جبران خليل جبران - الأَرْمَلَةُ وَ ابْنُهَا..

هجمَ الليلُ مسرعًا على شمالِ لبنانَ مستظهرًا على نهارٍ تساقطَتْ فيه الثلوجُ على تلكَ القُرى المُحيطةِ بوادي قاديشا جاعلةً تلكَ الحقولَ والهضابَ صفحةً بيضاءَ ترسمُ عليها الرياحُ خطوطًا تَمْحوها الرياحُ وتَتلاعبُ بِها العواصفُ مازجةَ الجوِّ الغضوبِ بالطبيعةِ الهائلة.
اختبأ الإنسانُ في منازلِهِ والحيوانُ في مرابضهِ وسَكَنَتْ حَركةُ كلَّ ذي نسمة حيّة ولم يبقَ غيرُ بردٍ قارسٍ وزمهريرٍ هائجٍ وليلٍ أسودَ مُخيفٍ وموتٍ قويّ مريع.
وكان في منزل منفرد بين تلك القرى امرأة جالسة أمام موقد تنسج الصوف رداءً وبقربها وحيدها ينظر تارة إلى أشعة النار، وطورًا إلى وجه أمّه الهادئ. في تلك الساعة عصفت الرياح بشدّة وهزّت أركان ذلك البيت، فذعر الصبي واقترب من أُمِّهِ محتميًا بحنّوها من غضب العناصر، فضمّته إلى صدرها وقبّلته ثمّ أجلسته على ركبتيها وقالت: لا تجزع يا ابني، فالطبيعة تريد أن تعظ الإنسان مظهرة عظمتها تجاه صغره، وقوّتها بجانب ضعفه. لا تخف يا ولدي، فمن وراء الثلوج المتساقطة والغيوم المتلبّدة والرياح العاصفة روح قدّوس كلّي عالم بما تحتاج إليه الحقول والآكام. من وراء كلّ شيء قوّة ناظرة إلى حقارة الإنسان بعين الشفقة والرحمة. ولا تجزع يا فلذة كبدي. فالطبيعة التي ابتسمت في الربيع وضحكت في الصيف وتأوّهت في الخريف تريد أن تبكي الآن، ومن دموعها الباردة تستقي الحياة الرابضة تحت أطباق الثرى. نم يا ولدي، ففي الغد تستيقظ وترى السماء صافية الأديم، والحقول لابسة رداء الثلج الناصع مثلما ترتدي النفس ثوب الطهر بُعيد مصارعة الموت. نم يا حبيبي، فمن هذه العناصر المتحاربة بعنف سوف تجني الأزهار الجميلة عندما يجيء نيسان. كذلك الإنسان يا ابني لا يستثمر المحبّة إلاّ بعد بعاد أليم، وصبر مرّ، وقنوط متلف. نم يا صغيري، فسوف تأتي الأحلام العذبة إلى نفسك غير خائفة من هيبة الليل وبطش البرد.
ونظر الصبيّ إلى أمّه وقد كحل النعاس عينيه وقال: لقد أثقل أجفاني الكرى يا أماه وأخاف أن أنام قبل تلاوة الصلاة. فعانقته الأم الحنون ونظرت من وراء الدموع إلى وجهه الملائكيّ ثمّ قالت: قل معي يا ولدي: أشفق يا ربّ على الفقراء واحمهم من قساوة البرد القارس واستر جسومهم العارية بيدك. انظر إلى اليتامى النائمين في الأكواخ وأنفاس الثلج تكلم أجسادهم. اسمع يا ربّ نداء الأرامل القائمات في الشوارع بين مخالب الموت وأظفار البرد. امدد يدك يا رب إلى قلب الغني وافتح بصيرته ليرى فاقة الضعفاء المظلومين. ارفق يا رب بالجائعين الواقفين أمام الأبواب في هذا الليل الظلوم واهد الغرباء إلى المآوي الدافئة وارحم غربتهم. انظر يا ربّ إلى العصافير الصغيرة واحفظ بيمينك الأشجار الخائفة من قساوة الرياح... ليكن هذا يا ربّ
ولمّا عانق الكرى نفس الصبيّ مددته على فراشه وقبّلت جبهته بشفتين مرتجفتين ثمّ رجعت وجلست أمام الموقد تنسج له الصوف رداءً.


* دمعة وابتسامة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى