وُجد الفنُّ مع بداية تاريخ الإنسان، وخُلق الوجدان في أعماق الأنفس، فتناغم الفن والوجدان باتساق وجمال؛ فثارت لهما معاني الحياة والوجود، فلا يمكن أن نتصور السعادة لمجرد متعة الجسد باللذائذ؛ في حين تنزف البواطن حزنًا أو ألمًا أو تشاؤمًا، ولا يمكن أن نعيش في الحياة براحة واطمئنان؛ ووجداننا الداخلي يُحيل الصور الجميلة إلى ألوانٍ باهتةٍ كئيبة، والأصوات الرخيمة إلى أجراسٍ فاترة لا تطرب لها أعماقنا الباطنة. إن سحر الفن يخترق الأنفس بلا مقاومة، ويحرك كوامن المشاعر في أبلد المخلوقات وأوحشها؛ فكيف بالإنسان السويّ؟! لهذا توافقت الفطرة الإنسانية على حبه وتخليده والفنَاء أحيانًا لأجله.
وقبل أن ندلف إلى موضوع الجدل بين الفن والوجدان والتراث والتداخلات والمفارقات بينها، يُحسن توضيح معنى الوجدان، خصوصًا أن كتب اللغة الأولى جعلت غالب استعماله في الظفر بالشيء أو من السَّعَة واليَسار (انظر: لسان العرب لابن منظور، طبعة دار صادر، 3/445)، في حين نجد المعاجم المعاصرة تذكر الوجدان بتغليب معاني القلب وأحاسيس النفس عليه، كما جاء في المعجم الوسيط، فقد اقتربوا من المعنى المراد في هذا السياق حيث قالوا في معنى الوجدان: «يطلق أولًا: على كل إحساس أوَّلي باللذة أو الألم، وثانيًا: على ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم في مقابل حالات أخرى تمتاز بالإدراك والمعرفة» (انظر: المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة، طبعة مكتبة الشروق 2004م، ص 1067)، وقد سبق أن عرّفه زين الدين المناوي المتوفى في 1031هـ بأن الوجدان هو: «إحساس الباطن بما هو فيه، والوجد ما يصادف القلب ويرد عليه بلا تكلّف وتصنّع، وقيل هو بروق تلمع ثم تخمد سريعًا». (انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، نشر دار الفكر المعاصر، تحقيق محمد الداية، 1410هـ، 1/718)، هذا الاستعمال اللغوي للوجدان هو المراد ذكره في هذا المقام، فالوجدان الباطني الذي تقبع فيه المشاعر الإنسانية وانفعالات النفس وعواطفها وتتفاعل في أعماقه مدركات الحواس والعقل، هو الجانب المهم من الإنسان، والفاعل المحرّك للكثير من المواقف والتصرفات، خصوصًا إذا كان الوجدان ملتهبًا بحرارة الحب والشوق، كما أن للوجدان استعمالًا ذائعًا عند المتصوفة يقترب مما ذكرناه، فالناس عندهم ثلاثة: سالك وواصل وواجد، ويقصدون بالواجد أن السائر إلى الله تعالى في الابتداء يتكلف التواجد فيقوى عليه حتى يصير واجدًا، ثم يستغرق في وجده حتى يصل إلى موجوده. وهذه طبقات الترقي في الأحوال تنتهي بالعبد إلى الغرق في ربه فيفنى في وجوده حبًّا وعشقًا فيحصل له التواجد. ولابن القيم تفصيل في هذه المقامات ليس هذا مجال إيرادها. (انظر: مدارج السالكين، تحقيق الفقي، طبعة دار الكتاب العربي 1973م، 3/412).
موقف التراث الفقهي من الفن
وبعد هذه المقدمة الموجزة التي اقتضت تحرير معنى الوجدان، وبعض أوجه استعماله، ندخل في بيان بعض القضايا المتعلقة بموقف التراث الفقهي من الفن والوجدان وانعكاس ذلك على الفرد والمجتمع، من خلال ما يلي: أولًا: من المقرر عند بعض العلماء أن النفس خلاف الروح، فالنفس حسب التعبير القرآني هي المتهمة بالشح والوسواس والفجور والطبيعة الأمَّارة، وللنفس في القرآن ترقٍّ وعروج، فهي يمكن أن تتزكى وتتطهر، فتوصف بأنها لوَّامة وملهمة ومطمئنة وراضية ومرضية.
أما الروح في القرآن فتذكر دائمًا بدرجة عالية من التقديس والتنزيه والتشريف، ولا يُذكَر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة أو هبوط أو ضجر أو ملل، ولا يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت، كما ورد في النفس، ولا تنسب إلى الإنسان إنما تأتي دائمًا منسوبة إلى الله تعالى، (انظر على سبيل المثال: كتاب القرآن كائن حي لمصطفى محمود، طبعة دار النهضة العربية، ص 21-32)، ولا نغفل أن هذه المسألة فيها تداخل واختلاف قديم لم يحسم، وسؤال فلسفي لم تخمد جذوة الأيام تأججه حول الروح والنفس؛ هل هما ذات واحدة أم ذوات مختلفة؟ ولَعلِّي أميل حسب ما جاء من نصوص أن الروح تختص بالإيمان وترتقي به، وتتسامى مع العالَم العلوي، وتبقى رغم كل ما قيل عنها سرًّا من أسرار الرب في الإنسان، كما في قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(الإسراء: 85)، في حين النفس أوسع معنى من حيث استعمال النصوص لها، وأقرب للصفات الإنسانية الأرضية، وهي مهد العواطف والانفعالات المختلجة في أعماقنا.
وبناءً على ما سبق من تفريق مهم في التمهيد لهذا المقال، نعلم أن ما يُشبع كل نوع من هذه المكونات الإنسانية؛ لا بد أن يكون من جنس هذا النوع وقريب من مواده، فالبدن المادي يحتاج لإشباعه ماديات الطعام والشراب والنوم والجنس، والعقل يحتاج لإشباعه أن يُغذى بالمعرفة التي تلبي تساؤلاته، أما الروح فتحتاج إلى إيمان تتوجه له وتلجأ إليه وتعظّمه بالغيب، فبه تسمو نحو عالَمها العُلوي، في حين النفس المحمَّلة بالمشاعر والأحاسيس فيُشبع وجدانها الباطني؛ الحب والجمال والاستمتاع بالصوت الندي والأسلوب البليغ وغيرها، فإذا كانت النفس الرقيقة تتفاعل مع هذه الأغذية الوجدانية وتتألق بها، فحقها على الإنسان عدم حرمانها من ذلك، وإعطاؤها ما تحتاج، ويمكن أن تدخل هذه العناية بحقوق النفس؛ في عموم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما: «… وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.. فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» (أخرجه البخاري: 6139).
ثانيًا: إذا قررنا أن للنفس غذاءً تحتاجه في حالتها الطبيعية، فهل للفن علاقة بذلك الغذاء؟ وقبل الجواب عن هذا السؤال، من المهم أن نقرر أيضًا أن الفنون كانت من أهم أدوات التعبير التي استخدمها الإنسان الأول، فأقدم نموذج فني عرفة التاريخ هو تمثال لامرأة عارية من الحجر الجيري، عثر عليه في النمسا، ويعرف باسم «فينوس ولندورف» ويرجع تاريخه إلى أكثر من 25 ألف عام قبل الميلاد، وديورانت في كتابه الشهير «قصة الحضارة» قد قسّم الحضارات حسب الفنون التي اشتهرت بها الأمم السابقة، بوصفها منجزات إنسانية وهوية احتفظت بها أجيال متعددة من أبناء تلك الحضارات، فالفنون على اختلاف أنوعها قد جسّدت حقائق الدين وأيام الشعوب وخلّدت أبرز الشخصيات التاريخية؛ إما من خلال قصائد شعرية أو منحوتات فنية أو رسوم جدارية أو تحف عمرانية؛ لولاها لاندثرت كل تلك الحقب والمنجزات من الذاكرة الإنسانية. فالميل للفنون والتأثّر بها كان يلبي شغف النفس في التعبير عما تحبه وتنتمي إليه، فالعلاقة بين الفن ومشاعر النفس علاقة متلازمة، مغروسة في الجبلة الإنسانية، ولعل هذه النتيجة هي الجواب عن السؤال السابق حول علاقة الفن بالنفس البشرية.
ثالثًا: إذا كانت النفس البشرية تميل للفنون الجمالية والتعبيرية والسماعية، فهل للدين الإسلامي موقف إيجابي أم سلبي تجاه هذا الميل؟ بدايةً يجب أن نعرف أن الشريعة متوافقة مع الفطرة الإنسانية، فقد قال الإمام ابن عاشور في عنوان عريض في كتابه الشهير (مقاصد الشريعة، طبعة الشركة التونسية، ص 56): إن: «ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة»، والمقصود بالفطرة هنا؛ هي الحالة التي خلق الله تعالى عليها العقل سالمًا من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة، وكان الفعل البشري ينساق لها بالقوة الطبيعية، فبما أن الحضارات والشعوب قد تواطأت على أصل احترام الفن النقي من الفساد؛ بل ضمه للمقدسات في المعابد، ثم نجد النفس السوية تميل إليه رغمًا عنها، يجعلنا نقرر مشروعيته في الدين كأصل عام قائم على الإباحة ما لم يرد دليل الحرمة المانعة منه، فالقرآن الكريم في أسلوبه وتعبيراته كان من أعظم الفنون البلاغية التي أعجزت العرب على أن يأتوا بمثل فصاحته وبيانه؛ لذلك كان مُلهمًا بشكل ساحر لا يقاوم سماعه عربي إلا وذُهل لبلاغته، كما أن جمال القرآن في أسلوبه؛ قد توافق معه جمال النبي عليه الصلاة والسلام في خَلقه وخُلقه، واتسقت التشريعات العبادية الظاهرة بأشكال جديدة لم يعهدها العرب من قبل، مثل النظافة المتكررة والنظام في أداء العبادة كالصلوات صفوفًا وهيئات الحج في اللباس والهتاف وغيرها، حتى الأذان الذي رآه صحابي في منامه وأقره عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فكان من منطق العقل أن يتولى هو الأذان، ولكن منطق الجمال جعل النبي عليه الصلاة والسلام الأذان لبلال لأنه أندى صوتًا من الآخر.
رابعًا: إذا كانت الشريعة الإسلامية متوافقة مع أصل الإباحة للفنون ما لم ترد أدلة تحرّم بعضها، فلماذا لا نجد من تراثنا الفقهي عناية في هذا المجال الغريزي للنفس والوجدان؟
ضعف تأصيلي
يظهر للباحث في الفقه أن الفنون السمعية اختزلت لدى كثير من الفقهاء في أحكام المعازف، والفنون البصرية اختزلت في تحريم التصاوير، وفنون المعمار اختزلت في تحريم القباب على القبور، وهذه النماذج أعرضها كأمثلة، بيد أنها تدل وبشكل كبير على التعاطي المبالغ في سد الذرائع بتغليب التحريم فيما أصله الحلّ، والتكلّف في التحوط في أمرٍ تتطلع له رغبات الناس، ولا يفوت الباحث في التراث الفقهي أن يلحظ أيضًا؛ الضعف التأصيلي في وضع البدائل المباحة عند التحريم لأمر تتشوف له النفوس، والضعف في عدم التوسع في المجالات المشروعة للفنون وما تحتاجه المشاعر الإنسانية من إشباع ومتعة.
ويمكن أن أرجع السبب في ضعف هذا التعاطي مع الفنون إلى ثلاثة أسباب، هي:
أن الجانب المقاصدي لم يحكم مسائل الفنون، ولم تُقرأ النصوص وفق مرادها المصلحي، فالفن تأكيدٌ لحفظ النفس ومشاعرها وكرامتها، وتهذيبٌ للوجدان من القبح والقلق والأخلاق الفاسدة، والفن ينبغي أن يعود على بقية المقاصد بالحفظ وليس بالنقص أو العدوان، ولأجل هذا المقصد كان عليه الصلاة والسلام يحب إنشاد الشعر، وقد جعل لحسان بن ثابت منبرًا في مسجده، وسمح للأحباش بالرقص والغناء في مسجده أيضًا؛ رغم اعتراض بعض الصحابة، ونهى أبا بكرٍ أن ينكر على الجواري اللاتي كنّ يغنين عند عائشة يوم العيد، وغيرها من المواقف كثير، فالفن كمصلحة نفسية يجب ألّا تلغى؛ بل تُعزز بالتنمية وتُحفظ بالقيم، ويُحرص ألّا تخرج الفنون عن إطارها التهذيبي والوجداني فتنقلب إلى مفاسد داخل المجتمع، فالفن الغارق في الوثنيات وتجسيد الأصنام والشركيات والسحر مخالف لحفظ الدين، والفن الذي يدعو للبشاعة وانتهاك الحرمات الخاصة وتسويغ الدماء والعنف أو العنصرية يعد إخلالًا بحفظ الأنفس، والفن المشيع للفساد وانتهاك الحياء والهادم للعلاقات الأسرية المستقرة مخلٌّ بمقصد حفظ النسل، كما أن الفن المهمِّش للعقل والفكر الصحيح والمسوغ للإلحاد والخرافة مخالف لحفظ العقل، والفن الهابط في معناه والمزوّر على الناس في أصله والسارق لجهود الآخرين والمبالغ في قيمته مخالف لحفظ المال. فهذه المقاصد الشرعية هي الإطار الخلقي الذي ينبغي مراعاته في صحة الفن من عدمه.
من الأسباب التي تفسر العزوف الفقهي عن الفن، الجهل بأن الفن وسيلة وليس غاية، ولا يجوز أن تعود الوسيلة على الأصل بالإبطال، كما أن الوسائل يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد. فهذه المقاصد تُقدم على ما كان من باب الوسائل المشروعة فالوسائل وضعت لتحصيل أحكام أخرى ليست مقصودة بذاتها؛ بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل، فوجود منكر أو معصية في نوع من الفنون أو ممارسة فنية مخالفة قام بها بعض الأفراد، لا يعني أن نقفل الباب كله، ونمنع حاجة الآخرين لمنافعه. (انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 147، إعلام الموقعين، طبعة دار الكتب العلمية، 3/ 153). والتراث الفقهي يندر أن عالج موضوع الفنون من خلال هذا النظر المقاصدي، ولعلي أستدل بكلام نفيس لابن القيم في تعليقه على حديث بريدة أنه قال: خرج رسول صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: «يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالمًا أن أضرب بين يديك بالدّف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا». فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدّف تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلتَ أنت يا عمر ألقت الدف» (صحيح سنن الترمذي رقم 2913). يقول ابن القيم: «وإذا لم يمكن حفظ العبد نفسه من جميع حظوظ الشيطان منه، كان من معرفته وفقهه وتمام توفيقه أن يدفع حظّه الكبير بإعطائه حظّه الحقير إذا لم يمكن حرمانه الحظين كليهما، فإذا أعطيت النفوس الضعيفة حظًّا يسيرًا من حظّها، يستجلب به من استجابتها وانقيادها خير كبير، ويدفع عنها شرًّا كبيرًا أكبر من ذلك الحظ، كان هذا عين مصلحتها، والنظر لها والشفقة عليها». ثم قال: «واحتمل صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة التي نذرت إنْ نجاه الله أن تضرب على رأسه بالدفّ لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به، وسرورها بمقدمه وسلامته الذي هو زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله، وانبساط نفسها وانقيادها لما تؤمر به من الخير العظيم، الذي ضرب الدفّ فيه كقطرة سقطت في بحر، وهل الاستعانة على الحق، بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل، بل يصير ذلك من الحق إذا كان معينًا عليه، ولهذا كان لهو الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحقّ؛ لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفّة، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببرطيل، فإذا برطلت بشيء من الباطل لتبذل به حقًّا وجوده أنفع لها وخير من فوات ذلك الباطل كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها، فليتأمل اللبيب هذا الموضوع حقّ التأمل، فإنه نافع جدًّا. والله المستعان» (انظر: الكلام على مسألة السماع، تحقيق محمد عزيز شمس، طبعة عالم الفوائد، ص 311، 314). فهذا الباب من النظر والموازنة المقاصدية نافع لو جرى التوسع على منواله، وما قام به ابن القيم من تأصيل فقهي وتقعيد فني؛ نفيس جدًّا؛ رغم احتياطات مدرسته الفقهية، فهو يعدّ ضرب الدف منكرًا ومع ذلك فسّر موقف النبي عليه الصلاة والسلام وفق الاعتبار المقاصدي الذي يغيب كثيرًا في لجج المناكفات المتشددة بين الفقهاء.
ج. من الأسباب المفسّرة للغياب الفقهي عن المجال الفني؛ ما غلب على اجتهادات الفقهاء من تأثرهم بالبيئة التي يعيشون فيها، والمعارك الكلامية التي يخوضونها، فانعكس ذلك على طبيعة فقههم وطريقة تناولهم للمسائل، وفقه الفنون الجمالية يكاد ينعدم في البيئات الصحراوية وذات الطبيعة الجافة، في حين نراه ينمو ويزدهر في البيئات المتعددة الثقافات والطبيعة الخلابة، والبيئة الأندلسية مثال واضح على توسعهم الفقهي في الفنون السماعية والعمرانية والبصرية ما لا يوجد في بيئات غيرهم. (انظر: لما كتبه ابن خلدون في المقدمة حول هذا التأثير البيئي في الفقه، تحقيق درويش 1/ 194)، ولا يفوتني أيضًا؛ أن أؤكد أن بيئة المواجهات الكلامية خصوصًا مع بعض الفرق الفلسفية والصوفية، قد ساهمت في تقليص مساحات المباح من الفنون، خصوصًا تلك الفنون التي برز فيها المخالفون، فما أن يأتي الحديث حول الغناء واللهو والرقص؛ إلا استحضروا خلفية المواجهة وصاغوا عليها أحكامًا تُنكّل بمن يقترب من مخالفيهم أو يؤيد أطروحاتهم.
ختاما. أرى أن هناك ثغرات معرفية في البُنية الفكرية الإسلامية زادت مع الأيام والعقود اتساعًا عن أصلها الذي قرره الأوائل، فتأصيل حاجات الوجدان من المشاعر والعواطف الإنسانية يكاد ينعدم في تراثنا الفقهي، كما أن تناول موضوع الفنون لا يزال يشوبه القلق والحذر والتحوط المتوهم في كل أنواعه، رغم ما يشهده عصرنا الحاضر من ثورات فنية لم يسبق لها مثيل من قبل، هذه الموضوعات هي موضوع الساعة وواجب الوقت، وما لم يتصدَّ لها العقل الفقهي اليوم بالبحث والاجتهاد؛ وإلا فدائرة انحساره عن تفاعلات الحياة تضيق يومًا بعد يوم، ودعوى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ستبقى مجرد أيقونة للاستهلاك البلاغي وليست مصنعًا للاستثمار الحياتي لكل ما يسعد الإنسان ويخفف معاناته ويجدد دينه.
* عن وبإذن من
الفن والوجدان والفقه.. وسؤال القطيعة | مجلة الفيصل
وقبل أن ندلف إلى موضوع الجدل بين الفن والوجدان والتراث والتداخلات والمفارقات بينها، يُحسن توضيح معنى الوجدان، خصوصًا أن كتب اللغة الأولى جعلت غالب استعماله في الظفر بالشيء أو من السَّعَة واليَسار (انظر: لسان العرب لابن منظور، طبعة دار صادر، 3/445)، في حين نجد المعاجم المعاصرة تذكر الوجدان بتغليب معاني القلب وأحاسيس النفس عليه، كما جاء في المعجم الوسيط، فقد اقتربوا من المعنى المراد في هذا السياق حيث قالوا في معنى الوجدان: «يطلق أولًا: على كل إحساس أوَّلي باللذة أو الألم، وثانيًا: على ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم في مقابل حالات أخرى تمتاز بالإدراك والمعرفة» (انظر: المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة، طبعة مكتبة الشروق 2004م، ص 1067)، وقد سبق أن عرّفه زين الدين المناوي المتوفى في 1031هـ بأن الوجدان هو: «إحساس الباطن بما هو فيه، والوجد ما يصادف القلب ويرد عليه بلا تكلّف وتصنّع، وقيل هو بروق تلمع ثم تخمد سريعًا». (انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، نشر دار الفكر المعاصر، تحقيق محمد الداية، 1410هـ، 1/718)، هذا الاستعمال اللغوي للوجدان هو المراد ذكره في هذا المقام، فالوجدان الباطني الذي تقبع فيه المشاعر الإنسانية وانفعالات النفس وعواطفها وتتفاعل في أعماقه مدركات الحواس والعقل، هو الجانب المهم من الإنسان، والفاعل المحرّك للكثير من المواقف والتصرفات، خصوصًا إذا كان الوجدان ملتهبًا بحرارة الحب والشوق، كما أن للوجدان استعمالًا ذائعًا عند المتصوفة يقترب مما ذكرناه، فالناس عندهم ثلاثة: سالك وواصل وواجد، ويقصدون بالواجد أن السائر إلى الله تعالى في الابتداء يتكلف التواجد فيقوى عليه حتى يصير واجدًا، ثم يستغرق في وجده حتى يصل إلى موجوده. وهذه طبقات الترقي في الأحوال تنتهي بالعبد إلى الغرق في ربه فيفنى في وجوده حبًّا وعشقًا فيحصل له التواجد. ولابن القيم تفصيل في هذه المقامات ليس هذا مجال إيرادها. (انظر: مدارج السالكين، تحقيق الفقي، طبعة دار الكتاب العربي 1973م، 3/412).
موقف التراث الفقهي من الفن
وبعد هذه المقدمة الموجزة التي اقتضت تحرير معنى الوجدان، وبعض أوجه استعماله، ندخل في بيان بعض القضايا المتعلقة بموقف التراث الفقهي من الفن والوجدان وانعكاس ذلك على الفرد والمجتمع، من خلال ما يلي: أولًا: من المقرر عند بعض العلماء أن النفس خلاف الروح، فالنفس حسب التعبير القرآني هي المتهمة بالشح والوسواس والفجور والطبيعة الأمَّارة، وللنفس في القرآن ترقٍّ وعروج، فهي يمكن أن تتزكى وتتطهر، فتوصف بأنها لوَّامة وملهمة ومطمئنة وراضية ومرضية.
أما الروح في القرآن فتذكر دائمًا بدرجة عالية من التقديس والتنزيه والتشريف، ولا يُذكَر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة أو هبوط أو ضجر أو ملل، ولا يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت، كما ورد في النفس، ولا تنسب إلى الإنسان إنما تأتي دائمًا منسوبة إلى الله تعالى، (انظر على سبيل المثال: كتاب القرآن كائن حي لمصطفى محمود، طبعة دار النهضة العربية، ص 21-32)، ولا نغفل أن هذه المسألة فيها تداخل واختلاف قديم لم يحسم، وسؤال فلسفي لم تخمد جذوة الأيام تأججه حول الروح والنفس؛ هل هما ذات واحدة أم ذوات مختلفة؟ ولَعلِّي أميل حسب ما جاء من نصوص أن الروح تختص بالإيمان وترتقي به، وتتسامى مع العالَم العلوي، وتبقى رغم كل ما قيل عنها سرًّا من أسرار الرب في الإنسان، كما في قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(الإسراء: 85)، في حين النفس أوسع معنى من حيث استعمال النصوص لها، وأقرب للصفات الإنسانية الأرضية، وهي مهد العواطف والانفعالات المختلجة في أعماقنا.
وبناءً على ما سبق من تفريق مهم في التمهيد لهذا المقال، نعلم أن ما يُشبع كل نوع من هذه المكونات الإنسانية؛ لا بد أن يكون من جنس هذا النوع وقريب من مواده، فالبدن المادي يحتاج لإشباعه ماديات الطعام والشراب والنوم والجنس، والعقل يحتاج لإشباعه أن يُغذى بالمعرفة التي تلبي تساؤلاته، أما الروح فتحتاج إلى إيمان تتوجه له وتلجأ إليه وتعظّمه بالغيب، فبه تسمو نحو عالَمها العُلوي، في حين النفس المحمَّلة بالمشاعر والأحاسيس فيُشبع وجدانها الباطني؛ الحب والجمال والاستمتاع بالصوت الندي والأسلوب البليغ وغيرها، فإذا كانت النفس الرقيقة تتفاعل مع هذه الأغذية الوجدانية وتتألق بها، فحقها على الإنسان عدم حرمانها من ذلك، وإعطاؤها ما تحتاج، ويمكن أن تدخل هذه العناية بحقوق النفس؛ في عموم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما: «… وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.. فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» (أخرجه البخاري: 6139).
ثانيًا: إذا قررنا أن للنفس غذاءً تحتاجه في حالتها الطبيعية، فهل للفن علاقة بذلك الغذاء؟ وقبل الجواب عن هذا السؤال، من المهم أن نقرر أيضًا أن الفنون كانت من أهم أدوات التعبير التي استخدمها الإنسان الأول، فأقدم نموذج فني عرفة التاريخ هو تمثال لامرأة عارية من الحجر الجيري، عثر عليه في النمسا، ويعرف باسم «فينوس ولندورف» ويرجع تاريخه إلى أكثر من 25 ألف عام قبل الميلاد، وديورانت في كتابه الشهير «قصة الحضارة» قد قسّم الحضارات حسب الفنون التي اشتهرت بها الأمم السابقة، بوصفها منجزات إنسانية وهوية احتفظت بها أجيال متعددة من أبناء تلك الحضارات، فالفنون على اختلاف أنوعها قد جسّدت حقائق الدين وأيام الشعوب وخلّدت أبرز الشخصيات التاريخية؛ إما من خلال قصائد شعرية أو منحوتات فنية أو رسوم جدارية أو تحف عمرانية؛ لولاها لاندثرت كل تلك الحقب والمنجزات من الذاكرة الإنسانية. فالميل للفنون والتأثّر بها كان يلبي شغف النفس في التعبير عما تحبه وتنتمي إليه، فالعلاقة بين الفن ومشاعر النفس علاقة متلازمة، مغروسة في الجبلة الإنسانية، ولعل هذه النتيجة هي الجواب عن السؤال السابق حول علاقة الفن بالنفس البشرية.
ثالثًا: إذا كانت النفس البشرية تميل للفنون الجمالية والتعبيرية والسماعية، فهل للدين الإسلامي موقف إيجابي أم سلبي تجاه هذا الميل؟ بدايةً يجب أن نعرف أن الشريعة متوافقة مع الفطرة الإنسانية، فقد قال الإمام ابن عاشور في عنوان عريض في كتابه الشهير (مقاصد الشريعة، طبعة الشركة التونسية، ص 56): إن: «ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة»، والمقصود بالفطرة هنا؛ هي الحالة التي خلق الله تعالى عليها العقل سالمًا من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة، وكان الفعل البشري ينساق لها بالقوة الطبيعية، فبما أن الحضارات والشعوب قد تواطأت على أصل احترام الفن النقي من الفساد؛ بل ضمه للمقدسات في المعابد، ثم نجد النفس السوية تميل إليه رغمًا عنها، يجعلنا نقرر مشروعيته في الدين كأصل عام قائم على الإباحة ما لم يرد دليل الحرمة المانعة منه، فالقرآن الكريم في أسلوبه وتعبيراته كان من أعظم الفنون البلاغية التي أعجزت العرب على أن يأتوا بمثل فصاحته وبيانه؛ لذلك كان مُلهمًا بشكل ساحر لا يقاوم سماعه عربي إلا وذُهل لبلاغته، كما أن جمال القرآن في أسلوبه؛ قد توافق معه جمال النبي عليه الصلاة والسلام في خَلقه وخُلقه، واتسقت التشريعات العبادية الظاهرة بأشكال جديدة لم يعهدها العرب من قبل، مثل النظافة المتكررة والنظام في أداء العبادة كالصلوات صفوفًا وهيئات الحج في اللباس والهتاف وغيرها، حتى الأذان الذي رآه صحابي في منامه وأقره عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فكان من منطق العقل أن يتولى هو الأذان، ولكن منطق الجمال جعل النبي عليه الصلاة والسلام الأذان لبلال لأنه أندى صوتًا من الآخر.
رابعًا: إذا كانت الشريعة الإسلامية متوافقة مع أصل الإباحة للفنون ما لم ترد أدلة تحرّم بعضها، فلماذا لا نجد من تراثنا الفقهي عناية في هذا المجال الغريزي للنفس والوجدان؟
ضعف تأصيلي
يظهر للباحث في الفقه أن الفنون السمعية اختزلت لدى كثير من الفقهاء في أحكام المعازف، والفنون البصرية اختزلت في تحريم التصاوير، وفنون المعمار اختزلت في تحريم القباب على القبور، وهذه النماذج أعرضها كأمثلة، بيد أنها تدل وبشكل كبير على التعاطي المبالغ في سد الذرائع بتغليب التحريم فيما أصله الحلّ، والتكلّف في التحوط في أمرٍ تتطلع له رغبات الناس، ولا يفوت الباحث في التراث الفقهي أن يلحظ أيضًا؛ الضعف التأصيلي في وضع البدائل المباحة عند التحريم لأمر تتشوف له النفوس، والضعف في عدم التوسع في المجالات المشروعة للفنون وما تحتاجه المشاعر الإنسانية من إشباع ومتعة.
ويمكن أن أرجع السبب في ضعف هذا التعاطي مع الفنون إلى ثلاثة أسباب، هي:
أن الجانب المقاصدي لم يحكم مسائل الفنون، ولم تُقرأ النصوص وفق مرادها المصلحي، فالفن تأكيدٌ لحفظ النفس ومشاعرها وكرامتها، وتهذيبٌ للوجدان من القبح والقلق والأخلاق الفاسدة، والفن ينبغي أن يعود على بقية المقاصد بالحفظ وليس بالنقص أو العدوان، ولأجل هذا المقصد كان عليه الصلاة والسلام يحب إنشاد الشعر، وقد جعل لحسان بن ثابت منبرًا في مسجده، وسمح للأحباش بالرقص والغناء في مسجده أيضًا؛ رغم اعتراض بعض الصحابة، ونهى أبا بكرٍ أن ينكر على الجواري اللاتي كنّ يغنين عند عائشة يوم العيد، وغيرها من المواقف كثير، فالفن كمصلحة نفسية يجب ألّا تلغى؛ بل تُعزز بالتنمية وتُحفظ بالقيم، ويُحرص ألّا تخرج الفنون عن إطارها التهذيبي والوجداني فتنقلب إلى مفاسد داخل المجتمع، فالفن الغارق في الوثنيات وتجسيد الأصنام والشركيات والسحر مخالف لحفظ الدين، والفن الذي يدعو للبشاعة وانتهاك الحرمات الخاصة وتسويغ الدماء والعنف أو العنصرية يعد إخلالًا بحفظ الأنفس، والفن المشيع للفساد وانتهاك الحياء والهادم للعلاقات الأسرية المستقرة مخلٌّ بمقصد حفظ النسل، كما أن الفن المهمِّش للعقل والفكر الصحيح والمسوغ للإلحاد والخرافة مخالف لحفظ العقل، والفن الهابط في معناه والمزوّر على الناس في أصله والسارق لجهود الآخرين والمبالغ في قيمته مخالف لحفظ المال. فهذه المقاصد الشرعية هي الإطار الخلقي الذي ينبغي مراعاته في صحة الفن من عدمه.
من الأسباب التي تفسر العزوف الفقهي عن الفن، الجهل بأن الفن وسيلة وليس غاية، ولا يجوز أن تعود الوسيلة على الأصل بالإبطال، كما أن الوسائل يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد. فهذه المقاصد تُقدم على ما كان من باب الوسائل المشروعة فالوسائل وضعت لتحصيل أحكام أخرى ليست مقصودة بذاتها؛ بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل، فوجود منكر أو معصية في نوع من الفنون أو ممارسة فنية مخالفة قام بها بعض الأفراد، لا يعني أن نقفل الباب كله، ونمنع حاجة الآخرين لمنافعه. (انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 147، إعلام الموقعين، طبعة دار الكتب العلمية، 3/ 153). والتراث الفقهي يندر أن عالج موضوع الفنون من خلال هذا النظر المقاصدي، ولعلي أستدل بكلام نفيس لابن القيم في تعليقه على حديث بريدة أنه قال: خرج رسول صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: «يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالمًا أن أضرب بين يديك بالدّف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا». فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدّف تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلتَ أنت يا عمر ألقت الدف» (صحيح سنن الترمذي رقم 2913). يقول ابن القيم: «وإذا لم يمكن حفظ العبد نفسه من جميع حظوظ الشيطان منه، كان من معرفته وفقهه وتمام توفيقه أن يدفع حظّه الكبير بإعطائه حظّه الحقير إذا لم يمكن حرمانه الحظين كليهما، فإذا أعطيت النفوس الضعيفة حظًّا يسيرًا من حظّها، يستجلب به من استجابتها وانقيادها خير كبير، ويدفع عنها شرًّا كبيرًا أكبر من ذلك الحظ، كان هذا عين مصلحتها، والنظر لها والشفقة عليها». ثم قال: «واحتمل صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة التي نذرت إنْ نجاه الله أن تضرب على رأسه بالدفّ لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به، وسرورها بمقدمه وسلامته الذي هو زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله، وانبساط نفسها وانقيادها لما تؤمر به من الخير العظيم، الذي ضرب الدفّ فيه كقطرة سقطت في بحر، وهل الاستعانة على الحق، بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل، بل يصير ذلك من الحق إذا كان معينًا عليه، ولهذا كان لهو الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحقّ؛ لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفّة، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببرطيل، فإذا برطلت بشيء من الباطل لتبذل به حقًّا وجوده أنفع لها وخير من فوات ذلك الباطل كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها، فليتأمل اللبيب هذا الموضوع حقّ التأمل، فإنه نافع جدًّا. والله المستعان» (انظر: الكلام على مسألة السماع، تحقيق محمد عزيز شمس، طبعة عالم الفوائد، ص 311، 314). فهذا الباب من النظر والموازنة المقاصدية نافع لو جرى التوسع على منواله، وما قام به ابن القيم من تأصيل فقهي وتقعيد فني؛ نفيس جدًّا؛ رغم احتياطات مدرسته الفقهية، فهو يعدّ ضرب الدف منكرًا ومع ذلك فسّر موقف النبي عليه الصلاة والسلام وفق الاعتبار المقاصدي الذي يغيب كثيرًا في لجج المناكفات المتشددة بين الفقهاء.
ج. من الأسباب المفسّرة للغياب الفقهي عن المجال الفني؛ ما غلب على اجتهادات الفقهاء من تأثرهم بالبيئة التي يعيشون فيها، والمعارك الكلامية التي يخوضونها، فانعكس ذلك على طبيعة فقههم وطريقة تناولهم للمسائل، وفقه الفنون الجمالية يكاد ينعدم في البيئات الصحراوية وذات الطبيعة الجافة، في حين نراه ينمو ويزدهر في البيئات المتعددة الثقافات والطبيعة الخلابة، والبيئة الأندلسية مثال واضح على توسعهم الفقهي في الفنون السماعية والعمرانية والبصرية ما لا يوجد في بيئات غيرهم. (انظر: لما كتبه ابن خلدون في المقدمة حول هذا التأثير البيئي في الفقه، تحقيق درويش 1/ 194)، ولا يفوتني أيضًا؛ أن أؤكد أن بيئة المواجهات الكلامية خصوصًا مع بعض الفرق الفلسفية والصوفية، قد ساهمت في تقليص مساحات المباح من الفنون، خصوصًا تلك الفنون التي برز فيها المخالفون، فما أن يأتي الحديث حول الغناء واللهو والرقص؛ إلا استحضروا خلفية المواجهة وصاغوا عليها أحكامًا تُنكّل بمن يقترب من مخالفيهم أو يؤيد أطروحاتهم.
ختاما. أرى أن هناك ثغرات معرفية في البُنية الفكرية الإسلامية زادت مع الأيام والعقود اتساعًا عن أصلها الذي قرره الأوائل، فتأصيل حاجات الوجدان من المشاعر والعواطف الإنسانية يكاد ينعدم في تراثنا الفقهي، كما أن تناول موضوع الفنون لا يزال يشوبه القلق والحذر والتحوط المتوهم في كل أنواعه، رغم ما يشهده عصرنا الحاضر من ثورات فنية لم يسبق لها مثيل من قبل، هذه الموضوعات هي موضوع الساعة وواجب الوقت، وما لم يتصدَّ لها العقل الفقهي اليوم بالبحث والاجتهاد؛ وإلا فدائرة انحساره عن تفاعلات الحياة تضيق يومًا بعد يوم، ودعوى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ستبقى مجرد أيقونة للاستهلاك البلاغي وليست مصنعًا للاستثمار الحياتي لكل ما يسعد الإنسان ويخفف معاناته ويجدد دينه.
* عن وبإذن من
الفن والوجدان والفقه.. وسؤال القطيعة | مجلة الفيصل