للاجابة عن السؤال الوارد بعنوان المقال، ألا وهو: ما المقصود بالتّراث؟ لا بدّ من الرّجوع الى معناه الّلغوي الّذي يعرّف التّراث على أنّه : ما يخلّفه الرّجل لورثته، يقال التّراث بكتابة التاء بدل الواو (1)حسب ما ورد بلسان العرب.
إلاّ أنّ العبارة توسّعت لتشمل الموروث الثّقافي ،من هذه الزّواية نستنتج التباسها وعدم دقّتها، إذ يرتبط معناها بالسّياق الذي وردت به، فيكون المقصود بها تارة الادب القديم وطورا المراجع الفقهيّة أو الفلسفيّة أو العلميّة أواللّغوية ،حسب طبيعة النّصوص المطروحة ،إن كانت أدبيّة أم دينيّة أم فكريّة أم علميّة أو لغويّة.
إلاّ أنّ الالتباس والغموض وانعدام دقّة المفاهيم لا تقف عن هذا الحدّ بل تتجاوزها ، إذ يختلف ذلك الموروث داخل نفس المجال ليشمل أحيانا جلّ المذاهب الففهيّة، ويقتصر أحيانا أخرى إمّا على المذهب السنيّ أو الشّيعيّ دون غيرهما من المذاهب الفقهيّة الاخرى ،و اعتبار العلوم اللغويّة مرتبطة بأحد المذهبين المذكورين ،دون إدماج الفلسفة والادب والعلوم الاخرى ضمن ذلك الموروث ،وهو ما أكّده المفكّر المغربيّ محمد عابد الجابري في كتابه " تكوين العقل العربي " إذ كتب : " لا بدّ من الاعتراف، بأنّنا لم نتمكّن بعد من ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا التّراث من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى بالصّورة الّتي تجعله يؤسّس ذاتنا العربيّة وفق التّاريخ النهائيّ العربيّ كما نقرأه اليوم في الكتب والمدارس، هو تاريخ "فرق" وتاريخ "طبقات" وتاريخ "مقالات" ،إنّه تاريخ مجزّأ ،تاريخ الاختلاف في الرأي، لا تاريخ بناء الرأي."
ثم يبيّن : "والتّاريخ الثّقافيّ كما هو سائد اليوم هو تاريخ علوم وفنون من المعرفة منفصلة بعضها عن بعض ،فتاريخ المذاهب الفقهيّة إن وجد، معزول تماما ،عن تاريخ المذاهب النحويّة ،وهما منفصلان ،كلا عن حدة عن تاريخ المذاهب الكلاميّة الفلسفيّة ."(2)
ورغم وجاهة ما انتهى إليه المفكّر محمد عابد الجابري، فقد اكتفى بدراسة الفقه الاسلاميّ السنيّ والفلسفة واللغة باعتبارها تمثّل "التّراث العربيّ الاسلاميّ" دون إدماج الادب والعلوم والفنون الاخرى باعتبارها جزء لا يتجزّأ منه (3)، لاتّصال الفقه الاسلاميّ بالادب العربيّ وارتباط هذا الاخير ارتباطا عضويّا وثيقا باللّغة العربيّة : لغة القرآن ،وأحسن دليل على ذلك : بعض الدراسات التاريخيّة مثل الدّراسة التي أنجزها طه حسين في مطلع القرن العشرين بعنوان الادب الجاهلي (4) وما أثارته من إشكاليات تجاوزت مجال الادب لتتعلّق بالدّين الاسلامي ّ ، جعلت المؤلف يغيّر عنوان الكتاب في الطبعة الثانية من "الشعر الجاهليّ" الى "الادب الجاهليّ" ويضطر الى تحوير بعض فصوله .
لايقدّم المفكّر محمد عابد الجابري تعريفا للتّراث، لتطرق مشروعه النقديّ لما هو أوسع وأشمل من وجهة نظره ،أي لما سمّاه "بالعقل العربي" ،إلا أنه يعتبر ضمنيّا، أنّ التّراث يتشكّل أساسا من الفقه، إذ كتب : "إذا جاز أن نسمي الحضارة الاسلاميّة باحدى منتجاتها ،فإنّه سيكون علينا أن نقول عنها إنّها حضارة فقه وذلك بنفس المعنى الّذي ينطبق على الحضارة اليونانيّة حين نقول عنها إنّها حضارة فلسفة وعلى الحضارة الاروبيّة المعاصرة حين نصفها بأنها حضارة علم وتقنية ."(5)
نستشّف ممّا سبق بيانه، أنّ الاصل في الثقافة العربيّة الاسلاميّة هو الفقه وهو ما ذهب إليه جلّ المفكّرين والمصلحين العرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر،بناء على أنّ المشروع الاصلاحيّ العربيّ هو مشروع إصلاح دينيّ فقهيّ بالاساس، ،يستند الى التّراث المكتوب أكثر من اعتماده على الممارسات الفعلية والبعد التاريخيّ الانتروبولوجي للاسلام .
تداعيات هذه المقاربة لا تحصى ولا تعدّ : منها تغليب النصوص المنقولة على الممارسة الفعليّة، أي الفصل بين النّصّ الديني والفعل، والفصل بين ماهو تاريخيّ وما هو نظري ّ ، تغييب الثقافات والعادات والتقاليد السابقة للاسلام في البلدان العربية .
الى حدّ هذا التاريخ ، لم تصلنا بحوثا جديّة تبيّن لنا مدى تأثير شاعر كبير مثل المتنبي على الثقافة العربيّة الاسلاميّة بشقيها الدينيّ والادبيّ ،ولا مدى تأثير شاعر وأديب مثل أبي العلاء المعري على تلك الثقافة ، ولا الجاحظ ولا التوحيدي ولا غيرهم من كبار الادباء على تشكيل المنظومة الفقهيّة بقواعدها وأسسها وتطورّها وما آلت إليه من تغليب النقل على الاجتهاد والعقل .
فما ورثناه هو الصّدام المستمر بين الفكر والديّن ،دون بيان ما أنتجته تلك الثقافة من رياضيات وقدرة على التجريد من خلال الموسيقى والخطّ العربي والفنّ المعماريّ .
كيف يمكن لثقافة أن تنتج أعلى درجات التفكير بإعلاء منطق التجريد من خلال مبدأ التوحيد ورفض التمثيل الحسيّ الملموس لكلّ ما هو مقدس، أن تتبنّى بعد ذلك التفسير الحرفيّ للنّصّ المقدس كما نقله الرواة من خلال السير ، فتتنكر للمنطق التجريديّ رغم أنّها اعتمدته لتدوين لغتها ، لغة القرآن ؟
كيف اختزلت الثقافة العربية الاسلامية في الفقه دون ربطه بعناصر أخرى مثل العلوم والفنون والتقاليد والعادات والنظام السياسي لكل بلد إسلامي ومدى تفاعلها وتأثير بعضها على البعض عبر التاريخ ؟
وهل يمكن قراءة الدين بمعزل عن الادب والعلوم على اختلافها ، علوم اللغة الحديثة والانسانية عامة وحتى الصحيحة منها ؟
إن الاحتكام الى التفسير الموروث للفقه ورفض قراءات أخرى قادرة على توليد المعنى لا يمكن إلا أن يكون عنصر من عناصر التشتت والانقسام والعنف في مجتمعاتنا .
كاهنة عباس
(1) المعجم العربي
(2) تكوين العقل العربي ، محمد عابد الجابري ،مركز وحدة الدراسات العربية ، الصفحة 49-50
(3) نحن والتراث ، محمد عابد الجابري ، .
(4) في الادب الجاهلي ، طه حسين ،
إلاّ أنّ العبارة توسّعت لتشمل الموروث الثّقافي ،من هذه الزّواية نستنتج التباسها وعدم دقّتها، إذ يرتبط معناها بالسّياق الذي وردت به، فيكون المقصود بها تارة الادب القديم وطورا المراجع الفقهيّة أو الفلسفيّة أو العلميّة أواللّغوية ،حسب طبيعة النّصوص المطروحة ،إن كانت أدبيّة أم دينيّة أم فكريّة أم علميّة أو لغويّة.
إلاّ أنّ الالتباس والغموض وانعدام دقّة المفاهيم لا تقف عن هذا الحدّ بل تتجاوزها ، إذ يختلف ذلك الموروث داخل نفس المجال ليشمل أحيانا جلّ المذاهب الففهيّة، ويقتصر أحيانا أخرى إمّا على المذهب السنيّ أو الشّيعيّ دون غيرهما من المذاهب الفقهيّة الاخرى ،و اعتبار العلوم اللغويّة مرتبطة بأحد المذهبين المذكورين ،دون إدماج الفلسفة والادب والعلوم الاخرى ضمن ذلك الموروث ،وهو ما أكّده المفكّر المغربيّ محمد عابد الجابري في كتابه " تكوين العقل العربي " إذ كتب : " لا بدّ من الاعتراف، بأنّنا لم نتمكّن بعد من ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا التّراث من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى بالصّورة الّتي تجعله يؤسّس ذاتنا العربيّة وفق التّاريخ النهائيّ العربيّ كما نقرأه اليوم في الكتب والمدارس، هو تاريخ "فرق" وتاريخ "طبقات" وتاريخ "مقالات" ،إنّه تاريخ مجزّأ ،تاريخ الاختلاف في الرأي، لا تاريخ بناء الرأي."
ثم يبيّن : "والتّاريخ الثّقافيّ كما هو سائد اليوم هو تاريخ علوم وفنون من المعرفة منفصلة بعضها عن بعض ،فتاريخ المذاهب الفقهيّة إن وجد، معزول تماما ،عن تاريخ المذاهب النحويّة ،وهما منفصلان ،كلا عن حدة عن تاريخ المذاهب الكلاميّة الفلسفيّة ."(2)
ورغم وجاهة ما انتهى إليه المفكّر محمد عابد الجابري، فقد اكتفى بدراسة الفقه الاسلاميّ السنيّ والفلسفة واللغة باعتبارها تمثّل "التّراث العربيّ الاسلاميّ" دون إدماج الادب والعلوم والفنون الاخرى باعتبارها جزء لا يتجزّأ منه (3)، لاتّصال الفقه الاسلاميّ بالادب العربيّ وارتباط هذا الاخير ارتباطا عضويّا وثيقا باللّغة العربيّة : لغة القرآن ،وأحسن دليل على ذلك : بعض الدراسات التاريخيّة مثل الدّراسة التي أنجزها طه حسين في مطلع القرن العشرين بعنوان الادب الجاهلي (4) وما أثارته من إشكاليات تجاوزت مجال الادب لتتعلّق بالدّين الاسلامي ّ ، جعلت المؤلف يغيّر عنوان الكتاب في الطبعة الثانية من "الشعر الجاهليّ" الى "الادب الجاهليّ" ويضطر الى تحوير بعض فصوله .
لايقدّم المفكّر محمد عابد الجابري تعريفا للتّراث، لتطرق مشروعه النقديّ لما هو أوسع وأشمل من وجهة نظره ،أي لما سمّاه "بالعقل العربي" ،إلا أنه يعتبر ضمنيّا، أنّ التّراث يتشكّل أساسا من الفقه، إذ كتب : "إذا جاز أن نسمي الحضارة الاسلاميّة باحدى منتجاتها ،فإنّه سيكون علينا أن نقول عنها إنّها حضارة فقه وذلك بنفس المعنى الّذي ينطبق على الحضارة اليونانيّة حين نقول عنها إنّها حضارة فلسفة وعلى الحضارة الاروبيّة المعاصرة حين نصفها بأنها حضارة علم وتقنية ."(5)
نستشّف ممّا سبق بيانه، أنّ الاصل في الثقافة العربيّة الاسلاميّة هو الفقه وهو ما ذهب إليه جلّ المفكّرين والمصلحين العرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر،بناء على أنّ المشروع الاصلاحيّ العربيّ هو مشروع إصلاح دينيّ فقهيّ بالاساس، ،يستند الى التّراث المكتوب أكثر من اعتماده على الممارسات الفعلية والبعد التاريخيّ الانتروبولوجي للاسلام .
تداعيات هذه المقاربة لا تحصى ولا تعدّ : منها تغليب النصوص المنقولة على الممارسة الفعليّة، أي الفصل بين النّصّ الديني والفعل، والفصل بين ماهو تاريخيّ وما هو نظري ّ ، تغييب الثقافات والعادات والتقاليد السابقة للاسلام في البلدان العربية .
الى حدّ هذا التاريخ ، لم تصلنا بحوثا جديّة تبيّن لنا مدى تأثير شاعر كبير مثل المتنبي على الثقافة العربيّة الاسلاميّة بشقيها الدينيّ والادبيّ ،ولا مدى تأثير شاعر وأديب مثل أبي العلاء المعري على تلك الثقافة ، ولا الجاحظ ولا التوحيدي ولا غيرهم من كبار الادباء على تشكيل المنظومة الفقهيّة بقواعدها وأسسها وتطورّها وما آلت إليه من تغليب النقل على الاجتهاد والعقل .
فما ورثناه هو الصّدام المستمر بين الفكر والديّن ،دون بيان ما أنتجته تلك الثقافة من رياضيات وقدرة على التجريد من خلال الموسيقى والخطّ العربي والفنّ المعماريّ .
كيف يمكن لثقافة أن تنتج أعلى درجات التفكير بإعلاء منطق التجريد من خلال مبدأ التوحيد ورفض التمثيل الحسيّ الملموس لكلّ ما هو مقدس، أن تتبنّى بعد ذلك التفسير الحرفيّ للنّصّ المقدس كما نقله الرواة من خلال السير ، فتتنكر للمنطق التجريديّ رغم أنّها اعتمدته لتدوين لغتها ، لغة القرآن ؟
كيف اختزلت الثقافة العربية الاسلامية في الفقه دون ربطه بعناصر أخرى مثل العلوم والفنون والتقاليد والعادات والنظام السياسي لكل بلد إسلامي ومدى تفاعلها وتأثير بعضها على البعض عبر التاريخ ؟
وهل يمكن قراءة الدين بمعزل عن الادب والعلوم على اختلافها ، علوم اللغة الحديثة والانسانية عامة وحتى الصحيحة منها ؟
إن الاحتكام الى التفسير الموروث للفقه ورفض قراءات أخرى قادرة على توليد المعنى لا يمكن إلا أن يكون عنصر من عناصر التشتت والانقسام والعنف في مجتمعاتنا .
كاهنة عباس
(1) المعجم العربي
(2) تكوين العقل العربي ، محمد عابد الجابري ،مركز وحدة الدراسات العربية ، الصفحة 49-50
(3) نحن والتراث ، محمد عابد الجابري ، .
(4) في الادب الجاهلي ، طه حسين ،