووفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ـ١٥٣ وسرح العيون ١٤٩ ومحاضرات الأدباء ١ / ٢٩ وأمراء البيان ٨٦ـ٨٧ وقد ذهب صاعد الأندلسي فـي (طبقات الأمم) إلى اتصاله بالمنصور (٧٧ وبعد) =وعنه أُخذ فـي الأعلام ٤ / ١٤٠ وتاريخ الأدب العربي (فروخ) - ٢ / ٥٢. وانظر حاشية [٢٠] مما يأتي ونصيحة الملوك ٥٤٩ حاشية [١].
[١٥] انظر الوزراء والكتاب ٧٩ وبعد ووفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وانظر حاشية ٦٠مما يأتي.
[١٦] انظر تاريخ الأدب فـي إيران ٤٤٤ ودراسات فـي الأدب المقارن ١٧٤ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٣.
[١٧] انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٢، وحاشية ١٣٠ وما بعدها من الفصل الثاني فـي الحديث عن رسالة الصحابة.
[١٨] انظر تاريخ الطبري ٧ / ٥٠٠ والتنبيه والإشراف ٢٩٥ وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٦٧ - ٣٦٨ ونصيحة الملوك ٥١٠ - ٥١١ وانظر حاشية ٧٩ من الفصل الثالث.
[١٩] انظر ابن المقفع ٥١.
[٢٠] انظر طبقات الأمم ٧٧ وكشف الظنون ٣ / ٢١٣ والأعلام ٤ / ١٤٠ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ وتاريخ الأدب العربي (فروخ) ٢ / ٥٢ وتاريخ الأدب العربي (حنا الفاخوري) ٤٤٩ وراجع حاشية ١٤ مما تقدم.
[٢١] انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥١.
[٢٢] انظر تاريخ الأدب العربي (فروخ) ٢ / ٥١.
[٢٣] وفيات الأعيان ٢ / ١٥١، وقوله ذلك مأخوذ من كلام المسيح (عليه السلام) بتمامه وإن تغيرت بعض حروفه إذ سئل (من أدّبك؟ قال: ما أدبني أحد، رأيت الجهل قبيحاً فاجتنبته) العقد الفريد ١ / ٤٤٢.
[٢٤] الأدب الصغير ٢٩.
[٢٥] انظر ابن المقفع ٥٩.
[٢٦] ديوان أبو الأسود الدؤلي ٤٠٤.
[٢٧] التنبيه والإشراف ٧٦، وانظر سرح العيون ١٤٩ ومحاضرات الأدباء ١ / ٢٩ و٣١.
[٢٨] أمراء البيان ١٠٧ وانظر حاشية ١٠٨ و ١٠٩ من الفصل الثالث.
[٢٩] انظر أمراء البيان ١٠١ - ١٠٢ وتأمل ما ورد فـي وفيات الأعيان ٢ / ١٥١ وبعدُ، وراجع حاشية ١١٠ من الفصل الثالث.
[٣٠] الأدب الصغير ٢٧ و ٥٤ على ترتيب المقبوسات.
[٣١] الأدب الصغير ٢٦ - ٢٧.
[٣٢] الجامع الصغير من حديث البشير النذير (رقم الحديث ٧٥٩٤) وانظر الحديث بلفظ مشابه فـي عيون الأخبار ١ / ٣٢٧.
[٣٣] انظر الآثار الباقية عن القرون الخالية ٣٠٧ - ٣٠٨ والملل والنحل ١١٥ وبعد وأمالي المرتضى ١ / ١٣٨ وضحى الإسلام ١ / ١٤١ وفجر الإسلام، وفيه حديث مطول عن ديانات المجوس.
[٣٤] انظر مثلاً قوله تعالى فيما ورد فـي السور الآتية (الأعراف ٧ / ١١ـ١٢ والحجر ١٥ / ٢٧ والإسراء ١٧ / ٦١ وص ٣٨ / ٧٤ـ٧٦ والرحمن ٥٥ / ١٥).
[٣٥] الأدب الكبير ٦٩ وانظر فيه ٤٢ - ٤٦ و ٥٤ و ٥٧.
[٣٦] انظر مثلاً الأغاني ١٣ / ٢٧٩ وأمالي المرتضى ١ / ١٣١ و ١٣٥ـ١٣٦ و ١٤٠ـ١٤٨.
[٣٧] أمالي المرتضى ١ / ١٣٨ وراجع حاشية ١٠٧ من الفصل الثالث.
[٣٨] الأدب الكبير ١٠٢ وعيون الأخبار ٣ / ١٥.
[٣٩] الأدب الصغير ٢٤. يقدع: يكفّ أو يمنع. الأَشَر: البَطَر وكفر النعمة. الهلع: الجزع.
[٤٠] الجامع الصغير (حديث رقم ١٣٩٦ و ١٤٠٠ و ١٣٩٩) تبعاً لترتيب الأحاديث فـي الكلام.
[٤١] انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٣ وبعد.
[٤٢] جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٧.
[٤٣] انظر مثلاً: سورة (الأنعام ٦ / ٢ والأعراف ٧ / ٣٤ و ١٢٥ ويونس ١٠ / ٣ و٣١ و٤٩ وهود ١١ / ١٠٤ والرعد ١٣ / ٢ و٤١ والنحل ١٦ / ٦١ والأنبياء ٢١ / ٤٠ و١٠٤ والمؤمنون ٢٣ / ٤٣ والشعراء ٢٦ / ٥٠ وسبأ ٣٤ / ٣٠).
[٤٤] انظر مثلاً: وفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وأمالي المرتضى ١ / ١٣٦ وفجر الإسلام ١٢٨ وضحى الإسلام ١ / ١٣٨ و١٥١ـ١٥٥ و١٥٨ وابن المقفع ٤٥.
[٤٥] انظر القسم المتعلق بأسباب مصرعه مما يأتي حاشية ٨٣ - ٨٥ وانظر الفصل الثالث.
[٤٦] الأدب الكبير ١١٦ وانظر البيان والتبيين ٢ / ١٦٦ و١٩٧ و١٩٨ و٣ / ١٧٤ والمحاسن والأضداد ٥١.
[٤٧] انظر الحواشي (١٣٠ـ١٥٦) من الفصل الثاني (رسالة الصحابة) وهي فـي جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣٠ـ٤٨ فليس فيها شيء مما ذهب إليه الدكتور حمزة.
[٤٨] انظر ابن المقفع ٦٣ وانظر حاشية (٦١ـ٦٢) من الفصل الثالث
[٤٩] انظر الإمتاع والمؤانسة ١ / ٧١ـ٧٢.
[٥٠] انظر أمراء البيان ٩٧.
(٥١) المربد: سوق مشهورة بالبصرة منذ العهد الأموي، ونيروز: موضع آخر بالبصرة.
(٥٢) العقد الفريد ٣ / ٣٢٤ـ٣٢٥.
(٥٣) البيان والتبيين ١ / ٢٠٨ والخبر محرف فـي: محاضرات الأدباء ١ / ٨٤ وبهجة المجالس ١ / ٩٦.
(٥٤) محاضرات الأدباء ١ / ٩٣.
(٥٥) الأدب الصغير ٥٢ - ٥٣.
(٥٦) الأدب الصغير ٥٣.
(٥٧) عيون الأخبار ١ / ٢٩٥.
(٥٨) الأدب الكبير ١٠٩ وانظر عيون الأخبار ٢ / ٢٦.
(٥٩) عيون الأخبار ٣ / ١٩١ - ١٩٢ وانظر فيه ٢ / ٩ وبهجة المجالس ١ / ٤٠٩ - ٤١٠.
(٦٠) وفيات الأعيان ٣ / ٢٣١ وانظر فيه ٢٢٩ - ٢٣٠ والوزراء والكتاب ٧٩ وبعد وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ١ / ١٦١ و٣ / ٩٣ وضحى الإسلام ١ / ١٩٧ والفن ومذاهبه فـي النثر العربي ١١٤ وراجع حاشية [١٥]
(٦١) عيون الأخبار ١ / ٣٣٩ وانظر فيه ٣ / ١٥.
(٦٢) الوزراء والكتاب ١١٧ وانظر أمراء البيان ٩٩ - ١٠٠ وابن المقفع ٥٤ - ٥٥.
(٦٣) الأدب الصغير ٦٠.
(٦٤) انظر ابن المقفع ٦٠.
(٦٥) الأدب الصغير ٦٠.
(٦٦) الأدب الصغير ٦٣.
(٦٧) انظر تاريخ الطبري ٧ / ١٠٥ ووفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وضحى الإسلام ١ / ١٩٥ـ١٩٦ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٣.
(٦٨) شرح ديوان أبي تمام١ / ٨١وثمار القلوب١٩٩ ـ٢٠٠وأمراءالبيان١٩٠وابن المقفع ٦٩.
(٦٩) انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥١ و ٢٤٦ وأمالي المرتضى ١ / ١٣٦ وراجع حاشية [٤٧] من الفصل الثالث.
(٧٠) المصدر السابق.
(٧١) المصدر السابق.
(٧٢) المزهر فـي علم اللغة ٢ / ٤٠١.
(٧٣) انظر ما قيل فيه مثلاً: العقد الفريد ١ / ١١ـ١٢ و٢ / ٤٤١ و٤٧٨ و ٣ / ٥ و٣٢٤ ومحاضرات الأدباء ١ / ٢٩ و٣١ و٦٠ و ٧٦ـ٧٧ و٨٤ و٩٣ و٩٦ وبهجة المجالس ١ / ٣٢١ و٤١٠ و٤٥٢ وأمالي المرتضى ١ / ١٣٦ـ١٣٧ ومعجم الأدباء ٣ / ١٧٧ و١ / ٧٤ـ١١٤ وضحى الإسلام ٢ / ٢٢٥.
(٧٤) انظر أمالي المرتضى ١ / ١٣٦ـ١٣٧ ووفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وابن المقفع ٥٦.
(٧٥) أمراء البيان ١٠٧.
(٧٦) أمراء البيان ٩٤ - ٩٥.
(٧٧) المصدر السابق.
(٧٨) وفيات الأعيان ٢ / ١٥١
(٧٩) خزانة الأدب ٣ / ٤٦٠.
(٨٠) أمراء البيان ٩٥ وانظر البيان والتبيين ١ / ٢٥٢ ومعجم الأدباء ١٥ / ٢٤٢ وتاريخ الأدب العربي (الزيات) ٢٠٣ـ٢٠٤ و٢١٤
(٨١) انظر أمراء البيان (٦٦ وبعد) فـي أقسام رسالة عبد الحميد إلى ولي العهد، وما الموضوعات التي دارت عليها، وانظر الرسالة ذاتها فـي جمهرة رسائل العرب ٢ / ٤٠٦ رقم الرسالة ٥٠٥.
(٨٢) محاضرات الأدباء ١ / ٩٧.
(٨٣) أمراء البيان ١٠٨ - ١٠٩ وانظر تاريخ الطبري ٧ / ٥٠١ وخزانة الأدب ٣ / ٤٦٠؛ وكل منهما أشار إلى الكتاب بينما أثبت اليعقوبي جزءاً منه وحكى قصته: تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٦٨ وانظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٤ والأعلام ٤ / ١٤٠ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ وانظر ما يأتي فـي الفصل الثالث عن زندقته، ولا سيما الأسباب بعد حاشية ٣٧.
(٨٤) انظر الكامل فـي التاريخ ٥ / ٤٩٦ - ٤٩٧ ومروج الذهب ٣ / ٣١٥ وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٦٩ ورسائل الجاحظ ٢ / ١٣٠.
(٨٥) وفيات الأعيان ٢ / ١٥٣ وانظر ضحى الإسلام ١ / ١٩٦.
(٨٦) الوزراء والكتاب ١٠٣ وبعد.
(٨٧) وفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ وانظر أمالي المرتضى ١ / ١٣٦ والفهرست ١٥٣ و ١٧٢.
(٨٨) انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٣ و١٥٢ على الترتيب فـي الرقمين.
(٨٩) المصدر السابق.
(٩٠) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٦ - ٤٧.
(٩١) المحاسن والأضداد، ١٦.
(٩٢) ابن المقفع ٢٣٠.
(٩٣) انظر أمالي المرتضى ١ / ١٣٧ وانظر خبراً عن معاملة أبي جعفر للرعية فـي بهجة المجالس ١ / ٣٣٥.
(٩٤) بين ابن المقفع ولافونتين ١٦.
(٩٥) انظر تاريخ الأدب فـي إيران ١٠٢ وراجع مصادر حاشية (١ـ٥) مما تقدم.
(٩٦) انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٢ـ١٥٣ والبخلاء ٣٦٨؛ وراجع (ح ٦).
 
ابن المقفع بين حضارتين
د. حسين علي جمعة


الفصل الثاني:
آثاره، و أبعادها الفكرية



١ـ تمهيد

عقدنا هذا الفصل للوقوف عند آثاره الفكرية وتتبع ما نُسب إليه وفُقد؛ وما وصل منها إلينا حتى الآن لنتعرف إلى شيء من أبعادها التي تشتمل عليها. وقد تناقلت الأقلام بعضُها عن بعض اتهام ابن المقفع بالزندقة وتعصبه لفارسيته… بل جعلته صَفِيقاً؛ لأنه يتفاخر بأصوله وهو يعيش فـي دولة ديانتها التوحيد، ودستورها نبذ التعصب. وادعت تلك الأقلام أن آثاره تدل على مذهبه فـي الحياة، فلم يترجمها إلا بدافع إحياء الدين الفارسي القديم، وإحياء سير ملوك الفرس افتخاراً بصنائعهم وحكمهم؛ وإظهاراً لتخلف العرب والتهكم بهم، لأنهم لم يكونوا شيئاً مذكوراً.
وإذا كان بعض الأدباء والشعراء قد وقع فـي ذلك؛ لأن الإسلام لم يتمكن من نفسه فإن العاقل المنصف لا يمكنه تعميم أي حكم كان، ولا يمكنه أن يصم ابن المقفع بالزندقة وغيرها لأنه ترجم الآثار الفارسية؛ وإنما نعتقد به شيئاً آخر. فقد أراد للسلطان أن يتعهد قلبه بسماع آثار من سبقه (وقراءة سيرهم، وأخبارهم وهديهم، ويتفكر فيما أقام الله - جل وعز - من دلائله الواعظة، وأعلامه الشاهدة فـي أرضه وسمائه؛ وفيمن كان قبله من الملوك الماضية؛ ليعرف بذلك حاله، ويرى نفسه فإنها قائمة نصب عينه؛ تخاطبه وإن لم ينطق، وتعظه وإن لم يسمع) [١].
فمن يقرأ سير التاريخ ويتعظ بها، ويتدبر أمرها تستقم حال ملكه ورعيته… هذه هي حال ابن المقفع مع دولة بني العباس فـي أول ظهورها. ولعل الدرس التاريخي المنطقي نفسه يثبت هذا؛ فالكتابات الأولى التي ظهرت فـي هذه المرحلة تؤيد ما نذهب إليه؛ فلم يكن فيها فرصة واحدة ذات اتجاه شعوبي؛ وإنما كانت دعوة العباسيين مغلفة - قبل إعلانها - بالدعوة إلى بني هاشم؛ وقد اجتمع الناس على هذا فـي وجه بني أمية. أما الكتّاب من الفرس وغيرهم فقد دخلوا دواوين الخلافة، والولايات منذ العهد الأموي؛ وقدموا جملة من الخدمات فـي الترجمة، والكتابة الديوانية والإخوانية. ويعد (سالم) مولى هشام بن عبد الملك من طلائع الكتّاب. فقد نُسب إليه أنه أول مبتدع، ومطور لفن الرسائل… هذا الفن الذي ذهب به عبد الحميد الكاتب بعيداً، وكان يرأس دواوين مروان بن محمد؛ ويكتب رسائله… [٢].
وفـي وسط هذه الحركة التاريخية أخذ الأدباء والكتاب، ولا سيما الفرس يفرضون وجودهم على دواوين الدولة ويحملون مهمات عظيمة ازدادت قيمتها فـي بداية دولة بني العباس… ثم أخذ الولاة والوزراء يتعهدون أنفسهم فـي معرفة الكتابة وشؤونها؛ بعد أن ظلوا يتخذون الكتّاب فـي شؤونهم؛ ويصطنعونهم لأعمالهم…
وبذلك كله حظي الكتاب والأدباء بمكانة رفيعة تزيد أحياناً على مكانة بعض الوزراء والولاة…
ولما كانت دولة بني أمية فـي الشام ومركزها دمشق بعيدة عن فارس وأقرب إلى غيرها اتصل بها عناصر أخرى أكثر من العنصر الفارسي؛ علماً بأن القبائل العربية الكثيرة كانت تسكن الشام… مما جعل تأثرها بالفارسية أقل من تأثرها بغيرها. ولما انتقلت الخلافة إلى العراق فـي عهد بني العباس؛ وهي أقرب إلى فارس، ولها صلات قديمة معها منذ المناذرة فـي العصر الجاهلي - على الأقل - كان تأثر الدولة بالثقافة الفارسية واضحاً… إذ طبعت الحضارة العربية الإسلامية بكثير من خصائصها؛ فضلاً عن أن كثيراً من أركان دولة بني العباس كانوا من العنصر الفارسي [٣].
ولهذا كله ظهرت الحركة الفكرية والأدبية والعلمية كأنها ذات وجه فارسي؛ لسيطرة أبناء فارس عليها أكثر من غيرهم … ومما هيأهم للانخراط فيها بقوة واقتدار أن أكثرهم كان يجيد اللسانين العربي والفارسي…
ولقد كانوا حريصين على أن يضمّوا الآداب الفارسية إلى الآداب العربية؛ إذ أصبح هذا مما يتطلبه الأدب نفسه… فالأديب يجب أن يعرف القرآن الكريم مادة وأسلوباً ومبادئ؛ وسنة المصطفى قولاً وفعلاً؛ وما يتعلق بالخلافة الراشدة ورجالها… وأن يتعرف إلى حِكَم العرب وتاريخهم قبل ذلك… وكل من يعرف أكثم بن صيفـي وقس بن ساعدة عليه أن يعرف أيضاً حِكَم (بُزُرْجُمِهْر)، وتاريخ فارس وسير ملوكها مثل كسرى وسابور وأبرويز.
ويتضح هـذا كله من مقدمة ابن المقفع فـي الأدب الكبيـر، ومنها: (فمنتهى علم عالمنا فـي هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم. وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر فـي كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع، وآثارهم يتبع. غير أن الذي نجد فـي كتبهم هو المنتخل من آرائهم والمنتقى من أحاديثهم. ولم نجدهم غادروا شيئاً يجد واصف بليغ فـي صفةٍ له مقالاً لم يسبقوه إليه: لا فـي تعظيم لله - عز وجل - وترغيب فيما عنده، ولا فـي تصغير للدنيا وتزهيد فيها، ولا فـي تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامها وتجزئة أجزائها، وتوضيح سبلها، وتبيين مآخذها ولا فـي وجوه الأدب، وضروب الأخلاق. فلم يبق فـي جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال. وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور؛ فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم.
فمن ذلك بعض ما أنا كاتب فـي كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس) [٤]
هذا هو منهجهم كما يعترف به ابن المقفع نفسه، وهو فـي نظرته إلى القدماء يتجه إلى تنزيههم عن كل خَطَل… ويبالغ فـي ذلك ولكنه المنهج الذي اقتدى به … هو ومن كان فـي عصره… ولعل الفرق بينه وبين صديقه عبد الحميد الكاتب أنه قال مقالته تلك والفتن تطل برأسها من كل اتجاه؛ على حين قال عبد الحميد مقالته التالية وهو مستقر مطمئن؛ وكان كلاهما يوضح المنهج الذي اختطه فـي الكتابة له ولمن بعده. فقد أوصى الكتَّاب بقوله:
(فنافسوا معشر الكتّاب فـي صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله - عزّ وجل - والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا واعرفوا غريبها ومعانيها / وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعُفنَّ نظركم فـي الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج منكم) [٥]
من هنا انتهت الآداب عندهم إلى عشرة (فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية؛ وثلاثة عربية، وواحدة أرْبت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج، ولعب بالصوالج؛ وأما النُّوشروانية فالطب والهندسة والفروسية؛ وأما العربية فالشعر والنسب وأيام العرب؛ وأمام الواحدة التي أرْبَت عليهن فمقطَّعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس فـي المجالس) [٦].
لهذا تطور معنى كلمة أدب من المفهوم الخلقي الذي عرف فـي صدر الإسلام إلى معرفة باللغة والشعر وأيام العرب وتاريخها فـي العهد الأموي، ومن ثم أصبح فـي العصر العباسي (الأخذ من كل علم بطرف)… فالأديب لابد له أن يلم بمعارف كثيرة من الثقافة العربية والفارسية…
هكذا فهم ابن المقفع رسالته فـي صناعة الكتابة ومهمته فـي مواجهة الواقع الذي يعيش فيه؛ وهو الصديق الصدوق لعبد الحميد؛ بل كان يحذو حذوه فـي صنعة الكتابة، حتى عُدَّا من مدرسة واحدة. وقد دخل أروقة دواوين الولاة ولم يكن مسلماً، وعقد العزم على ترجمة الآثار الفارسية؛ بما فيها من مذاهب دينية؛ فكان أحد المترجمين الذين ذكرهم ابن النديم مع آل نَوْبَخْت وغيرهم، [٧] إن لم يكن الأبرز فيهم… كما نستدل عليه من مقولة لحمزة الأصبهاني؛ منها: (اتفق لي ثماني نسخ من تاريخ فارس، وهي كتاب سير ملوك الفرس من نقل ابن المقفع، وكتاب تاريخ سير ملوك الفرس من نقل محمد بن الجَهْم البرمكي، وكتاب تاريخ ملوك الفرس المستخرج من خزانة المأمون، و…) [٨].
لهذا مدَّ ابن المقفع يديه إلى خزانة التاريخ الذي يعرفه عن كثب، وشرع يترجم ما فيه هو وغيره. فكانت مرحلته مرحلة اتّصال حقيقي بين العرب والفرس؛ وبدأ الجميع يكتبون فيما يعرفون من آثارهم عرباً وغير عرب… بل إننا نمضي هنا مع الدكتور طه حسين لنقول معه: إن (الأدب الفارسي الحي إنما نشأ بعد أن اتصل الفرس بالعرب وبعد أن تعلموا العربية) [٩]، فكانوا جميعهم كتّاباً لأبناء الدولة الإسلامية الناهضة؛ ولم يكونوا كتاباً لفئة بعينها، ومن ثم لم يكن ابن المقفع كاتباً للفرس كما قال الدكتور شوقي ضَيف [١٠]. وما تركه من ترجمات تثبت أنه واع لما يفعل، ولم يخترق أي محرَّم ديني أو اجتماعي حين مارس حرية التفكير والكتابة؛ وتثبت أنه لم يكن مُدَلّساً عليهم من جهة، ولم يَصنع أياً من السير القديمة لغرض شعوبي كما انتهى إليه الجاحظ من جهة أخرى [١١]. ولا شيء أدل على هذا من ظهور بعض أصول كليلة ودمنة، وأشياء أخرى؛ فضلاً عن إجماع القدماء والمحدثين على أمانته.
وفـي صميم هذه الرؤية يمكننا أن نظهر ذلك بعرض الآثار المنسوبة له والمفقودة، ثم الآثار المترجمة المفقودة؛ ومن ثم نتوقف عند الآثار المترجمة والمؤلفة الموجودة؛ مما وصل إلينا.



٢ـ آثاره المنسوبة إليه والمفقودة

تثبت الآثار التي نقلها ابن المقفع إلى العربية أنه كان مثقفاً ثقافة فارسية عالية فضلاً عن الثقافة العربية، وكان متضلعاً بحرفة الكتابة وصنعة التأليف.
وكان إذا ترجم أثراً فارسياً لا يأخذ منه (ما لا تأباه السليقة العربية)، بل يدمجه فـي ثقافتها وبلغتها؛ وكأنه أحد أبنائها الفصحاء [١٢].
وطارت شهرة ابن المقفع فـي الآفاق، فـي الترجمة والتأليف، فنسبت إليه ترجمات ليست له كما يبدو… ومن ثم نُسب إليه أنه ترجم العديد من الكتب عن اللغة اليونانية الأصلية… وكأن المعجبين به لم يقنعهم أن يتقن اللغتين الفارسية والعربية فأرادوا له معرفة لغة أخرى… وقد يقول قائل: إن ابن المقفع ترجم آثاراً يونانية منقولة فـي الأصل إلى الفارسية، منها كتب الفلسفة كالمنطق.
وفـي ضوء ذلك رأينا المسعودي ينفرد بذكر كتابين لابن المقفع لم يذكرهما غيره، وهما:
١ـ كتاب (البنكش) عرض له حين تحدث عن أفعال ملك فارسي فقال: (وما كان من أفعال إسبنديار وما وصفناه فمذكور فـي الكتاب المعروف بكتاب (البنكش) نقله ابن المقفع إلى لسان العرب) [١٣].
٢ـ كتاب (السَّكيكين) وأورد اسمه ونِسبته حين ذكر ملك الفرس (فراسياب) فقال: (هذا كله مشروح فـي الكتاب المترجم بكتاب (السكيكين) ترجمه ابن المقفع من الفارسية الأولى إلى العربية) [١٤].
وذهب بعض الباحثين إلى أن اسم الكتاب (النسكين)، بينما يرى الأستاذ (ماركوارت) أن اسمه (السَّكيسران) نسبة إلى (سكا) وهم قوم يعيشون فـي شرق إيران… واسم الكتاب الأول (البيكر) ومعناه فـي الفارسية (القتال) … على حين يعتقد (بلوشيه) أن الاسمين لكتاب واحد، وهما محرفان عن كلمة (البندهش) وهي عنوان الكتاب [١٥].
وأياً كان الأمر فالكتابان ليسا لعبد الله، وإنما هما لغيره، وقد يكونان لابنه محمد، أو غيره؛ فشهرة الرجل بالترجمة وبلاغته فـي الكتابة جعلت الآخرين بعده ينسبون إليه عملهم لترويجها بين الناس.
٣ـ رجح بعض الباحثين أن ابن المقفع ترجم بعض الآثار اليونانية فـي الفلسفة كالمنطق والنجوم وغيرهما؛ ومنهم من يرى أنها كانت منقولة فـي الأصل إلى الفارسية مثل ابن النديم [١٦]. ويقول صاعد الأندلسي: (إن أول علم عُني به من علوم الفلسفة هو علم المنطق والنجوم. فأما المنطق فأول من اشتهر به فـي هذه الدولة عبد الله ابن المقفع الخطيب الفارسي؛ فإنه ترجم كتب أرسطاطاليس المنطقية الثلاثة؛ وهي:
١ـ كتاب قاطاغورياس، أو (المقولات العشر).
٢ـ كتاب باري أرمينياس، أو (العبارة).
٣ـ كتاب أنالوطيقا، أو «تحليل القياس». ) [١٧].
وقيل: لم يترجم حتى عهده إلا الأول؛ وذُكر أنه ترجم كتاباً آخر من تأليف (فُرْفُريوس الصوري) وهو (المدخل إلى علم المنطق) المسمى (إيساغوجي) ورأى ابن النديم أنه من ترجمة أيوب بن القاسم [١٨].
وناقش بعض المستشرقين هذه المسألة، ورأى أن البحث الحديث يؤكد أن كتب المنطق ولا سيما كتب أرسطوطاليس ترجمت من السريانية إلى العربية؛ ولعل سالماً مولى هشام بن عبد الملك نهض بذلك؛ لحذق الرجل باليونانية وهو من بلغاء الكتابة [١٩] ولا صحة للرأي القائل: إن ابن المقفع ترجم ذلك. ويرى (بول كراوس) أن من ترجمها عن السريانية هو محمد بن عبد الله بن المقفع ويوافقه المستشرق الإيطالي نللينو [٢٠] ويسميه بركلمان أحمد [٢١].
وهذا رأي فيه نظر؛ لأن الفرس كانوا قد ترجموا بعض كتب أرسطو إلى الفهْلوية القديمة؛ فلعل عبد الله بن المقفع ترجم شيئاً منها؛… وإن لم يصل إلينا منها شيء؛ وكانت بعض كتب المنطق قد ترجمت للمنصور، فهو أول خليفة مسلم ترجمت له مثل هذه الكتب [٢٢].
وكذلك لم يصل إلينا كتب أخرى قيل: إنه قد ترجمها من الفَهْلوية، وذكر أكثرها ابن النديم؛ وسنعرض لها تباعاً.



٣ـ آثاره المفقودة

١ـ خُدَاي نامه فـي السِّيَر: وسماه ابن المقفع (تاريخ ملوك الفرس) وأفاد منه الطبري فـي كتابة تاريخه المشهور، وذكره غير واحد من القدماء والمحدثين [٢٣] وقيل: إن اسمه فـي الفهلوية (خداينامك)؛ ومعناه بالعربية (كتاب الملوك) أو (كتاب السادة) أو نحو ذلك، ثم أضيفت كلمة (السير) لتدل على مضمونه [٢٤] وليست من الأصل كما يبدو لنا.
ولا زال الكتاب مفقوداً؛ ولكن الذي نقل عنه يوحي بأنه كتاب تاريخي فـي سير ملوك فارس؛ ويبدأ من عهد أول ملك خرافي، وهو الملك (كيومرت) وينتهي إلى عهد كسرى أبرويز. ويمتزج فيه التاريخ الحقيقي بالخرافـي … ويبدو أن الفردوسي قد نقل عنه فـي كتابه (الشاهنامه) الكثير من الأخبار [٢٥] كما يراه الأستاذ (نولدكه) وإن لم يكن وحده مصدره لذلك. وقيل: إنه عرف فـي عهد كسرى أنوشروان، وحوى أخبار الشرائع الزرادشتية، وقصص اليونان المترجمة إلى الفهلوية.
وهذا يؤكد لنا أن ابن المقفع بدأ مؤرخاً؛ وفـي ذهنه مشروع إعادة كتابة التاريخ القديم؛ ليصل بين الحضارتين اللتين ينتمي إليهما… ولهذا كتب أيضاً (آيين نامه) …
٢ـ آييْن نامه فـي الإصْر: ومعنى كلمة (آيين): رسم واختط، وقيل: هي كلمة فارسية عرَّبها العرب بمعنى القانون أو الرسوم؛ وقال المسعودي: (وهذا الكتاب من جملة «آيين نامه» )؛ فالكلمة فارسية، ومن معانيها الخُطَّة، والعادة [٢٦]؛ ثم قيل: (آيين نامه فـي الإصر) [٢٧] والإصر بالعربية العهد والميثاق والعقد [٢٨]. وقد نستنتج من ذلك كله أنه يشتمل على جملة من قوانين فارس وعاداتهم وآدابهم فـي مراسيم الملوك فـي الحرب والصيد وغير ذلك.
ونقله ابن المقفع من الفهلوية ولا يزال مفقوداً، ونرجح أن يكون اسمه (الآيين) كما ذكره غير مرة ابن قتيبة فـي نُقوله عنه فـي (عيون الأخبار)؛ كقوله: (قرأت فـي الآيين) [٢٩] ورجح هذا الرأي بروكلمان [٣٠] وفيه ما يستدل على بعض المراسيم والعقائد.
ويتضح لنا أنه كان بين يدي ابن قتيبة المتوفى (٢٧٦هـ)؛ ولعل الزمن يجود به من جديد… ولكن هذه النقول تؤكد أنه بيان لأنظمة المُلْك وتدبير شؤون الحكم، وفيه بعض العقائد… وكأن ابن المقفع حاول تقريب صورة حياة ملوك فارس وتقديم ماكانوا يخطونه من مراسيم لنفيد منها، لا لنؤمن بها كما هي دون تغيير، فالأحمق وحده من يفعل هذا.
٣ - رسالة (تِنْسر): ليست من الكتب التي ذكرها ابن النديم؛ وقد انفرد بذكرها بهاء الدين محمد بن حسن بن إسفنديار صاحب كتاب (تاريخ طبرستان)، ونسبها إلى ابن المقفع.
ويظهر أنه كتابٌ كتبه (الموبذان مُوْبذ) المعروف باسم (تنسر) بين عام (٢٢٦ - ٢٤١م) وهي المدة التي حكم بها أردشير الملك. ويرى بعض المحدثين أن الكتاب ردّ على رسالة بعث بها الأمير الطبرستاني إليه.
ويعالج الكتاب شؤون الحكم، ويبين أنظمة القضاء، وفنون الحرب، ويتوقف عند بعض سبل الحياة، ولا زالت نسخة الكتاب العربية مفقودة؛ وقيل: نقل عنها ابن قتيبة فـي كتابه (عيون الأخبار) بعض النقول، بينما قيل: إن النسخة الفارسية المترجمة عن العربية فـي وقت متأخر قد عثر عليها. [٣١]
٤ - التاج فـي سيرة أنوشروان: ذكره ابن النديم بهذا الاسم [٣٢] والمقصود به كسرى أنوشروان؛ وهو كتاب تاريخي فـي سيرة الملك كسرى؛ ولذا تضمن ما يتعلق بشؤون الحكم، وتدابير السياسة ووضح بعض أنظمة القضاء فـي عهده، وما جرى من فنون الحرب ونظامها…
نقل عنه ابن قتيبة، وسماه بالتاج [٣٣]؛ وليس هو كتاب (التاج) المنسُوب للجاحظ (محمد بن الحارث التغلبي) وليس الجاحظ المشهور؛ وقدّمه هدية إلى الوزير (الفتح بن خاقان)…، ولا هو كتاب (التاج والديباج) المعروف لأبي عبيدة معمر بن المثنى [٣٤]. ولازال الكتاب مفقوداً حتى الساعة، ولكن الإشارات التي وصلت إلينا تؤكد أنه كتاب تاريخي ليس فيه شيء ذي بال من العقائد… ولو دار حول شخصية مشهورة من أكاسرة الفرس كما يستدل من نقول ابن قتيبة عنه فـي (عيون الأخبار).
٥ - كتاب (مَزْدك): نسبه ابن النديم لابن المقفع [٣٥] وهو كتاب مفقود لا يعرف منه إلا اسمه هذا، أمام مضمُونه فلا أحد قادر على إدراكه…
وقد قيل: إن هذا الكتاب كان من صنيع أبان بن عبد الحميد اللاحقي، ونظمه نظماً كما نظم (كليلة ودمنة) [٣٦] …وكذلك فُقد كتاب (أبان اللاحقي) … ونرجح أن هذا الكلام لا صحة له؛ لأن ابن النديم ذكر نظم أَبَان لكليلة ودمنة ولم يشر من قريب أو بعيد إلى نظمه لكتاب (مزدك).
ويرى (نولدكه) فيما نقله عنه (براون) فـي كتاب (تاريخ الأدب الفارسي) أنه «كتاب أدب وضع للتسلية، ويعتبر بمصاف (كليلة ودمنة) ولا تضر قراءته مسلماً» [٣٧].
ثم يعقّب على ذلك كله الدكتور عبد اللطيف حمزة فيقول: «لست أدري - فـي الحق - كيف قال هذان العالمان الكبيران ذلك؛ وإلى أي شيء استندا فـي هذا القول؛ والكتاب نفسه مفقود» [٣٨].
وحين احترز الرجل احترازاً علمياً صحيحاً رأيناه يجري فـي طَلْق آخر أبعد منهما مرمىً فيقول: (وغاية القول عندي فـي هذا الكتاب أن اسمه قد يدل عليه) ثم طفق يتخيل فـي ضوء هذا العنوان أشياء يبديها له الظن من البحث المضْني عند الرجل عن الدين الحقيقي. ومن أغرب ما قاله فيه: «ومن يدري لعله ابتدأ بالإسلام وهو دين الدولة فعرضه على عقله وكتب فـي فضائله؟ ثم نظر فـي المزدكية وهي دين آبائه وأجداده فكتب مثل هذا الكتاب» [٣٩]، فـي إطار مفهوم (حرية الإرادة).
وعلى الرغم من هذا الافتراض التخيلي؛ فلعله أقرب الأشياء إلى المنطق؛ لأن ابن المقفع كان يستعرض حقيقة الأديان ديناً ديناً فـي إطار تأريخ إنساني لها، ولم يكن تأريخه بدافع آخر، كما نعتقد. والمهم لدينا أن الكتاب نُسب إلى ابن المقفع وانفرد بهذه النسبة ابن النديم؛ ولا يعرف منه إلا الاسم… ولهاذ نرفض تهيؤات الدكتور حمزة الأخرى لهذا الكتاب، إذ لم يكن أكثر من كتاب فـي سيرة (مزدك). ولماذا لا يكون موضوعاً فـي سيرة هذا الرجل وبيان آرائه الدينية التي جاء بها وهو معدود فـي المشهورين، وقد رأينا ابن المقفع مولعاً بالسير وشؤون الحكم… ولا يريد أن يترك شيئاً مما يعرفه إلا رغب فـي نقله إلى العربية… بما فيه سيرة (مزدك)؟ ؟ ولماذا يتهم ابن المقفع فـي دينه حينما يترجم مثل هذه السير لرجالات الفرس ولم يكن قد أسلم؟ ونؤكد مرة أخرى أن الرجل كان مؤرخاً فـي مثل هذه الكتب أكثر من أي شيء آخر.
٦ - الدٌّرة اليتيمة، أو اليتيمة فـي الرسائل: اليتيمة فـي الرسائل هو العنوان الوارد فـي الفهرست [٤٠] فـي الوقت الذي أورد كتاباً آخر وهو (الآداب الكبير). ويقصد بهذا ما هو معروف الآن باسم (الأدب الكبير) مما يعني أن (اليتيمة فـي الرسائل) ليس هو (الأدب الكبير) ولا هو جزءاً منه [٤١]. أما الأصمعي فقد سماه (الدرة اليتيمة) وقال: «صنف ابن المقفع المصنفات الحسان منها (الدرة اليتيمة) التي لم يصنّف فـي فنهـا مثلـها» [٤٢]. وهي بهذا الاسم عند الباقلاني - وإن سماها أبو تمام والثعالبي والحصري باليتيمة - ثم أوضح الباقلاني أنها تتضمن موضوعات ليست من مضمون كتاب (الأدب الكبير)؛ فقال: «وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن؛ وإنّما فزعوا إلى (الدرة اليتيمة). وهما كتابان أحدهما: يتضمّن حكماً منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل. فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى، والآخر: فـي شيء من الديانات وقد تهوَّس فيه مما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه فـي الحِكَم منسوخ من كتاب بُزُرجُمِهْر فـي الحكمة» [٤٣].
فمن المؤكد أن الباقلاني المتوفى (٤٠٢هـ) قد نظر فـي الكتاب، وعرف ما يحتوي عليه، مما جعله يرده إلى الأصل المنقول عنه… وكلاهما متداول بين أيدي الناس إلى زمن الباقلاني. لهذا نرجح أن (الدرة اليتيمة) هو الرسالة التي ردَّ عليها القاسم بن إبراهيم (ت٢٤٦هـ / ٨٦٠م) ونعته فيها بالزندقة [٤٤]. ورجح حاجي خليفة أن يكون اسمه (الدرة اليتيمة) ثم رأى أنه لُخِّص فـي كتاب آخر سمي (اليتيمة) فقال: «الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة لعبد الله بن المقفع الأديب. وهو كتاب لم يصنف فـي فنه مثله. لخّصه بعض المتصوفة (ابن عربي) وسماه: (عظة الألباب وذخيرة الكتاب). وهو مرتب على اثني عشر فصلاً. ويشتمل على الحقائق والمعاني، وأخبار السادة الصالحين، ولها مختصر آخر يسمى باليتيمة. » [٤٥]
ولم يذكر من اختصر الكتاب، وسماه بهذا الاسم (اليتيمة)… ولكنه يوضح لنا أن كتاب (الدرة اليتيمة) مؤلف من اثني عشر فصلاً؛ ويعالج جملة من المعاني والحقائق التي حدت بابن عربي إلى تلخيصه فـي الكتاب الذي أُشير إليه، فضلاً عن أخبار السادة والصالحين الذين ينشغل بهم المتصوفة. وهي موضوعات ليست من موضوعات (الأدب الكبير) فـي شيء، فهو يتناول السلطان والصداقة؛ مما يعني أنهما ليسا كتاباً واحداً كما ظن بعض القوم [٤٦]. فمضمون (الدرة اليتيمة) وقع فيه كلام على السادة، والحقائق؛ والديانات القديمة. ومن هنا زعم بعض القوم أن فيه كلاماً يعارض فيه القرآن الكريم، ولما قرأه الباقلاني قال: «وكتابه الذي بيناه فـي الحِكم منسوخ من كتاب بُزُرجمِهْر فـي الحكمة. فأي صنع له فـي ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به وبعدُ؛ فليس يوجد كتاب يدعي مدّعٍ أنه عارض فيه القرآن» [٤٧].
وقد ناقش بروكلمانُ أحمدَ أمين فـي شأن الكتاب [٤٨] فإذا كان الكتاب مفقوداً فإن هناك من نقل عنه إشارات تدل عليه مثل (القاسم بن إبراهيم؛ والباقلاني، وابن عربي، وحاجي خليفة؛ وقبلهم جميعاً الأصمعي).
وبهذا كله فكتاب (الدرة اليتيمة) والذي سماه ابن النديم (اليتيمة فـي الرسائل) و (اليتيمة) [٤٩] ترجمة عن كتب فارسية؛ ولا علاقة له بالأدب الكبير؛ وكذلك لا علاقة له بالرسالة الأخرى التي أطلق عليها (رسالة اليتيمة). فهذه الرسالة مثبتة فـي كتاب (المنظوم والمنثور) لابن طيفور ونقلها أحمد زكي صفوت فـي (جمهرة رسائل العرب [٥٠]. (وقد قابلت بين ما وصل إلينا من (الدرة) وبين (اليتيمة) فلم أجد شبهاً بينهما؛ مما يدل على أنهما رسالتان مختلفتان… ولعل ما قرأه ابن قتيبة يكون نصّاً من الدرة اليتيمة التي أوضحنا هيئتها سابقاً، وكذلك وجدناه عند الثعالبي والحصري (٥١).
وبناءً على ذلك كله نرى أن كتاب (الدرة اليتيمة) ليس هو الأدب الكبير، ولا هو رسالة اليتيمة؛ ونرجح أن يكون هو ما سماه ابن النديم (اليتيمة فـي الرسائل).
أما رسالة اليتيمة فهي ليست من الأدب الكبير، ولا الصغير فـي شيء، ولعل رأي حاجي خليفة - فـي هذا الشأن - أصح الآراء… فهي خلاصة للدرة اليتيمة كثر فيها التصرف… ولعل هذه الرسالة هي التي جعلت أبا تمام يصف ابن المقفع بالبلاغة والحكمة (٥٢).
وقد كشف بعض الباحثين وقوع سبب الوهم فـي اختلاط التسمية بين كتاب (الدرة اليتيمة) و (الأدب الكبير)؛ وأرجعه إلى ابن أبي أصيبعة فـي كتابه (طبقات الأطباء) ونقل عنه قوله: (ولابن المقفع أيضاً تواليف حسان؛ منها رسالته فـي الأدب والسياسة؛ ومنها رسالته المعروفة باليتيمة فـي طاعة السلطان) (٥٣).
ونرى أن العبارة ليس فيها لبس، لأن لفظ (منها ومنها) واضحة الدلالة فـي التمييز بين السابق واللاحق… ولكننا نقول: لعل الوهم وحده هو الذي خلق الاختلاط بينهما. فكتاب (الدرة اليتيمة) مفقود؛ ورسالة اليتيمة التي وصلت إلينا عن طريق ابن طيفور لاتشابه القطع التي حفظها بعض القدماء لنا من «الدرة» وكلها تختلف عن الأدب الكبير والأدب الصغير، وكلها لا يثبت من قريب أو بعيد شيئاً من الفكر الإلحادي الذي وصم به ابن المقفع حتى يتهم بالزندقة. ولا شيء أدل على هذا من أن الباقلاني كذَّب تخرّص المدعين عليه ذلك، ثم ذهب أكثر من ذلك إذ تابع بلغة صريحة واضحة وصف الكتاب فقال: (بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مُدّة ثم مزّق ما جمع، واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال فـي الابتداء ثم يلوح له رشده ويتبين له أمره؛ وينكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخْفَ علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته) (٥٤).
إن كلام الباقلاني يوضح ذاته، ولا حاجة للتعليق عليه؛ وهو من عرف بالتقى والورع والتشدد فـي دين الله … فهو يعرض للكتاب ويقرؤه ويفند آراء من تخرَّص على ابن المقفع بالشك والإلحاد… ويبين لنا بجلاء أن ابن المقفع لم يكن إلا مترجماً لكتاب من الآثار الفارسية… وكذا كان أمره فـي كتاب (مزدك) إن صح أنه له؛ وفـي غيره من الكتب…
وإذا كان ابن المقفع قد أكثر من ترجمة الآثار الفارسية فليس عجيباً عليه ذلك ولم يكن وحده… فضلاً عن الجو الفكري الحر الذي مكَّنه هو وغيره من ترجمة عدد من الآثار الأجنبية فـي عهد أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور… وكان من طبيعة هذه الترجمات أن تزيد من ثورة اللغة العربية، وثقافتها… وأن تفتح العقل العربي على الآخر؛ والعكس صحيح. (٥٥) ونقول: الجو الفكري وليس الجو السياسي؛ وكأن السفاح وأخاه أراد للناس أن ينشغلوا بقضايا الفكر لا قضايا السياسة.
وليس هنا مجال للحديث عن زندقة ابن المقفع، أو تعصبه لأجداده من الفرس؛ ولكن آثاره التي ذكرناها فرضت علينا هذه الإشارة… لأننا نعتقد بأن ابن المقفع كان فـي صدد وضع تاريخ للبشرية كلها، ولم يكن بين يديه إلا ما أخذه من الفارسية أو تلك التي تُرجم إليها… وهو حين يفعل هذا كله إنما يستمد من التاريخ عِبَره، ويستوعب حركته من أجل إحداث التغيير فـي الواقع الذي يراه…
ولا شيء أدل على مشروعه فـي إعادة كتابة التاريخ البشري من كتابه الآخر المفقود وهو كتاب (توزيع الدنيا)، ولعله من أقدم الكتب التي ألَّفها أو ترجمها. ويؤكده ما فعله من بعده الفردوسي فـي (الشاهنامه) وقد اعتمد على كتب ابن المقفع خاصة.
٧ - كتاب توزيع الدنيا: هذا كتاب آخر ذكره بروكلمان (٥٦) ثم عبد اللطيف حمزة من دون الإشارة إليه؛ واسم الكتاب موجود فـي كتاب (زين الأخبار) للكاتب الكارديزي. وقد وجد حمزة فـي كتاب (البدء والتاريخ؛ لأبي زايد أحمد بن سهل البلخي) ذكراً موجزاً له كما يبدو من قوله: (وعيوناً جارية؛ وأنهاراً مطردة. ثم صارت بعد ذلك بحراً طافياً؛ تجري فيه السفن؛ ثم صارت قفراً يابساً؛ ولا يدري كيف اختلف عليها الأحوال، ولا لِمَ اختلف إلا الله تعالى) (٥٧).
وفـي ضوء ما تقدم لابد للمرء أن ينطق بالحق والصواب، وقد وهبه الله أذناً واعية وعقلاً يستجيب لهما… فابن المقفع أخذ نفسه بالدرس التاريخي الذي يملكه؛ واعتقد بأنه يقدم جملة من الفوائد لمجتمعه وأمته الجديدة لهذا شرع يضع بين يديها العديد من ترجماته… وهذا ما تؤكده آثاره الباقية التي يعرض لها البحث.



٤ - آثاره الموجودة

قلنا: سقط أكثر إنتاج ابن المقفع من يد الزمن؛ ولكن جملة من آثاره العامة صمدت فـي وجه الأخطار التي أضرت بغيرها… وقد أثبتت هذه الآثار صحة مقولة الراغب الأصبهاني؛ وهي: «ابن بطريق وابن ناعمة وأبو فروة وابن المقفع وأرسطوطاليس وأفلاطون من متقدمي الحكماء، ومستخرجي العلوم (٥٨)». كما أعلنت آثاره أنه لم يكن (فـي حقيقته عدواً للعرب؛ وللعصبية العربية؛ مخلصاً للفرس وللعصبية الفارسية)؛ كما أن موقفه لم يكن عدائياً للحكومة المركزية القائمة؛ لأن رؤساءها يحتفظون (بشيء من الهوى العربي؛ أو ينتسبون إلى أجداد من العرب؛ والعرب - فـي رأي هذا الكاتب - قوم لا يستحقون هذا السلطان) وما قاله فـي توجيه شؤون الدولة إنما كان نابعاً من نزوع إصلاحي صرف…
هذا كله مما ذهب إليه بعض الباحثين (٥٩) فـي ابن المقفع؛ إذ جعله شعوبياً؛ متعصباً لفارس وديانتها المانوية؛ وكارهاً للعرب…
ومهما تشعبت الآراء فإن المنهج العلمي يفرض علينا الموضوعية والنزاهة؛ ولو كنا من أشد الناس حباً لانتمائنا؛ فالانتماء الأصيل يعلي من كرامة الإنسان، وينصف الآخر… ولعل الآثار التي تركها ابن المقفع قادرة على إبراز ماهيتها، وتبرئة الرجل من كل ما اتهم به؛ ويعد كتاب (كليلة ودمنة) فـي طليعتها.
١ - كليلة ودمنة: لقيت ترجمة ابن المقفع لهذا الكتاب عناية عظيمة لدى الأمم كلها قديماً وحديثاً؛ فقد خصّه الأدباء والدارسون بالترجمة والتحليل والشرح والنظم. (٦٠) ومما يدل على تقدم ترجمة ابن المقفع لهذا الكتاب أن هناك ترجمة أخرى له لعبد الله بن هلال الأهوازي قدمها إلى يحيى بن خالد البرمكي سنة (١٦٥هـ) فـي خلافة المهدي، لم تلق عناية واضحة، وكأنها ولدت ميتة؛ وقبعت فـي أحضان التاريخ، وإن ارتاب فيها المستشرق دي ساسي (٦١).
ويحتاج كتاب (كليلة ودمنة) إلى صفحات كثيرة للإحاطة به؛ وحسبنا - هنا - أن نقف عند أهم قضاياه الفكرية والفنية والتاريخية، إذ أجمع الناس على أنه مترجم عن الفهلوية القديمة؛ التي كانت بدورها قد نقلته عن اللغة الهندية فـي عهد كسرى أنوشروان. ويبدو أن الفرس زادوا فـي أصله زيادات عديدة، كما توضحه المقارنة بينه وبين ما عثر عليه من أصول هندية مثل (بَنْجَ تانترا) وتعني المقالات الخمس؛ و (تانترا) تعني (صندوق المعاني الطيبة). وحوى خمسة أبواب (الأسد والثور، والحمامة المطوقة، والبوم والغربان؛ والقرد والغيلم. والناسك وابن عرس) ومثل كتاب (مهابهارتا) وفيه ثلاثة أبواب (الجُرَذ والسنور، والملك والطائر فَنْزَة، والأسد وابن آوى)، ومثل كتاب (هتو بادشا)، والأصل السرياني الذي عثر عليه فـي دير (ماردين) المنقول عن الفهلوية سنة (٥٧٠م) (٦٢). وكان الدارسون فـي ريب من ذلك حتى عثر على هذه الأصول، وفيها قطع متفرقة من عمل ابن المقفع؛ وإن لم تتطابق… وعنه نقل ابن قتيبة وغيره جملة من النقول. (٦٣)
إذاً؛ اتضح لنا بما لا يقبل الشك أن الأبواب الهندية اثنا عشر باباً؛ والفارسية ثلاثة أبواب؛ وزاد ابن المقفع ستة أبواب؛ فانتهت إلى واحد وعشرين باباً…
أما الأبواب الفارسية فهي (مقدمة برزويه، وباب بعثة برزويه؛ وباب ملك الجرذان) ومن ثم ذهب غير واحد إلى أن الباب الذي سماه (عرض الكتاب) وكل من الأبواب الآتية: (الفحص عن أمر دمنة) و (الناسك والضيف) و (مالك الحزين والبطة) و (الحمامة والثعلب ومالك الحزين) من زيادات ابن المقفع، والباقي هندي. (٦٤)
ومقدمة ابن المقفع (عرض الكتاب) تختلف عن المقدمة التي وضعها بَهْنود بن سَحَوان، ويعرف بأبي القاسم علي بن محمد بن الشاه الظاهري (ت ٣٠٢هـ) (٦٥) كما أن باب (برزويه) موجود فـي الأصل الفارسي وليس من زيادات ابن المقفع كما رأى البيروني، وأيده عابدين ورأى أن الكتاب كله مترجم عن السريانية (٦٦).
وإذا أخذنا بعين النظر أن ترجمة ابن المقفع نفسها قد دخل فيها تغييرات كثيرة على أيدي النساخ؛ فإننا ندرك أن الأصل الهندي الكامل، والأصل الفارسي المترجم عنه قد ضاع كل منهما، ولم يبق إلا ما ترجمه ابن المقفع… وعنه نقل الكتاب إلى الفارسية وغيرها. ولعل أشهر ترجمة له إلى الفارسية تلك التي أشرف عليها أبو المعالي نَصْر الله بن عبد الحميد سنة (٥٣٩هـ / ١١٤٤م) (٦٧).
وكذلك نظم الكتاب شعرا (٦٨) وأول من نظمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي (ت ١٨٠هـ) ونظمه ابن الهبّاريّة وهو الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح بن حمزة (ت ٥٠٤هـ / ١١٠٠م) ولم يذكر فيه باب (الحمامة ومالك الحزين) بينما ذكر باب (إيلاذ وبلاذ) و (هيلاروبيلار) مع الاختلاف فـي السياق، وذلك فـي كتابه (نتائج الفطنة فـي نظم كليلة ودمنة).
ويدل نظم الكتاب على أهميته وكذلك ترجماته الكثيرة التي سنذكرها، أما التأليف على منواله فقد عرف على نحو بارز، ومن هذه التآليف كتاب (سلوان المطاع فـي عُدوان الطباع) لأبي عبد الله محمود بن أبي قاسم القرشي المعروف بابن ظَفَر (ت ٥٩٨هـ).
ويظن المستشرق (جولد زيهير) أن اسم (إخوان الصفا) مقتبس من باب (الحمامة المطوقة) (٦٩).
ونكتفـي بهذا التعريف الذي قدمناه للكتاب؛ لنقول: إن ابن المقفع ترجم الكتاب فـي بداية الدعوة العباسية نحو (١٣٣هـ / ٧٥٠م)، غالباً (٧٠). فهو من أوائل الكتب التي عُني بها قبيل إسلامه سنة (١٣٢هـ) ولغته دالة على ذلك (٧١). وقد سبق فيه مُصَنّفِه الآخر (رسالة الصحابة)، وليس العكس كما ذهب إليه بعض الدارسين (٧٢).
وقد جاء الكتاب فـي أربع مقدمات، وخمسة عشر باباً؛ غيّر فـي كثير من معانيها وصورها لتلائم الذوق العربي والإسلامي، ولتوافق الهدف الذي رمى إليه؛ وهو تنبيه أصحاب الحل والعقد فـي الخلافة على كيفية حكم الرعية، والتعامل مع الولاة؛ وكيف يتقي بعضهم بعضاً (٧٣). وقد رمز لغرضه هذا فـي البند الرابع من أغراضه الأربعة وهي:
(أحدهما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة من مسارعة أهل الهَزْل من الشبان على قراءته فتستمال به قلوبهم؛ لأن هذا هو الغرض بالنوادر من حيل الحيوانات. والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أُنْساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة فـي تلك الصور.
والثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه ولا يبطُل فيخلَق على مرور الأيام ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً.
والغرض الرابع - وهو الأقصى - مخصوص بالفيلسوف خاصة) (٧٤).
والكتاب أسئلة وأجوبة كان يلقيها ملك من ملوك الهند يقال له (دَبْشليم) على فيلسوف حكيم يسمى (بَيْدبا). ويجيب (بيدبا) فـي كل مرة بحكاية على ألسنة الحيوانات تحمل مغزى ما؛ لا يصرح به على الأغلب.
ويقرّ ابن المقفع صراحة (فـي عرض الكتاب) بأصل الكتاب فيقول: «هذا كتاب (كليلة ودمنة)، وهو مما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي أُلهموا أن يُدخلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول فـي النحو الذي أرادوا …
فأول ما ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ والرموز التي رُمزت فيه، وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم، وأضافه إلى غير مفصح… فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرةٍ يجتني منها؛ ولا أي نتيجة تحصل له مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب». (٧٥)
وهو يعلم أبعاد الرموز التي وضعت على ألسنة البهائم؛ وما توحيه من أفكار فـي هذا الاتجاه أو ذلك… فقد شغل ذهن ابن المقفع صورة الحاكم المستبد الذي يبطش برعيته دون رحمة، وقد ضيّق عليها الخناق، وألهب ظهرها السوط، وماتت قلوبها من الرعب… فلم يجرؤ أحد على نقده…
ولهذا ظن فـي نفسه الخير والصلاح لأنه سد أذنيه عن كل نَصيحة وموعظة أياً كانت قيمتها (٧٦). وفضلاً عن هذا فإن الكتاب يشي بكثير من المفاسد الاجتماعية والسياسية التي تقع فـي أروقة الدولة والولايات.
ومن هنا كان أدب السلطان أهم موضوع فـي الكتاب، ويعقبه أدب الصداقة؛ ومن ثم أدب النفس… وهي الموضوعات التي دارت عليها مؤلفات ابن المقفع كلها؛ وكأن كتاب (كليلة ودمنة) ظل الموجه له والقابض على أفكاره فـي (الأدب الكبير) و (رسالة الصحابة) خاصة.
ومن يتعقب أبواب الكتاب يمسك بنقد غير صريح للحكم، فـي الوقت الذي يقدّم فيه الكثير من الحكم والمواعظ للسلطان كالحِلْم والتعقّل، وحفظ العهد والوفاء، وحسن والسيرة؛ وحسن تدبير شؤون الحكم واختيار البطانة من الأمناء والشرفاء… وتحصين العدل وتفقد الرعية… فالحاكم موضع ثقة الرعية، وصلاحها بصلاحه… ويلمس كل قارئ هذا فـي باب (الأسد والثور) و (الملك والطائر فَنْزة) و (الأسد وابن آوى والناسك) و (السائح والصائغ).
وقبل أن نتوقف عند بعض الإيحاءات الفكرية لهذا الموضوع نشير إلى الموضوعين الآخرين فـي الصداقة وأدب النفس. فقد احتلت الصداقة مكاناً رفيعاً من الكتاب وركز فيها على منافع الصداقة وجمالها وشروطها، وأنواعها؛ وكيفية مساعدة الصديق لصديقه… والإمارات التي يعرف بها الصديق… ويعد باب (الحمامة المطوقة) من أبرز الأبواب التي تناولت ذلك.
وحفـي كتاب كليلة ودمنة بالأخلاق وتهذيب النفس، وضرورة العقل وأهمية ذلك فـي الحياة… وفـي باب (الأسد والثور) و (باب الفَحْص عن أمر دمنة) و (البوم والغربان) و (القرد والغيلم) … وغير ذلك الكثير من أشكال التأديب فـي المروءة والصدق، والوفاء، والأمانة، والإخلاص… والتنفير من الحقد والحسد والخيانة والغش… والغدر والسرقة…
فالكتاب بحق ذو قيمة كبرى فـي القيم والفضائل وعادات الشعوب القديمة، وفـي فلسفتها الفكرية والأخلاقية…
وتبقى أهم قيمة يشتمل عليها الكتاب القيمة السياسية التي تتعلق بنظام الحكم وما يجري فيه من فتن ومكائد. فمن يقرأ باب (الأسد والثور) أو باب (البوم والغربان) مثلاً يلحظ أنه يتحدث عن أحوال الدولة وسياستها ويبين أن كل من استقر به الحكم طغى (وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك؛ وكان مع ذلك مؤيداً مظفراً منصوراً؛ فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة؛ عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتواً). (٧٧)
ومن هنا فنحن لا نشك - كما سبقنا إلى هذا الكثيرون - فـي نقدِ بل استنكار ابن المقفع لأشكال الانحراف فـي سياسة الحاكم واختياره لبطانة فاسدة لم تقدم للناس إلا شراً وثبوراً… ولا نرتاب فـي أنه لم يصرح به؛ ولكنّ ترميزه كان شديد الإيحاء بمضمونه، فإذا كانت الحيوانات تمقت الظلم والقهر والقتل، والخيانة، والغدر؛ والفجور… وتسعى إلى العدل والإنصاف، وتزداد بالمشورة رأياً وعقلاً، وحكمة وقوة… فإن الإنسان، ولاسيما إذا كان ملكاً مطاعاً، أولى منها بهذا العدل والرفق بالرعية، والتخلص من أهل الفساد الذين يعبثون بمقدرات البلاد؛ ويهتكون شرف العباد.
فالكتاب - فـي الأصل - مثقل بالرموز الكثيرة التي تفضح أساليب الحاكم فـي النيل من خصومه؛ ومن ثم بغيه فـي الرعية؛ وإيقاع الهلاك على أبرياء أُخذوا بظنة الحاكم أو أزلامه… ثم استطاع ابن المقفع أن يحمله كثيراً من الأبعاد السياسية التي حدثت فـي عهده… فما أشبه حال الخليفة بحال الملك (دَبْشليم) وما أشبه حال ابن المقفع بحال (بَيْدبا) كل منهما يريد تقديم النصيحة للحاكم الظالم الغاشم ورده إلى الحق والعدل والعطف على الرعية… وأن يعمل عقله فـي خير الدولة والناس.
ولذلك نرى أن ابن المقفع لم يكن سياسياً بارعاً فـي اصطناع الحيلة والترميز فـي اختياره لقصَة (كليلة ودمنة) من خزانة ثقافته، وجعلها وسيلة لإبراز هدفه؛ ولم يكن حصيفاً فـي عقله كما كان عليه فـي كتابته لرسالة الصحابة - ولعل عدم حصافته تلك ترجع إلى حماسة الشباب، وإلى قلة الخبرة بالخلفاء والملوك - ولكنه في الوقت نفسه لم يكن ساذجاً فـي تخيره لهذا لكتاب؛ فقد دل فيه على وعي سياسي ناضج بأهمية إصلاح شؤون الحاكم والحكم، وتوجيه أمرهما إلى ما فيه خير البلاد والعباد… فهو يسعى جاهداً إلى إصلاح نظام الدولة. ولهذا ستظل أفكار هذا الكتاب موجهة لعقل ابن المقفع ومؤلفاته من بعد؛ مما يجعله يثيرفـي النفس أمرين: الأول أن ابن المقفع يعنيه كل ما يقع على الناس - وهو منهم - من مظالم وقتل وتشريد… وخوف ورعب… ولم يكن يملك إلا قلمه؛ وحماية سليمان بن علي وإخوته، فاختار كتاب (كليلة ودمنة) ليعبر عما يدور فـي خلده… وعما يرمي إليه من مقاصد… فهو بكل تأكيد يريد إصلاح نظام الحكم لا مهاجمته؛ ولا يرغب فـي النيل من الخليفة؛ وإن جَرَّح بطانته؛ إنه يرغب فـي تنبيهه على ما يجري من أحداث… ولكنه يخشى على نفسه؛ فيما لو صرح بمراده؛ ومن هنا عمد إلى الترميز لهذا الكتاب بما فيه الأبواب التي أضافها إلى الأصل. (٧٨)
هذا هو المراد من الكتاب فالرجل ترجم الكتاب، وصنع فيه ما صنع ليس بداعي التهكم بالعرب؛ وبسلطانهم… وكيف يستقيم هذا وهو يعيش فـي حمايتهم؛ وخيره من فضل أيادي بعض عمومة الخليفة؟ ! وقد اختار قصة من أصل هندي، لا علاقة لفارس بها إلا أنهم كانوا نقلة لها من أصولها… وهذا الاختيار يبعد عنه أي عصبية لأي جنس إلا العصبية للحق، والتبصير بالمفاسد والمظالم.
ويبدو أن الرموز التي حملها الكتاب قد وصلت إلى أبي جعفر المَنْصور وكان آنذاك والياً على فارس وأذربيجان وأرمينية… وربما أغاظه لما يشتمل عليه من أفكار فـي توجيه الرعية وتبصيرها بحقوقها؛ والمطالبة بتحقيق العدل؛ ومعرفة الظالم والفاسد؛ وتمييزهما من العادل والصالح (٧٩)… وإن لم يكن هناك دليل صريح على ذلك… وهل يأخذ الحاكم بما يرويه رجل على ألسنة البهائم؟ !.
هذا رأي لا غبار عليه أبداً؛ لكن المرء يضيف إليه أن الكتاب لا يتضمن أي قَدْح فـي أي شخص أو حاكم بعينه؛ ولكن السلطان يأخذ دائماً بالأحوط. لهذا ربما داخله شيء من الريبة فـي الرجل… ولعل هذا الكتاب كان بداية للتنافر فـي النفوس، دون أن يظهر بشكل جلي.
أما الأمر الثاني فهو يوضح أن كتاب (كليلة ودمنة) ترجم نحو سنة (١٣٣هـ / ٧٥٠م) إن لم يكن قبلها؛ ولم يقدمه لأبي جعفر المنصور؛ ولا لأبي العباس السفاح بشكل مباشر… إنه موجه للحاكم الذي تحمَل أمانة الحكم، وامتلك أعناق العباد، وتقلد أرجاء البلاد… فلابد له من العدل والرحمة وتدبير شؤون الحكم على خير وجه فـي الداخل والخارج.
ومن ثم فالنقد الموجود فـي الكتاب - وإن تركز على الحاكم وبطانته - فهو نقد عام وكأنه لم يقصد أحداً؛ لأن الرجل يشرح المرض أو الداء ويتبعه بالدواء والعلاج. لهذا ليس فيه إلا وجه الإصلاح للدولة التي يرغب فـي أن تصبح أنموذجاً خيّراً؛ بدل أن تعيش فـي حالة فوضى وفساد…
وهذا يشجعنا على القول: لقد استطاع ابن المقفع أن يكون سابقاً لزمانه حين وضع نفسه بين حضارتين قديمة زائلة؛ أخذ منها العِبَر وبين حضارة جديدة ناهضة يقدم لها النصيحة والموعظة فـي ضوء ثقافته الموروثة من تلك الحضارة.
فقد أعطى حضارته الجديدة جملة من الأفكار، والنصائح فيما لو عملت بها لتقدمت وتخلصت من أشياء تشين مسيرتها… فكتاب كليلة ودمنة لم يكن هدفه السلطان وحده؛ وإنما كان مرماه الحضارة كلها وليس السلطان إلا وجهاً واحداً لها، على أهميته… فهو يقصد إلى نشر المحامد والفضائل أينما كانت، وتجنب المساوئ والتخلص من المظالم والمفاسد أينما وقعت.
وبعدُ؛ فإني أكتفـي بهذه الإضاءات، ولا يستطيع المقام أن ينهض بكل ما يوحي به كتاب كليلة ودمنة؛ فهو كتاب حكمة وأمثال، وأدب وأخلاق؛ وكتاب تاريخ وسياسة واجتماع؛ وكتاب يصدق فيه أن يكون رواية أو مسرحية؛ أو نصّاً أدبياً فنياً مبدعاً… يقدم أفكاره بأسلوب شائق جذاب يجمع بين الخرافة والحقيقة بلغة سهلة واضحة وجميلة ومثيرة…
إنه فتح مبين فـي قصص الحيوان الرمزية الطويلة (٨٠) وهي تختلف - من غير تردد - عن الحكايا الخرافية التي قدّمها لنا الشعر القديم، أو عرفتها الأمم الأخرى.
فكتاب (كليلة ودمنة) يعد أبقى أثر تركه ابن المقفع للبشرية، سواء اتهمه الدكتور طه حسين بضعف التراكيب فيه (٨١) أم دافع عنه أحمد أمين وغيره، وجعلوه أحد أقطاب العربية؛ والمجدد فـي أساليبها (٨٢).
فهذا الكتاب يظل عَلَماً على ابن المقفع، وابن المقفع علماً عليه (٨٣)، ويظل عندنا الشاهد الأهم على وجود الحرية الفكرية فـي عهده؛ وإن رأى أن الحرية السياسية غير موجودة. لهذا شدد على إصلاح النظام السياسي، علماً أنه ينسب الفساد إلى عمال الخليفة ومن يستعين بهم فـي تنفيذ شؤون الحكم؛ ولا ينسبه إلى الخليفة…
ومما يدل على أهمية هذا الكتاب أنه ترجم عن النسخة العربية إلى لغات عالمية كثيرة؛ إذ ترجم إلى السريانية الحديثة فـي القرن العاشر أو الحادي عشر ومنها نقل إلى الإنكليزية سنة (١٨٨٠م)، وترجم إلى اليونانية سنة (١٠٨٠م) ومنها نقل إلى الإيطالية (١٥٨٣م) والسلوفينية؛ وترجم إلى الفارسية فـي القرن السادس الهجري وإلى العبرية واللاتينية القديمة، والإسبانية القديمة فـي القرن الثالث عشر؛ ثم ترجم من العبرية بترجمة (يوحنا ١٢٧٠م) إلى الألمانية (١٤٨٠م) وإلى الإسبانية الحديثة (١٤٩٣م) وإلى الإيطالية (١٥٥٢م) … كما ترجم من الألمانية إلى الدانمركية والهولندية، ومن الإيطالية إلى الإنكليزية (١٥٧٠م) ومن الإسبانية الحديثة إلى الإيطالية (١٥٤٨م) كما ذكر الدكتور عبد الوهاب عزام فـي مقدمته لطبعة الكتاب فـي مطبعة دار المعارف، وعنه نقل فاخوري فـي تأريخه للأدب العربي، وله ترجمات إلى التركية فـي مطلع القرن السادس عشر، وإلى الفرنسية (١٧٧٨م) وإلى الروسية (١٨٨٩م) وغير ذلك من اللغات (٨٤).
٢ - الأدب الصغير والأدب الكبير: قبل أن نوجز الحديث عن الكتابين يفرض علينا المنهج العلمي أن نبين معنى كلمة (أدب) وكلمة (الصغير - الكبير) فيما جاء فـي العنوان لكل منهما، لأنه ما من باحث تناول كلمة (أدب) إلا ذكر كتابي ابن المقفع…
وليس المجال هنا موضوعاً لاستقصاء معاني الكلمة؛ ولهذا نبين أن الجاهليين استعملوها فـي معنى الدعوة إلى الطعام… بينما استعملت فـي العصر الإسلامي بمعنى تهذيب النفس، وإقامتها على جادة الأخلاق والحق، وعلى هذا المعنى جاء الحديث الشريف: (أدّبني ربي فأحسن تأديبي) (٨٥)، ومثله ورد فـي قول أم ثواب وهي امرأة من هزان أنشدت شعراً فـي ابن لها عقها (٨٦):
أبعدَ شيبي يبغي عندي الأدبا؟ !
أنشا يمزّق أثوابي يؤدبني
ولهذا ارتبطت بالحديث، والمجلس، من جهة الخُلُق؛ فقيل: أَدَبُ الحديث، وأدب المجلس…
أما ابن المقفع فكان أول من جعلها عنوانين لمؤلفين له؛ وهو الذي أخذ نفسه بالتهذيب الخلقي قولاً وفعلاً… حتى صار علماً عليه. (قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: مَنْ أَدّبك؟ فقال: نفسي) (٨٧). وكان يعني بالكلمة تهذيب النفس على الخلق النبيل والفضيلة والمروءة… وهو المعنى المعروف والشائع حتى عصره، وإن توسع المعنى فيما بعد ليصبح معرفة الأشعار والأنساب والأيام والأخبار…
وغير ذلك كما نجده فـي عنوان كتاب لابن قتيبة (ت ٢٧٦هـ) وهو (أدب الكاتب؛ إذ أصبح معنى الأدب (الأخذ من كل علم بطرف) (٨٨).
فمعنى كلمة (أدب) عند ابن المقفع فـي الكتابين هو معنى تهذيب النفس وتربيتها على الفضيلة، ولهذا جعل مضمونهما يعبر عن عنوانهما… أما كلمة (الصغير) و (الكبير) فليست وصفاً لكلمة (الأدب) كما ذهب إليه بعض الباحثين (٨٩)؛ لأنه يستحيل فـي العقل والمنطق وجود خُلُق صغير، وآخر كبير؛ أو تهذيب صغير… والرأي ما ذهب إليه الأستاذ أحمد أمين - رحمه الله - إذ قال: (كلمة الصغير والكبير وصف للكتاب. وقد شاع استعمال هذا التعبير فـي ذلك العصر؛ فقالوا كتاب الطبقات الكبير لابن سعد؛ وأحياناً يحذفون كلمة (كتاب) ويبقون الوصف فيقولون: (السِّيَر الكبير، والسير الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني) ومن هذا؛ الأدب الصغير والأدب الكبير. فليس الصغير والكبير وصفين للأدب، ولكن للكتاب المفهوم ضِمناً) (٩٠) أما ابن النديم فقد حلّ المشكلة ولم يحذف وسماهما (كتاب الآداب الكبير) و(كتاب الأدب الصغير) (٩١) والصغير فـي ثلاثين ورقة بينما الكبير فـي نحو مائة ورقة؛ علماً أن نسبة الفرق فـي حجمهما تتفاوت بين الطبعات.
ونذكّر هنا بما سبقت الإشارة إليه من أن الأدب الكبير ليس هو الدرة اليتيمة أو رسالة اليتيمة التي ذكرها أحمد زكي صفوت باشا؛ ونقلها عن المنظوم والمنثور لابن طيفور… وكذلك ليس الأدب الصغير هو اليتيمة الملخصة عن الدرة اليتيمة (٩٢).


ومن هنا نبدأ بحديث موجز عن الكتابين لنتوقف عند قراءة لأبعادهما الفكرية، والأدبية…

أـ الأدب الصغير:
كتيب موجه للعامة قبل الخاصة لا يزيد حجمه على ثلاثين صفحة فـي بعض الطبعات وهو فـي نحو خمسين صفحة فـي الطبعة التي اعتمدنا عليها من (صفحة: ١٥) إلى (صفحة: ٦٦) (٩٣).
إنه رسالة صغيرة فـي الوصايا الخلقية، والحكم التي تستوفـي نصائح عديدة من دون تحليل للنفس والخلق… لأنها مجموعة من الآراء المنتزعة من هنا وهناك من أقوال السابقين. وهي تمثل تجارب صيغت بإيجاز شديد ومحكم؛ فضلاً عن الخطرات الفكرية الذاتية لابن المقفع، والتي تم تأليفها بكلمات رشيقة وسديدة خلت من القصص والأمثال (٩٤).
ويتضح لكل ناظر إليه أنه ينقسم إلى مقدمة ومتن؛ فقد ذكر فـي المقدمة حاجة العقل إلى الأدب، وأثر الأدب فـي تنمية العقل… ويفيد العقل فـي ستة أشياء:
١ - إيثار الأدب بالمحبة على كل شيء.
٢ - المبالغة فـي طلب الأدب بدافع الإيثار.
٣ - التثبت من تخير الأدب.
٤ - الثقة بالنفع والخير العائد من الأدب.
٥ - حفظ الأدب ومدارسته، لأن الإنسان مطبوع على النسيان.
٦ - وضع الأدب فـي الموضع اللائق به.
ومن ثم يبين مصادره التي اعتمد عليها فـي تأليف الكتاب، وكأنه جمع فيها بين النقل أو الترجمة وبين الإبداع الذاتي…
وبعد أن عقد تأليفه بمشيئة الله بدأ بعرض حكمه ونَصائحه وانطلق فيها من الفرد العاقل والعارف، فلينظر أين يضع نفسه، وليعرف جماع الصواب والخطأ… (٩٥)
ويبدو أن خاتمه الكتيب أو الرسالة كانت مناسبة للابتداء، إذ (لا يزال الرجل مستمراً ما لم يعثر) (٩٦).
هذا الكتاب لم يختلف فيه أغلب الدارسين؛ وإن قيل: إنه سُمّي باسم (اليتيمة)؛ فالقدماء والمحدثون سموه بالأدب الصغير؛ لكن بروكلمان يرى أنه (ربما كان مختصراً من كتاب الأدب الكبير الذي يمكن أن تكون مأخوذة منه نُقول ابن قتيبة التي لا توجد فـي الأدب الصغير). ثم يقول: (ليس له ترتيب خاص؛ بل هو يتكئ بقوة على كتاب كليلة ودمنة فـي حكمته الخالصة؛ ويدعو إلى اتباع السنة والتمسك بآثار السلف)؛ ثم يرجح نحله على الرجل (٩٧).


ب - الأدب الكبير
كتيب صغير عرفه القدماء والمحدثون باسمه هذا (٩٨) غالباً؛ وإن عرف بغيره فقد أطلق عليه ابن النديم وبروكلمان اسم (كتاب الآداب الكبير) (٩٩) … بينما كان ابن قتيبة يطلق اسم (الآداب) عليه من دون (الكبيرة) فيقول: (قرأت فـي آداب ابن المقفع) كما زعم عليه بعض المحدثين. (١٠٠)
وإذا كنا قد أشرنا سابقاً إلى الالتباس بينه وبين (الدرة اليتيمة) أو (اليتيمة فـي الرسائل) حتى أخذ اسمها؛ عند بعض الدارسين فإن ابن النديم أطلق عليه اسم (ماقرا حسيس) فقال: (كتاب الآداب الكبير ويعرف بما قرا حسيس) (١٠١). ويرى الأستاذان (هوفمان وجوستي) أن اسمه محرف عن (مَه فراجو شناس). و (ينبغي أن تكون (مه) بمعنى عظيم أو كبير، (فراج) بمعنى سمو أو علو، (شناس) بمعنى الشرح أو الفهم) (١٠٢).
وبذلك لقي الكتاب عناية الدارسين قديماً وحديثاً، فـي جانبه الفكري والأدبي… ولسنا نشك لحظة فـي أن الكتاب ترجمة عن الآثار الفارسية غالباً؛ ولكنه ليس من أثر واحد؛ وإن غلب عليه النقل من وصايا (أردشير إلى ولي العهد) … وهذه الوصايا المثبتة فـي كتاب أردشير شغلت حيزاً من الجزء الأول يبلغ مائة وثماني وعشرين صفحة فـي كتاب (تجارب الأمم) لابن مسكويه… (١٠٣)
ولما كان عمل ابن المقفع قائماً على النقل غير الحرفي، والاستناد إلى عدد غير محدود من الآثار فإن أي أحد لا يمكنه أن يقول: إن عهد (أردشير) ترجم كاملاً إلى العربية، لا ابن مسكويه ولا غيره… ولكن الموازنة بين الأدب الكبير فـي موضوع (السلطان) وبين العهد السابق تبرز نقاط التقاء عدة، مما دفع بالدكتور عبد اللطيف حمزة إلى الاعتقاد بأن العهد من ترجمة ابن المقفع أيضاً (١٠٤). ولعل هذا صحيح؛ فمقدمة الأدب الكبير للسلطان تشابه كثيراً المقدمة المنشورة لعهد أردشير، فضلاً عن طبيعة المنهج.
فالكتاب صغيرالحجم لايزيد على مائة ورقة (١٠٥) ويضم مقدمة، وموضوعين اثنين. أما المقدمة التي اختطها فـي التأليف، ولاسيما فـي الأدب الصغير والكبير فقد كانت بداية لوضع مقدمات الكتب…
وهو يصرح فـي هذه المقدمة كما فعل فـي سابقتها بالعديد من الوصايا، والحكم التي لابد لطالب العلم من الالتزام بها؛ فضلاً عن بيان مصادره والتنويه بالقدماء… فهم عظيمو الفضل على الأجيال، وكانوا أبداً يتطلعون إلى الحكمة وطلب العلم، ويسارعون إلى تقييد العلم بأي وسيلة توافرت لهم وأينما كانوا… فمصادر علمهم فـي شتى الميادين كانت معينَه الذي ينهل منه… وما كتَبه إنّما هو مشتق من حكمهم.
أما نصائحه لطالب العلم فهي ثمانٍ:
١ـ معرفة الأصول والفروع.
٢ـ الالتزام بطلب العلم، ولزومه للوصول إلى التفقه فيه كما يفعل رجل الدين.
٣ـ صلاح الجسد ومنافعه يكون باللذائذ الروحية والعقلية لا باللذائذ البدنية من مأكل ومشرب ونكاح… وإن كان لابد منه فليكن خفيفاً.
٤ـ الإسراع إلى طلب العلم والصبر عليه، فليكن المرء أول حامل له وآخر منصرف عنه.
٥ـ زكاة العلم تعليمه؛ أن يجود به على أهله.
٦ـ صون العالم لنفسه وعلمه الوقار والاحتراز والتحفظ بما يقول.
٧ـ منافع العلم الدنيوية كثيرة مادية ومعنوية.
٨ - لما كانت منافعه كثيرة فلابد للعالم من الاتصاف بالأخلاق…
أما متن الكتاب فإنه يشتمل على موضوعين اثنين؛ وقد تكامل كل موضوع فـي أفكاره؛ فجاءت مرتبة منسقة مستوفية استيفاءً حسناً للكلام الذي وضعت له؛ الأول (فـي السلطان) والثاني (فـي الأصدقاء).
ويبدو لي أن السلطان شغل ذهن ابن المقفع كثيراً؛ وكان يرى أنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية، وما يلمسه ليس كما يريد لخير هذه الأمة. وهذا عينه ما نفهمه من الحديث الشريف (أّيَّما راعٍ غَشَّ رعيته فهو فـي النار) (١٠٦). ومثله الحديث الآخر: (ألا إنَّ لكل غادرٍ لواءً يوم القيامة بقَدْر غَدْرته؛ ألا وأكبر الغدر غَدْر أميرٍ عامةً، ألا لايمنَعن رجلاً مَهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (١٠٧).
فابن المقفع شهد الفتنة العظيمة حول الخلافة بين الأمويين وأعدائهم؛ ثم عاين ما يجري من أبي العباس السفاح لتوطيد أركان الحكم ومن بعده أخيه أبي جعفر الذي بطش بأعمامه، وكل من شعر بأنه خطر على حكمه كأبي مسلم الخراساني، ولم تشفع له أعماله الكبرى فـي خدمة دولة بني العباس وهي فـي أول عهدها…
وربما انغمس ابن المقفع فـي الخلاف الذي ظهر بين أبي جعفر وبين عمه عبد الله بن علي وإخوته، لأنه كان كاتباً لسليمان بن علي… وأجج ناره حتى اكتوى بها، ومن ثم أحرقته… وقد أمر المنصور بقتله.
فهو فـي باب السلطان يقسم نصائحه إلى قسمين؛ قسم يتعلق بالشؤون الشخصية فـي حياة السلطان وصفاته وكيفية التعامل مع عماله ورعيته. فعليه ألا يركن إلى المدح؛ وأن يعرف أهل الفضل؛ وأن يقدّر لكل شيء قدره، وأن يعتدل فـي القول والفعل والتصرف؛ فلا يغضب ولا يظلم… ولا ينسى رعيته بالتفقد والرعاية…
ومن ثم يعرض لقسم آخر يتعلق بكيفية التعامل مع السلطان وإنزاله منزلة الثقة دون أن يسأله أو يدلّ عليه بما يقوم به… وعليه أن يحذر من سخطه ومن الكذب عنده؛ وأن يحسن الإصغاء، ويعرف متى يسكت؛ ومتى يجيب… ومن ثم لابد من أن يرفق بنظرائه ممن يعملون عند السلطان من الوزراء والأخلاء… وأن يحتمل كل رأي مخالف لرأيه، وألا يشكوهم إلى السلطان… فمن لم يدرّب نفسه على طاعة الملوك وموافقتهم فليبتعد عنهم…
أما الرعية فلابد لها من الابتعاد عن السلطان، وأن تحسن مداراته إلا فيما يخالف فيه مبادئ الدين والعقل والمروءة كما فـي قوله: (إن استطعت ألا تصحب من صحبتَ من الولاة إلا على شعبة من قرابةٍ، أو مودة فافعل) (١٠٨).
ولعل هذه الوصية هي التي جعلته يبتعد عن دار الخلافة وأبي جعفر المنصور، واكتفى بما ناله من بعض الولاة… وكان قد رأى ما حلَّ بصديقه عبد الحميد، وشهد ما جرى لوفد البصرة الذي رجع خائباً مكسوراً؛ ولم يُسمح له بالدخول على أبي العباس السفاح.
أما موضوع (الأصدقاء) فهو يمثل الرسالة الثانية من كتاب (الأدب الكبير) … وهو يعرض لأقوال مأثورة جميلة فـي الصداقة والصديق مما جرى على ألسنة الحكماء… فالصداقة أُسّ الحياة؛ ومرآة النفس، ومنزلتها فـي الذات أسمى المنازل كما يطالعنا فـي أول الرسالة: (ابذل لصديقك دمك ومالك؛ ولمعرفتك رِفْدك ومحضرك؛ وللعامة بشرك وتحنّنك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وأضنن بدينك وعرضك على كل أحد) (١٠٩).
ومن هنا أخذ يعرض نصائحه؛ فعلى الإنسان ألا ينتحل رأي غيره؛ وألا يبدأ بالحديث، وألا يخلط الجد بالهزل، أو يتطاول على الأصحاب؛ ويدعي العلم متباهياً به… ثم يتحدث عن شروط اختيار الصديق؛ ومواساته، وصون اللسان عنه وعن غيره لئلا يحتاج إلى الاعتذار… فالصديق خير مكسب فـي الدنيا…
ومن ثم عالج جملة من العيوب الاجتماعية فـي الصبر والجود والكرم والحسد… واستطرد إلى الحديث عن معاملة العدو، وشهادة العدل، والحذر من المراءة وحفظ المليح من الأحاديث…
وختم الموضوع بحكم متفرقة توفق بين الدين والمروءة فيقول: (إذا أُكرمت على دين أو مروءة فليعجبك؛ فإن المروءة لا تزايلك فـي الدنيا، وإن الدين لا يزايلك فـي الآخرة) (١١٠).
ومما ورد فيها آراء فـي الاحتراس ونزاهة العرض، ومجالسة الناس وحسن الاستماع والاستشارة فـي الرأي؛ وغير ذلك.



ج - قراءة موجزة فـي الكتابين

إن كتابي (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) ثابتان فـي نسبتهما لابن المقفع؛ ولم يشك أحد فـي هذا؛ وقد ألَّفهما بعد تأليفه كتاب (كليلة ودمنة) لأنهما تضمنا بعض الحكم والأمثال الواردة فيه… ونرجح أنهما أُلفا قبل رسالته المعروفة (رسالة الصحابة) …
وإذا كان ابن المقفع قد أضاف بعض الأبواب إلى أصل (كليلة ودمنة) دون أن يغير فـي صميم الأبواب الأخرى شيئاً، فإنه طبعها بطابع الذوق العربي الإسلامي؛ وإن ظلت الأشخاص هي هي. وكذلك احتفظ بالسند، وطبيعة القص، وسار على منواله فيما أضافه من أبواب… ولاسيما حين تحدث عن الطبيب الفارسي (برزويه) الذي يعود له الفضل فـي نقل كليلة ودمنة إلى الفهلوية.
أما فـي كتابي (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) فلم يُبْقِ من السند إلا آثاراً قليلة على الرغم من أن مادتهما مستقاة من كلام الناس قبله باعترافه الصريح فيهما؛ كما فـي قوله: (وقد وضَعت فـي هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير؛ ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق؛ إن شاء الله) (١١١).
ويقول فـي (الأدب الكبير): (ولم نجدهم غادروا شيئاً يجد واصف بليغ فـي صفة له مقالاً لم يسبقوه إليه… وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور؛ فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، فمن ذلك بعض ما أنا كاتب فـي كتابي هذا) (١١٢).
هذه الطريقة فـي الترجمة والتأليف كان قد اصطنعها من قبل فـي كتابه المفقود (الدرة اليتيمة) الذي ذكره الأصمعي، وأثنى عليه؛ كما أشرنا إليه سابقاً… وهي طريقة يتبع فيها صديقه وأستاذه عبد الحميد الكاتب، ولاسيما رسالته إلى ولي العهد…
وابن المقفع فـي كتابيه (الأدب الصغير) و (الأدب الكبير) أكثر تصرفاً بطريقة الترجمة مما كانت عليه فـي (الدرة اليتيمة) أو فـي (كليلة ودمنة)؛ إنه يعتمد منهج النقل والعقل معاً. ولاشك فـي طغيان العقل على الكتابين؛ ولكن النقل يظهر للمتأمل فـي بعض الإشارات إلى السند فـي الأدب الصغير؛ وإن لم يصرح به. فهو يأتي بعبارة (وقال) وما فـي نحوها (١١٣) وتعني: وقال الحكيم، ولا يقصد به إلا الحكيم الفارسي كقوله: (قال رجل حكيم: ما خير ما يؤتى المرء؟ قال: غريزة عقل. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلُّم علم…) (١١٤). ويقول فـي موضع آخر: (وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف…) (١١٥).
وانتفت هذه العبارة أو نحوها من موضوع (السلطان) فـي كتاب (الأدب الكبير)، ثم استعملت مرة واحدة فـي موضوعه الآخر؛ وهو (الصداقة)، فقد جاءت فـي قوله: (احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء) (١١٦).
ولعلنا نغفر لابن المقفع عدم ذكره للسند المتصل، أو إغفاله أسماء الكتب التي نقل عنها؛ لأنه صرح فـي بداية كتابيه بنَقْله عنها على تدخله الواضح فـي سياق الحكم والوصايا والأمثال التي ترجمها بما يوافق الذوق العربي والإسلامي.. ومَن اطلع على الثقافة الفارسية فيما ترجمه غيره يدرك أن جملة من الوصايا التي وقعت فيهما مثبتة فـي نُظُم الساسانيين فـي الحكم، وبعض منها منقول من عهد (أردشير) كالنظام المتعلق بولي العهد… بل إن الكتابين يذكران الباحثين بكتابي (سياسة نامه) و (كايوس نامه) وما إليهما من كتب فارس (١١٧).
وهذا يعني أن ابن المقفع صدر عن الأثر الثقافـي الفارسي؛ وليس هذا غريباً؛ لأنه من أصل فارسي، وللأصل تأثيره لا محالة كما انتهى إليه الدكتور طه حسين (١١٨).
ومن يمعن النظر فـي الكتابين يلحظ أن الأثر الفارسي لم يكن وحيداً؛ فهناك أثر هندي ظاهر فـي الحكم التي نقلها من كتاب (كليلة ودمنة) كما فـي محاسبة النفس فـي الأدب الصغير، والصداقة فـي الأدب الكبير (١١٩). ولنفحص هذه المقولة من الأدب الكبير: (اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا؛ هم زينة فـي الرخاء؛ وعدة فـي الشدة) (١٢٠) أليست هي مماثلة للتي قالها الفيلسوف فـي باب الحمامة المطوقة: (إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئاً؛ فالإخوان هم الأعوان على الخير كله والمؤاسون عندما ينوب من المكروه) (١٢١).
أما الأثر اليوناني فليس خفياً هو الآخر على العقول؛ وهو يتضح خاصة فـي تفضيل لذة على لذة، ويرى (أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يَسُرُّه، فيعلم أن أحقَّ ذلك بالطلب؛ إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء؛ إن كان مما يكره…) (١٢٢).
ففـي هذا الرأي نلمح فلسفة (أبيقور) الممزوجة بفلسفة أرسطو (١٢٣) ونلمحها فـي قوله من الأدب الكبير: (وأصل الأمر فـي صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافاً) (١٢٤). فهو يوضح للعاقل أن عليه تفضيل اللذائذ الروحية والعقلية على اللذائذ الجسدية.
وكذلك نلمح أثر مبادئ الدين الحنيف؛ وأثر أقوال بعض الصحابة، ولاسيما حكم الإمام علي (ع)، ومن ذلك قوله فـي الأدب الصغير: (السعيد يرغّبه الله فـي الآخرة حتى يقول: لا شيء غيرها، فإذا هضم دُنْياه وزهد فيها لآخرته؛ لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا ولم يُنْقصه من سروره فيها) (١٢٥).
فهذا الكلام مستمد من قوله تعالى: ( (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ( (القصص ٢٨ / ٧٧). ولو أردنا أن نرد كثيراً مما ورد لديه فـي الكتابين إلى ما يشبهه فـي القرآن والحديث لما أعجزنا الأمر، ولكننا تركناه لكثرته ولوضوحه.
ونعتقد بأن ابن المقفع لم يكن مترجماً يحذو من تقدمه حذو القُذّّة بالقذة؛ وإنما كان يصوغ ذلك وفق ذوق مرهف؛ وعقل صانع حصيف… ولاشك أن طابع العقل والتفكير طاغٍ على مادة الكتابين وأسلوبهما؛ ولكنه كان فـي ذلك كله يدل على احترام عظيم للدين الحنيف، ويصدر عن كثير من مبادئه… فليس فـي الكتابين عبارة واحدة توحي بانحرافه، أو رقة دينه… علماً أنه لم يمض على إسلامه إلا سنوات قليلة…
ولمّا دل الكتابان على سمو أخلاقه ونضج عقله، وعمق ثقافته، وتطور أسلوبه كان يؤكد ذاته الإبداعية فـي الوقوف بين ثقافتين… ثقافة قديمة ليست فارسية هذه المرة؛ ولا هندية؛ وإنما فارسية هندية يونانية؛ ويجعلها ممزوجة بالثقافة العربية ليقدم لأبناء أمته ما يفيدهم… ويجعلهم أكثر ارتقاء وحضارة؛ إنه يقف من جديد بين حضارتين قديمة زائلة، وجديدة ناهضة.
ولهذا لا يمكن للباحث أن يترك هذين الكتابين دون أن يقف عند كلمة أخرى… فابن المقفع قد ظهر فيهما مثقفاً من طراز رفيع؛ لأنه قرأ كتباً كثيرة من ثقافات عدة؛ وشغف بآراء وعبارات قيدها فـي صدره، وفـي عقله… ولهذا تكوَّن له منها رصيد كبير، فما اجتمع منها فـي اتجاه واحد أو متماثل ضم بعضه إلى بعض فصار موضوعاً لديه؛ وهذا ما نجده فـي كتابه (الأدب الكبير) ففيه موضوعان اثنان، الأول يدور حول السلطان، والثاني حول الصداقة… أما العبارات التي حملت جملة من الحكم والنصائح للخاصة والعامة فـي شؤون عديدة فقد جعلها فـي كتابه (الأدب الصغير) فكانت أشبه بالجواهر المنظومة فـي عقد واحد كل جوهرة تحاكي أختها فـي الجمال والإفادة…
ولعل عملية جمع الأقوال والآراء الحكيمة والوصايا العظيمة، ومحاولة التوفيق فيما بينها هي التي أدت إلى الاضطراب فـي التركيب، وهو ما أطلق عليه الدكتور طه حسين الالتواء والدوران (١٢٦). فالباحث يكشف أثر التوفيق بين الآراء بكل دقة فـي ضوء التقديم والتأخير فـي الأسلوب، وكذلك الإيجاز والحذف… وغير ذلك مما لجأ إليه ابن المقفع… أما لغته فليس فيها ما يعيبها، فهو بليغ فَصيح…، وكذا شهد له من قبل الأصمعي (١٢٧). ومن اللافت للنظر شهادة الدكتور طه له؛ على الرغم من أنه جعله أول مستشرق فـي تاريخ العربية، فقال: (وله عبارات من أجود ما تقرأ فـي العربية؛ وبنوع خاص فـي الأدب الكبير وفـي كليلة ودمنة. ولكن عندما يتناول المعاني الضّيقة التي تحتاج إلى الدقة فـي التعبير يضعف، فيكلف نفسه مشقة، ويكلف اللغة مشقة) (١٢٨).
أما الدكتور شوقي ضيف فيدفع عن ابن المقفع الضَّعف اللغوي، ولكنه يقرّ به من حيث لا يشعر حين نَسبه إلى أيدي النساخ بعده؛ إذ جاء فـي جملة رده على الدكتور طه قوله: (ونسي أن الرسالتين تداولتهما أيدي النساخ بعد ابن المقفع؛ وأنه ربما دخلهما هذا الارتباك من أيديهم) (١٢٩).
إننا تأملنا بعمق كلام ابن المقفع فلم نعهد عليه اضطراباً أو التواءً إلا فيما أعدناه إلى رصف الكلام بعضه إلى بعض والتوفيق بينه نتيجة للترجمة، وهذا الالتواء نادر جداً؛ كما نجده مثلاً فـي جملة من الوصايا والنّصائح المبثوثة فـي الأدب الصغير حين كان يتحدث عن الرجل الحازم فسرعان ما عرض للمشورة ثم الطمع ثم صرعة اللين ثم أشياء أخرى؛ وهكذا (١٣٠).
وهذا الحكم - كما نبين - ليس مطلقاً؛ فضلاً عن آراء كتاب (الأدب الكبير) فهي أكثر ترابطاً؛ ورتبت على الموضوع الذي عالجته.
٣ - رسالة الصحابة: هي رسالة من تأليف ابن المقفع استوحى مادتها مما كان قد عرفه من أنظمة الحكم فـي الدولة الساسانية؛ وربما جمع إليها ما سمعه عن قانون جوستنيان (١٣١).
ولاشك أنه وجهها إلى أمير المؤمنين دون أن يصرح باسمه، ودون أن يرفعها إليه مباشرة؛ ولا نرتاب فـي أنها تختص بأبي جعفر المنصور وإن لم يسمه؛ لأنه يذكر دولة بني العباس (١٣٢) وقد توطد حكمها، فآل إليه، ثم ترحَّم فيما بعد على أخيه أبي العباس (١٣٣).
وهذا يعني أنه كتبها بعد سنة (١٣٦هـ) التي بويع فيها بالخلافة لأبي جعفر بعد موت أخيه أبي العباس فـي السنة نفسها؛ ولعلها أطول رسالة من رسائله التي ألفها فـي أعوامه الأخيرة. وكان الهدف منها إصلاح الراعي والرعية؛ فإذا صلح السلطان صلحت الرعية، ولا تصلح هذه إلا بصلاح ولاته وبطانته ممن يستعين بهم فـي إدارة شؤون الخلافة.
ولهذا سميت (رسالة الصحابة) ويعني بالصحابة الولاة والقادة أو البطانة التي يقربها الخليفة منه ويجعلها موضع ثقته وسره. وقيل: (أكبر الظن أن هذه التسمية متأخرة عن عصر ابن المقفع، وأنها من صنع المعتزلة)؛ والجاحظ هو من أطلق عليها اسم الرسالة (الهاشمية). ثم ذهب من قال ذلك إلى أن هذه التسمية كانت بسبب انتماء بني العباس إلى جدهم الأكبر، فهم من بني هاشم على الأغلب (١٣٤)، ولعل الأصح من ذلك أنها سميت بهذا الاسم لأن السفاح بنى (بُليدة عند الأنبار سماها الهاشمية) فانتقل إليها وبهامات؛ وكانت مركز الخلافة حتى بنيت بغداد (١٣٥). ونحن نميل إلى أن ابن المقفع هو الذي أطلق عليها اسم (رسالة الصحابة) بمعنى البطانة، وليس بالمعنى المعروف لها فـي صحابة رسول الله (ص). وقد قال: (فإن من أَولى أمر الوالي منه بالتثبت والتحير أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه، وزينة مجلسه؛ وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه، ومواضع كرامته؛ والخاصة من عامته). ١٣٦) ولن يكون لهم هذا حتى يتوافر فيهم شرطان هما: الحسب أولاً والعقل ثانياً… ثم تكلم على البطانة وسمّاها باسم الصحابة فقال: (ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة؛ ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة؛ ولا حَسَب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور) (١٣٧).
وقد ابتدأ الرسالة بالدعاء لأمير المؤمنين والثناء عليه بقوله: (أما بعد - أصلح الله أمير المؤمنين، وأتم عليه النعمة، وألبسه المعافاة والرحمة - فإن أمير المؤمنين - حفظه الله - يجمع مع علمه المسألة والاستماع؛ كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستفتاء) (١٣٨).
ثم يكتب ثناء فـي أمير المؤمنين - دون تسميته - ويَنْعطف إلى ذكر الشكوى من الولاة، وعدم مبالاتهم بالإصلاح، فلم يكونوا أعوانه على الخير… ويستمر على هذا المنوال من التقسيم فـي الكلام بينه وبين البطانة (الصحابة) حتى نهاية المقدمة (١٣٩) ويؤيد رأيه بذكره ليوسف (عليه السلام) وخبره فـي القرآن الكريم. ومن ثم تحوّل إلى شرح حال الجند؛ وخصّهم بجزء كبير من رسالته، وعاب عليهم أموراً عديدة منها: الميل لدى الكثير منهم إلى الترف بسبب ما يغنمونه من مال؛ والزهو الذي ينتاب بعضهم مما يؤدي إلى الخشية على الدولة نفسها؛ وحقد بعضهم على بعض، من شدة الغيرة والحسد… فضلاً عن الجهل وسوء الخلق… ولا ننسى أن نشير إلى أن معظمهم كان من فارس…
فالدولة لا زالت فـي عهد نشأتها، ولها أعداء كثيرون يطمعون فيها، ودارها واسعة؛ ولا يخلو فيها يوم من فتنة…
وإذا كان قد خص جند خراسان بالمدح فلا يعني أنه متعصب لهم، لأنهم فـي تلك الصفات التي عرضها لحال الجند سواء… ولهذا اقترح على الخليفة ما يلي:
١ـ إقامة دستور أو نظام خاص بالجند يحيط بكل ما يتعلق بواجباتهم وحقوقهم… وتكون المرجعية الأخيرة فيه للخليفة إلا إذا دعا إلى ما لا يطاع فيه، وفق المقولة المشهورة: (لا طاعة لمخلوق فـي معصية الخالق). فهناك حدود وفرائض بيّنها الله؛ فإذا أمر الخليفة بشيء يخالفها فلا يطاع أمره… ولكن يطاع فـي غير ذلك كله… ويطاع فيه فيما لا يطاع فيه غيره من قضايا الاجتهاد والرأي… بمعنى أن هناك نصوصاً دينية يلتزم بها الخليفة والجند والناس جميعاً على السواء… وليس فيها اجتهاد؛ أما ما كان من أمر الدنيا وفيه اجتهاد فليكن مرجعه الوحيد للخليفة. (١٤٠)
وهذا الاقتراح وحده دال على مدى نضج الفكر الديني عند عبد الله بن المقفع؛ وتميزه مما سبق.
٢ـ أن يحول الخليفة بين الجنود وشؤون المال من الخراج وغيره، فالمال مفسدة للجند، وداعية لهم إلى البطر وظلم الناس، والتدخل فـي شؤون لا ينبغي لهم أن يتدخلوا فيها. ومما قاله فـي هذا (ومما ينظر فيه لصلاح أهل الجند ألاّ يُولِّي أحداً منهم شيئاً من الخراج، فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة) (١٤١).
٣ـ تثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية تأخذهم بالتواضع والتضحية والطاعة… والعفة والأمانة، والإخلاص فـي التدريب، وكل ما يأمر به الخلق الكريم. ويصدر فـي هذا الاقتراح عن المزج بين التعاليم الإسلامية، والثقافة الفارسية (١٤٢).
٤ـ تحديد موعد معين لأرزاق الجنود، يضبطها الخليفة، وتكون عامة في الولايات الإسلامية مَنْعاً من الإبطاء والشكوى. فيقول: (لو أن أمير المؤمنين خلَّى شيئاً من الرزق؛ فجعل بعضه طعاماً، وجعل بعضه علفاً، وأُعطوه بأعيانه) (١٤٣).
٥ـ تقصّي أحوال الجند والقادة والولاة… ومعرفة أوضاعهم وأخبارهم وأحوالهم النفسية والاجتماعية… ويمكن للخليفة أن يختار لهذه المهمة رجالاً ثقات مخلصين من أصحابه. ومن هذا قوله: (ومن جماع الأمر وقوامه بإذن الله أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف) (١٤٤).
٦ـ مراعاة الكفاية فـي القيادة (١٤٥) فليلتمس الخليفة الرجل المناسب الكفء للمكان الذي يليق به، ويتصف بصفات القائد الحقيقي الذي يكون مثلاً لمن يقودهم… وهنا نتساءل: هل كانت الثورة على الخليفة الراشدي الثالث فـي بعض جوانبها إلا بسبب ذلك؟ !! هذه هي الوجوه التي يمكن أن يصلح بها الجيش، وتنقطع فيه الشكوى والتذمر، ويقضي على العصيان، والتمرد…
وكذلك تحدث عن القضاء الذي وجد فيه فوضى مستشرية، فلا يرجع فيه القاضي إلى قانون معروف ليحكم فيه… فهناك فوضى فـي الآراء والأحكام، وكان القضاة نوعين؛ أو فريقين: أحدهما يأخذ بالسنة والقياس، ويلتزم بالنص على العموم… وربما يراعي الشكل أكثر من الجوهر… فضلاً عن أن هناك سنناً لم يجتمع الناس عليها… (١٤٦) والآخر يأخذ بالرأي والاجتهاد؛ ويجعل عقله وحده سبيله إلى الحكم… والقضاء… فإذا أضيف إلى هذا كله وجود قضاة غير أكفياء ازدادت البلوى المرعبة.
هكذا بلغ التناقض أحياناً فـي القضية الواحدة، والبلدة الواحدة حداً عظيماً… بحيث وصل الأمر فـي القضاء إلى فوضى كبيرة… مما يفرض على الخليفة أن يضع قانوناً رسمياً واحداً يجري عليه القضاء فـي أنحاء الدولة كلها.
ويبدو أن هذه الدعوات لاقت قبولاً فـي نفس أبي جعفر فطلب إلى مالك بن أنس أن يضع كتاباً لتوحيد القضاء، فنصحه الإمام مالك أن يَدعَ الناس وما يختارونه فـي كل بلد مما يوافقهم، ويوافق شؤونهم وقضاياهم… فعدل المنصور عنها، … ولكن الإمام ألف كتابه المشهور (الموطأ)، وشاع ذكره بين الناس… جمع فيه كثيراً من قضايا الفقه…
ومن ثم حاول هارون الرشيد إنفاذ الفكرة فنجح مسعاه على نحو ما سنذكره.
ونرى أن ابن المقفع سعى إلى فكرة تقنين القوانين، وتوحيد الناس عليها لئلا تستشري الفوضى، ومن ثم يسود الاختلاف بدل الاتفاق… وهذا ما كان أنفذه من قبل صحابة رسول الله فـي جمع المسلمين على مصحف واحد؛ ثم أجراه عمر بن عبد العزيز فـي جمع الحديث الشريف فـي كتاب واحد.
ويرى الدكتور طه حسين أن فكرة توحيد الناس على أمر ما إنما هي أثر من آثار الثقافة اليونانية، وعادات الرومان فـي القضاء؛ وقد صدر قانون (جوستنيان) قبل قرنين من ابن المقفع (١٤٧) بينما يرى الدكتور حمزة أن الفكرة أثر من آثار ثقافته الفارسية قبل كل شيء (١٤٨)، وكلاهما تجاهل ما فعله الصحابة وعمر بن عبد العزيز (رضوان الله عليهم أجمعين) (١٤٩). ومما قاله فـي هذا الشأن: (فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة… وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً؛ لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً) (١٥٠).
وذكّر ابن المقفع فـي رسالته (الخليفةَ) بأحوال أهل العراق عامة والبصرة والكوفة خاصة، وهم أقرب الناس إليه. ولأهل العراق من الفقه والعفاف والألسنة ما لغيرهم (١٥١). فلابد من العناية بهم؛ بعد أن أزرى بهم ولاتهم ومن قاموا على شؤونهم… وإذا قصد الفضلاء منهم دار الخلافة منعتهم البطانة السيئة. وبهذا يذكّرنا بما وقع فـي عهد أبي العباس… مع جماعة منهم فيهم ابن المقفع، وإن لم يصرح به.
ويعطّف قلب المنصور على أهل الشام (١٥٢) إذ كانت نظرة العباسيين إليهم نظرة كراهية وعداء على اعتبار ما كان من أمرهم… ولكن مروءة أمير المؤمنين وحكمته وعقله لا يمنعه أن يصطنع خيارهم، ويستدر مودتهم بالإنفاق عليهم مما يجمع من بلادهم… فـي الوقت الذي يأخذهم بالحزم، والاحتراس من أهل السوء.
كما تحدث عن جزيرة العرب التي كانت موضع نقمة المنصور لأنها خرجت عليه (١٥٣) فـي الحجاز واليمن واليمامة وغيرها…
وتولاّها ولاة سوء انتهكوا حرماتها، وهي فقيرة ليس لها ما للأمصار الأخرى من ثروات وغنى… و (أن يكون من رأي أمير المؤمنين - إذا سخت نفسه عن أموالها من الصدقات وغيرها - أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة، والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها، من الرأي الذي هو بإذن الله حمىً ونظام لهذه الأمور كلها) (١٥٤).
فجزيرة العرب قبلة المسلمين، وهي مَنْبع النبوة والإسلام، وحاجتها إلى خير الولاة أمسّ من حاجة غيرها إليهم… ورعايتها من تمام السيرة الحسنة.
وكان ابن المقفع قَدْ ذكَّر الخليفة بأمر الأرض والخراج؛ فهو الرافد الأهم لبيت مال المسلمين… فهناك فوضى عظيمة فـي جباية خراج الأرض، فلا سجلات تحصي المال؛ وليس (للعمال أمر ينتهون إليه، ويحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها فـي العمارة؛ ويرجون لها فضل ما تعلم أيديهم. فسيرة العمال فيهم إحدى اثنتين: إما رجل أخذ بالخُرْق والعنف من حيث وجد… وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع، ويعْمُر من عَمَر؛ ويسلم من أخرب) (١٥٥).
ولهذا لابد من مسح الأرض وفرض الخراج المناسب عليها، بحيث يعرف كل مالك ما له وما عليه. ففـي هذا (صلاح للرعية وعمارة للأرض، وحَسْم لأبوابِ الخيانة، وغَشْمِ العمال. وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر. وليس بعد هذا فـي أمر الخراج إلا رأيٌ قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد
قبله، من تخيُّر العمال وتفقُّدهم والاستعتاب لهم، والاستبدال بهم) (١٥٦).
أما ختام الرسالة فكان ببيان ما للخليفة من أثر عظيم فـي رعيته، فصلاحه يعني صلاح الولاة، والأمراء والقادة… وصلاح الخاصة يعني صلاح العامة؛ فيقول: (وقد علمنا علماً لا يخالطه شك أن عامةً قط لم تصلح من قِبَل أنفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها؛ وغن خاصةً قط لم تصلح من قبل أنفسها؛ وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها). ثم بين أن كل رجل من رجال الدولة يتنكب عن سبيل الحق لابد من محاسبته، وكل واحد منهم ينبغي له الالتزام بما خصص له، لا يتجاوزه؛ ثم قال: (فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض… طمعنا لهم فـي ذلك - يا أمير المؤمنين ـ، وطمعنا فيه لعامتهم، ورجونا ألا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه، والقوة عليه… ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو رب الخلق، وولي الأمر؛ يقضي فـي أمورهم، يدبّر أمره بقدرة عزيزة؛ وعلمٍ سابق؛ فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد، ويحصنه بالحفظ والثبات، والسلام؛ ولله الحمد والشكر) (١٥٧).
وقد وردت هذه الرسالة فـي كتاب المنظوم والمنثور لابن طيفور ونقلها عنه من جاء بعده؛ ومن ثم نشرها أحمد زكي صفوت وغيره (١٥٨).


قراءة أخرى موجزة فـي الرسالة:
تلك هي خلاصة فكرية لما ورد فـي رسالة الصحابة، وهي رسالة أدبية سياسية فكرية ذاتية إبداعية ألفها ابن المقفع بأسلوب جديد يدل على وعي ونضج فكري وسياسي وفني؛ ويشي بنزوع إصلاحي أخلاقي؛ لأنها اشتملت على تشريح دقيق لنظام الحكم فيما يستند إليه من صحابة (بطانة) فـي تثبيت أركانه… وكيفية إصلاح المفاسد التي تقع فـي أجهزة الخلافة أو الدولة. إنها أشبه بمذكرة خاصة، ولعله كتبها بتكليف من سليمان بن علي وأخيه (١٥٩).
وقد بنى رسالته على مقدمة ومتن (الموضوع المعالج أعلاه) وخاتمة؛ اشتملت المقدمة على مدح أمير المؤمنين والدعاء له بعد أن وطّد الله حكمه. وأشار بطرف خفـي وذكي إلى أن الإنسان غير مُخَلَّد، وخلوده بعمله الخير حين قص علينا بإيجاز العبرة من قصة يوسف (عليه السلام). فهو يعرض لها للعبرة، كما يستشف من الآية القرآنية التي استشهد بها على لسان يوسف: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ( (يوسف ١٢ / ١٠١) بعد أن قال: (ثم سلا عما كان فيه، وعرف أن الموت وما بعده هو أولى) (١٦٠).
فكأنه بهذا يشرح حال أمير المؤمنين بوفاة أخيه… وقد ثبتت دعائم الحكم…
وتطول المقدمة لأنه كان حفيّاً باستمالة الخليفة إلى غرضه؛ فما ذكر جملة فـي مثالب البطانة التي يعتمد عليها نظام الحكم إلا مدحه فـي جملة أخرى؛ لأنه معقد الرجاء فـي إصلاح المفاسد التي وقعت منها فـي الأمصار الإسلامية كافة…
وقد استفتح المقدمة بعبارة التخلص (أما بعد) وجمع إليها التضرّع الاستعطافي… وفيه توسل إلى الله عز وجل لكي يزيد الخليفة هداية ورشداً… ثم ختمها بما يقوي هذا المعنى حيث قال: (وما أشد ما قد استبان لنا أن أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية؛ ولها نظراً وتقديراً؛ من الرجل منا بخاصة أهله، ففـي دون هذا ما يثبِّت الأمل وينشط للعمل ولا قوة إلا بالله، ولله الحمد وعلى الله التمام) (١٦١).
ثم يبدأ موضوع رسالته فيذكره بالجند، وكيفية إطاعة السلطان، واختيار الولاة والقادة والخاصة للحكم، وعطّف قلبه على أهل خراسان والعراق، ثم تحدث عن القضاء وشؤونه؛ ورجع إلى تعطيف قلب أمير المؤمنين على أهل الشام؛ ومن ثم فصّل من جديد فـي أمر صلاح الرعية لصلاح الحاكم ومن يختارهم لمساعدته من صحابته.
وهو موضوع يلح على ذهنه فلا يمل من تكرار القول فيه فـي هذه الرسالة وفيما أشرنا إليه من قبل حين تحدثنا عن (الأدب الكبير) … ويربط ذلك بحديثه عن الخَراج وجباية العمال له على الأرض وغيرها، ويقترح رسم قانون واحد يستنُّه الخليفة لهذا الغرض… وإذا كان أبو جعفر لم يفعل ذلك فإن هارون الرشيد قد أحس بعظمة الأمر؛ فوجه أبا يوسف الرجل الفقيه العالم إلى وضع كتاب فـي الخراج فكان كتاب (الخراج) المشهور له. ويبقى الفرق بين أبي يوسف وابن المقفع أن هذا عالج القضية فـي إطار تنظيري عقلي ومنطقي لصلاح الأمة؛ على حين غلَّب أبو يوسف الوجهة الدينية؛ ودعمها بالأدلة من القرآن الكريم والسنة والأثر؛ وإن لم يجدها لجأ إلى القياس فـي الرأي (١٦٢). وليس هناك من جدال فـي أن أفكار ابن المقفع فـي هذا الشأن كانت وراء استحداث وظيفة (المحتسب) فـي دولة بني العباس (١٦٣) وصار الخلفاء تبعاً لما قاله ابن
المقفع يختارون لها ذوي الكفاءة… ثم صار الولاة والوزراء أنفسهم يعنون بثقافتهم عناية كبرى…
ولما استكمل ابن المقفع كلامه على الخراج واقتراحاته فيه ربط أمره بما تستخرجه أرض النبوة، فكان قليلاً. ولهذا ينثني إلى تعطيف قلب أمير المؤمنين على أهلها… على أن يترك لهم خرجها، وما يمنّ عليهم من مال لديه من الصدقات…
ثم يختم قوله بالتشديد على صلاح الإمام والخاصة، ويدعو له بالحفظ والثبات… ويحمد الله.
إنها رسالة أدبية فكرية سياسية محكمة البناء تعالج موضوعاً واحداً ليس غير؛ مما يؤكد أنها ثمرة ثقافية لخبرة ابن المقفع، إذ لا يوجد فيها أي أثر من آثار الترجمة… فابن المقفع دل فـي هذه الرسالة على دقة فـي المعالجة، وفطنة فـي استعمال الكلام، وقوة فـي الملاحظة فلم يطعن لا من قريب ولا من بعيد فـي الخليفة… بيد أنه يراه أهلاً للإصلاح والصلاح. إنها رسالة تذكرنا برسالة عبد الحميد الكاتب إلى ولي العهد؛ منهجاً وطريقة وكثيراً من جوانب أفكارها…
ومن هنا يتساءل المرء: من أين استشف الدكتور طه حسين الفكرة التي تذهب إلى أن مصرع ابن المقفع كان بسبب هذه الرسالة، ولا سبب غيرها عنده؟ !! (١٦٤).
وإذا كنا نحن نرى أن كتاب (الأمان) الذي سبق ذكره كان السبب المباشر والأهم لمقتل الرجل فإننا قد نرى فـي مقولة الدكتور بعض الحق… ولكن الرسالة لم تكن هي سبباً لذلك… هي من جملة الدواعي التي كان يضاف بعضها إلى بعض. فابن المقفع نصَّب نفسه واعظاً ومرشداً للخليفة لإصلاح أمر الأمة؛ كما فـي
قوله: (وفـي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبر، فيما ظنَّ أنه لم يُبْلغه إياه غيره؛ وبالتذكير بما قد انتهى إليه؛ ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مُخْبراً أو مذكّراً؛ وكلٌّ عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله، مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال الرأي فيما يصلح الله به الأمة فـي يومها) (١٦٥).
لعل أمير المؤمنين قد استعظم من رجل كابن المقفع أن يخاطبه بمثل هذه الطريقة على ما فيها من لين الخطاب واستعطاف القلب… أو لم يكن يطوي وراء رسالته إلا ما يدلَّ على عورات الحكم - كما يعتقد الخليفة، أو الدكتور طه ـ؛ وكأنه بَخَسَه التدابير السياسية التي يجريها فـي شؤون الحكم… وشجع فـي الوقت نفسه الرعية على الثورة؛ لأنه بصَّرها بحقوقها… وفضح المفاسد التي آلت إليها أحوالها…
نقول: لعلَّ هذا كله الذي استشفه الخليفة - كما ذهب إليه الدكتور - فقتله بعد ذلك. ولكن السؤال يطرح نفسه: لو كان أبو جعفر المنصور فكّر بذلك - كما ذهب إليه الدكتور طه - أيعقل منه أن يفسرها على محمل حسن؛ بدليل أنه طلب إلى الإمام مالك بن أنس (٩٥ـ١٩٧هـ) أن يضع دستوراً عاماً للقضاء؟. ثم نتساءل: كيف يبقيه الخليفة حياً طوال مدة تزيد على ثلاث سنوات من كتابة الرسالة؟ . وهذا كله لا يعني أنها لم تكن ذا أثر سلبي من نوع ما؛ فإننا نعتقد بأن الذي أغاظ الخليفة كان هذا الخطاب الذي يدلي فيه ابن المقفع بنفسه وعلمه، ورأيه عليه… ولكنه ليس السبب الكافـي لقتله… إنه سبب أُضيف إلى أسباب أخرى، وكان الخليفة بسياسته المرنة لا يقتل الناس على أفكارهم إلا إذا كانت دعوة
حقيقية للثورة عليه… أو اعتقد أنها كذلك؛ ولا شيء أدل على ذلك كله من حادثة وقعت له مع رجل يصفه بالبغي والظلم والفساد وعفا عنه كما روى الماوردي (١٦٦).
والشيء الآخر الذي ذهب إليه الدكتور طه هو ضعف التراكيب فـي هذه الرسالة وضرب شواهد منها… وإذا كنا لا نرى هذا الرأي المتطرف أبداً؛ فإننا لا ننسى رأي الجاحظ قبله فيها، حين اتهمه بنقص العلم، لأنه لا يحسن الكلام كما يحسنه أهل الكلام. ولعل الدكتور عبد اللطيف حمزة قد أجاد فـي رده عليه حيث قال: (ولست أدري ما الذي أشكل على الجاحظ من رسالة ابن المقفع فـي الصحابة؟ ولست أدري لماذا يقول: إن الجزء الأخير من هذه الرسالة ينهض دليلاً على ضعفه فـي الجدل؟ . ولا أحمل هذا كله إلا على كره الخلفاء العباسيين لابن المقفع؛ ومجاراة الجاحظ لهم فـي هذه الكراهية) (١٦٧).
ومن هنا يمكن للمرء أن يرى فـي الرسالة الدقة المنطقية فـي عرض الأفكار، فلا يرسلها دون برهان، أو تعليل… وهي تصاغ بأسلوب جذاب مرصوص خال من أي تعقيد أو خطأ أو غرابة… وقائم على جمل مقسمة على فواصل وتراكيب تكاد تكون متساوية؛ مع الميل إلى طولها… ولكن كل جملة مرتبطة بصاحبتها، يأخذ بعضها برقاب بعض بنسق كثر فيه (الواو) من حروف العطف، والشرط كقوله مثلاً: (ومما يذكَّر به أمير المؤمنين أهل الشام؛ فإنهم اشد الناس مُؤْنةً؛ وأخوفُهم عداوة وبائقة؛ وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة، ولا يطمع منهم فـي الاستجماع على المودة؛ فمن الرأي فـي أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة؛ ممن يرجو عنده صلاحاً أو يعرف منه نصيحة أو وفاءً) (١٦٨).
ويجري الكلام على هذا الأسلوب المنطقي الواضح الدقيق السهل الممتنع، المقسم إلى أجزاء، وفواصل مثيرة وجميلة… يذكرنا بأسلوب الخطابة… ولا ننسى أبداً أن ابن المقفع قال: (شربت من الخطب رِيّاَ؛ ولم أضبط لها روياً…) (١٦٩) وقد اقتبس فـي كلامه بعض آي الذكر الحكم؛ وضمنه معانيه، وجاء بشواهد شعرية على ما يقدمه من آراء كقوله: (فأما اليوم ونحْن نرى فلاناً وفلاناً يُنْفَر بأسمائهم على غير قديم سلف، ولا بلاء حدث. فمن يرغب فيما هاهنا يا أمير المؤمنين - أكرمك الله ـ؟ أما يصير العدل كله إلى تقوى الله عز وجل وإنزال الأمور منازلها؟ ! فإن الأول قال:
ولا سراةَ إذ جُهَّالهم سـادوا (١٧٠)
لايُصْلِحُ الناس فوضى لاسراةَ لهم
هذه نماذج من الرسالة تبين بلاغتها ووضوحها، ودقة تراكيبها من دون التواء، أو غموض وتفيد من الثقافة العربية قبل غيرها… مما يشجعنا على القول:
إن هذه الرسالة تعد فـي النمط الأعلى من البلاغة الرفيعة وتؤكد أن ابن المقفع كان يعيش آمال الأمة، وتتمثل فـي ضميره آلامها ومشكلاتها… لهذا جعل نفسه طليعة لأبنائها فـي الإشارة إلى مواطن الفساد… ولم يكن هدفه التجريح أو السخرية أو النيل من أحد… وإنما كان هدفه الإصلاح، والوصول بالأمة إلى الخير والفلاح… ولهذا كان يشرح الداء ويشخصه بكل وضوح ودقة ثم يضع العلاج الشافي… فقلمه كان كمبضع الجراح المتمكن من
علمه… ولم يكن يبغي منه الدعوة إلى عصبية من أي جنس كانت إلا عصبيته للحق والعلم… وصلاح أمته… لأن أكثر بطانة أبي جعفر كانت من الموالي ولاسيما الفرس.
ونحن لا ننكر أن تكون ثقافته صادرة عن الفارسية، ومتأثرة باليونانية؛ وإن قل الأثر العربي - كما يرى بعض الدارسين (١٧١) ـ ولكننا ننكر أن تكون رسالته هذه أو غيرها دعوة إلى استنهاض العصبية الفارسية كما ادعاها عليه غير واحد من الباحثين (١٧٢)؛ إذ ليس فـي هذه الرسالة ولا غيرها عبارة واحدة تنهض دليلاً على ادعائهم.
لقد وضع ابن المقفع ثقافته فـي خدمة أمته - كما اتضح من مجمل الآراء التي استشهدنا بها - لأنه حين يتحدث عن مفاسد الدولة والولايات كان يشعر بالظلم الذي يقع على المجتمع قبل أي شيء آخر… لهذا كان لابد من كلمة العقل التي يرسلها إلى أصحاب الآذان الصاغية والقلوب اليقظة، والأذهان المتفتحة على الحق لإقامة العدل على نظام دقيق، ودستور واحد تجتمع عليه الأمة… إنه يستوحي من ثقافته القديمة ومبادئها أياً كان نوعُها مادَّتَه الفكرية ويصوغها فـي قالب فني بلاغي عربي ناصع ويقدمه بثوب شفيف ممتع ومفيد لتنتفع به أمته الإسلامية التي أكثر من التلفظ بها فـي هذه الرسالة… فثقافته أو ثقافة غيره لم تعد تحمل وجهها القديم؛ وإنما اكتسبت وجهاً جديداً مشرقاً، إنه الوجه الإسلامي، ولغته لغة القرآن الكريم.
إن رغبة الذات المبدعة فـي إصلاح الواقع الاجتماعي والسياسي واتساع أفق تصورهما الحقيقي هي التي ساعدت ابن المقفع على مواجهته لمعالجة المفاسد التي شاعت فـي بطانة الحاكم… ولعل من أبرز الصور الجمالية المتفردة فـي هذه الرسالة تلك الجمالية الناتجة من اندماج الحركة المتمردة فـي نفس ابن المقفع بالاستجابة الفطرية لحركة الحياة الصحيحة لبناء المجتمع… وهي حركة تثير أخيلة شتى ومشاعر متعددة لدى المتلقي، تبعاً لخبرته وثقافته واستعداده… وسعة أفقه. فهو يشخص تجربته مع بطانة الحاكم لا لينزع فيها نزوعاً عصبياً فارسياً أو لينال من الحاكم المجسد بالخليفة؛ بل ليوجه ضربة قاسمة إلى الفساد واستئصاله… بعد أن كان هو وغيره مكبلين به… إنه حين يشعر بأنه حل مشكلة من مشكلات مجتمعه فكأنما قبض على الحياة، واستحوذ على العدل؛ لأن الرعية لم تعد مادة للإذلال والبيع. ولعل هذا ما نجده فـي رسالته التالية (رسالة اليتيمة).
٥ - رسالة اليتيمة: سبق أن رجحنا أن هذه الرسالة لا علاقة لها برسالته الأخرى (الدرة اليتيمة فـي الرسائل) والتي أطلق عليها (الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة) (١٧٣)؛ وليست هي فـي شيء من كتابيه (الأدب الكبير) و (الأدب الصغير) لا من قريب ولا من بعيد.
فرسالة اليتيمة كما نقلها أحمد زكي صفوت فـي كتابه (جمهرة رسائل العرب) عن كتاب (المنظوم والمنثور) لابن طيفور لا تتجاوز أربع صفحات ونصف… ولكن ابن طيفور قرّظها إذا جعلها (من الرسائل المفردات اللواتي لا نظير لها ولا أشباه، وهي أركان البلاغة، ومنها استقى البلغاء؛ لأنها نهاية فـي الكلام المختار من الكلام، وحسن التأليف والنظام) (١٧٤). وقد اقتصر على قطعة من أولها لشهرتها بين الناس، ولم يكن يدري أنها ستضيع بعده…
ولهذا نظر بروكلمان إلى هذه القطعة المتبقية فلم يجد فيها شيئاً ذا بال فوصفها بقوله: (بحث تافه بين الراعي الطيب والرعية السيئة) (١٧٥).
ولعل حكم بروكلمان صدر عليها بالقياس إلى ما رآه من كتابات ابن المقفع فـي كليلة ودمنة، ورسالة الصحابة؛ والأدب الكبير…
وإننا لنرى أن بروكلمان قد ظلم هذه القطعة ظلماً كبيراً؛ لأننا نرى فيها وجهاً جديداً من تفكير ابن المقفع؛ على الرغم من أنها تتقاطع مع آثاره فـي الحديث عن جور السلطان وفساده… وقد أشرنا من قبل إلى أنه مشغول بفكرة الراعي والرعية والسعي إلى إصلاح نظام الحكم وحال المجتمع… فحين تحدث فـي (رسالة الصحابة) عن السلطان وبطانته الفاسدة لابد له أن يستكمل حديثه عن الوجه الآخر فـي نظام الخلافة وهو الرعية وموقفها من السلطان الصالح، أو السلطان الجائر. فالرعية لا تقوم بغير السلطان، والسلطان لا يقوم إلا بها؛ وهي التي تجعل منه حاكماً صالحاً أو حاكما سيئاً.
ولما أراد معالجة هذه الفكرة شرع يصف أحوال أهل زمانه؛ وكأن هذا الزمان الذي يعيش فيه هو آخر الأزمنة عنده… ولكنه لم يقل ذلك مباشرة وإنما أخذ يجيب على أسئلة بعض القوم عن أقسام الزمان باعتبار أهله فوجدها أربعة. فخيار الأزمنة ما مضى من العهود الضاربة فـي القدم؛ لأن الإمام والرعية كانوا جميعاً من أهل الصلاح والخير… ثم يليه زمن آخر فـي المرتبة يتمثل في صلاح الوالي وفساد الناس؛ وأدنى منه منزلة أن يفسد الوالي ويصلح الناس؛ أما شر الأزمنة فهو فـي فساد الوالي والناس على السواء.
ومن هنا ينتقل إلى كيفية إصلاح الناس؛ فيضع الرؤية الذاتية التي يملكها للتخلص من الفساد؛ مما يقوي الميل لدينا أنه ما توكّل بإصلاح الفساد؛ إلا حينما رآه طامّاً عاماً… ولكنه اتبع أسلوباً دقيقاً وموحياً فـي معالجة ذلك… ففساد الوالي أعظم من فساد الرعية؛ لأن للإمام منزلة الريادة فـي الصلاح؛ فبصلاحه تصلح قلوب الرعية الفاسدة الضالة؛ إذ يقول: (يقلّب الله له بصلاحه قلوبهم، ويفتح له أسماعهم وأبصارهم؛ فيجمع ألفتهم، ويقوم أودهم؛ ويلزمهم مراشد أمورهم؛ وتتم نعمة الله على أمير المؤمنين؛ بأن يصلح له وعلى يديه فيكونوا رعية خيرَ راعٍ، ويكون الراعي خير رعية؛ إن شاء الله، وبه الثقة) (١٧٦).
وكأني بابن المقفع يقرر فساد الوالي قبل فساد الرعية؛ ولا شيء أدل على هذا من أنه انتقل إلى نصائح كثيرة ومباشرة للحاكم كي يأخذ بها فـي حكمه يدور بعضها حول العلم والمعرفة والحلم والعقل، والاستشارة، والحق والعدل… فإذا أخذ بها حصلت الرعية على أحسن ما تريد، وحصل له منها على ما يطلبه ويرجوه. ولمّا رغب فـي تحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي طفق يرى فـي أمير المؤمنين كل مكرمة وحمد وشرف وأصالة محتد… وهذا كله يجعله أهلاً للإصلاح…
ومن هنا كانت خاتمة الرسالة (فمن كان سائلاً عن حق أمير المؤمنين فـي معدنه فإن أعظَم حقوق الناس منزلة، وأكرمها نسبة، وأولاها بالفضل حَقٌّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، وإمام الهدى، ووارث الكتاب والنبوة؛ والمهيمن عليهما، وخاتم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ ثم هو باعثه يوم القيامة محموداً، شرع الله به دينه، وأتم نوره على عهده، ومحق رؤوس الضلالة وجبابرة الكفر؛ وخوّله الشفاعة، وجعله فـي الرفيق الأعلى (ص) ) (١٧٧).
ولسنا نرتاب فـي أن هذه الرسالة موجهة إلى أبي جعفر المنصور؛ وإن لم يصرح باسمه؛ لأن خاتمتها تدل على ذلك؛ وهي من أواخر ما كتب فـي حياته… ولكنه لم يكتبها ليرفعها إليه… وإنما خطها باعتبارها مذكرة خاصة لنفسه؛ ولا يمتنع عقلاً ولا منطقاً ألا يتداولها مع الخُلّص من أصحابه… ثم نقلها بعضهم إلى الناس؛ ومن ثم قرعت آذان الخليفة… وأدرك إشاراتها البعيدة، فهي ذات أسلوب غير مباشر فـي نقد الحكم… وهذا هو أسلوب ابن المقفع فضلاً عن التوازن فـي العبارات والتراكيب المتقاربة، وختامها بالثناء والتحميد المطول الذي ورثه من صديقه عبد الحميد الكاتب الذي كان يطيل بأسلوب الثناء والتحميد فـي مطالع رسائله وخواتيمها. (١٧٨)
وبعدُ فالفكرة التي يعقدها ابن المقفع فـي هذه الرسالة على غاية من الأهمية؛ إنها فكرة زمانية راقية قائمة على أساس جديد فـي تقسيم الزمن. فالزمن لم يعد لديه زمناً موضوعياً؛ أو فيزيائياً يدور الإنسان فـي فلكه، ويتحرك فـي دائرته؛ وإنما أصبح يحمل مفاهيم الرجل وأفكاره المرتبطة بالمجتمع… فالزمن أخذ يحتل مكانة رفيعة فـي نفسه وفـي حياته وحياة الناس باعتبار ما يجري فيه، وما تكثفه دلالة أحداثه… إنه ينقلنا من الزمن الفيزيائي السكوني إلى الزمن الاجتماعي الفاعل… وكأني به قد لمح ما قاله الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فاستلهمه ليجعله مادة فـي تحليل الواقع السياسي والاجتماعي الذي يراه. وكان الإمام قد قال: (أيها الناس!! إنا قد أصبحنا فـي دهر عنود؛ وزمن كنود؛ يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد فيه الظالم عُتواً؛ لا ننتفع بما عملنا، ولا نسأل عما جهلنا؛ ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا) (١٧٩).
فالإمام (رضي الله عنه) يرى أن زمن الجَوْر والضلال يحيق بالناس من كل اتجاه؛ وهم مادته، وأدواته… فقد خرجوا عن العدل والحق بحكم استيلاء الباطل على عقولهم وسيادة الجهل بدل العلم… فبدا المسيء محسناً، والقبيح جميلاً… ونسبوا إلى كل محسن إساءات لا حصر لها حسداً من عند أنفسهم وطمعاً…
فلو كان هذا الزمان زمان عدل؛ وفيه الحاكم الصالح لما وصل الحال إلى ما وصل إليه فـي الرعية… لقد استولى الجور والسوء والجهل والرذيلة على هذا الزمان… فلم ينتفع أهله بالعلم والمعرفة، وقصروا عن إدراك الحق والعدل… ولهذا فهم لا يسألون عما جهلوا…
ولو ردد المرء فـي هذا كله وأعاد تأمل ما قاله ابن المقفع فـي رسالته تلك لما وجد فارقاً كبيراً فـي الرؤية… بل إن ابن المقفع ملأ كنانته عن مفهوم الزمن من قراءاته لأقوال الإمام أو سماعه بها… ولا شك أن طريقة المعالجة مغايرة لكن الرؤية واحدة، والمادة متشابهة… فكلاهما يصر على أنه يعيش فـي زمان امتلأ بالانحراف عن جادة الحق… وعلاجه الوحيد الأخذ بالعدل والعلم والمعرفة والحق والعقل… ولهذا صور كل منهما رفضه للزمان لا لأهله.
فالزمن عندهما زمن الوعي الحضوري الذاتي لما يجري حولهما ويقع من أحداث سياسية واجتماعية… إنه زمن ذاتي اجتماعي فكري… يضغط على أعصاب كل منهما. إنه معادل موضوعي رمزي وفق ظاهرة المجاز الإسنادي إلى الزمن… فابن المقفع وقبله أمير المؤمنين إنما يرفضان العبث السياسي والاجتماعي والفكري الذي استشرى فـي زمنهما… مما جعلهما يحملانه الوزر فـي إشارة مثيرة لرفض ذلك كله.
وبهذا يصبح التركيب صورة موازية للمعاناة الذاتية والاجتماعية؛ ولكنها صورة جمالية يجد فيها السامع آفاقاً من الرؤى ما كان ليجدها لو سيقت بأسلوب مباشر… فصُورة الزمن المجازية لم تحمل غايتها غاية تزيينية فحسب وإنما حملت وظيفة نفسية وفكرية أدت إلى تفاعل حقيقي معها… فالعلاقة التي تقوم بين الدلالة المجازية والحقيقية تعبر أيما تعبير عن أبعادها المختلفة… وحين تستعمل الدلالة فـي إطار مجازي إنما تؤكد غنى الموقف الذاتي والفكري لصاحبها… فالمجاز بهذا الشكل لم يعد مجرد شكل بلاغي وإنما هو علاقة (بين الدال والمدلول حيث تقوم المساحة أو الفضاء الداخلي للغة) (١٨٠).
وهذا كله يوحي بأن الرسالة ليست بحثاً تافهاً بأي حال من الأحوال، فهي موقف من الوضع السياسي الذي يحيط به قدمه بإطار مجازي يحمل القدرة على إغراء المتلقي وإقناعه.
٦ـ رسائل أُخرى: هناك العديد من الرسائل الأخرى التي طبعت هنا وهناك (١٨١) وقد جمع أغلبها كتاب (رسائل البلغاء) (وجمهرة رسائل العرب).
وهناك العديد من الحكم والوصايا التي نشرها محمد كرد علي تحت عنوان (حكم ابن المقفع) ثم نشرها عبد العزيز الخانجي فـي القاهرة مع (حكم بيدبا الفيلسوف) (١٨٢).
وكان علي بن أحمد الحلبي قد نشر هذه الحكم بالقاهرة سنة (٨٤٤هـ) وذكر فـي أولها أنها (كتاب الأدب لابن المقفع) (١٨٣). ومن يقرأ هذه الحكم فـي مظانها يدرك أنها ليست (الأدب الكبير) ولا (الأدب الصغير)، ولا اليتيمة… لأنه قد يخيل أنّها (الأدب الصغير) لكون طريقتها مشابهة لطريقة الحكم - نوعاً ما - كما وردت فيه.
ولعل هذه الطريقة تشكك فـي نسبتها إليه؛ فضلاً عن أنها لم يُعرف لها عنوان غير الذي وضعه المحدثون، فهي مجرد حكم مجموعة لا رابط بينها… على حين أننا يمكن ربط الحكم الموجودة فـي كتاب (الأدب الصغير) بموضوعات جزئية أهمها السلطان، والصداقة، والأدب…
ويرى بعض المحدثين أن هذه الحكم قد تكون سقطت من كتاب آخر لابن المقفع؛ ولا يمكن أن تكون رسالة قائمة بذاتها. (وربما كان ابن المقفع قد ذكر هذه الحكم فـي رسالة من رسائله على سبيل الاقتباس) (١٨٤).
ومهما قيل فـي هذه الرسالة فإن بروكلمان يرجح نحلها فـي وقت متأخر ونسبتها إلى ابن المقفع وكذلك حال بعض الرسائل الأخرى المنشورة فـي (رسائل البلغاء) (١٨٥). ويشك بروكلمان أيضاً فـي الكتاب المسمى (الأدب الوجيز) أو (أدب الوجه) للولد الصغير (ولا يوجد منه إلا تهذيب باللغة الفارسية كتب سنة (٦٣٣هـ / ١٢٣٥م) لناصر الدين عبد الرحيم…) (١٨٦).
وهناك رسائل أخرى متعددة فـي شؤون اجتماعية متنوعة؛ يغلب عليها القصر والإيجاز، والتعبيرات السهلة الشائعة… وهي تنتمي إلى الرسائل الإخوانية (١٨٧).
وإذا كنّا سنثبت فـي نهاية بحثنا شيئاً من كتاباته فإننا نمثل لرسائله الإخوانية بواحدة منها كتبها إلى أحد أصدقائه يعزيه فيها عن ولده. وفيها يظهر عمق إيمانه؛ وتأثره بالقرآن الكريم؛ حيث يقول: (إنما يستوجب على الله وحده؛ مَنْ صبر لله بحقه. فلا تجمعنَّ إلى ما فُجعت به من ولدك الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه. فإنها أعظم المصيبتين عليك، وأنكى المَرْزِئَتين لك. أخلف الله عليك بخير؛ وذخر لك جزيل الثواب) (١٨٨).
لنتأمّل هذه الرسالة وأمثالها؛ فإنها تدل على طاقة إبداعية مكثفة للهموم الاجتماعية التي يحس بها ابن المقفع نحو إخوانه… فما يؤرقه فَقْدُ صديق له لفلذة كبده؛ ولهذا لم يجد خيراً من تعزيته إلا بتذكيره بمبادئ الإسلام.
هكذا أسس الفصل الثاني لأبعاده الفكرية فـي ضوء آثار ابن المقفع؛ وهي الآثار التي تدعونا إلى تأملها طويلاً فـي الحديث عن براءته من الزندقة والشعوبية فـي الفصل الثالث.
ولما كانت هذه الآثار أصول أدبه تطلّب منا معرفة ما يتعلق بها مكانة وأثراً وخصائص وسمات وهو ماينهض به الفصل الرابع. (

ابن المقفع بين حضارتين
د. حسين علي جمعة

الفصل الثاني:
آثاره، وأبعادها الفكرية
تابع - 3



[١] انظر نصيحة الملوك ١٢١ـ١٢٢ وابن المقفع.
[٢] انظر الوزراء والكتاب ٦٢ والفهرست ١٧٠ و ٧١ والتنبيه والإشراف ٩٣ ومن حديث الشعر والنثر ٢٨ـ ٢٩ و ٣٣ والفن ومذاهبه فـي النثر ١١٠.
[٣] انظر مثلاً: البيان والتبيين ٣ / ٢٠٦ وضحى الإسلام ١ / ٤٠ وبعد و ١٧٢ وبعد.
[٤] الأدب الكبير ٦٨ـ٦٩ وانظر أمراء البيان ٩٦.
[٥] انظر الوزراء والكتاب ٧٣ وأمراء البيان ٦٦ وبعد والفن ومذاهبه فـي النثر ١١٥ وانظر عيون الأخبار ١ / ٢٦.
[٦] زهر الآداب ١ / ١٤٢.
[٧] انظر الفهرست ١٧٢ و ١٨٢ وضحى الإسلام ١ / ١٧٢ـ١٧٣ و ١٧٧.
[٨] ضحى الإسلام ١ / ١٧٨، وتاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ١٠.
[٩] من حديث الشعر والنثر ٣٠.
[١٠] انظر الفن ومذاهبه فـي النثر ١١٠.
[١١] انظر البيان والتبيين ٣ / ٢٩ وراجع حاشية (١ و ٣) من مدخل الفصل الأول.
[١٢] انظر من حديث الشعر والنثر ٤٩ وأمراء البيان ٨٩ وبعد والفن ومذاهبه فـي النثر ١٤١ـ١٤٣.
[١٣] مروج الذهب ١ / ١٩٤ وانظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٦.
[١٤] مروج الذهب١ / ٢٢٦ وانظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٦ وأمراء البيان ٨٩.
[١٥] انظر ذلك كله فـي تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٦، وعنه أخذ صاحب ابن المقفع كل ما يتعلق بأوصاف هذه الكتب دون إشارة (١٤٨ـ١٤٩).
[١٦] انظر الفهرست ٣٣٧ ومن حديث الشعر والنثر ٢٩ وتاريخ الأدب العربي (الزيات) ٢١٤.
[١٧] طبقات الأمم ٧٧ و انظر الحيوان ١ / ٧٦ ومقدمة ابن خلدون ٤٩٠ والفن ومذاهبه فـي النثر ١٤٠ والعصر العباسي الأول ٥١١ والأعلام ٤ / ١٤٠.
[١٨] الفهرست ٣٤١.
[١٩] انظر الفهرست ١٧١ و ٣٣٧ و ١٤١والفن ومذاهبه فـي النثر ١١٠، وانظر التنبيه والإشراف ٦٦ ومقدمة ابن خلدون ٤٨٦ و ٤٩٠.
[٢٠] انظر ابن المقفع ١٥٤ - ١٥٥.
[٢١] انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٨.
[٢٢] انظر مروج الذهب ٤ / ٣١٤ والفهرست ٣٣٧.
[٢٣] انظر مثلاً: مروج الذهب ٢ / ٤٢ والتنبيه والإشراف ٩٢ وضحى الإسلام ١ / ١٧٧ وتاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ١٠ وابن المقفع ١٧٦ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٦ وانظر حاشية ٦٨ - ٩٦ من الفصل الثالث.
[٢٤] هي تسمية الفهرست ١٧٢.
[٢٥] انظر تاريخ الأدب فـي إيران ٩ـ ١٠ والفن ومذاهبه فـي النثر ١٣٨.
[٢٦] انظر التنبيه والإشراف ٩١ و ٩٢ ونصيحة الملوك ٥٧ و ٩٩ و ٣٩٢ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٧ وابن المقفع ١٧٨ و ١٨١.
[٢٧] هي تسمية الفهرست ١٧٢.
[٢٨] انظر اللسان (أصر) ونصيحة الملوك ٥٧ حاشية (٧٠).
[٢٩] انظر عيون الأخبار ١ / ١٣٣ و ١٥١ و ٣ / ٢٢١.
[٣٠] انظر تاريخ الأدب العربي (نللينو) ٣ / ٩٧ والفن ومذاهبه فـي النثر ١٣٨.
[٣١] انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٨ ومنه استقى صاحب ابن المقفع ١٧٠ـ١٧٢؛ ولا يوجد فـي عيون الأخبار لكتاب (تنسر) ذكر.
[٣٢] الفهرست ١٧٢.
[٣٣] انظر عيون الأخبار ١ / ٥ و ١١ و ١٥ و ٢٧ و ٤٥ و ٥٩ و ٩٦. وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٧.
[٣٤] انظر ابن المقفع ١٥٠ـ١٥٢.
[٣٥] انظر الفهرست ١٧٢، وظهر مزدك أيام قباذ فـي فارس نحو (٤٨٧م) ولما رأى أن الشَّريقع - غالباً - بسبب المال والنساء؛ لهذا أباحهما وجعلهما مشاعاً، انظر الملل والنحل ١١٧ وفجر الإسلام ١٠٩.
[٣٦] انظر تاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٧ـ٩٨ وابن المقفع ١٥٢ وانظر حاشية ٦٧ من الفصل الثالث.
[٣٧] رسالة ابن المقفع (خليل مردم بك) ٦١.
[٣٨] ابن المقفع ١٥٢.
[٣٩] ابن المقفع ١٥٣.
[٤٠] الفهرست ١٧٢.
[٤١] ذلك ما ذهب إليه بعض الباحثين؛ انظر مثلاً: تاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٤٠؛ ورسائل البلغاء ١١٧ وتاريخ الأدب العربي (فروخ) ٢ / ٥٨ فيما نقله عن شكيب أرسلان؛ انظر حاشية (٩٧) مما يأتي.
[٤٢] وفيات الأعيان ٢ / ١٥١.
[٤٣] إعجاز القرآن ١ / ٤٦ وانظر ديوان أبي تمام ٣٩ـ٤٠ وثمار القلوب ١٩٩ـ٢٠٠ وزهر الآداب ١ / ٢٤٦.
[٤٤] تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠١ وانظر حاشية ٥١ـ٥٢ من الفصل الثالث.
[٤٥] كشف الظنون ٣ / ٢١٣ وانظر حاشية ٧٣ من الفصل الثالث.
[٤٦] انظر تاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٤٠ـ٤٤١.
[٤٧] إعجاز القرآن ١ / ٤٦ وانظر ضحى الإسلام ١ / ١٩٩ـ١٠٠ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠١.
[٤٨] الفهرست ١٧٢ و ١٨٣.
[٤٩] الفهرست ١٧٢ و ١٨٣.
[٥٠] انظر المنظوم والمنثور ١٢ / ١٦٠ وجمهرة رسائل العرب ٢ / ٤٨ـ٥٢ وانظر ابن المقفع ١٤٦.
(٥١) انظر عيون الأخبار ١ / ٣ـ٥ وثمار القلوب ١٩٩ـ٢٠٠ وزهر الآداب ١ / ٢٤٦.
(٥٢) انظر شرح ديوان أبي تمام ١ / ٨١ وراجع حاشية (٦٨) من الفصل الأول.
(٥٣) ابن المقفع ١٤٦ـ١٤٧ عن طبقات الأطباء؛ وانظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٨.
(٥٤) إعجاز القرآن ١ / ٤٦ـ٤٧ وانظر حاشية (٥٥ - ٥٦ و ٧٠ـ ٧٢) من الفصل الثالث.
(٥٥) انظر من حديث الشعر والنثر ٣٨.
(٥٦) تاريخ الأدب العربي ٣ / ١٠١ وابن المقفع ١٥٦.
(٥٧) انظر ابن المقفع ١٥٦ عن البدء والتاريخ (نشرة دورات Huart) ٢ / ١٥٠.
(٥٨) محاضرات الأدباء ١ / ٩٦.
(٥٩) انظر ابن المقفع ٢٣٤.
(٦٠) انظر مثلاً: تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٣ـ٩٦ و (فاخوري) ٤٥٠ـ٤٥٢ و (فروخ) ٢ / ٥٤ـ٥٨ وابن المقفع ١٨٢ـ٢٣٥ وضحى الإسلام ١ / ٢١٦ـ٢٢٢ وأمراء البيان ١٢٤ـ١٣٣، وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ـ٤٣٩ والعصر العباسي الأول ٥٢٠ـ٥٢١ ودراسات فـي الأدب المقارن ٩٠ و ١٧١ و ١٨٥.
(٦١) انظر تاريخ الأدب فـي إيران ٤٤٣ وابن المقفع ٢١٢ وتاريخ الأدب العربي (فاخوري) ٤٤٩؛ والأمثال فـي النثر العربي القديم ١٦٦ـ١٦٨.
(٦٢) عثر على الأصل السرياني فـي دير (ماردين) سنة (٥٧٠م) ونشر سنة (١٨٧٦م)، انظر ضحى الإسلام ١ / ٢١٦ وبعد ودراسات فـي الأدب المقارن ١٧٤ـ١٧٥ وابن المقفع ١٨٩ـ١٩٣ والفن ومذاهبه فـي النثر ١٣٨ـ١٣٩ وتاريخ الأدب العربي (فاخوري) ٤٤٧، والأمثال فـي النثر العربي القديم ١٦٦ - ١٦٩، وليس بدقيق ماذهب إليه صاحب كتاب الأمثال فـي النثر العربي القديم حين ذهب إلى ترجمة الكتاب عن السريانية (ص١٦٩) وليس عن الفهلوية… أما المهابهارتا (ملحمة الهند الكبرى) فقد أجريت مقابلة بين أفكارها وبعض أفكار كليلة ودمنة فتبين لي وجه الصلة بينهما مثل: نصائح إلى المؤدبين ٦١ـ٦٢ عنايتهم بأبهة السلطان ٦٥ ـ١١٠ تحذير أهل العلم من مصاحبة السلطان ١١١ - ١١٢ وغير ذلك كثير.
(٦٣) انظر مثلاً: عيون الأخبار ١ / ١٦٨ و ٢٨١ و ٣ / ١٨٠ ونَصيحة الملوك ٣٣٢ و ٥٤٤.
(٦٤) انظر كليلة ودمنة ٢١ و ٣٢ وابن المقفع ٢٠٤ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٨ـ٤٣٩.
(٦٥) انظر كليلة ودمنة ٧ـ٢٠ ووفيات الأعيان ٢ / ١٥١ وضحى الإسلام ١ / ٢١٨.
(٦٦) انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٤ والأمثال فـي النثر العربي القديم ١٦٨ـ١٦٩ وطبقات الأمم ٤٩ و ١٤ والفن ومذاهبه فـي النثر ١٣٩ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٣٩.
(٦٧) انظر تاريخ الأدب فـي إيران ٤٣٨ و ٤٤٣ و ٤٤٦ وضحى الإسلام ١ / ٢١٦ وبعد؛ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٣ـ٩٦ وابن المقفع ٢٠٢.
(٦٨) انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٦ وحاشية [٥].
(٦٩) انظر تاريخ الأدب فـي إيران ٤٤٤ ودراسات فـي الأدب المقارن ١٧٤ وتاريخ الأدب العربي (فاخوري) ٤٥١، ورأى أن ترجمته حوالي سنة (٥١٣٠)
(٧٠) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٨.
(٧١) انظر ضحى الإسلام ١ / ٢١٩.
(٧٢) انظر دراسات فـي الأدب المقارن ١٧٥ وابن المقفع ٢٠٢ و ٢٠٨.
(٧٣) انظر دراسات فـي الأدب المقارن ١٧٥ وابن المقفع ٢٠٢ و ٢٠٨.
(٧٤) كليلة ودمنة ٣٢.
(٧٥) المصدر السابق.
(٧٦) انظر ابن المقفع ٧٣.
(٧٧) ضحى الإسلام ١ / ٢١٨.
(٧٨) انظر ضحى الإسلام ١ / ٢١٩.
(٧٩) انظر ضحى الإسلام ١ / ٢١٩ـ٢٢٠.
(٨٠) انظر مثلاً: تاريخ الأدب العربي (بلاشير) ٩٢٢ و ٩٤٤ و (فاخوري) ٤٥٧ ودراسات فـي الأدب المقارن ١٦٧ وبعد.
(٨١) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٨.
(٨٢) انظر مثلاً: ضحى الإسلام ١ / ١٩٧ـ١٩٨ وتاريخ الأدب العربي للزيات ٢٠٣ـ٢٠٤ و٢١٤. وفـي القديم جعل ابن النديم كليلة ودمنة واليتيمة من الكتب المعدودة فـي الجودة عند الناس، انظر الفهرست ١٨٣.
(٨٣) انظر دراسات فـي الأدب المقارن ١٨١.
(٨٤) انظر تاريخ الأدب العربي (فاخوري) ٤٥١ وابن المقفع ١٨٨.
(٨٥) الجامع الصغير (١ / ٤٢ حديث رقم ٣١٠) وانظر اللسان (أدب) وأدب الكاتب ١٦٢ـ١٦٣.
(٨٦) شرح ديوان حماسة أبي تمام للتبريزي (١ / ٣١٦ طبعة النوري) و (٢ / ١٣٣ـ١٣٤ طبعة عالم الكتب).
٨٧) ) وفيات الأعيان ٢ / ١٥١.
٨٨) ) انظر مقدمة ابن قتيبة لأدب الكاتب ٥ وبعد و ١٤ و ١٦ وبعد.
(٨٩) انظر ابن المقفع ١٥٩.
(٩٠) ضحى الإسلام ١ / ١٩٩ وانظر تاريخ الأدب العربي (فروخ) ١ / ٥٣.
(٩١) الفهرست ١٧٢.
(٩٢) انظر المنظوم والمنثور ١٢ / ١٦٠ وجمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٨.
(٩٣) ذكر بروكلمان فـي تاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٩ـ١٠٠ عدداً ممن عني بكتاب الأدب الصغير: عني به للمرة الأولى الشيخ طاهر الجزائري فـي مجلة المقتبس؛ ثم نشره أحمد زكي صفوت باشا سنة ١٣٢٩هـ / ١٩١١م؛ ثم نشره محمد كرد علي فـي رسائل البلغاء (١٣٢٦هـ / ١٩٠٨م) ثم نشر ثلاث مرات. وكذلك عني به محمد أمين ونشره بمصر ١٣٣٢هـ / ١٩١٣م.
(٩٤) انظر تاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٤٠ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ٩٩.
(٩٥) انظر الأدب الصغير ٢٠ـ٢١.
(٩٦) الأدب الصغير ٦٥.
(٩٧) تاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٩ـ١٠٠
(٩٨) ذكر بروكلمان فـي تاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٨ بعض من عني بالكتاب؛ مثل - طبع فـي لبنان ومصر عدة طبعات تحت عنوان (الدر اليتيمة). أـ فـي لبنان سنة ١٨٩٧م؛ ثم طبعه جرجي شاهين عطية. ب - فـي مصر - طبع فـي القاهرة مصدَّراً بمقدمة للأمير شكيب أرسلان.
(٩٩) انظر الفهرست ١٧٢ وتاريخ الأدب العربي ٣ / ٩٨.
(١٠٠) عيون الأخبار ١ / ٢٠ و ٢٢ و ٣١ وانظر ابن المقفع ١٤٤.
(١٠١) الفهرست ١٧٢.
(١٠٢) ابن المقفع ١٦٦: انظر الحاشية [١] فيه.
(١٠٣) انظر ابن المقفع ١٦٦ وتاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٤٠٩ـ٤٤١.
(١٠٤) انظر ابن المقفع ١٦٨ وانظر نصيحة الملوك ٥٨ـ٥٩ و٨٧ و١٤٢ و١٦٠ و٢٣١ و٢٣٥ و٣٧٦ وبهجة المجالس ١ / ٣٣٢.
(١٠٥) الطبعة التي اعتمدنا عليها بتحقيق د. إنعام فَوّال يبدأ كتاب (الأدب الكبير) بصفحة ٦٧ وينتهي بصفحة ١٣٧.
(١٠٦) الجامع الصغير ١ / ٤٠٦ حديث رقم ٢٩٨٧ وانظر فيه ١ / ١٨٦ حديث رقم ١٤٦٤.
(١٠٧) الجامع الصغير ١ / ٢١٤ـ٢١٥ حديث رقم ١٦٢٠.
(١٠٨) الأدب الكبير ٨٤ - ٨٥، ونظير ذلك موجود فـي (المهابهاراتا) ١١١ - ١١٢.
(١٠٩) الأدب الكبير ١٠٢.
(١١٠) الأدب الكبير ١٢٨.
(١١١) الأدب الصغير ٢٠.
(١١٢) الأدب الكبير ٦٨ـ ٦٩.
(١١٣) انظر الأدب الصغير ٤٥ و٤٦ و٤٧ و ٤٨ و٤٩ و٦٤ و٦٥.
(١١٤) الأدب الصغير ٥٥.
(١١٥) الأدب الصغير ٦٢.
(١١٦) الأدب الكبير ١٠٨.
(١١٧) انظر ابن المقفع ١٦٧ - ١٦٨.
(١١٨) انظر من حديث الشعر والنثر ٣٢ و ٤٨.
(١١٩) انظر مثلاً: كليلة ودمنة (باب الفحص عن أمر دمنة ٧٨ - ٩٠)
(١٢٠) الأدب الكبير ١١٢.
(١٢١) كليلة ودمنة ٩١.
(١٢٢) الأدب الصغير ٢١ وانظر فيه ٢٩.
(١٢٣) انظر ضحى الإسلام ١ / ٢٠٤ وابن المقفع ١٦٥ - ١٦٦.
(١٢٤) الأدب الكبير ٧٠.
(١٢٥) الأدب الصغير ٥٤.
(١٢٦) انظر من حديث الشعر والنثر ٣٢ - ٣٣ - ٣٩ و ٤٧ـ٤٨.
(١٢٧) راجع ما تقدم حاشية ١٥ من مدخل الفصل الأول، وانظر فيه الحواشي ٦٩ـ٧٣.
(١٢٨) من حديث الشعر والنثر ٤٩.
(١٢٩) العصر العباسي الأول ٥٢١.
(١٣٠) انظر مثلاً: الأدب الصغير ٥٨ - ٥٩.
(١٣١) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٧ـ٤٨ وابن المقفع ١٠٦.
(١٣٢) انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣١ـ٣٢ وتاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠٠.
(١٣٣) انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٢.
(١٣٤) انظر ابن المقفع ١٦٩ـ١٧٠.
(١٣٥) انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥٤ والتنبيه والإشراف ٢٩٣ وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٥٨.
(١٣٦) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٠.
(١٣٧) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٣ وانظر فيه ٤٤.
(١٣٨) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣٠ـ٣١.
(١٣٩) انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣١ـ٣٣.
(١٤٠) انظر المصدر السابق ٣ / ٣٤ - ٣٥.
(١٤١) المصدر السابق ٣ / ٣٦.
(١٤٢) انظر المصدر السابق ٣ / ٣٦ـ٣٧.
(١٤٣) المصدر السابق ٣ / ٣٧ وانظر فيه ٤٢.
(١٤٤) المصدر السابق ٣ / ٣٧.
(١٤٥) انظر المصدر السابق ٣ / ٣٦، وانظر ما يأتي حاشية ١٦٢ و ١٦٣.
(١٤٦) انظر المصدر السابق ٣ / ٤٠.
(١٤٧) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٧ والعصر العباسي الأول ٥٢٠.
(١٤٨) انظر ابن المقفع ١٠٦.
(١٤٩) انظر ضحى الإسلام ١ / ٢١١.
(١٥٠) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٠.
(١٥١) انظر المصدر السابق ٣ / ٣٨.
(١٥٢) انظر المصدر السابق ٣ / ٤١ـ٤٢.
(١٥٣) المصدر السابق ٣ / ٤٦
(١٥٤) المصدر السابق نفسه.
(١٥٥) المصدر السابق ٣ / ٤٥.
(١٥٦) المصدر السابق ٣ / ٤٦.
(١٥٧) المصدر السابق ٣ / ٤٧ـ٤٨ وانظر ضحى الإسلام ١ / ٢١٤ـ٢١٥.
(١٥٨) المنظوم والمنثور ١٢ / ١٨٢ وجمهرة رسائل العرب ٣ / ٣٠ـ٤٨ ورسائل البلغاء وانظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠٠.
(١٥٩) انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠٠.
(١٦٠) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣١.
(١٦١) المصدر السابق ٣ / ٣٣.
(١٦٢) انظر كتاب الخراج ٦ وضحى الإسلام ١ / ٢١٣ـ٢١٤ وابن المقفع ١١٣، وراجع ما تقدم حاشية ١٤٥ و ١٤٦.
(١٦٣) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٨ وابن المقفع ١١١ـ١١٢ والعصر العباسي الأول ٥٢٠.
(١٦٤) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٦ـ٤٩.
(١٦٥) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٣١.
(١٦٦) انظر نصيحة الملوك ٥٥٩ـ٥٦٢.
(١٦٧) ابن المقفع ١٧٠ وانظر من حديث الشعر والنثر ٤٨ـ٤٩.
(١٦٨) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤١.
(١٦٩) انظر وفيات الأعيان ٢ / ١٥١ وسرح العيون ١٥٠.
(١٧٠) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٣ والبيت للشاعر الجاهلي الأَفوه الأَودي: انظر الطرائف الأدبية ١٠.
(١٧١) انظر من حديث الشعر والنثر ٤٨.
(١٧٢) انظر ابن المقفع ٢٣٣ـ٢٣٥.
(١٧٣) راجع ما تقدم حاشية ٤٥ـ٥٠ من هذا الفصل.
(١٧٤) انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٤٨ عن ابن طيفور.
(١٧٥) انظر تاريخ الأدب العربي ٣ / ١٠٠ (بروكلمان)
(١٧٦) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٩.
(١٧٧) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٢.
(١٧٨) انظر المصدر السابق ٢ / ٤٦٤ و٤٦٩ـ٤٧٢ و٣ / ٥٣ وبعد.
(١٧٩) نهج البلاغة ١ / ١٧٣ وانظر فيه ٢ / ١٩٧، وانظر فكرة الزمن فـي الدراسات العربية - مجلة التراث العربي ص ٥٤ - ٥٥.
(١٨٠) انظر بلاغة الخطاب وعلم النص ١٣٨.
(١٨١) انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠٠.
(١٨٢) انظر رسائل البلغاء ١١٨ - ١٢٠ ونشرت حكم ابن المقفع على هامش كتاب (شرح حديث الداري) لابن تيمية فـي القاهرة ١٩٠٦م وفـي مجموعة أخرى طبعت بالقاهرة أيضاً سنة ١٣٢٤هـ؛ انظر تاريخ الأدب العربي (بروكلمان) ٣ / ١٠٠.
(١٨٣) انظر رسائل البلغاء ١١٨ وابن المقفع ١٤١.
(١٨٤) انظر ابن المقفع ١٤٣.
(١٨٥) انظر رسائل البلغاء ١٣٢ـ١٣٨.
(١٨٦) انظر تاريخ الأدب العربي ٣ / ١٠٠.
(١٨٧) انظر جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٣ وبعد.
(١٨٨) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٥٦.

 
أعلى