صفاء عبد المنعم - مجدي الجابري، الصوفي المتمرد على القصيدة..

أكتب لتظل طاقتى الروحية الشريرة تغذى وعيا بضرورة تفكيك الموت بمهارة، تفكيك كل ماهو مصنوع فى مصنع الآخر، كل ماهو مكون لشخصيتى الإجتماعية بقوتها وضعفها وانتهازيتها..”
يعتبر الشاعر مجدى الجابرى واحدا من أبرز شعراء قصيدة نثر العامية فى الثمنينات، بدأ بكتابة قصيدة التفعيلة بالفصحى، وكتب مسرحية (زواج على ورق لحمة) لمسرح الجامعة فى 1981 ثم تمرد على كل ذلك وكتب قصيدة العامية، فى التسعينات كتب قصيدة نثر العامية بداية من ديوان
(عيد بيصطاد الحواديت)..
“راجل داخل الأربعين
ومعاهوش ولا أى حاجة من حاجات
لعب العيال.
طوله 178 سم ووزنه 70 كيلو.
ومش قادر يتحكم لا فى مظهره
الخارجى ولا فى مشيته المرتبكة وخطوته
السريعة اللى بيعدى بيها دلوقتى قدامك
الشارع .”
سيرة حياة:
” آه ياخليفة رقصتى .. باش الوتر
إن يوم نزلت البارد الواسع ..
فقوللى.”

ولد الشاعر مجدى الجابرى فى حى أم المصريين فى 15 أغسطس عام 1961 وهو الثانى فى ترتيب الأخوة، والولد الأول الذى نجى من مذبحة الحصبة التى حصدت قبله 6 أطفال تقريبا، وماتت أخته هناء التى كانت تكبره بعام ونجى هو، وظل هذا الحدث يؤلمه لمجرد فكرة أهتمام الأسرة بالولد وإهمال البنت المريضة معه، كما عانى من المعتقدات والعقائد والطقوس الشعبية المتمثلة فى حماية الولد الذكر من الحسد فيسمى باسم بنت، ويترك شعره مسترسلا، ويرتدى ملابس بنات، ويلعب بالعروسة القماش، أعتقادا من الأهل أن هذا يمثل حماية ووقاية من شر العين الحاسدة، خصوصا إذا كان هذا الولد الأول الذى يعيش للأسرة بعد وفاة طابور من الأطفال، وتجلى هذا الأثر بشكل واضح فى بعض السلوكيات الغير مباشرة وأرتباك الشخصية الخجولة أحيانا أخرى.
“مطولين لى شعرى وفارقنهولى م النص ، ومعلقين لى قرن شطه ف خصلة شعرى المتدلدله على وشى، وعاملين لى باب خشب ع السلم بترباس عالى..”
الأصدارات:
صدر أول ديوان له (أغسطس) فى عام 1990 قبل حرب الخليج الأولى بشهور قليلة وعلى نفقته الخاصة فى طبعة محدودة من أصدارات مصرية التى يشرف عليها عبد العزيز جمال الدين، وذلك بعد رفض المؤسسات الثقافية لديوان له ظل فترة طويلة فى سلسلة بالهيئة العامة للكتاب.
” ع الصخرة اللى هنا…. ك فى أغسطس
وشى المحفور
دمى الفوار
أطرافى بتسقط
والملح .”
وعندما قامت حرب الخليج الأولى عام 1991 تغير مجرى الشعر عنده، كما تغيرت رؤيته وقنعاته، كان يبحث عن دورا مختلفا للشاعر غير كتابة الشعر، وفى إحدى الجلسات أعترف أنه: “لو تأخر ديوان أغسطس لبعد حرب الخليج ما كان أصدره أبدا.”
وكتب بعض القصائد التهكمية الساخرة مثل قصيدة (فضيحة ، والفضيحة لازم تكمل ) ساخرا من الحرب وما يحدث على مستوى الوطن العربى وأنه يتوقع سقوط هؤلاء الحكام فى يوم من الأيام، عندما يريد الغرب إسقاطهم والبحث عن بدائل تتماشى مع الديمقراطية ومتطلبات العولمة، والعالم الجديد.
وبذلك يرتبك الشاعر ويتعثر، يبحث عن كيفية للخروج من هذا التشظى، والشارع المؤمن سياسيا، حاول يبحث عن الآخر داخله.
ثم صدر بعد ذلك ديوان ( بالظبط وكأنه حصل ) فى طبعة محدودة جدا عام1995 .
“وتعقد أكتر احساسك
بالضعف قصاد زملائك
ف الشغل وبالخيبة توصف
نفسك ويتمكن منك
اكتر خوفك م الشرطة وم الصيع .”
عانى الجابرى من العديد من الأمراض المجتمعية والوظيفية بصفته باحثا فى أطلس الفولكلور المصرى وخاصة عهدة المكتبة التى كانت تؤرقه وتحمله عبأ نفسيا شديدا فهو كان يشعر أنه لم يخلق لكى يكون تابعا يؤتمر من أحد لمجرد أنه يعمل موظفا حكوميا تحكمه بعض البيروقراطية، فهو ليس موظفا تكنوقراط طبيعى بل هو أنسانا وشاعرا مختلفا يعيش فى ظل ظروف اجتماعية وحياتية صعبة وتهدر طاقته كزوج وأب، فهو مسؤل مسئولية كاملة عن سعادة زوجة وطفلة لا يستطيع أن يحقق لها أدنى شروط الحياة الآمنة بسبب تدنى المرتب الشهرى الذى يحصل عليه مقابل العمل اليومى المعطل والمهدر لطاقته الإبداعية.
“معقول
الحسابات مظبوطه على غيابك
بس اتحرك
وسيب الحاجات القديمه ف أماكنها، بتقلها وخفتها
يادوبك
هتركن الشنطه
وترمى جسمك ع السرير
إلا والهدوم بعفارها وعرقها هتبت
ف الحته الفاضيه ع الشماعه
وتسيبك
لصعاليكك وأنبيتك وفرسانك وفتواتك
تاكلو سوا وتلعبو سوا وتضحكو على بعض .”
كان مجدى الجابرى شاعرا وإنسانا من طراز مختلف فهو أحيانا يكون المسيح الذى يصلب من أجل تحمل خطيئة البشر وطبيعته الخجولة تسمح بمرور ذلك والضغط من قبل الآخرين على حساسيته المفرطة، وطبيعة بشرته وشكله كانت تدخله دائما فى حالة إلتباس فهل هو مصرى/ عربى/ مسلم، أم اغريقى/ يونانى/ مسيحى وذلك بسبب وجهه الذى يشبه كثيرا وجوه الفيوم.
كنت عندما أسير معه فى منطقة الحسين أو خان لخليلى يجتمع حوله الباعة وأصحاب المحلات على اعتباره سائحا يقوم بزيارة المناطق الأثرية فيجرون ورائه يعرضون عليه بضاعتهم الزائفة والمقلدة وهم ينادون:
(دولار .. دولار ..) بمعنى هل تريد تغير عمله ؟!

صفاء ومجدي
فى عام 1988
تزوج الشاعر مجدى الجابرى (بحر متلاطم الأمواج ببحر هادىء وعميق) ألتقى معدن الذهب بمعدن الرصاص، مجدى من مواليد برج الأسد وهى من مواليد برج الجدى (التقى النار بالتراب) .
” عشقى الأوحد/ صفاء
أكتب وأنا احس بشوق يجتاحنى.. شوق البحر لأن ينداح فوق شاطئه الجميل مبعثرا على جسده الملائكى كئناته المفرطة الحساسية والضعف.. كى يستمد حياتها الدائم من السلام الأزرق الصافى الذى تشعه عيناكى فى عمق بحرى الذى آمن بعد تلاطم أمواجه أن للبحر ضفة واحدة..
الحبيب العارى من ذاته.. مجدى الجابرى .”
الأحساس بآلام فى العمود الفقرى وقد كان فى مطلع التسعينيات وبدأ رحلة علاج طبيعى لمدة عام كامل فى مستشفى أم المصريين، ثم تمرد كعادته وترك الفكرة، واختبأ داخل القصائد يعالج بها آلامه المفرطة.
شخصية مفرطة الحساسية وغير حاسمة فيما يخصها من قطع العلاقة مع الشخصيات التى تشكل بالنسبة لها عبئا نفسيا وإنسانيا مرهقا وثقيلا، خجولا لدرجة تكاد تجن لو عرفت المواقف الحرجة التى تعرض لها بسبب
( طبيعته وبشرته وحساسيته خصوصا تجاه زملاءه أو رئيسه فى العمل )
كيف لشخصية كهذه عندما تتقدم للحصول على منحة تفرغ لا تحصل عليها؟
فى عام 1998 تقدم مجدى الجابرى مثل العديد من الطموحين للحصول على منحة تفرغ من وزارة الثقافة بهدف التخلص من عبء مسؤولية عهدة المكتبة التى أجبر بالأمر على تسلمها كعهدة مرهقة نفسيا ووظيفيا، وأضيف للأسرة ضيفا جديدا فأصبح أب لطفلتين (هاميس ومى) والمرتب العقيم لا يفى بغرض سد الأحتياجات الأولية واليومية لرجل شرة فى التدخين، فكان سرطان الرئة.
فى مصيف جمصة:
فى عام 1998 سافر مع أسرة زوجته إلى مصيف جمصة، وفى يوم من الأيام وهو جالسا على الشط يرعى الطفلتين، رأى طفلا صغيرا لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات تقريبا ينظر إليه بتمعن ويضحك، فدهش كثيرا من نظرة الطفل التى كانت تحمل نبوءة خاصة به فكتب قصيدة (مورد جثث) التى نشرت قبل وفاته فى ديوان (الحياة مش بروفة) بأيام قليلة.
” طبيعى
أنك تقول لصحابك ع القهوة
الحياة مش بروفة
وطبيعى
أن أبوك يخاف عليك وعلى اخواتك
م الموت .”
فى يناير 1999
دخل مجدى الجابرى معهد الأورام ودائرة العلاج على نفقة الدولة إلى أن يبت التأمين الصحى فى أمره (إنها البيروقراطية) الدائرة الجهنمية التى يدخلها الموظف/ المريض/ بسرطان سنتيمتر فى الرئة فى بلد عدد سكانه حوال 70 مليون نسمة تقريبا فى ذلك الوقت .
أجل ياسيدى توفى مجدى الجابرى/ الشاعر/ الإنسان/ الزوج/ الأب/ المحب للحياة/ المفلس/ المدخن فى 23 مايو 1999 بعد شهور قليلة من تاريخ المرض.
ورحم الله رئتيه الطيبتين/ العاجزتين عن مقاومة الألم.
استراح من الشعر/ والعمل/ والعهدة/ والمسئولية/ والحياة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والسخيفة والمرهقة.
” فجأة صحيت
وف صدرى ريحة بنت دخلت غلط
من باب الصداقه
ف سلسلة رقبتها ..
مفتاح صغير على شكل قبضة حنان
وبعند أكتر
صغرت حجم الفيونكه
على صدر فستانها
وسابت لى
حرية ل ختيار.”
رحل وترك طفلتين لم تلوكا كلمة بابا جيدا فى فمهما الصغير، ولم تعرف معنى الحنان الأبوى المتدفق من قلب أب عاشق ومحب للحياة، وزوجة مغرمة بلضم الأكاذيب عن الحياة الأحلى القادمة، ولمقاومة والمحبة المفرطة لتاريخ قديم من الكلمات والقصائد النثرية تلوكها كل يوم وتنثرها بين الحين والآخر على الأصدقاء.
” أعتقد – فيما أعتقد – أن هناك مسافة لا يمكن القفز فوقها هكذا بسهولة، بين علاقات “الأبوة – البنوة ” الاجتماعية داخل الأسرة وبين العلاقات الثقافية والجمالية بين مثقفين وفنانين ينتمون للحظات تاريخية مختلفة.
فالأب لا يقدم لأبنائه ضمن تجربته الحياتية إلا المشترك الثقافى العام، الذى سمحت به المنظومة القيمية، تلك التى توزع الأفراد فى مدارها على أدوار اجتماعية – اقتصادية – ثقافية تحدد شكل المجتمع فى لحظة تاريخية محددة، وعندما يفعل الأب ذلك فإنه يحاول جاهدا نفى أية إنحرافات أو شذوذات مارسها أو حلم بها باعتبارها أخطاء وقع فيها يجب عليه أن يحمى أبناءه منها ومن تبعاتها “.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى