لئن كانت الإبل مصدر فخر للقبائل التي تعنى بتربيتها في سهول البحر الأحمر و البطانة وكردفان و دارفور ، فهي أيضا ، أو ينبغي لها أن تكون، مصدر فخر واعتزاز وطني و قومي ، ذلك أن السودان يملك ربع الثروة العالمية للإبل ، ولا ينافسنا في ذلك إلا دولة الصومال التي تملك نحو نصف الثروة العالمية ، بينما يتوزع الربع الباقي على الدول الأخرى .
كما أن السودان يتميز على غيره من الدول و الأقطار ،بامتلاكه للإبل البشارية (وتسمى البجاوية أيضا)، وهي أسرع الإبل في العالم قاطبة ، وتتميز بخفتها و أسلوبها في العدو، الذي أشار اليه المتنبي في قصيدة مشهورة، في قوله : وكل نجاة بجاوية خنوف و مابي حسن المشى ، أي كل ناقة بجاوية من شأنها أن تنجي صاحبها من المهالك جراء سرعة عدوها وخنافها فيه ، و الخناف هو قلب خف اليد ، أثنا ء المشي أو العدو، أو هو لي الأنف من الزمام.
و لئن اشتهرت الابل البشارية في باديتنا الشرقية بالخفة و الرشاقة ، فقد تميزت إبل الكبابيش و الهواوير و الماهرية ، في باديتنا الغربية بقوة أجسامها و شدة تحملها، ومن هنا ، فقد كانت عماد القوافل التي كانت تربط ما بين محطات القوافل على درب الأربعين ، بدءا من أسيوط، في صعيد مصر، ومرورا بالخندق، عند منحنى النيل وانتهاء بكوبي ، شمالي دارفور..
ومع ذلك فقد ظل الكبابيش وغيرهم من سادة البادية الغربية ، يعرفون فضل النوق البشارية و يسعون للحصول عليها ، ويتغنون بجمالها و خفتها و غير ذلك من صفاتها التي خبرها و تغنى بها أبو الطيب ، ومن ذلك ، قول الكباشي في ناقة بشارية أفلتت من عقالها و لم يعرف لها أثر :
جالبنك من صباح
يادريجة دريبك راح
دوارك ما استراح
و تتلخص معاني هذه الأبيات في التغني بأصل هذه الناقة المجلوبة من صباح ،(أي من الشرق، مطلع الشمس و مصدر الإصباح )، وفي قلة وبرها(دريجة)، و خفة جسمها، و أسلوبها في العدو و المشي بحيث لا يبدو لها أثر واضح على الأرض (دريبك راح)، وما يترتب على ذلك من خيبة مسعى من يبحث عنها.
كما أن الإبل البجاوية كانت عماد رحلة الحج إلى الحجاز، و يزخر شعر المديح السوداني بوصف النوق البجاوية ، و الأمثلة التي سجلها المديح السوداني التي تشهد على ذلك كثيرة لا حصر لها ، و مما يأتي في طليعتها الأبيات التي خصصها المادح حاج الماحي في قصيدته سمح الوصوف، للجمل البشاري، ويقول فيها:
يا ربّي سَائلك تقبل لي مطلب
تديني جملاً كَبِبيا أصهب
مُو الدون قِصيّر وما هو المشقلب
أصهب بشاري طايع مأدب
صدراً مفجَّج في شوفته ترغب
سَرجاَ سناري محكوم مدهب
والفروة مِرعِز اتنيها واركب
فوقه إن رفعت من حينه قلّب
قتْ يا سلاماً أقبل وقبقب
تسمع مشيه رجليه طَبْ طَبْ
ينسف دوايره بيناتا يلعب
ليه المسافة تِنْصّر ْوتقرب
الماحي فوقه بي مدحه يطرب
بى زمزميته والزاد محقّب
إن درت تاكل وإن درت تشرب
هوِّي ومُناي في ام سور وكوكب
القبة خضرا ونساما هبهب
نوصل نزوره وفي شفاعته نُكتب
ولا شك أن هذه الأبيات وحدها تستحق مقالا منفصلا ، لما تشتمل عليه من وصف لجمله البشاري ، بصفات لا تبعد عن تلك التي وصف بها المتنبي ناقته: تسمع مشيه، رجليه طبطب،ينسف دوايره ، بيناتها يلعب..كما أن الأبيات توثق لمعدات الركوب من سرج سناري مذهب و فروة مرعز، وزمزمية للشرب و حقائب للزاد مما يحتاجه المسافر، و ما يحيط بذلك من صناعات تقليدية وطنية منسوبة بكل فخر و اعتزاز إلى سنار التي كانت اسما علما لبلادنا ، و إليها كنا ننتسب تحت مسمى السناريين .
ولقد أدركت عهدا كنت أقرأ فيه بعض صحف دولة عربية مجاورة كانت تباع في أكشاك الخرطوم في نهايات السبعينات، لاحظت أنها كانت تخصص عمودا في صفحاتها الرياضية لسباق ( الهجن) ولم أكن أستسيغ لفظة الهجن هذه، وكان مما يسترعي الانتباه و يثير الأسئلة في خاطري ذكر هذه الصحف لنوعين اثنين من السباق ، أحدهما مخصص للهجن السودانية، وثانيهما مخصص للهجن العربية (هكذا).
وكنت ألاحظ تفوق الابل السودانية في نتائج السباق بحيث لا تدع مجالا لمقارنتها بالهجن العربية ذات الأداء المتدني ، وفهمت من ثم مغزى تخصيص حلبتين للسباق ، وما قد يسببه من حرج وطني و قومي للدولة المجاورة جراء انعدام التكافؤ بين نوق و نوق ،
وأذكر أني ذكرت هذا الأمر لأستاذنا العالم الجليل عبدالله الطيب ، رحمه الله، حينما كان يلم بالرباط ، كل رمضان ، لحضور الدروس الحسنية ، فأعاد علي خبر فرار أبي الطيب المتنبي من مصر ، وكيف تدبر شراء ناقة بجاوية من نواحي حلايب و عيذاب ، كانت في ذلك العهد بمثابة سيارة ذات دفع رباعي .ومما قاله أبو الطيب في ذكر هذه الواقعة و في مدح ناقته البجاوية:
ألا كل ماشية الخيزلى = فدا كل ماشية الهيدبى
وكل نجـاة بجـاويـة خنوف = ومابي حسن المشى
ولكنهن حبال الحياة = وكيد العداة وميط الأذى
ضربت بها التيه ضرب = القمار إما لهذا وإما لذا
اذا فزعت قدمتها الجياد = وبيض السيوف وسمر القنا
فمرت بنخل وفي ركبها = عن العالمين وعنه غنا
وأمست تخيرنا بالنقاب = وادي المياه ووادي القرى
وقلنا لها أين أرض العراق = فقالت ونحن بتربان :ها
وهي أبيات كلها في مدح هذه الناقة البشارية البجاوية، لا يتسع المجال لشرح معانيها البديعة ، قصدت منها أن ألفت الأنظار إلى تراث عريق و ثروة قومية بدأت تتفلت من بين أيدينا عبر التهريب و انتهاج سياسات لا تنطلق من رؤى استراتيجية مدروسة، جراء التسلط و الاستبداد بالرأي وخفوت صوت الشورى وانتقاص قدر عقول ذوي الخبرة و الدراية، و انتفاء لفظ التخطيط الاستراتيجي من معاجم ألفاظنا و مفرداتنا ، بل و حتى الحد الأدنى اللازم من الاعتزاز و الفخر بتراثنا الوطني ، و العمل من ثم ، على المحافظة عليه..
و ما قيل عن النوق البشارية ، يقال عن الضأن الحمري والبقر الكناني، أما الخيول الدنقلاوية فقد غدت أثرا بعد عين ، ولا وجود لها اليوم إلا في دوائر المعارف و المراجع العلمية الأجنبية، بعد أن كانت ملء السمع و البصر، إلى عهد قريب.
وانني لأدعو المسؤولين إلى الرأفة بنا و ببقايا كبرياء قومي ، راجيا الاهتمام بالإبل بحسبانها رمز فخار وطني، و يا حبذا لو نظر وزير التعليم العام ، ، في أمر إدراج هذه القصائد التي ورد ذكرها، ضمن مقررات الوزارة ، من باب التربية الوطنية للنشء والاعتزاز بإرثه الثقافي والحضاري، و حبذا لو نظر وزير الثقافة إلى موروثاتنا الشعبية وتراثنا الوطني المادي و غير المادي و تراثنا الطبيعي ، و عمل على إدراجها في قوائم التراث العالمي، كما تفعل كل الأمم، و حبذا لو نظر وزير الإعلام في ما يبث من مهرجانات و حفلات ،و أعراس، ووجه بتنقيتها من الشوائب الدخيلة من دبكة لبنانية ،و زفة مصرية ،و ساري هندي ..وغير ذلك من الدخيل الذي يحسبه العامة مما يميزهم عن غيرهم و يرفع من قدرهم ، بل و ليت قنواتنا الفضائية انتبهت إلى أهمية رفع الأذان وقراءة القرآن بأداء سوداني، كما تفعل بقية القنوات الفضائية العربية التي تولي حساسية وطنية مستحقة ،لهذه التفاصيل.
د. مصطفى أحمد علي
- مدير مركز سنار الإقليمي للحوار والتنوع الثقافي، التابع لمنظمة الإيسيسكو،
السودان
النوق البجاوية .. بقلم: د. مصطفى أحمد علي
كما أن السودان يتميز على غيره من الدول و الأقطار ،بامتلاكه للإبل البشارية (وتسمى البجاوية أيضا)، وهي أسرع الإبل في العالم قاطبة ، وتتميز بخفتها و أسلوبها في العدو، الذي أشار اليه المتنبي في قصيدة مشهورة، في قوله : وكل نجاة بجاوية خنوف و مابي حسن المشى ، أي كل ناقة بجاوية من شأنها أن تنجي صاحبها من المهالك جراء سرعة عدوها وخنافها فيه ، و الخناف هو قلب خف اليد ، أثنا ء المشي أو العدو، أو هو لي الأنف من الزمام.
و لئن اشتهرت الابل البشارية في باديتنا الشرقية بالخفة و الرشاقة ، فقد تميزت إبل الكبابيش و الهواوير و الماهرية ، في باديتنا الغربية بقوة أجسامها و شدة تحملها، ومن هنا ، فقد كانت عماد القوافل التي كانت تربط ما بين محطات القوافل على درب الأربعين ، بدءا من أسيوط، في صعيد مصر، ومرورا بالخندق، عند منحنى النيل وانتهاء بكوبي ، شمالي دارفور..
ومع ذلك فقد ظل الكبابيش وغيرهم من سادة البادية الغربية ، يعرفون فضل النوق البشارية و يسعون للحصول عليها ، ويتغنون بجمالها و خفتها و غير ذلك من صفاتها التي خبرها و تغنى بها أبو الطيب ، ومن ذلك ، قول الكباشي في ناقة بشارية أفلتت من عقالها و لم يعرف لها أثر :
جالبنك من صباح
يادريجة دريبك راح
دوارك ما استراح
و تتلخص معاني هذه الأبيات في التغني بأصل هذه الناقة المجلوبة من صباح ،(أي من الشرق، مطلع الشمس و مصدر الإصباح )، وفي قلة وبرها(دريجة)، و خفة جسمها، و أسلوبها في العدو و المشي بحيث لا يبدو لها أثر واضح على الأرض (دريبك راح)، وما يترتب على ذلك من خيبة مسعى من يبحث عنها.
كما أن الإبل البجاوية كانت عماد رحلة الحج إلى الحجاز، و يزخر شعر المديح السوداني بوصف النوق البجاوية ، و الأمثلة التي سجلها المديح السوداني التي تشهد على ذلك كثيرة لا حصر لها ، و مما يأتي في طليعتها الأبيات التي خصصها المادح حاج الماحي في قصيدته سمح الوصوف، للجمل البشاري، ويقول فيها:
يا ربّي سَائلك تقبل لي مطلب
تديني جملاً كَبِبيا أصهب
مُو الدون قِصيّر وما هو المشقلب
أصهب بشاري طايع مأدب
صدراً مفجَّج في شوفته ترغب
سَرجاَ سناري محكوم مدهب
والفروة مِرعِز اتنيها واركب
فوقه إن رفعت من حينه قلّب
قتْ يا سلاماً أقبل وقبقب
تسمع مشيه رجليه طَبْ طَبْ
ينسف دوايره بيناتا يلعب
ليه المسافة تِنْصّر ْوتقرب
الماحي فوقه بي مدحه يطرب
بى زمزميته والزاد محقّب
إن درت تاكل وإن درت تشرب
هوِّي ومُناي في ام سور وكوكب
القبة خضرا ونساما هبهب
نوصل نزوره وفي شفاعته نُكتب
ولا شك أن هذه الأبيات وحدها تستحق مقالا منفصلا ، لما تشتمل عليه من وصف لجمله البشاري ، بصفات لا تبعد عن تلك التي وصف بها المتنبي ناقته: تسمع مشيه، رجليه طبطب،ينسف دوايره ، بيناتها يلعب..كما أن الأبيات توثق لمعدات الركوب من سرج سناري مذهب و فروة مرعز، وزمزمية للشرب و حقائب للزاد مما يحتاجه المسافر، و ما يحيط بذلك من صناعات تقليدية وطنية منسوبة بكل فخر و اعتزاز إلى سنار التي كانت اسما علما لبلادنا ، و إليها كنا ننتسب تحت مسمى السناريين .
ولقد أدركت عهدا كنت أقرأ فيه بعض صحف دولة عربية مجاورة كانت تباع في أكشاك الخرطوم في نهايات السبعينات، لاحظت أنها كانت تخصص عمودا في صفحاتها الرياضية لسباق ( الهجن) ولم أكن أستسيغ لفظة الهجن هذه، وكان مما يسترعي الانتباه و يثير الأسئلة في خاطري ذكر هذه الصحف لنوعين اثنين من السباق ، أحدهما مخصص للهجن السودانية، وثانيهما مخصص للهجن العربية (هكذا).
وكنت ألاحظ تفوق الابل السودانية في نتائج السباق بحيث لا تدع مجالا لمقارنتها بالهجن العربية ذات الأداء المتدني ، وفهمت من ثم مغزى تخصيص حلبتين للسباق ، وما قد يسببه من حرج وطني و قومي للدولة المجاورة جراء انعدام التكافؤ بين نوق و نوق ،
وأذكر أني ذكرت هذا الأمر لأستاذنا العالم الجليل عبدالله الطيب ، رحمه الله، حينما كان يلم بالرباط ، كل رمضان ، لحضور الدروس الحسنية ، فأعاد علي خبر فرار أبي الطيب المتنبي من مصر ، وكيف تدبر شراء ناقة بجاوية من نواحي حلايب و عيذاب ، كانت في ذلك العهد بمثابة سيارة ذات دفع رباعي .ومما قاله أبو الطيب في ذكر هذه الواقعة و في مدح ناقته البجاوية:
ألا كل ماشية الخيزلى = فدا كل ماشية الهيدبى
وكل نجـاة بجـاويـة خنوف = ومابي حسن المشى
ولكنهن حبال الحياة = وكيد العداة وميط الأذى
ضربت بها التيه ضرب = القمار إما لهذا وإما لذا
اذا فزعت قدمتها الجياد = وبيض السيوف وسمر القنا
فمرت بنخل وفي ركبها = عن العالمين وعنه غنا
وأمست تخيرنا بالنقاب = وادي المياه ووادي القرى
وقلنا لها أين أرض العراق = فقالت ونحن بتربان :ها
وهي أبيات كلها في مدح هذه الناقة البشارية البجاوية، لا يتسع المجال لشرح معانيها البديعة ، قصدت منها أن ألفت الأنظار إلى تراث عريق و ثروة قومية بدأت تتفلت من بين أيدينا عبر التهريب و انتهاج سياسات لا تنطلق من رؤى استراتيجية مدروسة، جراء التسلط و الاستبداد بالرأي وخفوت صوت الشورى وانتقاص قدر عقول ذوي الخبرة و الدراية، و انتفاء لفظ التخطيط الاستراتيجي من معاجم ألفاظنا و مفرداتنا ، بل و حتى الحد الأدنى اللازم من الاعتزاز و الفخر بتراثنا الوطني ، و العمل من ثم ، على المحافظة عليه..
و ما قيل عن النوق البشارية ، يقال عن الضأن الحمري والبقر الكناني، أما الخيول الدنقلاوية فقد غدت أثرا بعد عين ، ولا وجود لها اليوم إلا في دوائر المعارف و المراجع العلمية الأجنبية، بعد أن كانت ملء السمع و البصر، إلى عهد قريب.
وانني لأدعو المسؤولين إلى الرأفة بنا و ببقايا كبرياء قومي ، راجيا الاهتمام بالإبل بحسبانها رمز فخار وطني، و يا حبذا لو نظر وزير التعليم العام ، ، في أمر إدراج هذه القصائد التي ورد ذكرها، ضمن مقررات الوزارة ، من باب التربية الوطنية للنشء والاعتزاز بإرثه الثقافي والحضاري، و حبذا لو نظر وزير الثقافة إلى موروثاتنا الشعبية وتراثنا الوطني المادي و غير المادي و تراثنا الطبيعي ، و عمل على إدراجها في قوائم التراث العالمي، كما تفعل كل الأمم، و حبذا لو نظر وزير الإعلام في ما يبث من مهرجانات و حفلات ،و أعراس، ووجه بتنقيتها من الشوائب الدخيلة من دبكة لبنانية ،و زفة مصرية ،و ساري هندي ..وغير ذلك من الدخيل الذي يحسبه العامة مما يميزهم عن غيرهم و يرفع من قدرهم ، بل و ليت قنواتنا الفضائية انتبهت إلى أهمية رفع الأذان وقراءة القرآن بأداء سوداني، كما تفعل بقية القنوات الفضائية العربية التي تولي حساسية وطنية مستحقة ،لهذه التفاصيل.
د. مصطفى أحمد علي
- مدير مركز سنار الإقليمي للحوار والتنوع الثقافي، التابع لمنظمة الإيسيسكو،
السودان
النوق البجاوية .. بقلم: د. مصطفى أحمد علي