ماذا نروم بسردية التوجس؟ وما هي قسماتها؟ وكيف تسهم في بناء عوالم النصوص القصصية؟ وكيف تؤدي دورا في تشكيل دلالات النصوص وأبعادها الفنية؟ وما تجليات البحث عن الألفة؟ وكيف تولِّد المفارقة؟ وكيف تسهم هذه السمة الفنية في تشكيل بناء النصوص القصصية؟
هذه أسئلة حفزتها قراءتنا للنصوص القصصية التي شملها كتاب الأديب المغربي الراحل الدكتور محمد أنقار الموسوم ب"البحث عن فريد الأطرش". وهو عمله القصصي الخامس بعد: زمن عبد الحليم، ومؤنس العليل، والأخرس، ويا مسافر وحدك. وفي هذا العمل القصصي واصل القاص اشتغاله على عوالم وموضوعات وجدت بذورها الأولى وتجلت بعض ملامحها منذ كتابه القصصي الأول: زمن عبد الحليم، ومن بينها حالة التوجس من الآخر والعالم والبحث عن ألفة مفقودة في واقع سوداوي مرير. ولعل هذه السردية، وانطلاقا من تمظهراتها النصية، تشكل قيمة في منظور القاص وفي شعور شخصياته القصصية، وتمنح للحياة معنى، وللقصة بعدا فريدا، ومن ثم نجد لها امتدادا في متنه القصصي، عبر كتبه القصصية الخمسة.
أول نص يطالعنا في مجموعة "البحث عن فريد الأطرش"، هو قصة "بلغ سلامي إلى عايدة"، وهو نص ينبني على حالة توجس بينة، وقلق خفي يشي به الراوي، وهو يسرد تفاصيل طريفة منذ تلقيه مكالمة هاتفية من صديقه عبد القادر في ساعة متأخرة من إحدى الليالي. وتبدو هواجس الراوي جلية، وهو يحاور صاحبه، وهو يحكي عن ارتباطه بعايدة بنت آل شداد، وهو يخوض حواره مع ذاته. إننا أمام توجس شيخ من تحولات الواقع المحيط به، بما يعج به من تناقضات ومفارقات. شيخ يجد عزاءه في صورة فتاة فاتنة انبثقت إليه من دفتي كتاب، وعشق وسمها ونورها، وظلت عزاءه الوحيد في واقع مختل قلق. يسترجع الراوي هذا الحوار الذي دار بينه وبين فتاته، كما يسترجع لحظة اللقاء التي نقشت في الذاكرة:
".. وذات أمسية من أمسيات الخوف انبعثت من بطن الكتاب الذي بين يدي فتاة فاتنة الجمال، رشيقة وعصرية، كلها ضوء وبهجة. وقفت قبالتي ونورت ابتسامتها كل الدائرة المحيطة بها. قالت:
-اسمي عايدة بنت آل شداد.. فتاة من القاهرة في عمر الزهور.. أنا السحر نفسه.. أنا الثراء والحياة الوديعة الناعمة.. أقرأ عليك السلام العطر وأهبك مفتاح السعادة الأبدية.. كلما ضاقت بك السبل وشعرت بالتشتت تذكرني وتذكر عائلتي الصغيرة والكبيرة ومقر سكناي وهالة الضوء المحيطة بها دوما !..
ومنذ تلك اللحظات المضيئة انطبعت صورة عايدة في أعماقي إلى الأبد". (ص.9)
هكذا كانت هذه الصورة الأليفة المنطبعة في أعماق شخصية الراوي النور الذي يصله بالحياة، وكانت الرسائل التي يكتبها إلى عايدة ثم تعود إلى بريده لأن صاحبتها "مجهولة"، ولأنها مجرد شخصية خيالية شكلها قلم مبدع فذ هو نجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة، منفذه للبوح بما يتوجس منه ويخشاه من تقلبات الحياة. وبهذه الشاكلة تصنع هذه القصة سرديتها انطلاقا من هذه المفارقة بين إلف صورة متخيلة والتماهي في عشقها، وبين التوجس من المحيطين بالشخصية من زوجة وأولاد وأصدقاء. ولعل تواطؤ عبد القادر مع صديقه وإدراكه مدى ارتباطه بهذا الخيال العذب يخفف نوعا ما من شدة الواقع ووقره على نفس صاحبه.
وفي قصة "تفاحة عبد الجليل" نرى كيف تتحول الألفة إلى هاجس، وكيف تدفع شخصية القصة عبد الجليل إلى الفرار من أسرها، والرضى بقطع أواصر هذه الألفة بعدما اشتدت به توجساته، وأحاطت به وساوسه. إن المفارقة بين الرغبة في الألفة وهيمنة القلق والخوف من الآخر شكلت تفاصيل هذه القصة وبنت أفقها السردي. تحكي القصة عن علاقة تطورت بطيئا بين عبد الجليل وبائع فاكهة متجول كان يشتري منه تفاحته الوحيدة بعدما يؤوب من رياضته الصباحية المتمثلة في المشي خمسة أو ستة كيلومترات. وقد استطاع الشاب البدوي ببشاشته وخفة روحه أن يكسب ود عبد الجليل، وأن يجعله يبوح له ببعض خصوصياته، بينما لم يتمكن عبد الجليل من معرفة شيء يذكر عن البائع. وهكذا ثارت في نفسه حالات قلق وخشية وانبعثت في أعماقه
دوافع فصم العلاقة بينه وبين البائع، وفعلا تم ذلك. يقول السارد مصورا هذا المآل الذي انتهت إليه الألفة وتغلبت فيه الوساوس والتوجس:
".. كالعادة اختار له الرجل تفاحة طرية وإن كانت مبللة. كان منظر البائع كئيبا؛ فقد انكمش على ذاته، والتوى في جلباب بني متسخ، ونتأت لحيته، وشعث شعره. كأنه ظهر اليوم على وجهه الحقيقي. وأبرز عبد الجليل محفظة نقوده المنتفخة، وانتقى منها ورقة جديدة من فئة مئتي درهم. ونظر البائع إلى جدة الورقة المالية وزرقتها نظرة طويلة، ثم رفع عينيه إلى عيني عبد الجليل وحدق فيهما تحديقا مريبا مربكا. كان في النظرة عتاب وشكوى وحسد. وفيها أيضا استفسارات وتظلم. لكن ما تمكن الموظف السمين من استخلاصه منها والاحتفاظ به هو الخوف. الخوف. الخوف. كان فيها بريق لا يحتمل. نظرة باهتة، مضببة، إضافة إلى أنها عميقة ورهيبة.
رد الرجل الورقة معتذرا. قال فيما يشبه السخرية المرة:
-ليس لديك صرف؟. مرة أخرى ونتحاسب..
في اليوم الآتي مر عبد الجليل على البائع وأدى ثمن تفاحتين. ومنذ ذلك الصباح غير الدرب والبائع".(ص.43-44)
بهذه الشاكلة تشخص النهاية انتصار التوجس والخوف من الآخر على كل ألفة ممكنة بين الشخصيات. وبهذه الكيفية تغوص القصة في أحد أدواء العصر: الخوف من الآخر، باعتباره حيزا من خشية العالم في مجهوله وخفائه.
أما قصة "ذئب النوينو" فتمضي إلى أفق آخر لتجسيد بحث شخصية النص عن الألفة وكفرانها بها، وذلك حينما رأى البطل غدر أليفه (الذئب). إنها قصة الراعي الذي ربى ذئبا في بيته، وانتسجت بينهما علاقة ألفة طويلة، لكن في يوم من الأيام والبطل نائم، ارتقى الذئب خزانة الملابس المواجهة للفراش، وجثى على قدميه الخلفيتين، وبدا كأنه مستعد للانقضاض، فأثار وضعه ذاك قلق الشخصية وخوفها، فقررت التخلص من الإلف والذهاب به بعيدا نحو غابة نائية حيث أطلق سراحه، وتخلص من الألفة ومن تبعاتها الثقيلة. وهكذا كان التوجس والخوف من الآخر/الذئب النواة الصلبة التي انبنت عليها القصة وتشكلت في ضوئها قسماتها السردية. إنها قصة البحث الطبيعي عن الوليف والدفء اللذين تقتضيهما الحياة حتى في غير مضانهما، لكن حالة التوجس والخشية من العالم تنتصر في النهاية لتكسر أواصر الارتباط وقسمات الألفة الموهومة. هكذا كانت هذه القصة صورة أخرى تنقل توجس الإنسان من كائنات العالم وخشيتها مما يحيط بها، كما هجست القصة السابقة وقصص أخرى في المجموعة من خشية الإنسان من الإنسان.
وهذا الارتباط بالحيوان ونسج قسمات الألفة معه، مع التوجس منه، والخوف من أفعاله وردود أفعاله نجده، أيضا، في قصة "قطة الخلاء". وفي هذه القصة نجد ذاتا ساردة تهجس بالوحدة والشعور بالحاجة إلى الإلف، وهي تسعى إلى الخلوة والراحة بعيدا عن صخب الدار، وبعد تعب العمل الإداري والتوقيت المستمر المضني؛ إذ يلجأ السارد إلى مقهى على مشارف المدينة حيث يطلب شايه ويظل جالسا في سيارته يتأمل حلكة الليل من حوله ويغوص في ذاته. وفي هذه القصة نرى تعلق الشخصية بقطة خلاء كانت تأتي لتجلس على مقدمة سيارة السارد، وتشاركه رغيفه المعد بالزيت، وفي أحيان أخرى كانت تغيب القطة عن الموعد مما يجعل البطل يشعر بأن الإلف ينقصه، وبأنه في حاجة إلى من يؤنسه ويخفف عنه حالة توتره وقلقه. يصور السارد هذه اللحظة الإنسانية الدالة في مشهد طريف:
".. في هذا المساء الشتوي البارد جئت موضع الخلوة متوترا أكثر من المألوف. توقفت في مواجهة سيارة فارغة تستقر جنب الرصيف. مقدمتها في مقابل مقدمتي. طلبت نسيان مشاحنات الإدارة ونميمة الموظفين ونظرة الريبة التي رنا إلي بها رئيس المكتب. جاءني كأس الشاي الساخن بيد مرتعشة ووجه صامت، وأخذت أمضغ الرغيف آملا التخفف من وجع الرأس. ثم بدأت أفتش في الظلمة المبكرة عن القطة البيضاء ذات العينين الخضراوين. لكن مدة البحث طالت من دون أن تحضر. ثم خفت أن آكل وحيدا كل الرغيف من غير أن يظهر الأنيس. وتحاشيا من ذلك أوقفت المضغ وتعمدت إبراز ما تبقى من الرغيف خارج النافذة لعل رائحة الزيت تخرجها من حيث لا أدري. وأفلحت المحاولة فرأيت على إثرها القطة التي لا تموء تقفز إلى المقدمة الباردة وتنكمش قبالتي. وأحسست بكثير من الغبطة. أما صمتها الناطق فقد أنساني ثرثرة زميلتي في المكتب التي لا تفتر عن الكلام طوال اليوم. لذلك اعتصرت ذاكرتي كي لا أرى شيئا آخر إلا عيني القطة. سبحت فيهما إلى أن شعرت بالارتخاء يسري في كل أطرافي. وفي هنيهة قصيرة انتابني بعض الخوف هجس لي على إثره هاجس مريب:
-ومن أدراني أن القطة ليست جنية أو ساحرا تقمص جسد حيوان وراح يقتنص فرائسه في هذا الخلاء بقوة عينيه المنومتين؟. لا أعرف على وجه التحديد ما الغايات التي ترومها، لكن سيكون الأوان قد فات إذا اكتشفت أن نيتها قد انطوت على خبث يستحيل تفاديه إن وقع".(ص.54-55)
بهذه الكيفية تكشف هذه القصة عن غموض النفس الإنسانية والتباس العواطف والأحاسيس، وعن حالات القلق والخشية والتوجس التي تنتابنا وتفسد علينا كل إحساس بالألفة. وهكذا نجد بطل هذه القصة يغري القطة برغيفه حتى تؤنس وحدته وتجعله ينسى ما يعيشه في عمله، لكنه وهو غارق في صفاء عينيها الخضراوين ينتابه الخوف، وتحيط به الوساوس، وبذلك تولد المفارقة بين البحث عن الألفة والتوجس من العالم. وبهذه الشاكلة يكون الخوف عائقا أبديا أمام كل ألفة ممكنة.
وهكذا تنتظم الكتاب سردية التوجس وأخذ الحيطة والحذر من الآخر، ومن العالم. وهكذا تتشكل جل قصصه انطلاقا من رغبة ذوات قصصية في نسج خيوط ألفة بينها وبين شخصيات أخرى، أو أشياء، أو حيوانات، أو كائنات متخيلة، لكنها تعجز عن بلوغ المرام. وبهذه الكيفية تظل هذه الذوات تعيش حالات التوتر والقلق والاضطراب الناتجة عن الخوف وعدم الثقة فيما يحيط بها، مما يخلق أفقا للتضاد والمفارقة بين الرغبة في الاقتراب والوئام، وواقع البعد والفصام. وعلى وقع هذه الثنائية الضدية تنبني جل قصص "البحث عن فريد الأطرش". وبهذه الكيفية تغوص القصص في أحد أدواء العصر: الخوف من الآخر، باعتباره حيزا من خشية العالم في مجهوله وخفائه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- محمد أنقار، البحث عن فريد الأطرش، منشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى 2012.
د.محمد المسعودي
هذه أسئلة حفزتها قراءتنا للنصوص القصصية التي شملها كتاب الأديب المغربي الراحل الدكتور محمد أنقار الموسوم ب"البحث عن فريد الأطرش". وهو عمله القصصي الخامس بعد: زمن عبد الحليم، ومؤنس العليل، والأخرس، ويا مسافر وحدك. وفي هذا العمل القصصي واصل القاص اشتغاله على عوالم وموضوعات وجدت بذورها الأولى وتجلت بعض ملامحها منذ كتابه القصصي الأول: زمن عبد الحليم، ومن بينها حالة التوجس من الآخر والعالم والبحث عن ألفة مفقودة في واقع سوداوي مرير. ولعل هذه السردية، وانطلاقا من تمظهراتها النصية، تشكل قيمة في منظور القاص وفي شعور شخصياته القصصية، وتمنح للحياة معنى، وللقصة بعدا فريدا، ومن ثم نجد لها امتدادا في متنه القصصي، عبر كتبه القصصية الخمسة.
أول نص يطالعنا في مجموعة "البحث عن فريد الأطرش"، هو قصة "بلغ سلامي إلى عايدة"، وهو نص ينبني على حالة توجس بينة، وقلق خفي يشي به الراوي، وهو يسرد تفاصيل طريفة منذ تلقيه مكالمة هاتفية من صديقه عبد القادر في ساعة متأخرة من إحدى الليالي. وتبدو هواجس الراوي جلية، وهو يحاور صاحبه، وهو يحكي عن ارتباطه بعايدة بنت آل شداد، وهو يخوض حواره مع ذاته. إننا أمام توجس شيخ من تحولات الواقع المحيط به، بما يعج به من تناقضات ومفارقات. شيخ يجد عزاءه في صورة فتاة فاتنة انبثقت إليه من دفتي كتاب، وعشق وسمها ونورها، وظلت عزاءه الوحيد في واقع مختل قلق. يسترجع الراوي هذا الحوار الذي دار بينه وبين فتاته، كما يسترجع لحظة اللقاء التي نقشت في الذاكرة:
".. وذات أمسية من أمسيات الخوف انبعثت من بطن الكتاب الذي بين يدي فتاة فاتنة الجمال، رشيقة وعصرية، كلها ضوء وبهجة. وقفت قبالتي ونورت ابتسامتها كل الدائرة المحيطة بها. قالت:
-اسمي عايدة بنت آل شداد.. فتاة من القاهرة في عمر الزهور.. أنا السحر نفسه.. أنا الثراء والحياة الوديعة الناعمة.. أقرأ عليك السلام العطر وأهبك مفتاح السعادة الأبدية.. كلما ضاقت بك السبل وشعرت بالتشتت تذكرني وتذكر عائلتي الصغيرة والكبيرة ومقر سكناي وهالة الضوء المحيطة بها دوما !..
ومنذ تلك اللحظات المضيئة انطبعت صورة عايدة في أعماقي إلى الأبد". (ص.9)
هكذا كانت هذه الصورة الأليفة المنطبعة في أعماق شخصية الراوي النور الذي يصله بالحياة، وكانت الرسائل التي يكتبها إلى عايدة ثم تعود إلى بريده لأن صاحبتها "مجهولة"، ولأنها مجرد شخصية خيالية شكلها قلم مبدع فذ هو نجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة، منفذه للبوح بما يتوجس منه ويخشاه من تقلبات الحياة. وبهذه الشاكلة تصنع هذه القصة سرديتها انطلاقا من هذه المفارقة بين إلف صورة متخيلة والتماهي في عشقها، وبين التوجس من المحيطين بالشخصية من زوجة وأولاد وأصدقاء. ولعل تواطؤ عبد القادر مع صديقه وإدراكه مدى ارتباطه بهذا الخيال العذب يخفف نوعا ما من شدة الواقع ووقره على نفس صاحبه.
وفي قصة "تفاحة عبد الجليل" نرى كيف تتحول الألفة إلى هاجس، وكيف تدفع شخصية القصة عبد الجليل إلى الفرار من أسرها، والرضى بقطع أواصر هذه الألفة بعدما اشتدت به توجساته، وأحاطت به وساوسه. إن المفارقة بين الرغبة في الألفة وهيمنة القلق والخوف من الآخر شكلت تفاصيل هذه القصة وبنت أفقها السردي. تحكي القصة عن علاقة تطورت بطيئا بين عبد الجليل وبائع فاكهة متجول كان يشتري منه تفاحته الوحيدة بعدما يؤوب من رياضته الصباحية المتمثلة في المشي خمسة أو ستة كيلومترات. وقد استطاع الشاب البدوي ببشاشته وخفة روحه أن يكسب ود عبد الجليل، وأن يجعله يبوح له ببعض خصوصياته، بينما لم يتمكن عبد الجليل من معرفة شيء يذكر عن البائع. وهكذا ثارت في نفسه حالات قلق وخشية وانبعثت في أعماقه
دوافع فصم العلاقة بينه وبين البائع، وفعلا تم ذلك. يقول السارد مصورا هذا المآل الذي انتهت إليه الألفة وتغلبت فيه الوساوس والتوجس:
".. كالعادة اختار له الرجل تفاحة طرية وإن كانت مبللة. كان منظر البائع كئيبا؛ فقد انكمش على ذاته، والتوى في جلباب بني متسخ، ونتأت لحيته، وشعث شعره. كأنه ظهر اليوم على وجهه الحقيقي. وأبرز عبد الجليل محفظة نقوده المنتفخة، وانتقى منها ورقة جديدة من فئة مئتي درهم. ونظر البائع إلى جدة الورقة المالية وزرقتها نظرة طويلة، ثم رفع عينيه إلى عيني عبد الجليل وحدق فيهما تحديقا مريبا مربكا. كان في النظرة عتاب وشكوى وحسد. وفيها أيضا استفسارات وتظلم. لكن ما تمكن الموظف السمين من استخلاصه منها والاحتفاظ به هو الخوف. الخوف. الخوف. كان فيها بريق لا يحتمل. نظرة باهتة، مضببة، إضافة إلى أنها عميقة ورهيبة.
رد الرجل الورقة معتذرا. قال فيما يشبه السخرية المرة:
-ليس لديك صرف؟. مرة أخرى ونتحاسب..
في اليوم الآتي مر عبد الجليل على البائع وأدى ثمن تفاحتين. ومنذ ذلك الصباح غير الدرب والبائع".(ص.43-44)
بهذه الشاكلة تشخص النهاية انتصار التوجس والخوف من الآخر على كل ألفة ممكنة بين الشخصيات. وبهذه الكيفية تغوص القصة في أحد أدواء العصر: الخوف من الآخر، باعتباره حيزا من خشية العالم في مجهوله وخفائه.
أما قصة "ذئب النوينو" فتمضي إلى أفق آخر لتجسيد بحث شخصية النص عن الألفة وكفرانها بها، وذلك حينما رأى البطل غدر أليفه (الذئب). إنها قصة الراعي الذي ربى ذئبا في بيته، وانتسجت بينهما علاقة ألفة طويلة، لكن في يوم من الأيام والبطل نائم، ارتقى الذئب خزانة الملابس المواجهة للفراش، وجثى على قدميه الخلفيتين، وبدا كأنه مستعد للانقضاض، فأثار وضعه ذاك قلق الشخصية وخوفها، فقررت التخلص من الإلف والذهاب به بعيدا نحو غابة نائية حيث أطلق سراحه، وتخلص من الألفة ومن تبعاتها الثقيلة. وهكذا كان التوجس والخوف من الآخر/الذئب النواة الصلبة التي انبنت عليها القصة وتشكلت في ضوئها قسماتها السردية. إنها قصة البحث الطبيعي عن الوليف والدفء اللذين تقتضيهما الحياة حتى في غير مضانهما، لكن حالة التوجس والخشية من العالم تنتصر في النهاية لتكسر أواصر الارتباط وقسمات الألفة الموهومة. هكذا كانت هذه القصة صورة أخرى تنقل توجس الإنسان من كائنات العالم وخشيتها مما يحيط بها، كما هجست القصة السابقة وقصص أخرى في المجموعة من خشية الإنسان من الإنسان.
وهذا الارتباط بالحيوان ونسج قسمات الألفة معه، مع التوجس منه، والخوف من أفعاله وردود أفعاله نجده، أيضا، في قصة "قطة الخلاء". وفي هذه القصة نجد ذاتا ساردة تهجس بالوحدة والشعور بالحاجة إلى الإلف، وهي تسعى إلى الخلوة والراحة بعيدا عن صخب الدار، وبعد تعب العمل الإداري والتوقيت المستمر المضني؛ إذ يلجأ السارد إلى مقهى على مشارف المدينة حيث يطلب شايه ويظل جالسا في سيارته يتأمل حلكة الليل من حوله ويغوص في ذاته. وفي هذه القصة نرى تعلق الشخصية بقطة خلاء كانت تأتي لتجلس على مقدمة سيارة السارد، وتشاركه رغيفه المعد بالزيت، وفي أحيان أخرى كانت تغيب القطة عن الموعد مما يجعل البطل يشعر بأن الإلف ينقصه، وبأنه في حاجة إلى من يؤنسه ويخفف عنه حالة توتره وقلقه. يصور السارد هذه اللحظة الإنسانية الدالة في مشهد طريف:
".. في هذا المساء الشتوي البارد جئت موضع الخلوة متوترا أكثر من المألوف. توقفت في مواجهة سيارة فارغة تستقر جنب الرصيف. مقدمتها في مقابل مقدمتي. طلبت نسيان مشاحنات الإدارة ونميمة الموظفين ونظرة الريبة التي رنا إلي بها رئيس المكتب. جاءني كأس الشاي الساخن بيد مرتعشة ووجه صامت، وأخذت أمضغ الرغيف آملا التخفف من وجع الرأس. ثم بدأت أفتش في الظلمة المبكرة عن القطة البيضاء ذات العينين الخضراوين. لكن مدة البحث طالت من دون أن تحضر. ثم خفت أن آكل وحيدا كل الرغيف من غير أن يظهر الأنيس. وتحاشيا من ذلك أوقفت المضغ وتعمدت إبراز ما تبقى من الرغيف خارج النافذة لعل رائحة الزيت تخرجها من حيث لا أدري. وأفلحت المحاولة فرأيت على إثرها القطة التي لا تموء تقفز إلى المقدمة الباردة وتنكمش قبالتي. وأحسست بكثير من الغبطة. أما صمتها الناطق فقد أنساني ثرثرة زميلتي في المكتب التي لا تفتر عن الكلام طوال اليوم. لذلك اعتصرت ذاكرتي كي لا أرى شيئا آخر إلا عيني القطة. سبحت فيهما إلى أن شعرت بالارتخاء يسري في كل أطرافي. وفي هنيهة قصيرة انتابني بعض الخوف هجس لي على إثره هاجس مريب:
-ومن أدراني أن القطة ليست جنية أو ساحرا تقمص جسد حيوان وراح يقتنص فرائسه في هذا الخلاء بقوة عينيه المنومتين؟. لا أعرف على وجه التحديد ما الغايات التي ترومها، لكن سيكون الأوان قد فات إذا اكتشفت أن نيتها قد انطوت على خبث يستحيل تفاديه إن وقع".(ص.54-55)
بهذه الكيفية تكشف هذه القصة عن غموض النفس الإنسانية والتباس العواطف والأحاسيس، وعن حالات القلق والخشية والتوجس التي تنتابنا وتفسد علينا كل إحساس بالألفة. وهكذا نجد بطل هذه القصة يغري القطة برغيفه حتى تؤنس وحدته وتجعله ينسى ما يعيشه في عمله، لكنه وهو غارق في صفاء عينيها الخضراوين ينتابه الخوف، وتحيط به الوساوس، وبذلك تولد المفارقة بين البحث عن الألفة والتوجس من العالم. وبهذه الشاكلة يكون الخوف عائقا أبديا أمام كل ألفة ممكنة.
وهكذا تنتظم الكتاب سردية التوجس وأخذ الحيطة والحذر من الآخر، ومن العالم. وهكذا تتشكل جل قصصه انطلاقا من رغبة ذوات قصصية في نسج خيوط ألفة بينها وبين شخصيات أخرى، أو أشياء، أو حيوانات، أو كائنات متخيلة، لكنها تعجز عن بلوغ المرام. وبهذه الكيفية تظل هذه الذوات تعيش حالات التوتر والقلق والاضطراب الناتجة عن الخوف وعدم الثقة فيما يحيط بها، مما يخلق أفقا للتضاد والمفارقة بين الرغبة في الاقتراب والوئام، وواقع البعد والفصام. وعلى وقع هذه الثنائية الضدية تنبني جل قصص "البحث عن فريد الأطرش". وبهذه الكيفية تغوص القصص في أحد أدواء العصر: الخوف من الآخر، باعتباره حيزا من خشية العالم في مجهوله وخفائه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- محمد أنقار، البحث عن فريد الأطرش، منشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى 2012.
د.محمد المسعودي