كان المفكر الراحل صادق جلال العظم " 1934- 2016 " من بين أساتذتي الذين كنت أقدّرهم في جامعة دمشق، سبعينيات القرن الماضي، سوى أن أرستقراطيته بطابعها الشرقي كانت تحول بيني وبين التفاعل مع أطروحاته، رغم تثميني لجرأته. ألا يتكلم الكلام صاحبَه فكرياً ؟
لكم حاولت أن أحرّر نفسي من وطأة الصورة الشخصية له، وهو يلقي دروسه، كما لو أنه لا يرى سوى أفكاره، وليس من هم على مقربة منه، تعبيراً عن الأرستقراطية تلك، دون جدوى.
حيث أشد الصورة هنا إلى تصوُّر بنيوي للشخصية من الداخل، وليس مجرد مظهر حصراً .
ثمة صورة لا تزال حية في خاطري عنه، تخص فترة الامتحانات الجامعية، حيث كان يدرّسنا مادة " فكر سياسي معاصر " في السنة الدراسية الرابعة، قسم الفلسفة "، وهو يتنقل بين المقاعد. كان إذا استفسر منه طالب ما عن نقطة معينة، أو سؤال معين في ورقة أسئلته، يقف على مبعدة منه، أو " فوق رأسه " وبالكاد ينحني، ليجيبه بإيجاز شديد. بينما الموقف مع زميلاتنا الطالبات كان مختلفاً تماماً. فإذا سألته إحداهن، لا يكتفي بالاقتراب منها، بل يجلس بجوارها، كما لو أنه يريد احتضانها، مقرّباً رأسه من رأسها، ولبعض الوقت، موضّحاً المطلوب .
ليس هذا اتهاماً لأستاذي المفكر الراحل بكونه " زير نساء "، إنما التعبير الأتم، كما أرى، عما ذهبتُ إليه بالأرستقراطية الشرقية، التي لا تخفي عنصراً فحولياً، يتراءى في الهيئة وطريقة الكلام، وما في ذلك من أنفة، حيث الاستخفاف بالنظراء الذكور، وتعاطف مع النساء، ليس حباً بنوعهن، وتعظيماً لهن، إنما ترجمة أخرى لتلك الفحولة بوصفها استثنائية.
ربما بالطريقة هذه، يمكن النظر إلى الكثير مما خطّه يراعه، بدءاً من " نقد الفكر الديني، 1969 " أهم كتاب لديه في تعرية الذهنية الدينية القائمة، لكنه النقد الذي انطوى على رفض لعموم الدين، ومحاكمة له في أعقاب هزيمة حزيران 1967، وليس في مساءلة ما يمارس الدين عموماً من أدوار في حياتنا.
تعمَّق هذا التوجه في كتابه " ذهنية التحريم، 1992 " الكتاب الصاعق كسابق، وقد حاول من خلال إطلاق رصاصة الرحمة علىة الذهنية الآنفة الذكر، وما في ذلك من تهكم مما يجري بخصوص رواية " آيات شيطانية " وحقيقتها حينها، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، وكان قد نشر سنة 1990 كتابه السجالي" دفاعاً عن المادية والتاريخ " نازلاً بمعوله النقدي في الكثير من مكونات الإرث الفلسفي الأوربي أولاً، وامتداداته في العالم العربي، كما في حال هيدجر والتوسير، وبؤس المتردد الفلسفي في كتاباتهما مثلاً .
إنها عدمية تنطلق من الغرب، استناداً إلى مأثور فلسفي غربي بالمقابل، لكنه يساري، وأقرب إلى الماركسية الخندقية، وتعزيز لتلك الصفة التي رأيته فيها مذ كان أستاذاً جامعياً .
ما ينبغي قوله هنا، هو أن أرستقراطيته " كونه من آل العظم، وتركيَّ الأصول، حيث شخصية أتاتورك الكاريزمية تضيء جوانب مختلفة في فكره " كانت تشفع له كثيراً، وهو في سوريا، حتى خروجه النهائي في أعقاب انفجار الأوضاع فيها سنة 2011.
لقد كان يتميز بثقافة غربية واسعة، لكن لغة السجال وما فيها من حدة، منحته حضوراً ساحاتياً، وبالتالي، أكسبته عداوات كثيرة، من الإسلاميين وغيرهم، وبالمقابل مريدين وليس أصدقاء فكر مستنير أو فلسفة " منتجة "، فالفكر الاقتحامي يصعب عليه إيجاد أرضية يثمر فيها بعمق، بمقدار ما يترك صدى لنزالات، استفادت منها الأنظمة القائمة، أكثر من الثقافة الفعلية عربياً .
إنها ازدواجية متنقلة على قدمين لا تناغم بينهما، حيث يظهر مشهد التعامل مع الطلاب والطالبات إلى الخارج: عبر تعال ٍ ذكوري، وحنوّ أنوثي لا يخفي خيلاء الذكورة.
المفارقة الكبرى، أن العظم، توفي في بلد أكثر من شدَّد عليه في نقده، إلى درجة التهكم والتجريح: هيدجر: ألمانيا. مؤكد أن ألمانيا ليست بلد هيدجر وحده، لكنه بلد هيدجر قبل أن يكون بلد إقامة صادقة جلال العظم .
لكم حاولت أن أحرّر نفسي من وطأة الصورة الشخصية له، وهو يلقي دروسه، كما لو أنه لا يرى سوى أفكاره، وليس من هم على مقربة منه، تعبيراً عن الأرستقراطية تلك، دون جدوى.
حيث أشد الصورة هنا إلى تصوُّر بنيوي للشخصية من الداخل، وليس مجرد مظهر حصراً .
ثمة صورة لا تزال حية في خاطري عنه، تخص فترة الامتحانات الجامعية، حيث كان يدرّسنا مادة " فكر سياسي معاصر " في السنة الدراسية الرابعة، قسم الفلسفة "، وهو يتنقل بين المقاعد. كان إذا استفسر منه طالب ما عن نقطة معينة، أو سؤال معين في ورقة أسئلته، يقف على مبعدة منه، أو " فوق رأسه " وبالكاد ينحني، ليجيبه بإيجاز شديد. بينما الموقف مع زميلاتنا الطالبات كان مختلفاً تماماً. فإذا سألته إحداهن، لا يكتفي بالاقتراب منها، بل يجلس بجوارها، كما لو أنه يريد احتضانها، مقرّباً رأسه من رأسها، ولبعض الوقت، موضّحاً المطلوب .
ليس هذا اتهاماً لأستاذي المفكر الراحل بكونه " زير نساء "، إنما التعبير الأتم، كما أرى، عما ذهبتُ إليه بالأرستقراطية الشرقية، التي لا تخفي عنصراً فحولياً، يتراءى في الهيئة وطريقة الكلام، وما في ذلك من أنفة، حيث الاستخفاف بالنظراء الذكور، وتعاطف مع النساء، ليس حباً بنوعهن، وتعظيماً لهن، إنما ترجمة أخرى لتلك الفحولة بوصفها استثنائية.
ربما بالطريقة هذه، يمكن النظر إلى الكثير مما خطّه يراعه، بدءاً من " نقد الفكر الديني، 1969 " أهم كتاب لديه في تعرية الذهنية الدينية القائمة، لكنه النقد الذي انطوى على رفض لعموم الدين، ومحاكمة له في أعقاب هزيمة حزيران 1967، وليس في مساءلة ما يمارس الدين عموماً من أدوار في حياتنا.
تعمَّق هذا التوجه في كتابه " ذهنية التحريم، 1992 " الكتاب الصاعق كسابق، وقد حاول من خلال إطلاق رصاصة الرحمة علىة الذهنية الآنفة الذكر، وما في ذلك من تهكم مما يجري بخصوص رواية " آيات شيطانية " وحقيقتها حينها، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، وكان قد نشر سنة 1990 كتابه السجالي" دفاعاً عن المادية والتاريخ " نازلاً بمعوله النقدي في الكثير من مكونات الإرث الفلسفي الأوربي أولاً، وامتداداته في العالم العربي، كما في حال هيدجر والتوسير، وبؤس المتردد الفلسفي في كتاباتهما مثلاً .
إنها عدمية تنطلق من الغرب، استناداً إلى مأثور فلسفي غربي بالمقابل، لكنه يساري، وأقرب إلى الماركسية الخندقية، وتعزيز لتلك الصفة التي رأيته فيها مذ كان أستاذاً جامعياً .
ما ينبغي قوله هنا، هو أن أرستقراطيته " كونه من آل العظم، وتركيَّ الأصول، حيث شخصية أتاتورك الكاريزمية تضيء جوانب مختلفة في فكره " كانت تشفع له كثيراً، وهو في سوريا، حتى خروجه النهائي في أعقاب انفجار الأوضاع فيها سنة 2011.
لقد كان يتميز بثقافة غربية واسعة، لكن لغة السجال وما فيها من حدة، منحته حضوراً ساحاتياً، وبالتالي، أكسبته عداوات كثيرة، من الإسلاميين وغيرهم، وبالمقابل مريدين وليس أصدقاء فكر مستنير أو فلسفة " منتجة "، فالفكر الاقتحامي يصعب عليه إيجاد أرضية يثمر فيها بعمق، بمقدار ما يترك صدى لنزالات، استفادت منها الأنظمة القائمة، أكثر من الثقافة الفعلية عربياً .
إنها ازدواجية متنقلة على قدمين لا تناغم بينهما، حيث يظهر مشهد التعامل مع الطلاب والطالبات إلى الخارج: عبر تعال ٍ ذكوري، وحنوّ أنوثي لا يخفي خيلاء الذكورة.
المفارقة الكبرى، أن العظم، توفي في بلد أكثر من شدَّد عليه في نقده، إلى درجة التهكم والتجريح: هيدجر: ألمانيا. مؤكد أن ألمانيا ليست بلد هيدجر وحده، لكنه بلد هيدجر قبل أن يكون بلد إقامة صادقة جلال العظم .