أدب أندلسي صلاح فضل - كلنا أمير

أما الموشحة الأخيرة التي نتوقف عندها لابن رافع رأسه، ورافع راية التوشيح في عصر ملوك الطوائف، فهي مدحية أيضا، يثني فيها على الأمير يحيى بن ذي النون الملقب بالمأمون (توفي سنة 467 هجرية) حاكم طليطلة، لكنه يمزج المديح بعناصر أخرى تتجاوب فيها أصداء الموسيقى بأنغام الطبيعة وألوانها، وما تبعثه في النفوس من نشوة تهز الكون وتغير قوانينه، يقول في مطلعها:

العود قد ترنم/ بأبدع تلحينْ
وشقت المذانب/ رياض البساتين

فالأنغام الصادرة من الأرض لا تلبث أن تتجاوب معها السماء، فتأخذ المذنبات ـ وهي الأجرام السماوية ذات الذنب الغازي المضيء ـ في شق البساتين، معلنة عن اشتعال وجدها ومشاركتها الأرض في حميّا النشوة الكونية، ثم لا تلبث ان تنضم إليها الكائنات الأخرى في صورة بديعة:

وغنت الطيور/ على قُضب البان
وأضحك السرور/ أساور الميدان
فكلنا أمير/ بالراح والسلطان
من وتر تكلم/ بالسحر المبين
وطائر تجاوب/ من قضب الرياحين

وليس هناك ما كان يثير حفيظة الحكام في تلك العصور من منازعتهم السلطة والإمارة، لكن مجلس الغناء الذي تغلب عليه أريحية الصحبة، وتذهب فيه الخمر بالعقول، وتطير في أفقه الأحلام هو الذي يسمح بتجاوز الحدود؛ فالطير يتحول إلى بشر والضحك ينبعث من الزروع التي تسوّر المكان، وكل مشارك في المجلس يتوهم أنه قد أصبح السلطان، مسموحا له بتجاوز مقامه في هذا السياق.

هات اسقنى الحُميّا/ فالروض يفوح
قد مالت الثريا/ وطاب الصبوح
يحثها عليا/ غزال مليح
كالغصن المنعم/ في حلة نسرين
مطرز الجوانب/ ينقد من اللين

ولا يمكن للموشحة أن تغفل دور الساقي وإسهامه في موكب الفتنة والجمال، فهو غزال مليح، يتثنى في حلته الموشاة المطرزة، ويكاد يتكسر قده من الليونة والدل. وهو الكفيل بأن يضاعف أثر الشراب، إلى جانب الطبيعة المتواطئة. وتأتي بعد لك في الموشحة فقرتان في المدح الخالص، على ما هو معهود من الوصف بالشجاعة والقدرة على إذلال السلاطين كلهم، لكن الشاعر يعود ليختم منظومته بنبرة لطيفة رقيقة، تجمع خيوط الغزل بأصداء المدح بملمح ذكي فيقول:

ترجح الحبيب/ عن رد السلامْ
وفي الحشا لهيب/ من فرط الغرام
حتى شدا الكئيب/ شدو المستهام
تخطر ولا تسلم/ عساك المأمون
مروع الكتائب/ يحيى بن ذي النون

وأحسب أن هذا القفل الذي لم يؤخذ من أغنية شعبية كما هو شائع في الموشحات الأصيلة قد عمد إلى تشكيل مقطع يفيض عذوبة وشجنا وإيقاعا يؤهله كي يصبح أغنية سائرة.



د. صلاح فضل

الاتحاد - الخميس 07 يوليو 2011


صلاح فضل.JPG

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى