أدب أندلسي محمد فهمي عبد اللطيف - من الأدب الأندلسي - 4 - التوابع والزوابع..

أتينا في المقال السابق على آراء ابن شهيد في شخصية الأديب، وقلنا أنها آراء صائبة لم يسبقه إليها أحد في العربية، ونريد في هذا المقال أن نستجلي آراءه في الآثار الأدبية، فنتعرف المظاهر التي اعتبرها مسباراً لبراعة الأديب الفنية، واتخذها مقياساً لقوته في الصناعة، وقد اعتبر ابن شهيد لذلك عدة مظاهر دل عليها في مواضع متفرقة من (التوابع والزوابع)؛ وأول ما دل عليه من هذه المظاهر: المعنى السامي البديع، يختال في اللفظ المشرق السمح. فالأديب عند ابن شهيد لا يبلغ الشأو ولا يستحق اسم الصناعة إلا (بتعمد كرام المعاني، وتقحم بحور البيان. . . فيمتطي الفصل، ويركب الحد، ويطلب النادرة السائرة، وينظم من الحكمة ما يبقى بعد موته) ولعل من المعلوم أن قضية (اللفظ والمعنى) كانت من القضايا التي طال فيها جدال النقاد المشارقة، واختلفوا في الأخذ بها بعضاً وكلاً، فاعتبر بعضهم اللفظ وحده مظهراً لبراعة الأديب وقوته، ذلك لأن المعاني مطروحة أمام الناس، فالبليغ من أجاد صياغتها، وأحسن سبكها. واعتبر الآخرون المعنى فحسب، فالأديب لا يفضل الأديب ولا يفوقه إلا بجدة أفكاره وغزارة معانيه، ثم استقر الرأي على الجمع بين شقي القضية، فأصبحت براعة الأديب تستجلي في ألفاظه ومعانيه، وأصبح الأديب لا يبلغ منتهى البراعة والقوة (إلا بتعمد كرائم المعاني وتقحم بحور البيان) كما يقول ابن شهيد

وابن شهيد يحب الازدواج في الكلام، ويرغب في المماثلة والمقابلة، ولكنه يكره التزام السجع، ويراه أفناً لا يليق بفارس البيان، ومن العجيب أنه مع ذلك كان يلتزم السجع كثيراً في أسلوبه، وكأن الرجل قد توقع الاعتراض عليه من هذه الناحية، فأراد أن يعتذر عن نفسه، فزعم أنه التقى بعتبة بن أرقم شيطان الجاحظ فشهد له بأنه خطيب وحائك للكلام مجيد، ولكن لامه على غرامه بالسجع، فقال ابن شهيد يرد عليه: (ليس هذا - أعزك الله - جهلاً مني بأفن السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام. . .) ثم ينطلق في الانتقاص من معاصريه فيزعم أنهم لغباوتهم لا يفقهون الازدواج ويكبرون من قيمة السجع، فاضطر أن يسجع حتى يحرك من نفوسهم، ويلج بكلامه إلى قلوبهم، فيقول عتبة: إنا لله، ذهبت العرب وكلامها، ارمهم بسجع الكهان فعسى أن ينفعك عندهم، ويطير لك ذكر فيهم. وهذه معذرة إن صحت لا نقبلها من ابن شهيد، فليس من حسن الرأي أن ينحرف الكاتب عن طريقة يراها سديدة إلى أخرى مستهجنة ليظفر بالرضى من بعض الناس، وإنما الكاتب العبقري هو الذي ينتهج طريقه ويدع الأذهان تتبصر مسلكه؛ وتتبين خطواته فتترسم سيره، وتأخذ أخذه. . .

ولكن ابن شهيد يعود فيستدرك على قضية (اللفظ والمعنى) مظهراً آخر من مظاهر البلاغة، فيرى أن هناك (صوراً من الكلام تملأ القلوب وتشغف النفوس، فإذا فتشت لحسنها أصلاً لم تجده، وللجمال تركيبها وجهاً لم تعرفه، وهذا هو الغريب أن يتركب الحسن من غير حسن. . . وكذلك كقول امرئ القيس:

تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي

فهذه الديباجة إذاتطلبت لها أصلاً من غريب معنى لم تجده!! ولكن لها من التعلق بالنفس والاستيلاء على القلب ما ترى. .)

وهذا كلام حمله ابن شهيد على ما اشترطه في شخصية الكاتب من قوة الطبع وصفاء الروح كما سبق بيانه، ومعنى هذا الكلام أنك إذا تأملت بعض الصور الكلامية الرائعة لا تجد لروعتها أصلاً من جزالة اللفظ أو طرافة المعنى، بل قد تكون سهلة التناول قريبة الغور، ولكن روعتها ترجع إلى ما يكمن فيها من القوة الروحية للكاتب، وأكثر ما تتجلى هذه القوة في كلام الله (حين يتحدث ذو الجلال عن ذاته وصفاته. وقدرته وقوته، وجلاله وعزته، ولطفه ورحمته، وناره وجنته، ووعده ووعيده، وإنذاره وإعذاره، وقد كان لهذه القوة الرائعة الأثر الأقوى في رياضة العرب واجتذاب نفوسها نحو الإسلام، وهي التي كانوا يشعرون بوقعها من غير أن يعلموا كنهها). ومن العجيب أنك تقرأ الأبيات من الشعر العالي أو النثر البديع فتشعر بهذه القوة رائعة ظاهرة تكسو الكلام جلالاً وجمالاً، فتحاول أن تعبر عنها كما يجب فتجد نفسك عاجزاً مقصراً، ذلك لأن قوة الكلام لا ترجع في هذه الحال إلى الألفاظ والمعاني، وإنما هي ترجع إلى ما فيه من القوة الروحية، وقد أخذ بعض الكتاب المعاصرين هذه الفكرة عن ابن شهيد، وتبناها لنفسه، وادعى أنها انحدرت من عقله إلى قلمه، وهاجم بها الباقلاني في أقواله في إعجاز القرآن، وجادل بها الكتاب والنقاد الذي تصدوا للرد عليه!!

وثمت مظهر آخر من مظاهر القوة والبراعة عند الأديب في رأي ابن شهيد، وهذا المظهر هو التفنن في توجيه الخطاب بحيث يكون على وفق أقدار المخاطبين، والتصرف في إيراد القول بحيث يكون من السهولة أو القوة على حسب ما يقتضيه المقام، وقد ذكر ابن شهيد هذه المسألة وهو يشرح ما كان يقع له مع الشاحذين في قرطبة، وكيف كان يعينهم بشعره على نيل مآربهم، فقال: (وربما لاذ بنا المستطعم باسم الشعر، ممن يخبط العامة والخاصة بسؤاله، فيصادف منا حالاً لا تتسع له في كبيرة مبرة، فنشاركه ونعتذر له، وربما أفدناه بأبيات يتعمد بها البقالين ومشايخ القصابين، فإذا قارفت أسماعهم، ومازجت أفهامهم، در حلبهم، وانحلت عقدهم، وجل شخص ذلك البائس في عيونهم، فما شئت إذ ذاك من خبزة وثيرة يحشى بها كمه، ورقبة سمينة تدس في مخلاته، وتينة رطبة يسد بها حلقومه. . فلا يكاد البائس يستتم ذلك حتى يأتينا فيكب على أيدينا يقبلها، وأطرافنا يمسحها، راغباً في أن نكشف له السر الذي حرك العامة فبذلت ما عندها له، وبادرت برفدها إليه. وتعليمه ذلك النحو من الشحذ لا نستطيعه، لأن هذا الذي يريد من هو تعليمه البيان، وبين فكره وبينه حجاب!! ولكل ضرب من الناس ضرب من الكلام ووجه من البيان. .)

وقد سبق أبو هلال العسكري ابن شهيد إلى تقرير هذه الحقيقة بعبارة أصرح وأوضح فقال في كتابه الصناعتين: (وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين أقدار الحالات فتجعل لكل طبقة كلاماً، ولكل حال مقاماً، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات، واعلم أن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال. . . فإن كنت متكلماً أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد، فتخط ألفاظ المتكلمين، مثل الجسم والعرض واللون والتأليف، والجوهر، فإن ذلك هجنة. وكذلك كن أيضاً إذاكنت كاتباً)

ولعل بشار بن برد كان أول من دل على هذه الظاهر واستعملها في شعر من حيث كان الناس يعيبونها بها، فقد جاء في الأغاني بسنده أن بعضهم قال: قلت لبشار إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت! قال وما ذاك؟ قلت بينا تقول شعراً يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك إذا ما غضبنا غصبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً

إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما

تقول:

ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت

فقال بشار: لكل وجه، وموضع الأول جد، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض، فهذا عندها أحسن من (قفا نبك. . .) عندك

وصدق بشار فيما قال، فإن البليغ هو من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني، وقد تكون هناك مواقف للقول يطلب فيها الأسفاف، ويحلو فيها التبذل، فيكون بأقل في عيه وفهاهته، أفصح من سحبان في تشدقه ورغائه، ويقيني لو أن بشاراً توجه في الخطاب إلى جاريته بلغته في الفخر والحماسة، لدل على الحماقة في طبعه، والسقم في ذوقه، وربما ظنت هذه الجارية أنه يشتمها، فكانت تمنعه بيض دجاجها، وتحتم عليه أن يشتري البيض من السوق، فلا يفيده تقعره، ولا ينفعه شعره، فمن القصور أن يلتزم الشاعر أو الكاتب نمطاً واحداً في التعبير لا يتعداه، فيكون في جده كهزله، ومن الهذيان أن يتعنت في توجيه الخطاب، فيكون في كلامه إلى أهل الثقافة والمعرفة كما هو في كلامه إلى ذوي الفهاهة والعي، وإنما الطبع القوي هو الذي يواتي صاحبه في كل طريق يسلكه، والذوق السليم هو الذي يقضي عليه بتوجيه الخطاب إلى مقتضى الحال، حتى يستطيع من وراء ذلك أن ينال غرضه عند المخاطب، وأن يصل إلى قرارة نفسه في يسر وسهولة، فلو انتهج الأدباء هذه الخطة التي أوضحها ابن شهيد، ولو علموا أن لكل ضرب من الناس ضرباً من الكلام، ووجهاً من البيان، لأمكنهم أن يغزوا نفوس الناس على اختلاف طبقاتهم بأفكارهم وأساليبهم، وأن يخلقوا الإحساس الفني في نفوس الجمهور على مر الزمن

محمد فهمي عبد اللطيف

مجلة الرسالة - العدد 78
بتاريخ: 31 - 12 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى