أدب أندلسي محمد فهمي عبد اللطيف - من الأدب الأندلسي - 2 - التوابع والزوابع..

دخل ابن شهيد وادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء على ما بيَّنا في المقال السابق، وقد حدَّثنا الرجل أنه طلب من صاحّبه زهير بن نمير أن يقدمه أول ما يقدمه إلى تابع امرئ القيس، وإنما حق له هذا، أولاً: لأن امرئ القيس سابق في عمر الزمن، وحساب الأيام؛ وثانياً: لأن النقاد جميعاً على أنه أمير الشعراء في العصر القديم، وشيخهم الذي أوضح لهم الطريق، فهو مقدم بالطبع والوضع كما يقول المناطقة، ولم يرد ابن شهيد أن يخرج على ما قضت به الأيام، وما تواضع عليه النقاد، فأنزل الرجل منزلته المقررة، ووضعه في مكانته المعلومة، ولذا قدمه على نفسه في الإنشاد، ووصفه بتطامح الطرف، واهتزاز العطف، علامة الغرور والثقة، وأخذته الهيبة منه، فهم بالحيصة والهرب من أجازته، لولا أن شدَّ في قوى نفسه، وأنشده ما أنشد.

وعلى هذا النهج راح ابن شهيد يتحدث عن توابع الشعراء واحداً بعد واحد، ويقرر ما وقع له معهم، وما جرى بينه وبينهم من الإنشاد والمساجلة، وهو في أثناء ذلك يعرض بالتصور لأحوال الشعراء، ويهتم بوصف نفسياتهم وميولهم ويشير إلى ما اشتهر عنهم في أخلاقهم وسلوكهم وآرائهم، تارة بالتلميح، وطوراً بالتصريح، ومن حين لآخر تجده يجمل كلامه بالنادرة المستملحة، فيجعل القارئ يقبل عليه في سرور وائتناس، أستمع إليه وهو يحكى ما وقعه له مع (بغلة) من التوابع أقبلت تحكمه في شعرين لبغل وحمار أختلف فيهما الفريقان، فقال لها حتى أسمع، فقالت الشعر الأول لبغل من بغالنا وهو:

على كل صب من هواه دليل ... سقام على جد الهوى ونحول

ومازال هذا الحب داء مبرحا ... إذا ما اعترى بغلاً فليس يزول

بنفسي التي أما ملاحظ طرفها ... فسحرٍ، وأما خدها فأسيل!!

تعبت بما حملت من ثقل حبها ... وإني لبغل للثقال حمول!

وما نلت منها نائلاً غير أنها ... إذا هي بالت بلت حيث تبول

والآخر لدكين الحمار وهو دهيت بهذا الحب منذ هويث ... وراثت إراداتي فلست أريث

كلفت بألفي منذ عشرين حجة ... يجول هواها في الحشا ويعيث

وغيرّ منها قلبها لي نميمةٌ ... نماها أحم الخصيتين خبيث

وما نلت منها محرماً غير أنها ... إذا هي راثت رثت حيث تروث

قال ابن شهيد: (فاستضحك زهير وتماسكت، وقلت للمنشدة ما هويث؟ قالت: هويث بلغة الحمير؛ قلت والله أن للروث لرائحة كريهة، ولقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعرين، فقالت فهمت عنك) ثم يتفكه ابن شهيد في القول اكثر فيقول (وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت لو كان ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بلغة أبي عيسى، والخال على خدها فتباكينا طويلا! وقد أخذنا في ذكر أيامنا فقالت: ما أبقت الأيام منك؟ قلت ما ترين! قالت: شب عمرو عن الطوق! وما فعل الأحبة، قلت شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الأخلاق ومن إخواننا من بلغ الأمارة، وانتهى إلى الوزارة؛ فتنفست الصعداء، وقالت؛ سقاهم الله سبل العهد، وان حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود. .)

فالرجل كما ترى فكه ظريف، وفي رسالته كثير من الفكاهات النوادر، وكلها على غرار هذه الفكاهة ملاحة وخفة وطرافة، وإنما براعة الرجل تظهر أكثر في تصويره - كما قلنا - لأحوال الشعراء والكتاب، ووصف ميولهم، والتحدث عما جرى له معهم، ولعل من أعذب ماله في ذلك، وصفه لما جرى بينه وبين صاحب أبي نواس، ذلك الشاعر الذي قطع العمر في نشوة السكر، وشرك الخمر، واستطراده في الحديث عن (دير حنة) مقام هذا الشاعر وما أشتمل عليه من الرهبان والغزلان!! فقد أجاد الرجل في ذلك وأبدع؛ أنظر إليه وهو يصور ذلك فيقول (ثم قال لي زهير فمن تريد، قلت صاحب أبي نواس قال هو (بدير حنة) قد غلب عليه الخمر، فركضنا ساعة، وجزنا في ممرنا بقصر، فقلت لمن هذا القصر يا زهير؟ قال لطوق بن مالك أبي الطبع صاحب البحتري، فهل لك أن تراه؟ قلت: أجل، إنه من أساتيذي وقد كنت أنسيته، فصاح يا أبا الطبع، فخرج لنا فتى على فرس أشهب وبيده قناة، فقال له زهير: إنك موفق، قال لا، صاحبك أشمخ مارنا من ذلك لولا تنقصه!! قلت يا أبا الطبع إن الرجال لا تكال بالقفزان، وأنشدنا من شعرك فأنشد:

(ما على الركب من وقوف الركاب) حتى انتهى منها، ثم قال هات أنت شيئاً فأنشدته:

(هذه دار زينب والرباب)

حتى أتيت فيها إلى قولي:

فكأن النجوم بالليل جيش ... دخلت للكمون في جوف غابها

وكأن الصباح قانص طير ... قبضت كفه برجل غراب

فكأنما غشى وجه أبي الطبع قطعة من الليل، وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم، فصاح به زهير أأجزته؟ قال أجزته لا بورك فيك من زائر!!

قال ابن شهيد (ثم سرنا حتى انتهينا إلى (دير حنة) فضرب زهير الأدهم، فسار بنا في قنته، ففتق سمعي قرع النواقيس فقلت فصحت عن منزل أبي نواس ورب الكعبة، وسرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات إلى دير عظيم تعبق روائحه، وتضوع نوافحه، فوقف زهير ببابه وصاح به: سلام على أهل (دير حنة) فأرقلت نحونا الرهبان مشدودة الزنانير، قد قبضت على العكاكيز، مبيضّة الحواجب واللحى! مكثيرين للتسبيح، عليهم هدى المسيح، فقالوا أهلا بك يا زهير من زائر، وصاحب أبي عامر، ما بغيتك؟ قال (حسن الدنان)، قالوا: إنه لفي شرك الخمر منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به، فقال وعليّ أنا ذلك، ونزلنا وقادني إلى بيت قد اصطفت دنانه، وعلفت غزلانه، وفي دير حنة شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث الزهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة وحواليه صبية كالظباء، فصاح به زهير: حباك الله أبا الإحْسان، فجاوب جواباً لا يعقل لغلبة الخمر عليه، فقال لي زهير: اقرع أذنيه بإحدى خمرياتك، فانه ربما تنبه لبعض ذلك، فصحت أنشد:

ولربّ حان قد شممت بديره ... خمر الصبا مزجت بصرف عصيره

في فتية جعلوا السرور شعارهم ... متصاغرين تخشعاً لكبيره!!

والقس مما شاء طول مقامنا ... يدعو بعود حولنا بزبوره

وترنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره

فصاح من حبائل نشوته. أأشجعي؟ قلت: أنا ذاك، فاستدعى ماء قراحا فشرب منه وغسل وجه فأفاق، واعتذر إليّ من حاله، فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله لمكانه من العلم والشعر. .)

فهذه صورة دقيقة، تشتمل على حال أبي نواس كأنك تراه، وتمثل أمامك (دير حنة) بغزلانه ورهبانه تمثيلا رائعاً كله براعة وقوة، والواقع أن ابن شهيد لم يستمد هذه الصورة من خياله، ولكنه صورها من الواقع، ونقلها كما رأى وأبصر، فقد كان هذا الرجل ولوعاً بالتردد على كنائس النصارى في قرطبة لا يتحرج من المبيت فيها مع الرهبان، يرشف الكأس، ويبهج النفس، ومن ذلك (أنه بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة، وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرور وائتناس، وقرع النواقيس يبهج سمعه، وبرق الحميا يسرج لمعه، والقسّ قد برز في عبدة المسيح، متوشحاً بالزنانيير أبدع توشيح، قد هجروا الأفراح، واطرحوا النعم كل إطراح:

لا يعمدون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح

وأقام بينهم يرشق حميا، كأنما يرشف من شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلما رشف أعذب رشف، ثم ارتجل في وصف ذلك هذه الخمرية، التي قرع ببعضها سمع أبي نواس، فتنبه من حبائل نشوته، وصحا من سكرته!!

وابن شهيد يذكر أنه تقابل في طريقه بصاحب البحتري بعد أن قد أنسيه مع أنه من أساتيذه. ويذكر أنه أجازه فخذله حتى لقد هرب بخزي (وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم) وهذه شنشنة ابن شهيد مع كثير من الشعراء والكتاب، خصوصاً شعراء المشارقة وكتابهم، فهو يحدّث أنه التقى (بزبدة الحقب) تابع بديع الزمان، وبعد أن تمَّ التعارف بينمها، طلب منه ابن شهيد أن يجري على سمعه وصفه للماء، فتطاول زبدة بذلك الوصف، وقال إنه من العقم بحيث لا يبلغه أديب، ثم انطلق يقول، (أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور، انتخب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشعمة، في صفاء الدمعة) فعارضه ابن شهيد فقال (انظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصب من إنائه، انصباب الكوكب الدريّ من سمائه، كأنه خيط من غزل فلق، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا) فلما سمع ذلك زبدة غار في الأرض، وهو مبهوت خجل!!

وقد حسب الدكتور زكي مبارك ذلك غروراً من ابن شهيد وعَذَره في هذا الغرور نظراً لنبوغه وعبقريته، والواقع أن الغرور صفة تكاد تكون ملازمة لكل أديب، وقد يكون ابن شهيد مغروراً في نفسه إلى أبعد حد، ولكن كلفة بالتفوق على الشعراء والكتاب لم يكن مبعثه الغرور، كما حسب الدكتور مبارك، فان الرجل كما قلنا كتب رسالته في جماعة من معاصريه، حطوا من قدره حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته في الشعر والنثر، ولذلك فهو يحصر على الظهور أمامهم بالتفوق والتغلب، ليس في إجازة الشعراء والكتاب فحسب! بل إنه ليذكر أن التوابع والزوابع احتاروا في أمره، وشدهوا لقدرته في الشعر والنثر والخطابة، وأن أحدهم فتن ببيت من شعره فقام ينشده ويرقص، وأنه قرأ عليهم رسالته في وصف الحلواء فأعجبوا بها أيما إعجاب، وقالوا (إن لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من حلاوة طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجاري في أبناء جنسك) وأظن في الجملة الأخيرة ما يكفي للفصل بيننا وبين الدكتور زكي مبارك.

على أن ابن شهيد لم يقف عند هذا الحد من التعالي وإظهار التفوق أمام معاصريه، بل راح يحط من قدرهم، ويتهكم بعلمهم وأدبهم فوصفهم ببلادة الطبع، فهم - كما يقول - ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران، إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة لا منفذ لها في الرقة، ولا مدبّ في شعاع البيان، كل بضاعتهم من الأدب، كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني في الرقص على الايقاع، والزمر على الألحان. . . قال ابن شهيد: (ومن خلق هذه العصابة أنهم إذا لمحتنا أبصارهم قابلونا بالملق، وهم منطوون على الحسد والحنق، فإذا جمعتنا المحافل، وضمتنا المجالس، نراهم إلينا مبصبصين، وإنما يتبين تقصير المقصر، وفضل السابق المبرز إذا اضطكت الركب، وازدحمت الحدق، واستعجل المقال.

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف

مجلة الرسالة - العدد 66
بتاريخ: 08 - 10 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى